Skip to main content

Full text of "خريف الفرح أسرار السودان 1950 1970 عبد الرحمن مختار"

See other formats


٠7 مسد‎ | f 
7 55 التو‎ 
۱ 1 1 | : ٠ : 















مسطورات 
00 0 


ا 8 





)| و © كنا ان 


INTERNET 









€ ملد 


0 
۱ ۱ 


« الفصل الاول ¢ 





الاهداء 


الاهداء الأول : 


والدي الوقور الصالح الشيخ مختار الشفيع كان في الثالثة والستين من عمره عندما 
وضع رأسي الصغير على صدره وقرأ علي صورة يس والقران ااي بصونه الجهوري 
الجميل كان ذلك في ۵۵ والطائرات الايطالية بازيرها المخيف تقصف 
بقنابلها ف مدينة امدرمان الوديعة . 

قال لي الشیخ الوقور وهو في سرير الرض وقبل ان يودع هذه الحياة الفانیة بدقائق 
كلاما كثيرا اختتمه بانني ساكون شيئا ما هذا الحديث كان بالنسبة إلى وانا لم اتعد 
الخمسة عشر ربيعا كالاحاجي والاساطيرء ولم أكد أتبين له معنى أو مقصداًء الشيء 
الوحيد الذي رسخ في عقلي وتملك علي مشاعري ووجداني هو نصيحته لي بالا اواصل 
دراستي وان العلم يمكن أن أتحصل عليه تحت ظل شجرة أو حائط ولا بد لي من 
العمل والاجتهاد مع المثابرة على القراءة والاطلاع حتى يتسنى لي ان اواجه مسئولياتي 
العائلية نحو امي واختي واخي . 

...لم ار والدي الشيخ يوما وهو يتسكع كبقية الناس في الاسواق أو في الحداثق » ولم 
اسمع منه لغوا او قطيعة أو نميمة» ولم أره يوما عبوسا أو هائجاً أو متشنجاًء وانما 
عرفته طيباً متسامحاً باسماً قضى كل وقته في العبادة والذكر والمذاكرة وترتيل القرآن 
بل وكتابته فقد خط بيده الكريمة مايزيد عن عشرة مصاحف آهداها! كلها أ لاصدقائه 
واحبائه ومازالت حروفها الكريمة تضيء نورا وتنفث عطرا ومسكا . 
..ما رأيت الشيخ الوقور الا وهو یوم المصلين في الساجد وأمام دازه . أوليس من 
حقه علي بعد كل هذا أن اهديه كتابي هذا واقول لروحه الطاهرة : 

١‏ ... صدقت نبوءتك يا أبي فنم قرير العين مع الشهداء والصديقين ولك الرحمة 
واسَعة بقدر ما احسنت وغلمت :وربيت 6 : 


الاهداء الثاني : 


...ما رأيت أمي وهي تسعى يوما للكوافير او صوالين الموضة والزينة » وما قضت 
وقتا تستمع فيه إلى ام كلثوم أو تشاهد فيه فيلما سينمائياً او رواية مسرحية » وانما قضت 
كل شبابها وكل شيخوختها داخل جدران «التكل» السوداء «المطبخ بلغة العصر » وهي 
تعد الطعام من اول المساء إلى منتصف الليل تواجه الفحم والحطب والنيران للذاكرين 
والمصلين والمادحين من أحباب وأصدقاء زوجها الشيخ الوقور ومع كل ذلك كانت لي 
نعم الأم وكانت لزوجها نعم الرفيقة . كانت أوفى زوجة لأوفى زوج . 
الاهداء الثالث : 


.. الى زوجتي ورفيقة عمري ودربي التي اصبحت لي بمرور الزمن اختا واما وبا 
وصديقة وحبيبة » بدأت معي رحلة الشقاء والعذاب في فبراير ۱۹۵۰ يوم كانت تبحث 
عن ثوب جميل فلا تجده » وعن عطر ومسك فلا تملکه » وعن فاكهة او لقمة سُهية فلا 
سبيل اليها . ما تبرمت لحظة وما غضبت وما ثارت » وما شکت وما بكت فقط ظلت 
تحيطني برعايتها وتطوقني بحنانها وتأسرني بعطفها ونبلها وتأخذني بيدها الدافئة 
وتدفعني دائما إلى الامام وهي صابرة » وهي ساكتة » وهي باسمة وهي متفائلة » وهي 
مؤمنة ومطمئنة . 

... خطوة خطوة خطوة ونحن نبتعد عن دنيا الفاقة والتبطل ونودع أشباح الظلام 
والفقر والعوز رويدا رويدا وظللنا نتسلق أعتاب النجاح خطوة خطوة وسلما سلما ومن 
غير تعجل ولا تسرع ولا شفقة حتى أدركنا الغاية التي ينشدها کل طموح وصابر 
ومجاهد . 

إلى والدي الشيخ الوقورء ولامي الوفية» وزوجتي الامينة ... اليهم جميعها اهدي 
«خريف الفرح » كما اهدوني كل الفرح بل وكل الحياة وكل النجاح والفلاح . 


١ ۲۵ الخرطوم‎ 


يارب 


البحر والسماء 
والليل الصامت ! 


...ف وداعه الأخير قال لي والدي الشيخ وهو يضع رأسي على صدره العاري بعد ما 
تلا سورة يس بصوته الجهوري الجميل بان كل اهلي فقراء ومساكين ينتظرون قدومي 
وتنباً لي بانني ساكون شجرة وارفة يستظل تحتها كل أهلي من عناء السفر وضيق 
الحياة ولفحات البرد وهجير الشمس . كانت كلماته هذه وأنا في الخامسة عشرة من 
عمري مجرد الغاز وطلاسم لم أستطع أن أدرك معناها ومغزاها الا بعد عشرين عاما 
حين فاجأني أحد أهل الله وأوليائه من أصدقاء أبي ففك لي هذه الالغاز فكانت مفاجأة 
لم تخطر لي على بال وكان وقعها علي كالصاعقة أوشكت أن أنهار معها لولا بقية من 
أمل وايمان . 

.. قال لي الشيخ الولي ان والدي قد تنبأ لي وهو في لحظاته الأخيرة بأنني سأكون 
ذا شان ولكنني لن ارزق بذرية لا صالحة ولا طالحة وقال ان الشجرة التي وضعك بها 
والدك ستظل الاخرين من اهلك وصحبك ولكنها هي نفسها عارية مكشوفة تماما 
لحرارة السمس وزمهرير الشتاء ومياه الامطار والاهوية والاتربة ! 

.. لقد رزقت أربع مرات لكنهم ما رأوا النورء وما تنسموا الهواء ومع ذلك فايماني 
بالله ظل يكبر مع مرور الايام واستسلامي لمشيئة الله ظل يملأني دائما بالايمان 
ويجعلني أكثر قربا منه وتقربا اليه في صلواتي وقيامي وقعودي وترحالي . وفي يوم 
السبت ١514/9/59‏ أبحرت وزوجتي من ساوئهامبتون بانجلترا إلى نيويورك على 
ظهر الباخرة «اس اس فرانس » فكتبت خواطري ودعائي لله والبحر والسماء والليل 
الصامت الحزين ... ذلك الدعاء الذي رددته معي النجوم والاسماك والامواج فارجو أن 
ترددوه معي : 


« .. خمسة ايام كاملات قضيتها في المحيط الاطلنطي بين ساوثهامبتون ونيوريوك .. 
خمسة أيام لم أر خلالها غير جمال الله في سمائه ومائه وصفائه ... خمسة ايام كاملات 
كنت استمتع فيها بالنظر الى الفضاء اللا نهائي غير انني احسست لاول مرة باكذوبة 
القائلين بان البصر لا حد لهء فقد كنت لا أرى أكثر من بضعة أميال تنحني عندها 
السماء فتلتقي بالمياه لتطوقها من كل جانب ... كنت اخرج في هدأة الليل إلى سطح 
الباخرة فلا اسمع غير هدير المياه الصاخب ثم لا يلبث أن يهداً فيطوقني الصمت 
وتحتضنني النسمات العذبة البكر لساعات وساعات كنت احس خلالها بالخوف والرهبة 
احیانا » وبالسعادة والانشراح احیانا آخر ؛ لكنني كنت لا أرى خلال الاحساسین غير 
الله .! 

كنت أصحو مبكرا لارقب الشمس عند مشرقها ومغربها .. كانت تشرق من البحر 
بعد فجر محمر فتشق الليل وينبعث نورها في اسعاع حالم يبدد قليلا قليلا ما, تبقى من 
ظلمة ٠‏ ثم تمتد خيوطها من داخل المحيط مستديرة «كسبكة الصياد » فتلتفي بمياه البحر 
في عناق طويل لن تلبث لحظات حتى تخرج بعدها من القاع وأمواج البحر ترتفع اليها 
في اندفاع مستمر كأنما تريد ان تعيدها إلى جوفه غير ان الشمس تبتعد قليلا قليلا في 
صدود كله دلال وغرور وهي تربت على أطراف امواجه العالية منها والخافضة وكأني 
بها تخاطبه « .. لن يطول فراقي فانت أعز على من كل عزيز وأقرب إل من كل 
قريب! ساعود اليك يا حبيبي ... ساعود اليك عند الغیب ! » 

.. ولم تكذب الشمس وعدها ولم تخلف ميقاتها ساعة وكم من لحظات قضيتها في 
المغيب كما أفعل عند الشروق وأنا أرقبها تعود الى البحر ... إلى حبيبها بنفس المودة 
والحرارة لتودع فيه أطرافها المصفرة فيضمها هو في حنان دافق ويلتقيان في عناق طويل 
لن تلبث الا ان تسلم جسدها المضيء إلى أمواجه من جدید؛ وتذوب في جوفه بعد 
لحظات وانا كعادتي اقف فوق سطح الباخرة الضخمة ارقب المشهد الساحرء وأتابع في 
كل شروق وعند كل غروب لوعة الفراق وفرحة اللقاء» وكنت عند كل شروق التقي 
بعد مسرحية الوداع بالنور والنار والوجوه السمراء والبيضاء والأجساد الرشيقة والمترهلة 
التي تبدأ طوافها على سطح الباخرة فينقطع من حولي تيار الصمت الحلو الذي عشت 
فيه فيبداء بعد ذلك يوم جديد من عمري!! 

...اما لقاء الغروب بين الشمس والبحر فما أبدع سحره وما أحلى صوته فانه 
لقاء يدغدغ المشاعر » ويرهف الاحاسیس ‏ ويبعث في النفس نشوة تفوق كل نشوة » فليل 
البحر الذي يبدأ بعد المغيب فيه تلتمس النفس الراحة» وتستمد منه معان كبيرة عميقة 
تعلم الانسان كيف یحب ‏ وكيف يسمو ويصفو حتى اذا ما تمعن في الليل والبحر 
و السماء والنجوم ‏ اسلم روحه وجسده للنسمات البکر » احس بوجود الله من حوله 
واستمع اليه في سکناته وحرکاته وخطواته وانفاسه ثم لن یلبث ان يراه في آمواج 


۱ ٠ 


البحر ... وفي الهواء... في الليل... في السماء... في الصمت فيغمض عينيه حلم 
سماوي ملائكي يحس الانسان فيه بانه انسان !! 

.. لقد عشت ايامي الخمسة في البحر بكل مشاعري فعلمني ما لم أكن أعلم ... لقد 
آشعرني بانني انسان عمره خمسة ايام.. خمسة ايام أذابتني فيها نسمات البحرء 
وجعلتني أتلمس بحواسي كلها سر البحر والفضاء» وكلما تعمقت فيما حولي؛ كلما 
تجردت من نقائصي وكنت قريبا إلى الله فاخافه في صمت . وأدعوه في صمت ٠‏ وأتلمس 
قدرته في صمت» وأتكىء على حاجز الباخرة وأنا في قمة علوها الشامخ ثم .له يلبث 
الصمت ان يخيفني ؛ ويهزني هدير الأمواج » وتأكل وجهي نسمات الليل الباردة فاعود 
إلى حجرتي لاجد زوجتي تصلي وندعو الله کعادتها ان يهبها طفلا یبدد وحشنها » وینیر 
ظلامها ويملاً علیها فراغ حياتهاء فأردد معها الدعوات في صمت : 

«أيها البحر الکبیر .. أيها الليل الصامت الحزین .. ايتها الأمواج العالية .. أيتها النجوم 
السابحة في فضاء آزرق بعید .. آیتها الشمس الوهاجة الدافئة .. يا نسمات تهب من کل 
جانب .. آیها الکون الصغیر الکبیر الصامت ‏ أنت معجزة صنعك فنان ماهر فهبني من 
لدن صانعك معجزة صغيرة في مولود يبدد ظلمتي ‏ ويؤنس وحشتي ؛ ویحمل اسمي من 
بعدي حنی لا اظل بقية عمري اصارع الدروب وحدي ‏ واغادر هذا العالم وانا مغترب 

جئت اليه !! ؛ 

.. يا صانع الکون هبني يدا واحدة تقف إلى جانبي اتوكأ علیها كما وهبت موسی 
عصاك وجعلت له فبها مرب خرن .. 

.. يا خالق الليل والصمت والنجوم انني مخلوق صغیر فوق بحرك العریض أسير 
وتحتي اللایین من مخلوقاتك الضخمة التي تتقاذفها امواجك کعیدان القصب ! 

لا أريد وأنا في عالك هذا ان تهبني قوة البحر » وحلاوة النسمات وجمال القمر ‏ 
وزرقة السماء» وصفاء النجوم » ولكنني اطلبك أملا صغيراً هو أن تسمعني کلمة آبي 
قبل ان تسد اذني بقطعتین من القطن فلا اسمع بعدها شيئاً » فلکم والله هفني الشوق 
إلى سماعها واشتاقت لسماعها زوجتي السکینه التي حرمتها الاقدار من اربعة قبل ان 
یروا قوة بحرك ویقفوا على أعتاب بابك كما أفعل الان أنا ! 

أيها البحر الهائج .. أيتها الامواج الهادرة .. أيتها النسمات البكر .. يا زرقة السماء 
الصافية .. ايتها السحب الذائبة في جوف البحر .. ايتها النجوم السابحات في الفضاء 
البعید » رددي دعائي فان في صمتك سحر ورهبة» وفي هدوئك جلال وروعة تجعلني 
أمامك مخلوقا صغیرا ؛ وتجعلك أمامي قوة تختفي وراءها قوة الله ٠‏ لكنني مع ذلك 
احس بانني قريب لانني أمنت به فيك » وسبحت بقدرته في ابداعك وتصويرك» وفي 
حلاوة صمتك وجمالك .! 

... خمسة ايام ظللت اردد الدعوات حتى خيل إلى ان أزير الباخرة الضخمة التي 


١١ 


تشق المحيط الكبير ظل يرددها معي وأن الالاف الثلائة من المسافرين وربان الباخرة 
وموظفيها وعمالها هي الأخرى كانت تردد معي الدعاء في خطواتها وبسماتها 
وحركاتها . 

الباخرة التي قطعت بها الرحلة من مرفاً ساوثهامبتون في انجلترا إلى ميناء نيويورك 
كانت عالما بأسره فقد جمعت عديدا من الاجناس واللغات والعادات وعلى كثرتهم 
وتناقض بيئاتهم وتقاليدهم فقد ألف البحر بين قلوبهم » وجعل البسمة الدائمة في الشفاه 
تحية الود والصداقة والسلام لان الابتسامة هي اللغة الوحيدة التي تجمع من فرق بينهم 
اللسان والبيان . 

لقد قرأت كثيرا عن حياة البحر واستمعت إلى أغانيه الساحرة التي يرددها البحارة : 

انت يا بحر صديق لدود 

حلو في غضيتك 

وحلو في هدأتك 

ولكن حلاوتك هذه تخفيني 

بقدر ما تحببني فيك 

وتشدني اليك 

فكم من رفيق لي ابتلعته 

ف جوفك .. جوف اسماكك 

دون ان تستجيب لرجانه 

حتى صرخاته تبتلعها أمواجك 

ولكنني مع ذلك .. 

اعبدك ... واحبك 

رغما عن انك تخيفني 

وربما تبتلعني يوما ما!! 

.. هذه الاغنية رددناها في ايامنا الخمسة في صالة الموسيقى بالطابق الخامس من 
الباخرة التي تسع ستمائة من الراكبين .. ورددها ورردها معنا البحر الكبير وكانت 
كلماتها الحلوة العميقة بالنسبة لنا كقارب النجاة عند المحن» ففي اسطرها معان عميقة 
تهدىء النفس وتعمق الحبة بينها وبين أمواج البحر الهائج . وفي موسيقاها الهادئة راحة 
تطمئن كل نفس قلقة مضطربة . وعندما تنظر إلى وجوه المئات من الرجال والنساء 
والاطفال وهي تردد انشودة البحر الکبیر » تدرك لاول مرة انه الف بين القلوب وجعل 
راکبیه كلهم اسرة واحدة على الرغم مما بينهم في الأرض من فوارق طبقية واجتماعية 
وجغراقیه . 


وها هي الشفاه .. كل الشفاه تردد الاغنية وفي العيون اكثر من معنى . 

انت يا بحر صديق لدود 

ولكنني مع ذلك 

اعبدك ... واحبك 

رغما من انك تخيفنى 

وربما نبتلعني يوما!! 

وفي ميناء نيويورك بدأ الركاب وعددهم أكثر من الفين يهبطون إلى الارض ويندسون 
في صفوف البشر لتبتلعهم نيويورك الصاخبة غير ان البحارة الثلائمائة سيعودون 
ویجیئون مرات ومرات وهم يرددون اغنيتهم من جدید !! 


© السودان بلاد المليون ميل و ۲۲ مليون سياسي وزعيم . 


© ماذا قال برجنیف عن السودانيين ؟! 











مسو حدود دوليه - حد ود ملیرتات 
FD. I. w‏ 9 ,۲۶,۲ حدود اقلمبه © عواصصبم الإتالمئم 
# عاصمة الدولة 


.. لابد لي من مقدمة صغيرة تكون بمثابة خلفية سريعة تمكن القارىء العربي من 
معرفة السودان معرفة عامة عابرة تساعده على متابعة الحلقات بسهولة فيتمكن من 
التعرف على مختلف صوره واشکاله فيضيف بذلك إلى قاموس معرفته صدیقاً جديدا . 

.. من الصعب جدا على الرء ان يختزن صور الاحداث ویتابع تسلسلها الزمني 
لدلانین عاما مضت الا اذا كانت هذه الاحداث هامة وموترة وخطيرة بدرجه تفرض 
نفسها على كيان الانسان وتخترق وجدانه فتصبح منقوشة ومحفورة في ذاكرته . الشيء 
الوحيد الذي يصعب امره هو تحديد الزمن واحيانا المكان لبعض الاحداث والوقائع 
خاصة ان غاصت بعيدا في قاع التاریخ» لكنني مع ذلك سأحاول ان أزيل من أمام عيني 
غبار السنين والضباب المتراكم مستعينا عليه بمنظار دقيق وشفاف حتى أتمكن من 
الرؤية الصادقة لتلك الاحداث التي أثرت ومازالت تؤثر في الواقع السوداني لانها اصبحت 
جزءا من تاريخه .. سأحاول أن أجمع شتات هذه الذكريات دون اهتمام بترتيبها الزمني 
الا في حالات الضرورة وفي الحالات الكبيرة المؤثرة . 

.. كل انسان على هذه البسيطة يختزن نوعاً من الذكريات تتفاوت في اهميتها 
وتأثيرها من شخص إلى آخر حسب طبيعة تكوينه وحياته ومكانته في المجتمع فالتاجر 
والعامل والموظف واللص والصعلوك والمؤرخ والاديب والفنان والسياسي .. كل هؤلاء 
لهم انطباعاتهم وذكرياتهم كل في مجال تخصصه وحدوده وامكاناته» ولكن الصحفيين 
أصحاب الأقلام الطويلة والقصيرة والزرقاء والحمراء ممن عاشوا ویعیشون في دائرة 
الضوء وفي مكان الصدارة لهم قدرة العرفة بدقائق الأسرار والالمام بكثير من الخبايا 
والخفايا مما يجعلهم في وضع افضل وأميز وأقدر من غيرهم على سرد الاسرار التي 
آثرت وتؤثر بشكل متفاوت على مجريات الاحداث في مختلف أوجه الحياة . 

.. الصحفي مهما كانت قوته وقدرته وشجاعته ومهما بلغ شأنه » وقوي قلمه ؛ ومهما 
كان ذكاؤه وبعد نظرهء فانه لا يستطيع مطلقا ان يكتب كل شيء وأي شيء خاصة ان 
كان هذا الشيء يدخل في دائرة الاسرار المحرمة والأحداث الخطيرة المؤثرة التي كثيرا ما 
تحاك خیوطها وراء الکوالیس وف الخفاء والظلام بعيدا ... بعيدا عن كل عين ورقابة . 


۱۸ 


لا يستطيع الصحفي ان يذيع كل الاسرار التي تتجمع لديه بحكم منصبه وعلاقاته وذلك 
اما خوفا عليها أو خوفا منها فهناك من الأحداث السياسية المؤثرة التي تجري عادة في 
شراديب الحکومات والوتمرات والحادثات وصالونات الاحزاب ومیادین السياسة تفوق 
في حساسیتها وخطورتها کل محاولة لافشانها واذاعتها وقد واجهتني في حياتي الصحفية 
الطويلة مواقف تتفاوت في خطورتها ورهبتها ... وقد يصل «الوجع منها » حد التهدید 
بالتصفية ۰ وأحیانا تتعالی هذه الاسرار على كل ذلك فیدخل افشاؤها واذاعتها في نطاق 
الخيانة العظمی ‏ لکن مع مرور الزمن قد یجد الصحفي الناخ اللائم والظرف الناسب 
لنشر بعض هذه الاسرار - لا كلها - واماطة اللثام عن فصولها ووقائعها خاصة اذا 
نوارت بعیدا خلف جدار الزمن واصبحت مجرد تاريخ وذکریات » وهنا ينبغي ان تجىء 
الامانة والصدق في مقدمة ما بروی وفي کل ما يقال ویکتب . 

.. لطالا شعرت کثیرا بنوع من الحزن والاسی كلما مات صحفي کبیر وارتحل عنا 
دون ان تتاح له فرصة یسجل فیها خواطره وانطباعاته » ويروي فیها تجاربه وذکریاته 
فتدفن معه اسراره وحکایاته ویحرم مجتمعه من معرفتها والالام بها وقد یکون منها ما 
ینفع الناس ویمتع عقولهم ويثري افکارهم ومنتدیاتهم ویبدد عنهم بعض الظنون والأخذ 
التي وصلوا الیها عن طریق الاجتهاد او التخمین او الخطأ لأن الحقيقة كانت غاثبة 

.. اوشکت أن أكون أحد هؤلاء الرائحین من الزملاء الذين سافروا عنا في رحلة 
بدون جواز وبلا عودة رغم انني قد سجلت في مذكراتي التراکمة التي اعتلاها التراب 
والصدأ کل واقعة هامة وحدث خطیر عشته وعايشته لا في السودان وانما في العالم كله 
وحاولت في غير ما مرة ان اجمع شتات هذه الذکرات البعثرة وارتبها حتی تری النور 
ویراها النور . کل مشاغل الحياة التي تخنقنا » والظروف الصعبة القاسية التي تحيط بنا 
احاطة السوار بالعصم حالت دون ذلك» والزمن لا برحم ؛ فالايام والسنون تدور 
وتجري » والقوة تضعف . والعمر یتقدم بسرعة «ورذالة » حتی وانتني فرصة طيبة التقیت 
فیها بالاخ العزیز والزمیل الکریم عرفان نظام الدین بلندن في نوفمبر عام ۱۹۸۱ فألح 
علي بضرورة الکتابة وشجعني بل وظل يلاحقني حتی ابدأء ومن هنا بدأت فله مني 
التحية وله مني الشکر والتقدیر فلکم انا مدين له . 

.. آمتلأت باحساس عميق يدفعني للبداية وهنا كان لابد لي من وقفة مع النفس 
والزمن .. وقفة طويلة ومتأنية استریح فیها من عناء السفر والجري التواصل وزحمة 
الحياة العقدة حتی استجمع قواي المشتتة واریح انفاسي اللاهئة فشعرت بحاجتي الاسة 
لاتکیء على شجرة الذکریات الكبيرة وأستمتم بظلها الوارف ثم اقوم بهزها هزا عنيفا 
حتی تتساقط حبال الذکریات منها رطبا جنیا فاجمم خیوطها البعثرة التشابكة دون 
التقید باي شيء وانا ارتبها واصوغها الا بالحقيقة والحقيقة وحدها مجردة وبعيدة من 


۱۹ 


كل غرض ومرض . 
.. لابد ان افعل ذلك بسرعة وعلى عجل حتى لا تشيخ السجرة وتجف عروفها 
وتصفر اوراقها ويذبل الثمر ويجمد الداد ویتکیء القلم على جدران النسيان الاتكاءة الأبدية 


السودان ماذا ؟ 

اعود لأعطي القارىء العربي نبذة قصيرة وصغيرة ومضغوطة عن السودان حتى 
تكون له بمثابة «كارت » تعارف وصداقة املا ان تنمو وتقوى مع مرور الحلقات والزمن › 
اما القاریء السوداني ذلك الصديق الذي اعرفه ويعرفني جيدا وبيني وبينه حبال من 
الود مازالت موصولة وممدودة طيلة الثلاثين عاما الاضية .. هذا القارىء قد يتساءل 
ومن حقه ان يسألني لماذا لم انشر له الذي اكتبه اليوم في صحيفتي بالامس ؟ وقد كنت 
وكان قريبا مني فاجيبه بما قلته في المقدمة بان الوقت انذاك لم يكن يسمح بنشرها 
واذاعتها وحتى الان فهناك بعض الاسرار ما زالت مطوية في الصدور لم يحن الوقت 
بعد لنشرها فليستميحني وحتى نربط معنا القارىء العربي الكريم ونكسب مودته وثقته 
فلا بد من ان نعطيه نبذة عن السودان ساراعی فيها القصر والاختصار ما كان ذلك 
ممكنا ثم بعد ذلك نبدأ مسيرتنا حتى نستبين معالم الطريق ونتحسس دروبه الوعرة 
وسراديبه المظلمة ونمشى في ذلك القطر الافريقي الكبير بخطوات آمنة مطمئنة . 

.. السودان «بلد المليون ميل مربع » قطر زنجي يتوسط القارة الافريفية وهو على 
مرور الزمن يمكن ان يكون جسرا قويا يربط الحضارتين العربية والافريقية ويمكن له 
كذلك ان يلعب دورا رئيسيا وبارزا وكبيرا ومؤثرا في مختلف ميادين وأوجه الحياة في 
العالمين الافريقي والعربي . 
.. للسودان ثمان دول مجاورة فمصر وليبيا في شماله » واثيوبيا وكينيا في شرقه 

وتشاد وافريقيا الوسطى في غربة ويوغندا وزائير في جنوبه . أرضه الشاسعة الواسعة ذات 
المائتي مليون فدان صالحة للزراعة ومازالت بكرا . قالت تقارير الامم المتحدة العتمدة 
والموثقة ان المجاعة التي ستجتاح العالم كله ما بين عام ۲۰۰۰ و۲۰۵۰ سوف لن تشمل 
السودان اذا ما استثمر كما ينبغي . 

والسودان قطر يقطنه عشرون مليون قائد وزعيم سياسي منهم في الجنوب اربعة 
ملايين من العناصر الزنجية الافريقية الغالبية العظمی منهم بين مسيحي ووئني يجمعهم 
خليط من اللهجات واللغات والثقافات والتقاليد والعادات . اما بقية سكانه في الشمال 
والشرق والغرب فجلهم من عنصر عربي زنجي يدين بالاسلام وقد أثرت مصر فيهم 
تأثیرا مباشرا فمنها استمدوا الحضارة والثقافة والعرفة وظلت العلاقات بين الشعبین 
تزداد قوة على مر الزمن ... قوة استمدوها من النیل الخالد الذي بربط بینهما منذ 
الازل . 


.. الشعب السوداني شعب بسيط وطيب وودود لكنه حساس وعاطفي ومصداق 
لدرجة البالغة فالكلمة الحلوة ترضيه وتروضهء والكلمة المرة» «حتی ان كانت في شکل 
نكته او فكاهة قد تثيره وتهيجه وهو سريع الانفعال سريع الغضب سريع الرضا . لا 
يؤمن بالمواقف الوسط . یعرف اللون الابيض واللون الاسود جيدا ولكنه لا يؤمن باللون 
الرمادي ! 

.. مشكلة الشعب السوداني الوحيدة انه شعب يحب السياسة ويهوى النقاش 
والجادلة فالعامل البسيط والجزار والفكهاني والتاجر والموظف يعرف ما يجري في 
نيكاراجوا وسان سلفادور وكمبوديا قدر معرفته بما يجري في عاله العربي والمحلي 
والافريقي وهو مولع بالندوات والتحليلات والاستنتاجات قدر ولعه بانتقاد الرؤساء 
والوزراء والساسة ومناقشة بياناتهم وتصريحاتهم وتقييم كل ما يصدر عنهم مهما كان 
تافها وصغيرا ومع كل هذه الزحمة السياسية الغارق فيها الشعب السوداني حتى اذنیه. 
فانه يتابع ايضا وبشغف شديد انباء الرياضة ونجومها وتحركات اهل الفن والغناء 
والأدب والشعر الخ الخ . 

.. السير جيمس روبرتسون حاكم نيجيريا السابق وآخر سكرتير اداري بريطاني 
للسودان «والحاکم الفعلي » كان فيه ذا اثر كبير يجمع بين اصابعه کل خيوط اللعبه 
السياسية وقد امضى ف السودان معظم سنوات سبابه وزهره عمره فعرف السودان سبرا 
شبرا وشیخا شيخا وزعيما زعيما .. قال عن السودان في اواخر ايامه وقبل ان يبرحه 
قولته المشهورة «ان السودان بلد صعب لا يستطيع ان يحكمه الا «نبي او غبي » وقال 
ايضا ان السودان بلد معقد ومتشابك وصعب للغاية وانني ومن داخل قلبي أرثى واشفق 
على الذي یحکمه !! ۱ 

۰ الشعب السوداني شعب «اسری » ینفرد بخصائص ومزایا وعادات قل ان نجد 
لها منیلا او شُبیها فهو كريم ومعطاء بقدر ما هو صریح وواضح وناکر لذاته . قد 
یحسدنا من الوهلة الاولی والانطباع السریع بعض الناس على هذه الخصائص : رغم انني 
بعد المارسة والتجارب الطويلة اري فيها بعض الساویء التي اثر ويؤئر بعضها على 
مسیرتنا الحياتية خاصة في محیط الانتاج القومي وذلك بسبب الاتكالية والاعتماد على 
الغیر . فالسوداني كما قلت بني تکوینه على نظام الترابط الاسري وعندما تکون الاسرة 
كبيرة وفیها «نوارة » يعني شخصية ذات جاه وثراء یطحنها ویسحقها فقراء الاسرة بلا 
رحمة ولا توقف ولا نهاية . فالثری في السودان لا تنتهي مسئولیاته عند زوجته واولاده 
كما هو متعارف ومعروف بل تشبع بکل هذا - فتمتد لتشمل الجیران وأهل الجیران 
والعارف والاصدقاء وأصدقاء الاصدقاء لذلك فان السوداني شیخا كان ام شابا يستطيع 
ان یظل عاطلا - وبکل معنی العطالة - لدة قد تطول وتطول جدا لانه بسکن ویأکل 
ويشرب ویلبس على حساب غيره من الاهل او العارف القندرین بل وفي احیان قليلة 


۳ 


متفرقة قد يمتد شره العاطل فيدخن ويدخل السينما ودور الرياضة وربما يسافر ویسامر 
ويجامل ايضا على حساب برنامج الاعاشة الذي فرضته العادات والتقاليد في الاسرة 
السودانية . هذه الظاهرة الفريدة على الرغم من انها مازالت موجودة وتمارس بشكل 
محصور ومحدود » الا انها اخذت نتلاشی قليلا مع الظروف الاقتصادية الصعبة والضغوط 
الحياتية المتزايدة لكنها لم تنته بعد ! 

.. ثمة تقليد آخر لكنه حلو وعظيم اتمنى ان یبقی ما بقى السودان هو الاشتراكية 
التعاونية الفطرية العفوية في اسمى صورها وأروع معانيها والتي مازال يحرص عليها 
الكبير والصغیر » الغني والفقیر » المثقف والجاهل أهل الحضر وأهل الريف ... يتعاونون 
في مضمارها سواسية كاسنان المشط كل حسب طاقته وامكاناته وقدراته . 

.. هذه الاشتراكية التعاونية التي يمارسها السودانيون بالفطرة والعفوية وعن طيب 
خاطر حتى اصبحت عقيدة راسخه وتقليدا مورونا .. هذه الاشتراکیه الفريدة تمارس ف 
مختلف أوجه الحياة » ولكنها تظهر وتتجسد بشكل بارز وملموس في الافراح والأحزان 
فالذي يفقد عزيزا لديه ينبغي الا يحمل هموم الصرف والاعاشة على ليالي العزاء التي 
كانت ايام زمان تمتد إلى اربعين يوما تقلصت بسبب الظروف الاقتصادية والحياتية 
ومشاغل العصر إلى شهر ثم إلى اسبوعين فاسبوع واخيرا ثلاثة ايام ونفس الشيء كان 
يحدث ايضا في الأفراح من زواج إلى موضوع الختان إلى عمرة إلى حج إلى شفاء فقد 
درجت العادة في حالة المآتم ان يتوافد اهل الحي على بيت المأتم كل يحضر معه «طاولة 
الأكل» والشاي والقهوة إلى ان يجىء آخر يوم للعزاء حيث يعد فيه «کشف الاعانات» 
فيتسابق عليه الناس بعد صلاة الغرب والترحم على الفقيد لتسجيل اسمائهم ثم يدفع كل 
منهم ما استطاعه » اما في حالات الزواج ففي يوم الحناء اليوم الاول او الثاني للزواج 
بهذا كتك مال كاهيد فاه وأهلع تیان انعر .وتقفة:.وحظ: الكلقة ی .سا 
والزغاريد أمرأة يشترط ان تكون ذات صوت جهوري مميز لتعلن وهي تتمايل وترقص 
على انغام «الدلوكة » الطبل وف ايقاع حلو محبب : 

.. ابو العريس دفع الماية» اخو العريس «هنيالو» هنيئا له دفع نصف الماية وزيد 
وعبيد إلى اخر القائمة التي يتوقف عدد افرادها وكمية حصيلتها من المال على مستوى 
الاسرة وامكانياتها وقد تنتهي بورصة الافراح هذه مع ساعات الفجر الاولى او الاخيرة . 
وفي كثير من الاحيان يخرج أهل المرحوم او الزوج السعيد بارباح متفاوتة تعينهم على 
تواك سفن 


زعيم السوفييت والسودان ! 


.ف نوفمبر عام ١511١‏ زار الزعيم السوفييتي ليونيد برجنيف السودان وعند عودته 


۳۳ 


بالعربات من رحلة إلى مشروع الجزيرة رأى خيمة تنصب عادة للمآتم ووقف الركب 
وترجل الزعيم السوفييتي وقدم عزاءه لآل الفقيد وجلس أرضاً كغيره وظل يراقب كل 
حركة وكل وجه ويحملق في صواني الأكل الصغيرة والكبيرة والشاي والقهوة التي كان 
يحضرها أهل الحي حتى تجمعت وأصبحت بالعشرات والعشرينات ثم جلسوا في 
حلقات صغيرة وأقبلوا على الطعام والضيف الكبير يراقب هذا الذي يجري أمامه بدهشة 
وحيرة وتطلع وانبهار . 

.. استفسر الرئيس السوفييتي من مضيفه آنذاك الرئيس ابراهيم عبود قائد انقلاب 
نوقمبر ۱۹۵۸ عن سر الخيمة وكل الذي يراه وبعد شرح مستفيض ومفصل للحياة 
السودانية والاشتراكية الشعبية الموروثة من مضیفه ‏ خرج الزعيم السوفيتي عن وقاره 
وصرخ في هستيريا واضحة : 

«اذن لماذا تهاجموننا .. ولماذا تتهموننا بالکفر والالحاد والشيوعية ؟ .. انتم شيوعيون 
اكثر منا! ! اننا في الاتحاد السوفييتي نسعى جاهدين ومنذ بداية الثورة الاشتراكية لنصل 
الى ما وصلتم اليه! » وعند عودته إلى بلاده نقل إلى اللجنة المركزية والشعب السوفييتي 
في حديث مذاع ومتلفز انطباعاته عن السودان ولم ينس الزعيم السوفييتي ان يكرر 
حكاية السر وراء الخيمة النصوبة في احدى قرى الجزيرة ... في السودان الافريقي 
العربى ! 


السودان والفكاهة ! 


.. قالوا فيما قالوا ان الشعب السوداني عبوس لا يضحك ولا يهضم النكتة او يقبل 
الدعابة وفي هذا القول بعض الحقيقة لا كلها فالشعب السوداني ليس عبوسا ولكنه قد 
يبالغ كثيرا في جده وحزمه حتى ان عبارة «أرجوا بالله لا تهزر معانا» لا تداعبنا 
مألوفة في الشارع السوداني ومع ذلك فانه نقص نقي صافي النية ويتبادل النكتة على 
طريقته الخاصة والمعروف عن الشعب السوداني إلى درجة تكاد تميزه انه عاطفي 
المزاج » بالغ الحساسية سريع الانفعال سريع الغضب سهل الهياج ويبدو ان مرد ذلك 
يرجع إلى حرارة الطقس فالشمس في السودان هي الاخرى هائجة ومنفعلة وغاضبة 
فهي اسطوانية عمودية مشتعلة محرقة تشوي الوجه من لحظات شروقها الاولی حتى 
غروبها وذلك لاكثر من سبعة اشهر في العام وتصل درجة الحرارة في معظم ساعات 
النهار واحيانا في الليل من ست واربعين إلى خمسين درجة مئوية فتغلي الرمال وتصفر 
الاسجار وتذوب شوارع الظلط «الاسفلت » وتهاجر الطيور وتهیج الحيوانات وتخلو 
الشوارع من الحياة ونتيجة لكل هذه العوامل الطبيعية اللثيمة فلعل الشعب السوداني هو 
الوحيد الذي يستعمل في نقاشه او خلافه جملة «ارجوك ما تفور دمنا» وفوران الدم 


۳۳ 


تعبير سائع وموروت ومتعارف عليه ف الشارع السوداني و و نم فاناره المباشرة تظهر 
بوضوح في سلوك الناس وفي تصرفاتهم اليومية . 

.. آما فيما یختص بالتهمة الاخری بان الشعب السوداني لا يحتمل النكتة ولا بهضم 
بعض الدعابات هضما تاما وکاملا ویسیرا فقد جربنا هذا عملیا عندما ادخلت الصحافة 
الصحف تراجعنا وتوقفنا لبعض الوقت نم عاودنا الکرة من جدید ولکن باسلوب يتمشى 

.. اذكر ان جريدة «الصحافة » نشرت ف منتصف الستینات صورة كاريكاتورية 
للزعيم الديني السيد الهادي المهدي إمام الانصار وهو يقود طائرته الخاصة في رحلات 
للدعاية الانتخابية واسميناها رحلات الشتاء والصيف فما كان من اتباعه الا ان توافدوا 
على دار الصحافة محتجين ثاثئرين على صورة زعيمهم التي ظهرت بشكل قبیح 
(ومتعرج » لا يليق بمكانة زعيمهم ولولا قدرة الله ولطفه وتدخل الوسطاء وبعض 
فرئیس الوزراء السوداني السابق صديقي العزیز الشاعر والادیب والقاضي محمد احمد 
محجوب ومعه وزير شئون رئاسته السید عبدالحمید صالح ونائب رئيس مجلس الشعب 
في عهد النميري قد احالا جريدة الصحافة للنائب العام بتهمة انها نشرت رسما 
کاریکاتیریا غير لائق لرئیس الوزراء ووزیره وهما یرکبان حمارا عجوزا «مکعبلا » في 
انجاه مضاد «معکوس » وذلك بسبب تضارب بعض التصريحات السياسية الني صدرت 
عنهما . 

.. ولیس ببعید یوم ان ثار بعض الواطنین السودانیین على صحيفة الشرق الاوسط 
غتذما نرت رسمبا كاريكاتيزيا اعتبروة: مانا بالکن امه النسوذائيتة ولكين تمكين 
الحافظان الناشران للجريدة من ان يصلها ماء باردا ومثلجا على تلك الثورلاة في كلمتها 
القصيرة التي استطاعا فيها ان يخاطها العواطف فهدأت الخواطر ورضى عنهما الثائرون 
كل الرضا وعادوا من جديد يطالعون الشرق الاوسط وكان شيئا لم يكن ! 

.. حتى اخانا الكريم الاستاد عبدالله الجفري لم يسلم هو الآخر من فوران دم 
«بعض قرائه يوم ان كتب رأيه عن الاديب السوداني الطيب صالح قبل سبعة اعوام 
ومع هذاوذاك فان الخصائص الحميدة الاخرى قد تكون شفيعة للشعب السوداني فتغفر 
له بعض ممارساته . على الاقل ارجو ذلك! 

.. هذا هو السودان الذي خلق من نطفة نصفها دم عربي ونصفها الآخر دم زنجي 
والذي وضع تاريخيا وجغرافيا في قلب القارة الافريقية وتأرجح ابناؤه كثيرا في الاختيار 
بين الافريقية والعربية ومازالوا يتأرجحون منذ زمان بعيد دون ان تستقر موازينهم 


۲ ۶ 


فظلت الرياح تتلاعبه «بكفوفها » حتى وقفت من نفسها في الوسط تماما كموقع سودانها 
وظل أهله يقفون في الوسط ويؤمنون في حياتهم بالوسطاء والوسيط والاوسط لكن 
عندما تهب عليهم الرياح مهما كانت درجتهاء فانهم يميلون وبسرعة شديدة الى اقصى 
اليمين او إلى اقصى اليسار وهي اللحظات الوحيدة التي يتركون فيها نقطة الوسط 
ولكنهم سرعان ما يرجعون اليها عندما تهداً الرياح ! 

.. للسعوب عادة قيادة يلتفون حولها بعض الوقت لا كل الوقت وجزئيا يؤيدونها لا 
كليا وبالاجماع المطلق لكن الشعب السوداني باسره وبكل اتجاهاته وميوله قد بايع يوما 
الامام محمد احمد المهدي ودعوته مبايعة صافية صادقه خالصة باعتبارها امتدادا لجهاد 
الرسول ودعما لقرانه وأحاديثه ومواصلة لرسالته السامية » وكلما جاءت مناسبة ذكر فيها 
الامام المهدي الا واحس السوداني بنوع من الاعزاز فیشعر بنفسه » ويحس وجوده في 
هذا العالم الضائع الحائر المضطرب رغم ان دعوة الامام المهدي التي مازالت تحملها 
القلوب والافئدة قد طولها الزمن بمائة عام كاملة . ومصداقا لكل هذا الذي اقوله فقد 
ووجهت مرة بحدث غريب ترك في نفسي اثرا مطبوعاً ظل يلاحقني كلما قرأت كلمة 
«اليابان » او استمعت اليها من المذياع ف نشرات الاخبار او حتى في اعلانات تیوتا 
وتوشيبا مما جعلني بين الحيرة والدهشة ومرد هذا كله انني عندما قمت بزيارة لهذه 
اليابان في اكتوبر عام ۱۹۱۸ بدعوة من وزارة الخارجية فوجئت يومها بوقد من جامعة 
طوكيو يزورني في الفندق ويطلب إل ان اعد لجامعتهم محاضرة عن ثورة الامام 
الهدي » ولم تزل دهشتي وانا استفسر عن سر هذه الرغبة الا عندما ابلغني سفيرنا في 
طوكيو انذاك الاخ صلاح زروق بان كل الشعوب في الشرق الاقصى تعرف الامام المهدي 
تحبه وتعظمه وتعتبره القائد الوحيد في العالم الذي أخذ لهم بثأرهم عندما ذبح الجنرال 
غردون الذي كان قبل اعوام قليلة من ذهابه للسودان جلادا وقائدا للمذابح والمجازر 
الفظيعة التي ارتكبها عندما كان ضابطا في الصين . 

وفعلا عندما زرت الصين في منتصف مايو تأكدت بنفسي من مشاعر الاعجاب 
والاحترام التي يكنها قادة وشعب الصين للامام محمد احمد المهدي وللثورة المهدية . 

.. المفاجأة الكبرى الثانية التي كانت تنتظرني في اليوم الثاني لالقاء المحاضرة في 
جامعة طوكيو هي ان قرأت منها قد ظهرت في الصحف الرئيسية وفي الاذاعة والتلفزيون 
مما أدخل في نفسي كثيرا من البهجة والفرحة والفخار وانا أرقب العيون والنظرات في 
الشارع والفندق تلاحقني والاعناق التي كانت تتطاول في اعجاب لرؤية رجل من بلاد 
الثائر الامام المهدي وهنا فقط تمنيت ان يبعث المهدي للحياة ولو للحظات ليرى الذي 
اراه ) ويسمع الذي اسمعه . 


۳۵ 


الفصل الثالث 


© السودان ماذا... وكيف سار ؟ 
© الثورة التي بدأت برجل واحد وانتهت بتحرير أمة . 





«الحربه » لیرنقع مکانه العلمان البريطاني والصري ودخل بذلك مرحلة جديدة ذاق فيها 
الامرین من التنکیل والحرمان وخنق الحریات ومحاربة الارزاق وبداً يعايش ظروفه 
الجديدة بمرارة وألم وکان لابد له ان یتخذ مسارا جديداً يبدأ فيه من الالف ویضع فيه 
الاساس الذي سيبني عليه مستقبل ايامه ويبدأ به السيرة الطويلة الجهولة . واخذ 
الاستعمار من جانبه يخطط ویضع کل الرکائز التي سيبني علیها صرحه البغیض ليحمي 
مصالحه مستغلا الحالة النفسية التدنية للشعب السوداني الذي لم یفق بعد من صدمة 
الغزو ومرارة الهزیمة . 

.. بسقوط الهدية وبداية الحکم الثنائی ظهر على السرح الديني اولا ثم السياسي 
انیا مولانا السید على اليرغني زعیم طائفة الختمية الذي يدين له بالولاء‌والطاعة معظم 
سکان سمال وشرق السودان فقد كان ذا حظوة كبيرة ومكانة مرموقة في مصر . اما ال 
الهدي والخليفة عبدالله التعايشي الحاکم الفعلي للسودان بعد رحیل الامام الهدي 
بعامين .. اما هؤلاء وعلى رأسهم السید عبدالرحمن النجل الاکبر للامام الهدي فقد کانوا 
ف مقدمة من واجهوا غضبه الاستعمار وشراسته فقد شردوا وعدبوا وطور دوا ولو حقوا| 
لفترة طويلة من الزمن وكانت تحركات وتنقلات السيد عبدالرحمن المهدي بالذات 
محكومة ومحصورة ومحسوبة . 

.. بدأت جماهير الانصار المدحورة المغلوب على أمرها تتجمع من جديد ولكن بحذر 
وحيطة وكانوا يلتقون جماعات لاداء الصلاة ثم بعدها يتلون «راتب الهدي » المأخوذ 
اساسا من القران وبعض الاحاديث النبوية وهم يتابعون من بعيد بحسرة واس » وحرقة 
والم نجل قائدهم السياسي وزعيمهم الروحي وهو شريد يهيم على وجهه في دنيا الفاقة 
والمذلة والضياع لكن احدا لم يستطع أن يحرك حتى لسانه وهو اضعف الايمان لان 
الاستعمار قد احکم قبضبه وقویت سوکنه واستدت سواعده وركائزه . 9 

.. ومع مزور الایام وانخفاض درجات الغلیان والفتور الذي خیم على البلاد ؛ بدأ 
العلماء الدینیون وعلی رأسهم مولانا فضيلة الشيخ ابو القاسم احمد هاشم شيخ العهد 


۳۹ 





الملك ادوار السابع مع الزعماء السودانیین في لندن ۹ بمناسبة حفلات التتویج إلى یمینه ۳" 
مولانا الميرغني فالشریف یوسف الهندي وإلى. يسار الامام عبدالرحمن الهدي 
العلمي «الازهر السوداني » ومولانا الشیخ البدوي من کبار الائمة ... بدأوا شتی الوسائل 
والسبل لازالة حدة الخلاف والجفوة بين الحکام الانجلیز وبين آل الهدي ممثلين في 
زعیمهم السید عبدالرحمن وقد مارسوا کل الضغوط التاحة والمكنة لتحقیق هذه الغاية 
فلم یکلوا ولم یملوا ولم یقطعوا یوما حبال الامل فواصلوا مشوارهم الطویل ومسيرتهم 
الصعبة حتی كان لهم ما آرادوا فازالوا جسور الخلاف بين الانجلیز وآل الهدي بشروط 
معينة وتمت الصالحة وسمح للسید عبدالرحمن ان ینحصر في «الجزيرة ابا » وقد كانت 
عاصمة لوالده الهدي وبدأ یستئمر آرضها ولا یبرحها شبرا الا باذن السلطات» وما ان 
دقت طبول الفرح ودوی النفیر بانباء الصلح في جماهیر الانصار خاصة في مراکز ثقلهم 
وکنافتهم بمدیریات کردفان ودارقور والجزیرة حتى سارعوا بالهجرة إلى «الجزيرة ابا » 
لیلحقوا بزعیمهم ويقفوا وراءه مؤيدين ومناصرین واقبلوا على الارض الجرداء یقلحونها 
ویزرعونها ویروونها بعرقهم دونما اجر او مقابل الا ابتغاء مرضاة الله ورسوله والامام 
الهدي وقد عرف عن جماهیر الانصار ولاژهم الشدید » وحبهم الاکید وطاعتهم العمیاء 
للامام - ولن ابالغ والشواهد على ذلك كثيرة وقوية وتابتة - لن ابالغ ان قلت ان 
الانصاري لن یتردد في قتل ابیه او اخیه او ان یبقر احشائه او ان یقفز من برج ایفیل او 
یدفع بنفسه في شلالات نیاجارا ان كان في ذلك ما برضي الامام او يريحه ویسره . 
.. وقد شهد السودان في مناسبات سياسية مختلقة سنتعرض لبعضها فیما بعد ان 
حشد الامام انصاره في العاصمة للضغط على خصومه السیاسیین عندما تدلهم الخطوب 


۳ ۰ 


مستميتين فيما يؤمنون به وكان أهل العاصمة وجلهم من المستنيرين والمثقفين يعلمون 
كما يعلم السودانيون في كل بقعة ومكان ان الانصاري عندما يستدعيه الامام لمثل هذه 
الاحداث كان يطلق زوجته واولاده ويضع على كتفه «الكفن » ثم يهاجر إلى الخرطوم 
انتظارا للجهاد مهما كان شاقا ومريرا! 

.. أصبح الامام عبدالرحمن المهدي بعدما اقبل انصاره على الارض من أثرى أثرياء 
السودان وعندما فك عنه القيد وأزيل الحصار عاد إلى ام درمان عاصمة والده الوطنية 
وبنى له ولاله مساكن تحيط بالقبة التي دفن فيها والده . وفي قلب الخرطوم شید له 
قصرا منيفا وأشرف بنفسه على اقامة حديقة غناء كان أجمل ما فيها أرضها المنبسطة 
التي تبلغ حوالي الفدانين والنصف «عشرة الاف متر مربع». 

.. صار قصر الامام عبدالرحمن في الخرطوم قبلة لانصاره ومريديه ومؤيديه ومع 
مرور الزمن اسس حزب الامة وكان في طليعته زعماء العشائر ونظار القبائل وعدد من 
كبار رجالات الدولة وأعضاء الاسر المرموقة والعريقة في السودان . وتحسنت مع الايام 
علاقة الامام بالانجليز ونمت وتطورت وترعرعت حتى وصلت حدا اتهمه فيه اعداژه 
التقليديين بالتعاون السافر والتبعية المطلقة للاستعمار البريطاني ومضوا يشيرون 
بأصابعهم وأيديهم في كل مناسبة وندوة وخطابة مشككين في هذه العلاقة واسرارها 
ودوافعها واسبابها ومسبباتها ومع مرور الزمن واشتداد هذه الحملات التصقت التهمة 
تماما خاصة بحزب الامة المهدوي . الذي جعل حملات الشكوك والمناورات حقيقة واضحة 
هي مشاركة حزب الامة المهدوي في جميع المؤسسات التي خلقها الحكم الانجليزي 
كالمجلس الاستشاري لشمال السودان والجمعية التشريعية التي قاطعها الوحدويون 
وشريحة كبيرة من المثقفين والطلبة والعمال تساندهم الطائفة الميرغنية وعلى رأسها 
راعيها مولانا السيد علي الميرغني وقد وصلت هذه المقاطعة حد التظاهرات 
والاصطدامات بقوات الأمن وراح فيها عدد من الضحايا . 

.. كانت للامام عبدالرحمن الهدي صحيفتان يوميتان الاولى صحيفة «الأمة» وهي 
الناطقة باسم حزبه وكان شعارها «السودان للسودانیین » أما الصحيفة الثانية فكانت 
تسمى «النيل » وهي الناطقة بلسانه ولسان طائفته وكان شعارها «لا شيع ولا طوائف 
ولا أحزاب» ديننا الاسلام ووطننا السودان »!! 

.. السيد الامام عبدالرحمن كان ملتحياً فارع الطول ممتلىء الجسم قوي البنية أنيقا في 
ملبسه ومظهره ومسكنه حلوا في حديثه ومعشره رفيع الخلق» بعيد النظر » ثاقب الفكر › 
وكانت يده ممدودة مبسوطة لكل عمل خير . لم يطرق بابه صاحب حاجة فرده خائبا او 
حاسرا . كان قصره المنيف في الخرطوم دائب الحركة لا يهدأ ولا ينطفىء ولا يفرغ الا 
لیمتلیء ويمتلىء وما زار السودان ضيف او وفد الا وكان المهدي السباق لاستضافته 
والترحيب به . كان بحق وبلا خلاف ومنازع وجه السودان المشرق ورجله الاول . 


۳١ 


.. كان للسيد الامام عبدالرحمن اربع زوجات وعدد كبير من البنين والبنات برز * 
منهم في مسرح الأحداث السيد الصديق الذي تولى الخلافة والامامة من بعده في ظروف 
صعبة ومريرة ابان الحكم العسكري في نوفمبر ۱۹۵۸ وقد برزت ملامح السيد الصديق 
السياسية في اعظم صورها عندما تصدى للحكم العسكري بمواقفه الشرسة لدرجة وصلت 
حد الصدام المسلح مما جعل كل قوى المعارضة من النقابات والطلاب والاحزاب تبايعه 
ونقف تحت رايته حنی الحزب الشيوعي السوداني العدو الاول للطائفية والقبلية لم يجد 
مقرا من مبایعته والتسلیم بقیادنه . 

.. مات الامام الصدیق فجأة في ۲ اکتوبر ۱۹۱۱ بالذبحة الصدرية «النوفمبرية » في 
وقت كانت الحاجة اليه ماسة اذ بسبب مواقفه العنيدة ضد الحکم العسكري والتأیید 
الطلق له كانت البلاد على اعتاب الخلاص ولکنه مات ومات معه کل رجاء وامل ولکن 
إلى حين . 

.. بایع الانصار من بعده اخاه الامام الهادي الذي سهدت خلافته اکبر واخطر 
انقسام داخل الاسرة والطائفة معا لان «البيعة » تمت على عجل وبلا تمهید ولا توقع ولا 
اعداد نسبة لوفاة الامام الصدیق الفاجئة وکان لهذا الانقسام الخطیر آثاره القريبة 
والبعيدة على السودان كله وقد كان نقطة تحول بارزة في تاريخ السودان ومجریات 
الأحداث مما یجعلنا نتعرض له بالتفصیل في مقام آخر حسب تسلسل الاحداث ذلك 
لان طائفة الانصار كانت تشکل الركيزة الاولی والاساسية لدعم الاستقلال وسلامة البلاد . 

.. كانت طائفة الانصار تتألف من تشکیلات عسكرية منظمة .. وکانت تدریباتها 
ونقسیماتها إلى مجموعات صغيرة ومتوسطه وکبیرة نشْبه کنیرا التدریبات العسکریه مما 
جعلها قوة لا بستهان بها ولا یمکن تجاهلها ! 

۱۹۵ يبلغ تعداد الانصار المنتمين بالبطاقات حسب احصائيات مراكزهم ف‎ .٠ 
حوالي الثلائة ملايين في كل مناطق السودان وهم من الرعاة والزراع الذي يشكلون طبقة‎ 
ما دون الوسط خاصة في التعليم والثقافة . وقد كان الامام عبدالرحمن يحرص بنفسه‎ 
على ادارة شئون الانصار خاصة في التجمعات والناسبات الدينية الكبيرة كمولد النبي‎ 
وذكرى الامام المهدي الكبير و۲۷ رجب الذي تتم فيه مئات الزیجات . كان الامام‎ 
عبدالرحمن حريصا وحذرا تجاه طائفته بدرجة لم يسمح فيها لاي سياسي في حزبه مهما‎ 
كبر مقامه وقوي نفوذه ان يخترق السور الحديدي الذي ضربه حول طائفته او ان‎ 
يتعرف عليها وعلى اسرار تنظيماتها لا من قريب ولا من بعيد اللهم الا ابنه السيد‎ 
.» الصديق باعتباره خليفته في «الامامة‎ 

.. كانت طائفة الانصار هي الجيش الذي يعتمد عليه الامام اعتمادا كليا وهي 
الجسر المنيع الذي سيقوده طال الزمن أم قصر إلى عرش السودان . 

.. لقد عايشت هذا الذي اقوله معايشة تامة وقريبة وحتى ادعم ما ذهبت اليه اروي 


۳۳ 


قصة خرافية حضرت احدائها وشاهدت فصولها وانا في حضرة الامام . 

.. كان في زيارته مجموعة من الانصار الرعاة الذين بدأوا رحلة الهجرة إلى ام درمان 
من اقاصي الغرب فقطعوها سيرا على الاقدام وباللواري ثم بالقطار حتى يسلموا زكاتهم 
وزكاة اهليهم لمكتب شون الانصار بالخرطوم باعتباره الراعي لشئونهم الدينية فيقوم هو 
بتوزيعها على الففراء نيابة عنهم . 

.. شاهدت هؤلاء الانصار الزائرين القادمين من اقاصي السودان عندما اقتربوا إلى 
حيث جلس الامام المهدي وهم يصرخون ويولولون فرحين بلقاء امامهم وقائدهم وكانوا 
يزحفون زحفا نحو الامام ولا بلغت المسافة بينهم وبينه حوالي العشرة امتار توقفوا عن 
السعي مأخوذين مشدوهین من شدة الانفعال والفرح والامام عبدالرحمن يغطي نصف 
وجهه «بشال » ملفحة صغيرة وهو يردد عباراته العروفه الشهيرة : 

.. «الانصار طیبین .. الأهل طیبین » وجلس الانصار «القرفصاء » راقعین اکفهم 
للسماء وابصارهم مشدودة إلى وجهه طالبین «الفاتحة والبركة »! انتهت مراسیم اللقاء 
الفريد وصرخ احد الانصار وهو سیخ ف عقده السادس طالبا من الامام ان یعطیه 
«ملفحته » للتبريك وما ان فعل ذلك حتى انقض عليها بقية الانصار وعددهم يزيد على 
العشرة فقطعوها ومزقوها اربا اربا ثم تقاسموا اجزاءها الصغيرة ليعودوا بها إلى اهليهم 
فيتفاخروا ویتبرکوا بها . ۱ ۱ 

.. لقد اخذت بهذا الذي تراه عيناي مأخذا کبیراً وادرکت مبلغ الحب والطاعة 
والتبعية التي تکنها جماهیر الانصار لامامهم وقائدهم ولکن الذي شدني اکثر من ذلك ان 
الامام بعد كل الذي جری قال لي عندما لاحظ حيرتي وانبهاري وقد علت وجهه ابتسامة 
الرضا والفرح : 

«الانصار ديل يا ابني اهم عندي واقرب إلى قلبي من کل سياسي مهما بلغ شأنه ». 

.. الشيء الذي فاتني ان اذکره وانا اسبح في بحور هذه الذکریات الطويلة القديمة ان 
«الخلافة والامامة » كانت تتم على طريقة الملوك والاباطرة .. مات الملك .. عاش الملك ! 

.. بعد هذا السرد التاريخي المستفيض الذي كان لابد منه حتى تكتمل صورة 
الاحداث وتصبح معالمها واضحةء نعود إلى الجانب الاخر المضاد لنكمل صورة الطائفية 
وآثارها ومؤثراتها في مجرى الحياة في السودان فنتحدث عن طائفة «الختمية » التي 
يرعاها مولانا السيد علي الميرغني بجانب رعايته للحركة الوحدوية . 

.. كان مولانا الميرغني قصيرا نحيل الجسد عرف بذكائه ودهائه الخارقين وسعة 
ادراكه واطلاعه . كان قليل الکلام » قليل الظهور قليل الحركة الا انه كان كبير الاثر 
واسع الانتشار وبالرغم من انه كان يحاول دائما الابتعاد عن اضواء السياسة الا انه كان 
غارقا فيها حتى اذنيه فقد وضع بصمات ظاهرة بارزة في كل حديث ومناسبة وجمع 
بين يديه كل الخيوط الرئيسية للحركة السياسية في السودان وظلت أصابعه تحرك هذه 


۳۳ 


الخيوط وتسيطر على كل اطرافها سيطرة كاملة لم يتمكن معها خيط واحد من ان 
يلتوي او يختفي او يضيع وكانت علاقاته مع مصر قوية وعميقة . وكلمته عند 
كل الحكومات المصرية نافذة وفاعلة ومؤثرة. كانت لقاءاته وتحركاته المستترة منها 
والظاهرة والتي كثيرا ما تجري في سرية وحذر تسبب صداعا مستديما ومزمنا للادارة 
البريطانية ف السودان . كانت له صحيقة واحدة اسمها «صوت السودان » هي الناطقة 
باسمه واسم طائفته وقد توالى على تحريرها نخبة مميزة من «الدكاترة » خريجي 
الجامعات المصرية فكانت صحيفة ممتازة حملت لواء المعارضة واقلقت مضاجع الانجليز 
وكان مولانا الميرغني رغم مشاغله الكثيرة يتابع ما ينشر في صحیفته بل وكثيرا ما يوجه 
القائمين عليها ويختار لهم موضوعات الساعة وافتتاحية العدد . 

.. كان مولانا الميرغني مولعا بحركات التحرر في جميع انحاء العالم متابعا 
للانتفاضات الاسلامية . اذكر انه استدعاني عام ۱۹۲۰ عندما كنت متجها لامريكا 
لحضور الجلسة الافتتاحية للامم المتحدة وبدا يتحدث معي عن حركة الزنوج والصحوة 
الاسلامية التي اخذت تظهر تباشيرها في الولايات المتحدة وتناقشنا في عديد من القضايا 
المطروحة في الامم المتحدة آنذاك خاصة عن الجلسة الافتتاحية المرتقبة التي سيطرت 
فيها احداث افريقيا بعد مقتل لوممبا واحداث الكنغو الشهيرة وانتفاضات عدد من الدول 
الافريقية . 


وقي ختام لقائي بمولانا الميرغني طلب إلى أن احضر له أي مخطوطات عن حركة 
الزنوج : مسارها ء آثارها ومستقبلها حتى ان مولانا الميرغني تنبأ في ختام حديثه بي بأن 
الزحف الزنجي سيصل قمته المؤثرة في الولايات المتحدة عام ۲۰۰۰ ولا يستبعد في أو 
بعد هذا التاريخ بقليل ان يقتحم البيت الابيض سيد اسود!! ضحكت وضحك وودعنى 
متمنيا لي كل التوفیق . ۱ 


.. تحدث مولانا الميرغني معي طويلا عن الزعيم الزنجي مارتن لوثر كنج زعيم 
حركة الزنوج والذي كان آنذاك مل السمع والبصر ووصفه بانه قريب للاسلام اكثر منه 
للمسيحية وقال لي مولانا الميرغني انه قرأ فيما قرأ دعوة للزعيم الزنجي للفتيات 
الزنجيات ان يلدن باية طريقة او وسيلة يعني دعوة صريحة «للزنا » ليسهمن في زيادة 
عدد الزنوج حتى لا يعودوا اقلية فاذا عرف الزعيم الزنجي ان الذي يواجهه الان واهله 
هو نفس ما واجه الاسلام عند ظهوره وفي فجره وهو مشكلة الاقليات لذلك نزلت الاية 
الكريمة # وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ... الخ الاية ‏ حتى 
ینزاید ويتضاعف عدد المسلمين وتشند شوكتهم ویبدو ان هذا كان فحوى الر سالة الني 
اعطاني اياها للزعيم كنج وقد نفذت رغبته فور وصولي إلى واشنطن فاتصلت بمكتب 
الزعيم الراحل وقابلته بعد ثلاثة ايام يبدو انه تمكن خلالها من جمع المعلومات والخلفيات 


۳٤ 


عن مولانا الميرغني وقد ظهر واضحا عند لقائي بالزعيم الزنجي انه كان ملما بشخصية 
الميرغني وابدى إعجابه الشديد بتحليل الاسلام الزواج من اربع نساء دفعة واحدة ثم 
تكرار العملية باربع أخر عند الطلاق ووصف مارتن لوثر رسالة اليرغني وما جاء فيها 
من تعاليم القرآن انها عملية وجيدة وتستحق الدراسة والتابعة واكد لي الزعيم الزنجي 
وهو يسلمني رسالة للميرغني ردا على رسالته انه اذا ما قام بزيارة افريقيا فان اول بلد 
ستطئه قدماه هو السودان واول يد سيصافحها هي يد مولانا الميرغني . 

وهكذا فان هموم مولانا الميرغني لم تكن قاصرة على السودان والعالم العربي 
وحركات التحرر الافريقية وانما امتدت إلى الولايات المتحدة في رسالته الصريحة التي 
دعا فيها الزعيم مارئن لوثر كنج واهله الزنوج إلى دخول الاسلام باعتباره دين السماحة 
والنور والحق والعدالة والطهارة والنقاء والصفاء . 

وبهذه المناسبة اقول بان مولانا الميرغني طيب الله ثراه كان مثقفا ومطلعا وباحثا 
وهو يملك مكتبة ثرة وضخمة ومتنوعة قل ان يكون لها مثيل وفوق كل ذلك فانه يقرأ 
اللغة الانجليزية بفهم وتمعن وادراك وتعمق الشيء الذي يجهله اقرب الاقربين اليه . 

.. لم يكن مولانا الميرغني ثريا كنده الامام عبدالرحمن الهدي وكان كذلك يعتمد 
اساسا على اراضيه الزراعية الواسعة الشاسعة في سُمال وشرق السودان . وكان اتباعه 
ومريدوه يقبلون ايضا على فلاحة وزراعة اراضيه بلا مقابل ابتغاء مرضاة الله ورسوله 
ومولانا الميرغني يمتلك الميرغني قصرا منيفا في الاسكندرية وآخر في قلب الخرطوم 
ايضا اما رئاسته ومسكنه المفضل الدائم فقد كان في الخرطوم بحري . 

.. ظل مولانا الميرغني يرعى الحركة السياسية الوحدوية وحزب الوطني الاتحادي 
الذي يرأسه السيد اسماعيل الازهري اول رئيس وزراء للسودان المستقل ورغم ان السيد 
الازهري ورفاقه واتباعه العديدين من جمهرة المثقفين والعمال والطلبة لم يكونوا يوما 
طائفيين الا انهم اضطروا ان يركبوا الصعب لمواكبة الظروف السياسية المتأزمة فانضموا 
مكرهين تحت راية زعيم طائفة الختمية حتى يتمكنوا من مواجهة خصمهم المشترك 
صاحب المال والقوة والجاه والنفوذ الامام عبدالرحمن المهدي . 

لم تكن اسرة الميرغني كبيرة لانه لم يكن مزواجا وقد ترك عند وفاته عام ۱۹۱۷ 
ابنين تولى احدهما خلافته وهو السيد محمد عثمان أما ابنه الآخر السيد احمد فقد 
انصرف إلى دنيا الاعمال حتى الان .. 

.. نعود معا الى الماضي البعيد .. إلى اول ثورة سودانية عملاقة بدأت برجل واحد 
وانتهت بتحرير أمة كاملة» نعود إلى عام ۱۸۸۳ عندما كان السودان يئن تحت وطأة 
الاستعمار المثلث الانجليزي التركي المصري فذاق من الوان العذاب والفساد والتردى ما 
جغل: الاب الشيخ محم احم المهذى: الذي كان معلا للدين .- تماما گنیر المكتار - 
مع الفارق الزمني البعيد يهب لمحاربته ومقاومته فكان ان اشهر دعوته التي قامت اساسا 


۳0۵ 


على سنة الله ورسوله وسرعان ما التف حوله الشباب والشيوخ والنساء وزعماء القبائل 
والعشائر ثم ما لبثت دعوته ان اشتعلت كالنار في الهشيم » فازداد اتباعه وبعث برسله في 
السر والعلانية إلى مختلف بقاع السودان حتى بايعه الشعب كله بكل اتجاهاته ثم ما لبث 
ان زحف إلى الخرطوم وطوقها تماما وطلب من غوردون باشا اشهار اسلامه ورقع 
الراية ! 

.. لم تقاوم الخرطوم كثيرا ولم تصمد خاصة عندما طوقتها جیوش المهدية من كل 











من 


و نوزم 


الخليفة 


جانب . كان حاكم السودان العام في ذلك الوقت هو الجنرال البريطاني غوردون باشا 
فماطل رسل المهدي في التسليم ورفع الراية البيضاء باعلان اسلامه أملا في وصول 
الامدادات التي كانت قد ارسلت اليه بالفعل من مصر . وبعد ثلاثة ايام من التطويق 
المحكم انهارت قوى الاستعمار فوجهت جیوش المهدية ضربتها القاصمة عندما هجمت في 
شراسة واحتلت الخرطوم . 

.. في غمرة نشوة الظفر والانتصار » هجمت مجموعة من الانصار على قصر الحاكم 
العام «قصر الشعب الان » وذبحت الجنرال غوردون من الاذن للاذن وحملت رأسه في 
منديل وعندما وضعته امام المهدي ثار واستنكر هذا الذي يراه .. ثار بعنف لانه كان في 
دخيله نفسه قد قرر ان يفتدي الثائر الصري احمد عرابي الا ان الواقعة قد وقعت فلم 
يكن امام الامام مفر وهو يتطلع إلى رأس غوردون باشا الذي كان يقطر دما الا ان 
يتقبلها كحقيقة ابتة وأمر نافذ وهكذا ارادت مشيئة الله ولا راد لمشيئته . 


۳۹ 


دفن اغا موق :هن تكوير :الكو دان عنم مات ضاخ الرسالة مات الخاهه 
الاول الامام محمد احمد المهدي فجاء من بعده الخليفة عبدالله التعايشي الذي حكم من 
بعده السودان لثلاث عشرة سنة - كانت معظمها سنوات عجاف شهد الشعب خلالها 
كثيرا من الوان الضيق والحرمان كما ارهق كثيرا بالضرائب مما جعله يتململ في غير 
ما توقف لكنه لم يستطع ان يفعل اكثر من مجرد «الململة » خوفا من سياط الخليفة 
وبطشه وانقلبت الثورة التي فجرها المهدي ضد الحكم التركي ليخلص الشعب السوداني 
من قبضته » على الشعب نفسه وبدأت في العد التنازلي حتى ضعفت وانهارت امام 
الجيوش الانجليزية المصرية تحت قيادة اللورد کتشنر عام ۱۸۹۸ بعد واقعة كرري 
السهيرة التي استبسل فيها السودانيون وضربوا فيها اروع مثل في الجهاد والاستشهاد 
غير ان المعركة رغم شراستها لم تكن متكافئة من ناحية السلاح والعتاد فانتصرت قوى 
البغي والشر على المجاهدين والمستشهدين وقتل قائدهم الخليفة عبدالله التعايشي وبذلك 
اعلنت النهاية واسدل الستار على الحكم المهدوي!! وبالمناسبة فان تمثالي اللورد كتشنر 
والجنرال غوردون ظلا منصوبين في قلب الخرطوم الاول يمتطي حصانا والثاني يركب 
جملا حتی ازيحا بعد الاستقلال وارسلا إلى انجلترا حيث دخلا متحف التاريخ . 


.. كانت اشهر موقعة اصطدمت فیها الجيوش الغازية بقوات المهدي هي موقعة جبل 
كرري الذي بقع شمال ام درمان وبالرغم من ان الجيوش الغازية كانت تحصد الانصار 
ببنادقها الحديثة فقد كانت صور الصمود والبطولات والتضحية لجيوش الانصار وهم 
بحرابهم وسيوفهم واسلحتهم البدائية رائعة ومثيرة حسب ما جاء في كتاب ونستون 
تشرشل «حرب النیل » والذي كان يرافق قوات كتسنر والذي اصبح فيما بعد رئيسا 
لحزب المحافظين ورئیسا للوزراء . 


.. انفرد السودان بعد هذا الغزو بحكم لم يعرف له من قبل سابقة او مثيل هو 
الحكم «الثنائي » ورفع في سمائه العلمان البريطاني والمصري وسمي بعد ذلك 
«بالسودان الانجليزي المصري»! الى ان قامت ثورة ۱۸۹6 على اثر مصرع حاكم 
السودان العام البريطاني في القاهرة فطرد الجيش المصري من السودان وانفردت 
بريطانيا انفرادا كاملا وكليا بحكم السودان رغم ان العلم الصري ظل يرفوف حتى 
اعلان الاستقلال في اول يناير عام ١507‏ او الفاتح من يناير كما يقول اهلونا الليبيون . 
وبخروج الجيش المصري دخل السودان مرحلة جديدة من مراحل الكبت والعنف فراح 
الاستعمار البغيض يقتل ويسجن ویشرد ويطارد وينكل بالاحرار في كل ركن ومكان 
ولكنهم صمدوا وثابروا وصابروا وكان نور السماء فوقهم وفي جنوبهم › والله من ورائهم 
محیط ! 


۳۷ 


۶ الفصل الرا 


8 اسرار مطوية وراء تورة ۶ ۱٩۳۲‏ 
© انسحب الحیش الصري وبدأت 
© داذا قالوا في المحكمة: 


عبدالرحمن ‏ اعدام . عبدالفضيل الماظ ‏ اعدام . صالح 
محمد سليمان ‏ اعدام . 





ثورة ۱٩۳۲‏ الدامية 


.. نعود قليلا إلى الوراء لنقف على اعتاب عام ۱۹۲۶ الذي شهد اولى الانتفاضات 
الثورية المسلحة منذ زوال الهدية .. هذه الثورة لم تقم من فراغ وانما مهد لها الزعيم 
الخالد علي عبد اللطيف الذي كان آنذاك ملازما في الجيش السوداني وعرف بين زملائه 
واخوانه برقة حواسه وحبه للوطن وعشقه للكفاح مع صلابته وثورته على الاوضاع 
المجحفة القائمة آنذاك . 

كتب الثائر علي عبداللطيف أول عريضة سياسية منفردا وباجتهاده الشخصي سلمها 
للاستاذ حسين شريف رئيس تحرير حضارة السودان لنشرها على مسؤوليته ولكن 
سلطات المخابرات علمت بها فداهمت دار الجريدة ووجدت العريضة فالقت القبض على 
الثائر علي عبداللطيف وطرد من الجيش كما حكم عليه بالسجن لمدة عام بسبب عريضة 
لم تنشر ومطالب لم تعرف للعامة . كانت العريضة تطالب بتحسين حال السودانيين 
والاعتراف بحقوقهم .. تلك كانت الشرارة الاولى ! 

.. جاء عام ۱٩۲۲‏ وجرت المفاوضات بين سعد زغلول رئيس الحكومة المصرية 
والسير ماكدونالد رئيس الوزراء البريطاني عن الاوضاع في السودان كما بحثا مستقبله 
السياسي . فما كان من البطل علي عبداللطيف الا ان سارع باعداد برقية للرئيسين 
المصري والبريطاني بصورة للحاكم العام وقعها معه هذه المرة المجاهد صالح عبدالقادر 
الشاعر المغوار والصحفي والاديب والخطيب البارع ثم توالت التوقيعات . كانت البرقية 
تقول: 

«نحن الموقعون على هذه البرقية باسم السودان قد أبت انفسنا ان نكون بمنزلة 
البهائم يقضى عليها ولا يؤخذ رأينا فيما يخص بلادنا ومستقبلنا ». 

كانت هذه البرقية هي التي نفخت الروح وبعثت الحياة في اول جمعية سياسية 

علنية «جمعية اللواء الابيض » تطالب بحقوق السودانيين بالطرق المشروعة والوسائل 
السلمية والا تلجأ للعنف الا عند الضرورة القصوى وعقد مؤسسوها الستة اول اجتماع 
لهم يوم ۱۵ مايو ۱۹۲۶ فاختير المجاهد علي عبداللطيف رئيسا لها وصالح عبدالقادر 
وكيلا ومولانا زكي عبدالسيد قاضي شرعي مدينة «سنار » سكرتيرا وعضوية كل من 


۱ 


الوكيل حسن صالح المطبعجي وحسين محمد شريف وعبيد حاج الأمين ووضعت أول 
خطة لجذب الاعضاء فكان ان رشح كل من الحاضرين خمسة اصدقاء وهكذا وبعد ايام 
قليلة كان اعضاؤها يزيدون على الخمسين شخصا من المدنيين والعسكريين ولكن ما ان 
مضى على تكوين الجمعية ستة اشهر بالتمام والكمال حتى فجرت الثورة الخالدة . 

.. كان من أبرز المدنيين الذين سارعوا بالانضمام إلى جمعية اللواء الابيض الامين 
هاساي وعبدالفتاح الغربي وحاج السيخ عمر دقع الله ومحمد المهدي الخلیفه عبدالله 
التعايشي والسيخ زكي عبد السيد قاضي شرعي «سنار » ومحمد علي وسر الخنم 
وغیرهم وغیرهم . آما من العسکریین فکان ابرزهم وأول من انضم إلى الجمعية 
اليوزباشي عبدالله خلیل الذي عرف بالوطنية والصرامة والجدية فاوکل اليه امر الاتصال 
بالضباط في سرية تامة فکان آول صيد له هو اللازم عبدالفضیل الاظ قائد ثورة ۱۹۲۶ 
فيما بعد والذي ترك له حرية اخنیار رملاثه . 

.. اشتد نشاط جمعية اللواء الابیض في السر والعلن وبدأ الغلیان والتظاهر وبدأت 
حملة الاعتقالات فقضي على عدد من اعضائها بالسجن وعلی رأسهم علي عبداللطیف 
الذي بلغ مجموع حصیلته من السجن حوالي السبع سنوات بتهم الاثارة والحض على 
كراهية الحکم . ومن الغریب انه عندما قامت نورة ۱۹۲۶ كان علي عبداللطیف داخل 
السجن اما صالح عبدالقادر فقد حکم عليه بسنتین سجنا وبعد خروجه باسبوع أحس 
بالرارة لفراق زملائه قبعث ببرقية للحاکم العام یطالبه فیها باطلاق سراحهم فقبض 
عليه في نفس الیوم وحکم عليه بسنة سجنا اخری على ارسال البرقیه ولرفضه التوقیع 
بالتعهد على نفسه باعتزال السياسة» والغریب الضحك انه عندما اوشك على اتمام فترة 
السجن لرفضه توقیع هذا التعهد قدم مرة ثالثة لقاضي الجنایات الذي طلب اليه ان یوقع 
على التعهد وعندما رفض مرة ثانية حکم عليه بالسجن نمانیه اشهر تبدا عند نهاية العام 
الاول ! 

۰ كانت السجون لا تفرع الا لتمتلىء من جدید بالجاهدین والاحرار واسنمرت 
درجة الغلیان واستمرت معها الحاکمات البربرية والتحقیقات الستمرة التي اصبحت 
شغل الحكومة الشاغل ولم تخل هذه التحقیقات رغم الوقف التأزم من حکایات ونوادر 
واتهامات ظلت عالقة باصحابها حتی فارقوا الحياة كما ظلت الاجیال تتناقلها وتحفظها 
دون ان تعرف حقيقة ما وراءها. 

.. من القصص الغريبة ان جمعية اللواء الابیض عندما انضم الیها اليوزباشي عبدالله 
خلیل اعتبرته مکسبا کبیرا فاسندت اليه مهمة امانة الصندوق وجمع التبرعات لرعاية اسر 
العتقلین والسجونین وطلبوا اليه الا يحضر الاجتماعات مطلقا خوفا عليه من الطرد 
والحاکمة لانه ضابط کبیر » لذلك فقد اتفقت شهادات کل العتقلین عند سوالهم عن 
المشتركين معهم من العسکرین وعلی رأسهم اليوزباشي عبدالله خلیل بانه لا علاقة لهم 


۲ 


به وقد بلغ بعض المقبوض عليهم ومنهم صالح عبدالقادر في اقوالهم وهم تحت الجلد 
البرح بالسياط والتعذيب التواصل فقالوا: اننا لا يمكن ولن نتشرف بانتماء عبدالله 
خليل لجمعيتنا الوطنية لانه جاسوسكم وعمیلکم!! كان هذا في محاكمة مفتوحة علنية 
مما جعل الحاضرين يصبون لعناتهم على عبدالله خليل «الضحية » المسكين . 

.. المصيبة ان هذه التهمة التي كان يبررها خوف المعتقلين على عبدالله خليل لانه 
كان يرعى اسرهم قد التصقت به واستغلها خصومه حتى مات في نهاية ۱۹۷۰ . 

.. ومن الطرائف الاخرى ان جمعية اللواء الابيض أرادت ان تضم اليها كبار 
المدرسين فكتبت للاستاذ عبدالفتاح الغربي - عضو مجلس السيادة فيما بعد - والذي 
كان مدرسا كبيرا بعطبرة ان ينضم اليها وان يستميل ويقنع كذلك زميله الاستاذ 
اسماعيل الازهري استاذ الرياضيات وبعد ايام ويبدو ان الازهري كان حذرا وحصيفا 
ولاحظ سيئا ما يحوم حوله ‏ قال لزميله المغربي : 

«ارجو الا تفاتحني في هذا الامر». 

.. مضت درجات الغليان ترتفعء والتظاهرات تخرج في كل مدينة وكان الشعور 
العام السائد أنذاك هو التعاطف مع مصر حتى يستعينوا بها على اخراج الانجليز فكان 
الهتاف بحياة مصر وسقوط الانجليز شعارا مستدیما في كل التظاهرات إلى ان هدا 
سيلها وهديرها عندما اعلن عن الانتخابات لاول برلمان مصري . وبعنت جمعية اللواء 
الابيض بوفد سري إلى مصر يتكون من اليوزباشي زين العابدين عبدالتام والسيد محمد 
الخليفة عبدالله التعايشي وحملاهما رسالة خاصة لسعد زغلول وكبار الوفديين ولكن 
السلطات القت عليهما القبض في وادي حلفا وهما متنكران في زي «مرمطونات» زي 
الطباخين والسفرجية » وأعيدا الى الخرطوم مكبلين بالسلاسل والقيود ليودعا السجن 
ويقدما للمحاكمة ! 

.. كان يتنافس على انتخابات البرلان الاول سعد زغلول وحافظ رمضان الذي زار 
السودان انذاك لكسب ثقة المصريين المقيمين بالسودان ونيل اصواتهم وقد نزل عند 
شقيقه ابراهيم رمضان القمندان الصري للسواري في شندي» وما ان سمعت به جمعية 
اللواء الأبيض في الخرطوم حتى أوفدت له صالح عبدالقادر لتحيته والترحيب بمقدمه 
نيابة عن الجمعية وكذلك لتشرح اهدافها وكانت خيبة المجاهد صالح عبدالقادر سُديدة » 
عندما استقبله حافظ رمضان «بالبيجاما الحرير » وهو جالس منشغل عنه «بقص 
اظافره » وعاد إلى الخرطوم وأبلغ اعضاء الجمعية .. وازدادت خيبة أمل الجميع عندما 
استمعوا اليه في النادي الصري بالخرطوم الذي امتلأت جنباته بالمئات العديدة من 
المصريين والسودانيين وعلى رأسهم علي عبداللطيف نفسه وبقية القادة زعماء الجمعية .. 
وازدادت خيبة املهم اجمعين عندما استهل حافظ رمضان خطابه قائلا : 

«يسرني ان اجدكم متآزرين متحابين وانتم في بلاد الغربة!!» فانسحب في الحال 


۳ 


جميع السودانيين الذين كانوا متعلقين ومعجبين بمصر والمصريين لانهم كانوا يرون 
فيهم الامل والرجاء والخلاص والستقبل وكانوا يرون فيهم الاسّقاء لا الغرباء! 

.. ثم جاء السودان بعد ذلك الدكتور عبدالرحمن عزام «أول أمين عام للجامعة 
العربية فيما بعد» جاء ليدعو لحزب الوفد كرد فعل طبيعي على زيارة حافظ رمضان 
ومرة اخرى أوفدت الجمعية صالح عبدالقادر لانه اديب وشاعر ومتحدث بارع وساخر 
طويل القلم وطويل اللسان معا ... أوفدته لقابلة عزام وذهب اليه في الفندق الكبير مرة 
ومرتين وثلاثاً وكان سكرتيره يقول له «البيه راح للحاكم العام ... البيه عند عامر 
باشا .. البيه بيشرب شاي مع قاضي القضاة .. البيه عند ال القباني » فأحس صالح بان 
عزام الوفدي الكبير والداعية لسعد زغلول في السودان يتهرب منه ولا يريد رؤيته . 

.. وفي اليوم الثالث أفرغ العم صالح كل احاسيسه ومرارته في قصيدة أدخلها في 
ظرف معنون لعزام باشا واودعه عند سكرتيره وهذه فقرات من القصيدة المعبرة 
الساخرة التي تحكي مشاعر العم صالح: 


سلام عليكك م لا مل وك ولا وزر 
سعینا لکم والسعي. ف العرف واجب 
كثيرم علينا ان سرد وغيرنا 
فيوم «لقباني» ويوم «لعامر» 
تخوفت منااو تخنوفت منهمو 
وربك انا عصبة وقفدها 
فان كنت وفدياً فكن عند ظننا 


ففيما تجافيكم ونحن لكم ازر 
لامثالكم والحر يسعى له الحر 
يرجح لا بأس عليه ولا هجر 
ويوم مع القاضي ونحن لنا الظهر 
ام احترت في السودان ام هالك الامر 
تمر من الدنيا وتحوى ولا فخر 
ولا لتنا شيع لزه قفا ریخ 
ننادي باعلا الصوت «فلتحيا لنا مصر» 


.. وف اليوم الثاني استدعاه عزام واستقبله في حجرته الخاصة واعتذر له بكثرة 
المشغوليات فرضي العم صالح ولا بدأ يشرح له الظروف الصعبة التي يعيشها السودانيون 
وضرورة تدعيم مصر للجمعية ومساعدتها احس العم صالح بان عزام كان يتحاشى 
الحديث في الموضوع ويتهرب فكانت خيبة أمله أكبر من خيبة أمله في حافظ رمضان لان 
العم صالح كان يعشق الوفد آنذاك . ومرد خيبة الامل ان الجملة الوحيدة التي قالها عزام 
بعد خطاب صالح السياسي : 

«بخصوص قصيدتك ارجو الا تنشرها او تطلع عليها أحداً من زملائك وانا متأكد 
بانها مجرد خواطر عابرة سرعان ما تزول » وهنا فقط خرج صالح عبدالقادر دون ان 
يستأذن عزام او يقول له مع السلامة! 

.. ومضت الاحداث سريعة وبينما جمعية اللواء الابيض تقود حركة الكفاح والنضال 
وتعبىء مشاعر الملايين لمعركة الحرية والخلاص فوجىء الشعبان السوداني والمصري 
بالاعتداء السلح على السير لي ستاك حاكم السودان العام عند زيارته للقاهرة يوم ۲۵ 


۶ 


نوفمبر ۱٩۲:‏ وما لبث ان ملات الاجواء السياسية المحلية منها والعالية شائعات تقول 
بان السير ستاك كان مصابا بمرض خطير وأن أيامه في الحياة أصبحت معدودة 
ومحدودة وان بريطانيا دبرت مقتله برضائه ومشورته حتى تستطيع ان تستغله لمصلحة 
الامبراطورية الزائلة التي لم تغب عنها الشمس ٠‏ وذهلت السلطات المصرية وجن جنون 
الملك فؤاد وحاولوا الصاق التهمة بعدد من المواطنين السودانيين الذين تم اعتقالهم 
بالفعل وعلى رأسهم الاستاذ الصحفي عرفات رئيس تحرير مجلة الفجر واحمد حسن 
مطر وغيرهما ممن كانوا يقضون اجازاتهم هناك وذلك حتى تبعد مصر عن نفسها 
المسؤولية وتبعات ما ينجم عنه مثل هذا الحادث الخطيرء ولكن السير لي ستاك خيب 
آمال المصريين وهو يلفظ انفاسه الاخيرة في اليوم الثاني للاعتداء عليه وذلك امام لجنة 
تحقيق كبرى نصفها من الانجليز والنصف الاخر من المصريين قال السير ستاك وهو في 
حشرجة الموت : 

«انا لم يقتلني سوداني وانما قتلني مصريون! !» 

.. وبعد اربع وعشرين ساعة من اعلان موت الحاكم العام ستاك وهو يوم ۲۱ 
نوفمبر ۱٩۲‏ وجهت الحكومة البريطانية انذارها المشؤوم لمصر ضمنته شروطا كثيرة 
على رأسها خروج الجيش المصري من السودان في اربع وعشرين ساعة ودفع فدية 
قدرها ربع مليون من الجنيهات وزيادة مساحة الأرض المزروعة في مشروع الجزيرة 
وطرد المدرسين المصريين من السودان و .. وقامت القيامة في الخرطوم وزلزلت الارض 
تحت الاقدام ووجد السودانيون في كل هذا الذي يجري فرصة العمر للتعبير عن حقدهم 
الدفين فانطلقت الشياطين وفك الشعب وثاقه وبدأت التظاهرات الشعبية وهي تعلق 
أمالها العراض في مصر وكانت تهتف بحياتها وسقوط الانجليز وتوالت الاحداث ورغم 
اعلان حالة الطوارىء فقد جرت الاتصالات واللقاءات السريعة بين الضابط عبدالفضيل 
الاظ ورفاقه وبين قائد الطبجية وضباط الجيش الصري الذي كان يعسكر في الخرطوم 
بحري من جهة آخری وتواعدوا وتعاهدوا على التمرد والعصيان ورفض الانذار 
البريطاني حتى ولو ادى ذلك للاصطدام المسلح وكان أبرز بنود العهد ان تقوم مدفعية 
الجيش المصري بنسف «طابية » الجيش الانجليزي وقصر الحاكم العام عند سماع أول 
طلقة من الجانب السوداني كما اتفقوا بان استجابة الجيش للانسحاب عار ودمار لمصر 
والسودان . 

.. على اثر هذا العهد تطورت الاحداث السريعة وما لبث في العصر ان قرر الجنود 
السودانيون بقيادة الملازمين عبدالفضيل الماظ وثابت عبدالرحيم وسيد فرح وسليمان 
محمد سليمان وعلي البنا وهم مدججون باسلحتهم وذخيرتهم بداية مسيرة الجهاد الکبری 
ليلحقوا بزملائهم المصريين بالخرطوم بحري وفي مدخل الكبري الذي يفصل الخرطوم 
عن الخرطوم بحري مسيرة ربع ساعة بالاقدام - اعترضنهم قوات الجيش البريطاني 


40 


دم ما لبثت بعد الانذار والتهديد والوعيد ان وقعت الواقعة «والتفت الساق بالساق وقيل 
انه الفراق » فزمجر الرصاص وانطلقت المدافع فحصدت المئات من الجنود البريطانيين 
وسرعان ما دعم الانجليز مواقعهم ومواقفهم بقوات كبيرة اخرى واستمر القتال غير 
المتكافىء حتى فرغت ذخيرة الجنود السودانيين فاستشهد من استشهد وسلم امره لله 
من سلم . وبكت السماء وانشق القمر واعلن سواد الليل الحالك الحداد وينسحب البطل 
المغوار الملازم عبدالفضيل الماظ ومعه عدد قليل جدا من بقايا المؤمنين ويندسون في 
جوف الظلام الحالك وهم يركضون ويركضون حتى ادركوا مستشفى النهر الذي كان قد 
أخلي قبل ايام خيفة وتوجسا وظل يتصيد الجنود البريطانيين بحرقة «حشا» وبسالة 
اسد جريح وغزالة تنوح وتبكي وليدها الیت .. ومضى يصارع ويجاهد ويقاوم ويقتل 
والضباط والجنود الانجليز وقفوا عاجزين عن رصد تحركاته في الستشفی الكبير وهو 
يمضى في تصيدهم الواحد تلو الاخر حتى جن جنونهم وفقدوا عقولهم وظنوا انهم انما 
يواجهون الشياطين والابالسة ويناطحون الهواء ویحرئون في البحر واخيرا .. واخيرا جدا 
صدرت الأوامر للمدفعية الثقيلة من القائد الاعلى البريطاني بقصف الستشفی من اساسه 
فانطلقت القذائف الملتهبة بالعشرات وانهدم العبد » واتکأت المأذنة وتوقف الاذان وانهار 
البنی وصمت الرصاص ودفن الاظ وجنوده عمیقا عمیقا تحت الانقاض . 

.. وفي الميدان الکئیب الصامت الیت في الخرطوم بحري الذي كان یشاهد ویراقب 
کل الذي جری سمعت عجلات القطار التي تحمل الجیش الصري صوب السْمال تجري 
وهي تنوح في بکاء والم مخترقه دخان المعركة الكثيف مسرعة خائفة واجفة وهي نمضي 
بعیدا بعیدا عن استغائات الصابین ‏ وتکبیر الستشهدین وزمجرة الدافع وسيل الدماء 
ورائحة الجثث !! 

.. استشهد بالامس البطل الخالد الاظ واعلنت في الغد محاکم التفتيش الهمجية 
احکام الاعدام بعد ساعة واحدة من انعقادها فذبحت العدالة ونحرت الانسانية على 
منصات السانق وارتفعت السدسات فعوی الرصاص ومزق صدور قادة النورة البافین 
وهم اللازمین ثابت عبدالرحیم وسلیمان محمد سلیمان وسید فرح وامتلأت ساحات 
السجون بالنبلاء والشرفاء والجاهدین الذين صالوا وجالوا في اشرف میدان » وصابروا 
وصبروا وثبتوا في آروع صور مازال الشعب یحکیها ویرویها ویفاخر ویعتز بها . وبدأت 
حملات التنکیل والتعذیب والتحقیق التي لم یعرف لها مثیل الا في عهد هولاکو 
وجنکیز خان وبداً الاحرار بتساقطون واحداً تلو الاخر . 

.. الزعیم الکبیر علي عبد اللطیف مات مختل العقل لان رقة مشاعره «ورهافة » 
اخاستسة لم تعد تتحمل الذي كان .. والناضل عبید حاج الامین مات جریحا في منفاه 
باحراش الجنوب» لدغه الف ثعبان ؛ وانقض عليه «مراح » من الاسود الضارية ومات 
القاضي زكي وعلي فرغلي وسر الختم .. مات السودان كله . فرثاه شاعر اللواء الابیض 


1 


العم صالح عبدالقادر وهو يرى رفقاء دربه يرحلون عنه رحلة الابدية فقال فيما قال: 

غاب سیطانه فضاع بيانه 

وعصاه | القریض !وهو بنانه. 

فرأى ان يجفف بالدمع مصابا تنوعت ألوانه 

فبكى ما اراد ربك ان يبكي 

فزادت لنوحه أشجانه ٠‏ 

مصرع «للعبید » مازال قريبا وما انطوت أحزانه 

« وزکي » وقبله «فرغلي » ذاك اقدامه وهذا اتزانه 

رحم الله بعد ذلك «سر الختم »من كان كلامه بنيانه ! 

فرأيت العزاء في «عرفات » ورأى الله ان يكون مكانه 

.. وعلى الرغم من ان مشاعر الشعب نحو مصر قد أصابها كثير من اليأس والفتور 
بسبب هروب الجيش المصري من المعركة رغم عهوده ووعوده الا ان حبال المودة 
والأمل ارتخت كثيرا لكنها لم تنقطع ومع اشتداد حملات التعذیب» هرب اليها من 
المعتقلين والسجناء من هرب وكان صالح عبدالقادر من بينهم لكنه فجع في نهاية مطافه 
يوم ادرك القاهرة فلم يجد يدا تمسح دموعه ولا رفيقا یاویه ويؤنس غربته ووحسته ولا 
حبيبا يسليه وينسيه جراحات والام نفسه حنی ضافت به الحياة وضاق بها فعاد مع من 
عاد إلى الخرطوم يائسا حزينا جريحا مكسور الخاطر «والظهر » فقبض عليه واودع 
السجن وكان أن انشد قصيدته المعروفة التي حفظها العديد من ابناء جيله ورفقاء دربه 
فأودع في أحرفها وأسطرها كل أحزانه ومرارته وسخطه تجاه مصر الشيء الذي كان 
شفیعا له عند الانجليز في نهاية الامر. 

.. كانت القصيدة مجاراة لقصيدة لابي الطيب المتنبي واستميح القارىء ان نسيت او 
اخطأت في نقلها لان ذاكرتي لم تعد تختزنها كما كانت وهي قصيدة طويلة انقل اليكم 
فيما يلي بعضا من ابياتها التي لا اذكرها جيدا .. لا بأس ان هي اعطتكم مجرد الفكرة 
او الانطباع الصحيح : 
«ابا الطيب اسمعني فقد جئت باكيا ‏ اشك و لك ودود ا ع 
ابا الطيب ماذا كنت في مصر فاعلا ‏ ثم نزحت إلى الشام والشام شوم 
توهمت ان بمصر كل مطالبي فوالله ما ضرني الا التوهم!! 

.. ومنذ ذلك الوقت انضم صالح إلى الجبهة الاستقلالية الانفصالية وأصبح الكاتب 
والشاعر المتخصص في مهاجمة الوحدة وكل ما هو وحدوي. 

.. عندما اصبح الاميرلاي عبدالله بيك خليل رئيسا لوزراء السودان زاره صديق 
عمره وكفاحه ورفيق شيخوخته الاستاذ صالح عبدالقادر ذلك الرجل النحيل والاسد 
الهصور ذو الحنجرة المجلجلة والذي كان على ابواب السبعين عاما فقال له وهو يقف 
امامه «زنهار ! » 

۰:۷ 


.. ياعبدالله وقد اصبحت رئيسا للحكومة ماذا اعددت لامثالي ..! ؟ 

فاجابه عبدالله : «والله ياصالح سأقيم لك تمثالا من الذهب بعد موتك»! 

ضحك صالح ورد عليه : 

« .. ايا هذا اتق الله وكف عن هرائك .. انا جائع اليوم أما قطعت لي يدا من تمثالي 
«لاصرفها» واستعين بها على الحياة »!! 

.. لابد ان قرائي واحبائي خاصة في السودان قد شدتهم هذه الحقائق والحكايات 
والاسرار التي لم ينشر ولم يذع كثير من جوانبها وفصولها ومن حقهم علي ان يتساعلوا 
ومن واجبي نحوهم ان اجيب : كيف تحصلت علیها ؟ .. اقول لكم بامانة : 

.. في يوم ۸ أو ٩‏ اكتوبر عام ۱۹۹/۹۸ دلف إلى مكتبي في دار الصحافة شيخ 
وقور اغلق الباب من ورائه ... كانت تبدو على وجهه المصفر الشاحب كل علامات 
الاسی والحزن ... لم يجلس ولم يضع وقته فقال لي : 

ارجوك يا استاذ ان تضع القلم وتقوم معي لزيارة عمك صالح عبدالقادر فهو على 
فراش الموت ولا يملك «قوت لحظة ناهيك عن ثمن الدواء» ولا كنت اعرف بل وأعلم 
علم اليقين بان العم صالح مهما ضاقت به أبواب الحياة لا يمكن ان يتقبل حسنة او 
عطاء من احد فقد ارسلت على الفور في طلب الاستاذين محمد علي محمد صالح 
وشريف طمبل احد كبار المحررين انذاك ومازال ليصحباني ومعهما فريق من جماعات 
المصورين وألات التسجيل وانطلقت بنا العربة في سرعة مجنونة حتى ندرك الفارس 
الجريح قبل ان يغمد سيفه . وامام منزل صغير بائس يتكىء في احد الأزقة المهجورة 
المملوءة بالغنم والبهائم وفضلاتها وروثها في ابي روف بأم درمان وقفنا ونزلنا مسرعين 
ودخلنا الحجرة التي خلت من كل شيء الا «عنقريب » سرير متسخ تكومت فوقه بقايا 
انسان يحمل في صدره تاريخ أمة وجهاد امة . 

قلت له: عم صالح لا بأس عليك «يا ابو الرجال » هانحن قد جئناك نيابة عن قرائنا 
وشعبنا لتحكي لنا كل الذي جرى . 

.. ضحك العم صالح ولم تتوقف سخريته حتى وهو على فراش الموت فقال: 

ديا ولدي ياعبدالرحمن شکرا لك على هذه الزيارة المفاجئة » والتفت نحو الشيخ الذي 
جاء بي وهو صديقه في آن واحد فعاتبه بنظراته الصامتة وكأنه يقول له لماذا فعلت هذا 
ياهذا ! ! ؟ 

ثم مضى يخاطبني : 

«على كل حال لا مانع لدي مادام الذي تهدف اليه في داخلك هو الذي اسعى اليه في 
داخلي ! ! » 

.. وبدأنا «التسجيل» وكان في ذاته قصة مثيرة اخرى تصلح لمسرحية منفصلة فقد 
عسنا كلنا لحظات الحزن تطبق على صدورنا وتخنق العبرة حلوقنا ونحن نرى الاسد 


۸ 


الشيخ يروي حكاياته وهو يتألم في صمت ويبكي في صمت وينوح في صمت واحيانا وفي 
مواقف معينة يرقع يديه الضعيفتين المرتجفتين إلى السماء ويحوم بهما في فراغ الحجرة 
الكثيبة كانما يبحث عن جوهرة مفقودة . نسيت ان اقول لكم ان العم صالح وقد تعود 
على لغة المحاكم واجراءات التحقيق قال قبل التسجيل: 

«انا صالح عبدالقادر اشهد الله الذي سألقاه عما قريب ان الذي سأرويه لكم هو الحق 
كل الحق » وادرنا آلة التسجيل وبدأت الحكاية وكان الشيخ لا يقوى على متابعة الحديث 
اكثر من ربع ساعة ثم لا تلبث أنفاسه ان تعلو وتهيج ويبدو عليه التعب والارهاق فنتركه 
للغد حتى استطعنا خلال اسبوع ان نحصل منه في ثلاث ساعات كاملات الذي سطرته 
لكم في صحيفة واحدة . 

.. امل في مناسبة سعيدة وقريبة ان شاء الله ان اهدي هذه التسجيلات الفريدة القيمة 
للاذاعة السودانية حتى يستمع الشعب كله إلى قصنه وترائه وتاريخه بصوت بطل من 
صناعه اصبح هو نفسه في عداد التاریخ! 

.. ثمة تساؤل ظل يلاحقني كلما استمعت إلى هذا التسجیل في ساعات فراغي وکل 
ما شعرت بحاجتي لامجاد الاضي .. تری هل كان العم صالح رحمه الله مصیبا عندما 
قال فیما قال وهو في حالات من حالات بؤسه ویأسه : 
رأى الله ان اعيش غريبا دين شعن نتيا فرت شا 
بين سشعب «مفكك مستكين» في سبيل الحياة هان هوانه!! 


۹ 


© الاحزاب السودانية من اين ... وللی أين؟ 
© نهاية مأساوية لعلاقة الهدي بهيلاسلاسي 
6 صراع خطیر بين الهدي ومصر سببه الصاغ صلاح سالم . 





.. عاد الهدوء الحذر إلى البلاد بعد الثورة وسلسلة الاعدامات الطويلة التي اعقبتها 
ولكن الهدوء عادة ما يسبق العاصفة فبالرغم من ان الانجليز كانوا قد أحكموا قبضتهم 
بعد خروج الجيش المصري وظلوا يطاردون الاحرار في كل زاوية ومكان ويخنقون 
الحريات ويسكتون كل صوت يقول «أه». الا ان ذلك كله لم يثن اولي العزم والصبر 
والثابرة والتضحية من المضي قدما في طريق الاشواك فمضوا في تنظيم تشكيلاتهم . 
وعقد ندواتهم وتكوين لجانهم مستغلين في ذلك وفي سرية نامه الاندية الثقافية 
والمناسبات الدينية وصلاة الجمعة. ومع مرور الزمن وتزايد الوعي الوطني أصبحت 
الاصوات ترتفع يوما بعد یوم . 

.. كانت الاندية الثقافية المنتشرة في مختلف بقاع السودان مصدرا من مصادر 
الاشعاع والوعي يجيء في مقدمتها ويتربع على عرشها نادي «ود مدني » عاصمة 
الجزيرة برئاسة السيد احمد خير الحامي ووزير خارجية حكومة نوفمبر الذي كان 
صاحب الفضل وصاحب الاقتراح الاول لانشاء وتكوين مؤتمر الخريجين العام الذي 
انبعثت منه اولى شرارات اللهب السياسي في السودان . 

وبداً المؤتمر نشاطه الکثف بعد ان تمركز في ام درمان - العاصمة الوطنية الاولی - 
في تأسيس المدارس وتدعيم الاندية واقامة الندوات الثقافية والرحلات المتواصلة للارياف 
والاقاليم لربطها بالعاصمة والمدن وبدأت الادارة البريطانية تراقب وتطارد وتعتقل 
وتستميل الضعفاء من ذوي الضمائر الميتة ولكن كان السيف قد سبق العذل فقد قويت 
شوكة المؤتمر ووقف قويا على قدميه «وخرجت أسنانه» ودخل السودان بذلك عهدا 
جديداً من عهود الصمود والكفاح وبدأت مسيرته الطويلة إلى الغد المشرق والصباح 
الجديد بخطوات ثابتة ومركزة ومطمئنة . 

.. تكونت الأحزاب السياسية فكانت متعددة الاتجاهات والسياسات وكثرت مع مرور 
الايام بحسبانها «تقليعة» جديدة تنفس عن الصدور المكبوتة والاصوات التي ظلت 
مخنوقة وهي على كل حال ظاهرة صحية جديدة وطيبة لشعب ظل مكبوتا لنصف قرن 
من الزمان . 


0۳ 


.. كان أبرز الاحزاب التي ظهرت على السطح السياسي هو حزب الاشقاء برئاسة 
اسماعيل الازهري وحزب السعب الديمقراطي وحزب الاحرار وحزب وحدة وادي النيل 
والجبهة المعادية للاستعمار (الشيوعيين ) والقوميين العرب وحزب السودان ... و.. 
و.. وبمناسبة تعدد الاحزاب الوحدوية هناك طرافة حدنت مازالت تذكرها المجالس 
وتتندر بها . فعندما رأت مصر شوكة المهدي تزداد قوة وعتاوة دعت زعماء جميع 
الأحزاب الوحدوية وهي كثيرة ومتعددة الى القاهرة في محاولة لدمجها في حزب واحد 
حتى يواجه خصمه الاستقلالي الشرس في الانتخابات البرلانية الاولی وكان يشرف على 
هذه الدعوة الصاغ صلاح سالم وزير الارشاد القومي وشؤون السودان وعندما وافق 
المجتمعون على اقتراح يدعو إلى تشكيل لجان ثلاث يراعى فيها تمئیل جميع الاحزاب 
اخذت الحيرة تلف صديقنا العزيز السيد الطيب محمد خير رئيس حزب الاحرار 
الوحدويين وقد كان فيما اذكر هو الرئيس والسكرتير والقاعدة الشعبية ايضا واخذ 
المجتمعون ينتظرون ويرقبون اخانا ابا الطيب الذي عرف بملاحته وظرافته وطرافته 
ليرشح لهم عدداً من أعضاء حزبه للمشاركة في اللجان ولما صوبت اليه النظرات وطال 
الصمت ‏ رفع يديه لاعلى وقال بصوته الجهوري وف نبرات «يوسف وهبي » «ايا سبحان 
الله »... يا جماعة انا أروح فين ولا فين يعني انا اتقطع ؟ فضحك الجميع واقترح عليه 
الصاغ ان يقسم الوقت بين اللجان الثلاث فيكون بذلك قد مثل حزبه وقاعدته 
الجماهيرية وادى رسالته وواجبه الوطني . 

.. كان في مقدمة القادة الوحدويين الذين لعبوا دورا كبيرا وسجلوا بصماتهم في 
تاريخ البلاد هم بدون ترتيب السيد الازهري ويحيى الفضلي والشیخ محمد احمد المرضى 
ومبارك زروق والشريف حسين الهندي والشيخ علي عبدالرحمن وخضر حمد وحماد 
توفيق ومحمد نور الدين الذي كان يدعو للاندماج التام مع مصر وعرف في لقاءاته 
الجماهيرية بجملته الفريدة المميزة التي كان كثيرا ما يختتم بها لقاءاته السياسية 
الجماهيرية : 

١‏ .. انني يااخواني ادعوكم للاندماج الكامل مع اختنا الكبيرة والمسألة في غاية 
البساطة ومافيهاش اي تعقيد هي نجيب ونحضر الات كبيرة عشان نكسر الحائط بيننا 
مرة واحدة وإلى الابد والسلام عليكم »!! ولكن لم يستطع نور الدين ان يصف او يحدد 
لمستمعيه يوما رغم الصراخ والاعتراض مكان هذا الحائط ونوعه وباي قدر من الاسمنت 
والخلطة قد بني! ؟ 

أما الاحزاب التي كانت تقف في الجانب الاخر للمعركة فهي حزب الامة والحزب 
الجمهوري الاشتراكي (حزب زعماء العشائر) وحزب السودان (للکمونولث) وحزب 
الله وحزب الجنوب وحزب الاحرار الجنوبيين .. و ... و بالمناسبة فان الأحزاب الجنوبية 
كانت تسبب سرطانا لا يتوقف . فقد كان سُعورهم بالنقص والتخلف وعدم الاستقرار 


0 


والوقوع المباشر تحت قبضة الانجليز جعلهم كثيري المطالب والاتجاهات فتارة ينادون 
بالوحدة مع السودان السّمالي ثم ينقلبون ويطالبون بالانفصال التام او الموت لكنهم 
جميعا كانوا ضد مصر بل ويخافون مجرد ذكر اسمها كما كان المتطرفون منهم 
والداعون للانفصال عن شمال السودان متأثرين إلى درجة الحساسية بالافكار التي 
زرعها الاستعمار الانجليزي في رؤوسهم بان الشماليين وعلى رأسهم الامام المهدي والزبير 
باشا كانوا يبيعونهم في الاسواق ويجلدونهم بالسياط ويستبيحون كل شيء لديهم . 

.. الحقيقة المؤلمة ان الادارة البريطانية استطاعت طيلة حكمها للسودان ان تجعل 
من الجنوب منطقة محرمة مغلقة وتمكنت الكنائس من زرع بذور التفرقة والعنصرية 
والكراهية بين الجنوب والشمال ومارست كعادتها شعار (فرق تسد) وزرعت من 
الألغام الزمنية التي انفجرت كالبراكين في المواعيد الموقوتة عددا لا يستهان به . كان من 
السهل على المواطن السوداني في الشمال ان يحصل في دقائق على تأشيرة دخول إلى 
سومطرا او شيلي او الاسکیمو اما ان يدخل جنوب السودان فهذا امر غير وارد . 

.. كان في مقدمة القادة السياسيين الوثرین في الأحزاب الاستقلالية بعد الامام 
المهدي راعي حركتها هو السيد/ الصديق عبدالرحمن المهدي رئيس حزب الامة وعبدالله 
خليل ومحمد احمد محجوب والقاضي محمد صالح الشنقيطي وعبدالرحمن علي طه 
ومحمد علي شوقي وعبدالله الفاضل الهدي ومحمد الخليفة شریف وهما من بيت الامام ؛ 
ومن الشباب امین التوم وعبدالله عبدالرحمن نقد الله مین عام شباب الانصار ووزیر 
الداخلية ومساعد سکرتیر الحزب فیما بعد . 

.. ما أن اطلت بوادر الانتخابات لاول برلان عام ۱۹۵۳ حتی تقلصت واندمجت 
کل هذه الظاهرات الحزبیة الضخمة وبسرعة البرق الخاطف في انجاهین قویین عتیدین 
هما حزب الامة الذي يدعو للاستقلال والحزب الوطني الاتحادي الذي ينادي بالاتحاد 
ت ء 

.. شهد السودان على اثر تكوين الأحزاب السياسية واعتراف الادارة البريطانية بها 
مرغمة ... شهد هيجاناً وفورانا سياسيا وصل به إلى اعلا درجات الغليان والانفجار كما 
شهد صراعا مريرا وساخنا في كل ميدان واتجاه بين الزعيمين الرئيسيين الامام 
عبدالرحمن المهدي وطائفته وحزب الامة وتعاون الانجليز من جهة ‏ وبين مولانا السيد 
علي الميرغني وطائفته والأحزاب الوحدوية » وتأييد مصر من جهة اخرى ولم تخل ندوة 
سياسية أو مناسبة دينية حتى الاعياد والموالد الا ووقع الاختلاف والالتحام والاصطدام 
بين انصار الزعيمين المتنافسين المتطلعين لقيادة السودان .. ذلك الاصطدام الذي كثيرا 
ما كان له جرحى وضحايا من الجانبين . 

هناك ظاهرة كبيرة وهامة لابد ان اتوقف عندها ولو قليلاء لانها ظاهرة غير معروفة 
ولا مألوفة في العوالم الاخرى وهو ان الخلاف الكبير رغم انه وصل في احيان كثيرة إلى 


00 


درجة الاصطدام السلح. الا انه لم يؤثر على الصفاء والاخاء والودة ففي الاسرة 
الواحدة كنا نتحسس هذا الصراع ونرى معالمه واضحة وبارزة كذلك كنا نراه في الشارع 
السوداني من اقصاه إلى اقصاه ومع ذلك فان حبال المودة والصداقة لم تنقطع ابدا بين 
الناس . 

... كان زعيم المجلس وزعيم المعارضة يتبادلان في البرلان اعنف الاتهامات همزا 
ولمزاء شعرا ونثرا اشارة ووصفا حتى ليظن القريب بيننا انه لن تمضي لحظات الا 
وتشهر المسدسات والسيوف والخناجر (ويلعلع) الرصاص فيسيل الدم القاني ليصل 
(حد الركب) ولكن وبعد نهاية الجلسة المثيرة يركب الصديقان اللدودان عربة واحدة 
ويتناولان طعام الغداء معا دون ان يلفت ذلك النظر او الانتباه او يثير الحيرة 
والتساؤل ! 

.. اشتدت الحركة السياسية شراسة في السودان على اثر توقيع الحكومتين الانجليزية 
والمصرية اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودانيين في ۱۲ فبراير ۱۹۵۳ تلك 
الاتفاقية التي تعهدت بموجبها الحكومتان المتعاقدتان على ان تنهيا فترة الانتقال بأسرع 
وقت ممكن وهي الفترة التي بدأت بأول برلمان سوداني جرى انتخابه في اول يناير عام 
۶ . وما ان اعلنت واذيعت بنود هذه الاتفاقية الكبيرة الخطيرة حتى بدأ الحزبان 
الرئيسيان يستعدان ويخططان لهذه المعركة المصيرية ذات الخطين المتوازيين والطريقين 
المتباعدين الذي يقود أحدهما إلى مصر ‏ بينما يقود الثاني إلى الاستقلال التام . وقد نجح 
الحزب الوطني الاتحادي الذي انصهرت فيه جميع الأحزاب والفئات الوحدوية برئاسة 
السيد اسماعيل الازهري ورعاية مولانا الميرغني في اكتساب تاييد الطبقة الوسطى من 
المثقفين والعمال والمزارعين وأهل المدن والحضر كما نجح في توسيع دوائر الشكوك 
والظنون والاتهامات ضد حزب الامة بسبب تعاونه مع الادارة البريطانية ومساهمته في 
كل مؤسساتها الاستعمارية ‏ وان «شعار السودان للسودانیین » والمناداة بالاستقلال التي 
ينادي بها الانفصالیون ما هي الا دعوة حق أريد بها باطل وذرا للرماد في العیون . وقد 
اسهمت الصحافة والاذاعة الصرية في تعمیق هذه الاتهامات كما كان للزیارات التکررة 
للزعماء والصحفیین الصریین للسودان وفي طلیعتهم الصاغ صلاح سالم وزير الارشاد 
القومي وشوون السودان انذاك اثرها الواضح في الشارع السوداني . 

.. الحقيقة الکبری التي تطل برأسها متحدية کل قول ان الاتجاه الاتحادي بالسودان 
كانت تؤيده وتغذیه وتدعمه مصر بمالها ونفوذها وصحافتها واذاعتها الشيء الذي ظل 
حزب الامة یقاومه بعنف ویستنکره بصوت مسموع باعتباره تدخلا صارخا وسافرا 
ومؤثرا في شون السودان الداخلية وکم من مرة اشهد فیها العالم منذرا ومحذرا بان هذا 
الذي تقوم به مصر يجب ان یتوقف لانه یوثر تأثیرا مباشرا على حرية السودانیین في 
اخطر وأحرج لحظات عمرهم وتاریخهم . 


01 


.. دفعت مصر في سبيل تحقيق الوحدة التي ظلت تناضل وتسعى لها السنين 
الطوال ملايين الجنيهات لتدعيم موقف الاتحاديين خاصة عند مواجهة الانتخابات ولم 
تجد صعوبة في تصدير هذه الاموال لان العملة المصرية هي التي كانت متداولة في 
السودان انذاك . 

.. أما الجانب الاستقلالي فقد كانت تسانده وتعززه بريطانيا وتدافع عنه صحافتها 
التي ظلت تلاحق وتتابع ما يجري في السودان خاصة فيما يتعلق بالتدخل المصري 
السافر . 

.. كان الصاغ صلاح سالم كثير الزيارات للسودان حتى اصبحت الخرطوم في نظره 
«كالجيزة » او «روض الفرج » وقد سببت كدثرة زياراته مضایقات سديدة للمعارضين 
والادارة البريطانية معا حتى اذا ما جاءت معركة الانتخابات لأول برلمان سوداني عام 
۲۳ انغمس الصاغ بكل ثقله ونفوذه وأمواله في المعركة وفي يناير ۱۹۵۶ قام الصاغ 
صلاح سالم بزيارة فريدة وجريئة من نوعها اذ دخل احراش وغابات الجنوب ورفص 
مع القبائل «شبه عار » فشنت عليه الصحف الاستقلالية هجوما لا هوادة فيه مما زاد في 
تعميق الخصومة مع مصر . ليس ذلك فحسب بل خرجت صحيفة «الديلي تلغراف » من 
وقارها يومذاك فزجت تعليقا هستيريا بعنوان : 

«ارفع ركبتيك إلى أعلا أيها الصاغ » وراحت تتحدث عن الحاولات الصبيانية الساذجة 
التي یمارسها الوزیر الصري التهور لکسب مشاعر ونایید القبائل الجنوبیه السادجه 
الفقيرة العارية وتدخله في شؤون السودانیین ونسیت الصحيقة یومها ان الاستعمار 
البريطاني هو السوول الاول عن العري والفقر والجهل والرض فقد حکم السودان 
لنصف قرن من الزمان دون ان يزيل او بساعد على ازالة هذه الساویء البعیضه قذهب 
إلى غير رجعة مخلفا وراءه كل هذه الساویء . 

... أما صحيفة «التایمز » الاکثر وقارا فقد خاضت ایضا معركة السودان وظلت 
تسبق الاحداث وتنشر من الانباء الدقيقة والخطيرة عن الوقف السياسي في السودان ما 
یجهله الصغار والکبار معا . في يوم ١‏ دیسمبر عام ۱۹۵۶ آزاحت الصحيفة اللندنية 
الستار عن تفاصیل وأسرار الاتفاقية الانجليزية الصرية حول الاستفتاء في السودان 
قوضح مما نشرته ان الدولتین التعاقدین قد اکتسبتا بموجبها حقوقا جديدة في السودان 
وان سلطات خطيرة منحت للجنة الدولية التي اصبح من حقها تأجیل عملية تقرير 
الصیر اذا ما دعت الظروف . 

.. قالت «التایمز » ان وزير الخارجية الصري والسفیر البريطاني في القاهرة قد 
وقعا على تعدیل لانفاقية ۱۲ فبرایر ۱۹۵۰۳ وعلى ملحق جدید اخر حول تكوين اللجنه 
الدولية وسلطاتها للاشراف على الاستفتاء وقيام الجمعية التأسيسية التي انحصرت 
مسؤولياتها في وضع دستور السودان وفق نتيجة الاستفتاء ووضع القوانین الانتخابية 
للبرلان القادم . 

0۷ 


.. ومضت التايمز اللندنية تعلن بان مصر وبريطانيا قد اتفقتا على التشاور مع ممثلي 
البرلان السوداني على الخطوات التي ستتخذ لانهاء الحكم الثنائي» ولا سئل الوزير 
السيد/ مبارك زروق زعيم مجلس النواب ليعلق على ما ورد في صحيفة التايمز كانت 
اجابته مفاجأة كبرى اذ انه أكد بان حكومة السودان لا تعرف سِيئًاً عن هذه الاخبار 
وانها لم تتسلم حتى الان محاضر اجتماعات الدولتين ولا صورة من هذا الاتفاق ان كان 
هنالك اتفاق ! 

.. ومضت الصحافة البريطانية تثیر الخاوف والاضطراب وتشعل الفتن والاحقاد 
وهي تراقب في حسرة وأسی غروب شمس امبراطوریتها العجوز في السودان فقد 
واصلت الاهتمام بکل ما يجري في السودان بطريقة استغزازية تدعو إلى الشك والريبة 
بقدر ما تدعو إلى الاسف . 

طالعوا بحذر شدید القال الافتتاحي الذي خصصته صحيفة الديلي تلغراف بعد یوم 
واحد فقط من اعلان الاستقلال اذ کتبت تقول : 

«اعلن البرلان السوداني بالامس الاستقلال دون اي زمن محدد أو خطة موضحة 
وقد جاء الاعلان مفاجأة لصر وبریطانیا مما وضعهما في موقف صعب لکن لا خیار 
امامهما سوی الاعتراف به كأمر واقع فبریطانیا تعتقد ان مسوولیتها في تحمل اعباء 
الوصاية على السودان قد انتهت اما مصر فقد فقدت بهذا القرار كل آمالها وأحلامها في 
السيطرة على السودان . 

ويمضي القال فیصف الازهري بانه نسرع وبدون تخطیط مسبق عندما اعلن 
الاستقلال . وقالت انه استغل اتخاذ هذا القرار الخطیر للمناورة السياسية والکسب 
الشخصي لذاته رغم انه یحکم السودان باغلبية صوت واحد وقد كان من الافضل والمکن 
ان يأتي اعلان الاستقلال عن طریق حکومة قومية كان الامل کبیرا في تشکیلها وکان 
من التوقع اذا تم ذلك الا یکون الازهري رئيساً لها ! «وانتم مالکم ومالنا ». 

ومضت الصحيفة التي اماطت عن وجهها القبيح كل معاني الوقار والامانة لتقول ان 
اعلان الازهري للاستقلال الذي اصبح حقيقة واقعة بعد ان اقرته مصر وبریطانیا كان 
يهدف في الاساس لانقاذ نفسه من الضعف وكسب عطف وثقة الشعب السوداني 
للانتخابات المقبلة التي كان من المحتمل ان ينتهي فيها حزبه بالفشل . واختتمت 
الصحيفة احقادها الدفينة عندما قالت : (ان جنوب السودان قد فقد كل الضمانات التي 
كانت توفرها له الاتفاقية )! 

إلى هذا الحد من السفالة والوقاحة كان تدخل الصحافة والاذاعة البريطانية وهي 
تساند الحركة الاستقلالية الانفصالية في السودان !! 

.. كان حزب الامة يعتمد في تمويله وحملاته على مساندة ومساعدة بريطانيا التي 
بدأت تجاري نفس السياسة المصرية فنزلت المعركة بثقلها وكان الملك الراحل سعود 


م04 


يعين الحركة الاستقلالية في الخفاء. أما الامبراطور هيلاسلاسي عاهل اثيوبيا فقد كان 
ابرز من جاهر بمساهمته وبدعمه للحركة الانفصالية في السودان . فقد جمعت بينه وبين 
الامام عبدالرحمن المهدي علاقات ود قديمة ترجع إلى عام ١559‏ يوم ان غزت ايطاليا 
بلاده فجاء الى السودان طريدا شريدا لاجنا فاحتضنه الامام المهدي واكرم وفادته ومنحه 
احد قصوره على شاطىء النيل الازرق ... نفس النيل الذي ينبع من بحيرة (تانا) 
الائيوبية وظل المهدي برعاه ويحتضنه لاكثر من عامين حتى سقط الحكم الايطالي وعاد 
هيلاسلاسي إلى بلاده ودخل العاصمة وهو يمتطي صهوة جواد وعلى رأسه قبعة الرئيس 
البيضاء وفي يده عصا الصولجان ومن حوله ترجل شعبه وفي مقدمتهم القساوسة والنبلاء 
واصحاب الیاقات البيضاء . 

.. تعمقت بين الهدي وهيلاسلاسي علاقات الود والصداقة وازدادت قوة ومناعة على 
مرور السنين وقد كان الامبراطور لا يرفض طلبا للامام المهدي ولعله بذلك يرد الجميل 
الذي صنعه فيه وطوقه به يوم ان اضطرته ظروف القهر والهزيمة للجوء للسودان . 
ظلت حبال الالفة والمحبة بينهما ممدودة عن طريق الرسل والرسائل ولما كان 
هيلاسلاسي على غير وفاق مع مصر والود بينهما مفقود تماما فقد كانت عبارة «وحدة 
مصر والسودان » كافية لتثيره وتستفزه وتهز العرش من تحته لذلك فقد كان سخيا في 
عطائه » يداه ممدودتان مبسوطتان في غير ما توقف وحساب للحركة الانفصالية . 


.. وقد لاحظ الخبناء من المراقبين السياسيين السودانيين عند بداية کل معركة 
انتخابية هبوط الجنيه الذهب في الاسواق وذلك على اثر تدفق الحقائب الامبراطورية 
وملك ملوك سبأ وزعيم الكنيسة اليهودية في اسرائيل فعندما مات الامام المهدي عام 
۱۹۹۰ نسي الامبر اطور وبلا مقدمات اخاءه ووفاءه » وخرج عن وقاره وشيخوخته 
فقذف بکل مشاعره واحاسیسه واخلاقیاته في أول مزبلة في الشارع عندما بدأ يطارد 
ورثة صدیقه وحبیبه الذي اصطفاه وواساه وأسلاه ساعة الضیق ووقت الشدة ! 

.. ظل الامبراطور العجوز یطارد ویلاحق ورثة الامام عبدالرحمن في غير ما توقف 
وبلا كلل ولا ملل عن طریق سفارته في الخرطوم بل وعن طریق الحكومة القائمة 
لیسترد جزءاً ولو تافها من آمواله التي اسماها دیونا على دائرة الهدي التجارية وهو 
الذي تنوء خزائنه في الداخل والخارج بزکائب الذهب والدولارات . مضی الامبراطور 
یضغط على ورئة صديقه الهدي بشتی الوسائل والسبل حتی قضي عليه فسقط مرة ثم 
سقط مرة انية عندما أفل نجمه » وغابت شمسه » وزال حکمه » وسقط تاجه وهوی 
عرشه » ومات اكثر من مرة نم مات من بعده ولحق به صدیق عمره ورفیق دربه (الاسد 
الشیخ) الذي كان يلهو دائما تحت آقدامه في قصره (جنة اللول)! 


05 


«قال انما اوتيته على علم عندي أولم يعلم ان الله قد أهلك من قبله من القرون من 

هو اشد منه قوة واكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم الجرمون ». 
«صدق الله العظيم » 
(سورة القصص) 

.. ما زلنا نطل عل اعتاب الفترة الحرجة التي اعقبت اعلان تقرير المصير وتحفزت 
بعدها الاحزاب وبدأ الزعماء يمارسون اللعبة السياسية ويتبارون في الكيد وصنع المقالب 
والمكائد والمؤامرات سعيا وراء المكاسب مهما كانت تافهة وصغيرة . وبقدر ما عرف عن 
مولانا الميرغني ذكاؤه المعتد وسرعة البديهة والمبالغة في الحيطة ‏ فقد كان الامام المهدي 
لا يقل عنه درجة وقد يسبق احداهما الاخر في بعض الجالات والميادين لكنهما كانا 
متعادلين في الميزان الا في بعض المواقف فقد يخف او يزيد احدهما عن الاخر ولكن 
بقدر يسير. 

كان الامام المهدي شأنه شأن كل زعيم يتطلع إلى قمة السلطة وعرش البلاد ... كان 
دائم التوجس والقلق تحيط برأسه دائما علامات تعجب واستفهام كثيرة وعديدة لم 
تتوقف عن الرقص والدوران امامه لحظة واحدة وكان بالغ الحذر خاصة ممن يتعاملون 
معه ويحومون حوله » كما كان يشرف بنفسه على اختيار معاونيه وموظفيه وسكرتاريته 
حتى جيسّه الجرار من خدمه كان يفحص جدورهم ويعرفهم واحدا واحدا وابا عن جد 
كذلك فقد كان للشعار الذي اختاره والنظرية التي امن بها وظل يطبقها طيلة فترة 
حياته على من حوله هي الولاء المطلق والطاعة العمياء والوفاء غير المحدود والذي 
كثيرا ما يخضع للتجربة والاختبار اما الكفاءة ... اما الشهادات ... ودرجات الذکاء 
والثقافة .. أما اي شيء آخر فيأتي في مؤخرة مؤخرة قائمة المهدي . 

عندما استدرجت المخابرات المصرية يوما شابا من موظفي سكرتاريته السياسية لا 
الطائفية ‏ غابت عنها هذه الحقائق الكبيرة التي لو وقفت واستقصت عنها لتفادت 
كثيرا من المخاطر ومواقف الحرج قبل ان تتقدم بوصة واحدة إلى الامام ! 

.. ذهب الشاب إلى مكان اللقاء الموعود حيث استقبله وحياه الصاغ صلاح سالم الذي 
كان من ابرز واقوى اعضاء مجلس ثورة ۲۳ يوليو . كان الصاغ يمتلىء انذاك بالحيوية 
والتضاط والقوة .. کان ثانا" ثائرا ومتحمسا بقدر.ها كان امتعجلا ومتهورا تتفعل پر عة 
ویئور بلا سبب ربما لانه كان في داثرة الضوء والبرق الخاطف الذي لم تقو عیناه على 
تحمله رغم انهما كانتا تختفیان وراء نظارات سوداء سميكة كيف وهو الذي یشرف 
اشرافا تاما على کل ما يجري في السودان باعتباره وزیر شؤونه . كانت حقائبه لا نفرغ 
الا لتمتلیء۰ مقابلاته لا تنتهي» نشاطه لا یتوقف فقد جاب السودان قرية قرية طولا 
وعرضا سمالا وجنوبا شرقا وغربا قابل الشيوخ والشباب ونظار القبائل وزعماء 
العشائر » والعمال والزارعین وأصبح يتدخل حتی في اتفه وأصغر الامور حتی ضاق به 


أصدقاؤه من القادة والزعماء الاتحاديين فنصحوه وواجهوه ثم تحدوه وتوعدوه ولكن 
الصاع كان اقوى بكثير من كل تهديد ووعيد .. 

.. استقبل الصاغ صلاح سالم الشاب «الانصاري الهدوي » وبعدما حياه استاذنه لانه 
على موعد مع مولانا الميرغني وتولى امر الشاب من بعده مندوبه وأمين سره الذي اراد 
ان يصل إلى هدفه بسرعة وبأقصر الطرق ومهما بلغ الثمن . قال للشاب نحن سعداء 
بمعرفتك ویشرفنا جدا ان يكون هذا اللقاء بداية طيبة لتعاون مثمر طویل ... انت 
مازلت في ريعان الصبا ولابد من أن تكون لك طموحاتك وامالك التي لا تستطيع ان 
تصل اليها الا بعد رحلة طويلة من العمر ونحن لا نريد منك الا مجرد الموافقة البدئیه 
على التعاون معنا حتى تتمكن من تحقيق امانيك واحلامك في سن مبكر وبأقصر وأسرع 
الطرق وأؤكد لك بانك لن تضار . 

شكر الشاب مضيفه وابدى مرونة ظاهرة في الحديث ثم استفسر عن نوع الخدمات 
التي يطلبونها مما جعلت مندوب الصاغ يحس بنشوتي الفرح والنجاح فسارع بفتح 
حقيبته وأخرج منها ظرفا منتفخا مده لضيفه الشاب قائلا له انها هدية لك من الصاغ 
عربونا للصداقة وعند الوداع فجر الندوب قنبلته الاولی عندما طلب من الشاب وفي 
همس لا يكاد يسمع ان يواتيه في اللقاء المقبل يوم كذاء الساعة كذا بمعلومات محددة 
وافترقا بعد عناق طويل وأمل وترقب وانتظار . 

.. لم يكن الصاغ صلاح سالم ولا مندوبه يحلمان لا في اليقظة ولا في المنام ولن ولم 
يخطر على بالهما من قريب او بعيد ان الشاب لم يكن سوى طعم سام فقد كان قد 
أخطر مولاه وامامه المهدي مسبقا بأمر الدعوة وان الامام كان ينتظره في تلك اللحظات 
على أحر من الجمر . عاد الشاب وقبل يد الامام وجلس (أرضا) بقرب قدميه كما هي 
عادة المريدين والقربین المحبوبين من انصاره وروی له بالتفصيل كلمة كلمة وحرفا 
حرفا كل شيء حتى طعم الليمون ولون الشاي ونوع البسكويتة لم ينس ان يوصفه له 
يعني بالاختصار والایجاز .. «من طأطأ للسلام علیکم » . 

وعلى الفور استدعی الامام الهدي مجلسه الخاص الکون من ابنه الصدیق خلیفنه 
ورئیس حزبه وعبدالله خلیل السکرتیر ورئیس الوزراء والدفاع فیما بعد وعبدالرحمن 
علي طه وزير العارف ومحمد صالح الشنقيطي قاضي المحكمة العلیا ورئیس البرلان 
فیما بعد وأعاد لهم الشاب روایته وبعد ان تدارسوا الأمر فیما بینهم وقلبوا أطرافه 
وجوانبه توصلوا إلى قرار خطیر هو تصعيد الوقف بين مضر والسودان واستغلال 
الواقعة إلى ابعد واقصی حدود الاستغلال حتی لو ادى ذلك إلى القطيعة الكاملة والجفوة 
التامة. ٠‏ ۱ 

أوفد الامام عبدالرحمن بعد اكتمال المشاورات نجله الصديق وعبدالله خليل لابلاغ 
الحادثة إلى الحاكم العام والسكرتير الاداري لحكومة السودان الذي ابرق الخبر سرا 


1١ 


لوزارة الخارجية البريطانية ثم جاء واجتمع بالامام في جلسةمحكمة ومغلقة . 

.. المفاجأة الكبرى التي لعبت الاقدار فيها دورا اساسيا هي ان الامام كان قد وجه 
دعوة مسبقة للصاغ صلاح سالم والاميرلاي المصري عبدالفتاح حسن العضو المصري 
فيما بعد في لجنة الانتخابات وعدد اخر من كبار المصريين الضيوف والمقيمين في 
السودن وذلك لتناول الشاي في اليوم التالي للواقعة المشؤومة . وكان الغرض من هذه 
الدعوة هو مد جسور التفاهم والصداقة حتى لا يتهم المهدي بالعداوة السافرة لمصر . 
والصاغ صلاح سالم في موقعه المميز ومكانته المرموقة البارزة لا يمكن لاحد ان يتجاهله 
عندما يزور السودان خاصة ان كان هذا الاحد في مكانة الامام المهدي الذي يعتبر نفسه 
ويعتبره الاخرون أبآ وواجهة (كبير العيلة السودانية) . 

اعد الامام المهدي ومجلسه الخاص العدة للغد المرتقب ووضعوا لكل شيء حسابا 
دقيقا ومیقانا معلوما لمواجهة الموقف الخطير عند استقبال ضيفهم الكبير الوزير الخطير 
وعدوهم الشرس اللدود الصاغ صلاح سالم . 

وما ان اطلت الساعة الخامسة والنصف في نهاية عام ۱۹۵۳ - حتى دخل رکب 
الصاغ سراي الامام واستقبله ورحب به السيد الصديق المهدي واكتمل عقد الضيوف في 
الحديقة الفاخرة لسراي الامام وبعد تبادل عبارات الود والجاملة اسر الامام الهدي 
لکبیر خدمه الذي غاب للحظات داخل القصر ثم عاد ومعه نفس الشاب بطل الرواية 
وبعد ان قبل يد امامه وراعیه افترش الارض بجانب قدمي الامام .. 

مرت اللحظات بطيئة متثاقلة يتخللها صمت كأنه الوت وتعمد الامام ان بطیل في 
لحظات الصمت والکابة والترقب حتى تحدث مفعولها واثارها العنوية الطلوبة فمضی 
یداعب مسبحته نم بدد ضباب الصمت الذي احنوی کل شيء بصوته الجهوري حین وجه 
سواله في أدب ورقة وهدوء «يا سعادة الصاغ بتعرف ابننا دا (هذا)؟! 

«الصاغ : ابدا والله يا سيادة الامام عمري ما شفتوش . ثم اتجه الامام لندوب الصاغ 
سائلا: وانت یاضیفنا العزیز هل قابلت وتحدئت مع هذا الشاب ؟! 

«الندوب : (نفس الاجابة ) ابدا والله ياسيادة الامام عمري «ما سفتوس ولا 
كلمتوش ! » 

الامام موجها حدیثه للشاب: 

(اقف) قف يا ولد واحكي للمجلس دا وبصوت مرتفع ما حدث لك بالامس . وبداً 
الشاب يروي القصة بحذافیرها ومن آولها إلى آخرها فتصبب العرق الحار على الوجوه 
والرقاب وتکهرب الجو ولم یحتمل الصاغ هذا الذي يجري امامه فوقف بقامته السمهرية 
الديدة وهو في حالة من الهیاج والئورة وقال بانفعال شدید : 

.. يا سيادة الامام انا احتج احتجاجا شديدا بالنيابة عن حكومتي ضد هذه الوّامرة 
الاستعمارية المكشوفة التي دبرت بلیل لضرب العلاقات الازلية بين مصر والسودان ثم 


1۲ 


انسحب الصاغ وانسحب معه اعضاء وفده رغم المحاولات التي بذلت لابقائه ليكمل 
شرب الشاي ويأكل بقية «الکعك » وقطع السندوتشات الصغيرة المملحة جدا . 

.. بعد خروج الصاغ مباشرة بدأت حلقات السلسل تدور في خطها المرسوم فنقل 
الامام المهدي القضية وروى تفاصيلها للواء محمد نجيب رئيس الجمهورية انذاك في 
محادثة هاتفية وطلب اليه في نهايتها ان يسارع فورا باستدعاء الصاغ من السودان على 
اللا يعود اليه مرة اخرى . لم ينته الامام عند حد هذه المطالبة بل مضى إلى ابعد من 
ذلك بكثير حينما طلب من اللواء محمد نجيب في محادثته تلك الهاتفية الطويلة ان 
يتعهد له بوقف زيارات جميع المسؤولين المصريين والوفود الصحفية والاذاعية في هذه 
الظروف بالذات التي لا تقبل الساومة والمجاملة ولم يكتف الامام بهذا القدر من 
الانذارات الخطيرة الموجهة بل طالب اللواء نجيب كذلك بان يبعد الصحافة والاذاعة 
المصرية عن شؤون السودان الداخلية وان يتوقف على الفور البرنامج الاذاعي «ركن 
السودان من القاهرة » و... و.. وكانت اجابات الرئيس نجيب صاحب الجذور 
السودانية الأصيلة الذي عرف بطبيعته وبساطته هي : حاضر يافندم .. إن شاء الله .. 
حنشوف يافندم خير إن شاء الله يافندم بس ياسيادة الامام والحديث للرئيس نجيب (لي 
رجاء عندك وارجو ما تخيبوش وهو ان تتعهد لي بحق ما بيننا من مودة واحترام ان 
تدفن هذا الذي جرى ف بثر والا تسمح باذاعته او نشر تفاصيله لانه قد يثير الخواطر 
ويحدث آثارا سيئة والاستعمار والانجليز يتربصون بنا وبكم . فوعده الامام ان مصر 
تعهدت كذلك وفعلا أوفى الامام بوعده وكذلك مصر ولكن لبعض الوقت لا كل الوقت . 

.. لم يمض الصاغ صلاح سالم ليلته تلك في الخرطوم ويبدو انه قد استدعي فعلا 
وعلى عجل فقطع زيارته التي بقي لها خمسة ايام اخرى . وفي الصباح فوجىء الشارع 
السياسي السوداني بقطع زيارة الصاع حتى كبار المسؤولين من رجالات الاحزاب 
الاتحادية امتدت اليهم الدهشة والمفاجأة وبذلت الصحف كثيرا من المحاولات 
والاجتهادات لمعرفة السر الكبير وراء قطع الزيارة ولكنها لم توفق الا ان الاذاعة المصرية 
قد خففت من حدة الدهشة والمخاوف فسارعت في مقدمة نشراتها التالية واذاعت خبرا 
صغيرا في نبرات عادية وهادثة‌اعلنت فيه بان الصاغ صلاح سالم وصل إلى القاهرة 
لارتباط مسبق وسيعود إلى الخرطوم في الاسبوع القبل ... نواصل نشرة الاخبار من 
القاهرة .. هنا القاهرة ! 

.. هذه هي قصة الأزمة الشهيرة التي كان السودان كله يتلهف باحثا عن أسرارها 
وأسبابها وقد شاءت الاقدار والصدف ان أحضر الفصل الأول منها ثم ما لبئت ان 
خرجت مكرها وبدافع الحياء والخجل والحرج عندما لاحظت بعد انسحاب الصاغ ان 
الامام المهدي بدا يتحدث همسا مع قادة وزعماء حزبه ومضوا یتشاورون سرا فيما بينهم 
غير ان السيد عبدالله خليل روى لي فيما بعد أحداث الفصل الثاني والثالث والختامي 


1۳ 


كما أكده كذلك السيد عبدالله خليل فقد الله امین عام شباب الانصار ووزير الداخلية 
فيما بعد. 

.. اما الشاب بطل القضية فقد علمت انه ذهب اجازة لاهله وظللت اتابع اخباره 
والاحقه لمجرد حب الاستطلاع علني اجد في لقائه اي خيط ولو رفيع يقودني إلى 
الحقيقة او جزء من الحقيقة ومع مرور الايام وزحمة الأحداث نسيت الشاب لكنني 
علمت فيما بعد ان المنية قد سبقتني اليه وعاجلته بغتة في حادث مشؤوم .. 

والان وانا مواجه بهذه الواقعة الخطيرة الني كانت من الممكن ان تنسف العلاقات 
بين مصر والسودان وتعرضها في ساعة حدوثها إلى هزات ومخاطر لا يعلم الا الله 
مداها .. لابد لي وانا أمام هذه الواجهة من وقفة قصيرة الجأ فيها إلى العقل والمنطق 
ولو لثوان معدودات... لابد من وقفة متأنية متجردة أضع فيها كل هذه الوقائع 
والبيانات في ميزان مرهف وحساس (ومضبط) دون ان اتجاهل صرخات الصاغ بان 
كل الذي جرى ما هو الا مؤامرة قذرة وتمثيلية مفضوحة دبرها الاستعمار الانجليزي 
للفتنة والايقاع بين الشعبین الشقيقين . 

ثمة اسئلة كثيرة وعلامات تعجب كبيرة تدور بسرعة شديدة في الافق العقلي وهي 
تبحث عن اجابات واضحة وصريحة ومحدودة فالقصة كما سمعت وشاهدت بعض 
فصولها تبدو من الوهلة الخاطفة الاولى وعند الغاء العقل واسترخاء الجسد والاستسلام 
لمجرد العاطفة وكأن' فيها من بعيد جدا بعض معالم الحقيقة وملامح الصدق وهنا تلح 
الضرورة في البحث عن اجابات للاسئلة وعلامات التعجب التي تقف باصرار لتفرض 
نفسها في مثل هذه الواقعة التي زلزلت الارض تحت اقدام كبيرة وقوية وذات وزن لا 
يمكن لأحد ان يستهين به. 

اولا : هل القصة حقيقة وقعت أم هي مؤامرة دبرت.. وهل كان الصاغ صادقا في 
صرخاته وانفعالاته ام كان المهدي صادقا في اتهاماته! ؟ 

ثانياً : هل يمكن للعقل ان يقبل وان يصدق بان المخابرات المصرية بكل ما عرف 
عنها من دقة وقوة ان تتدلى إلى هذا الدرك السحيق من السذاجة والعبط بحيث لا تضع 
في حساباتها ما يترتب على مثل هذا السلوك من مضاعفات خطيرة خاصة في ظروف 
حرجة ودقيقة مثل التي كان يعيشها السودان ؟ ! 

ثالئاً: وهل بالضرورة ان ارادت الاستخبارات المصرية ان تجند عميلا او تستدرج 
عدوا ان تفتح له ومنذ اللحظات الاولى صدرها وقلبها وأبوابها هكذا وبكل سهولة 
وبساطة وعفوية إلى درجة يقابل ويتحدث فيها العميل او المستدرج في أول لقاء لوزير 
كبير في قمة المسؤولية مثل الصاغ صلاح سالم !؟ 

رابعا: هل يمكن للمخابرات المصرية ان تجازف وتخاطر وتتهاون إلى الحد الذي 
تورط فيه عضو مجلس نورة بدرجة تعرضه إلى مثل هذا الحد من المواجهة المباشرة 
والفضيحة المجلجلة ! ؟ 

14 


خامسا: ان ابجديات المخابرات وواجبها الاساسي الذي يعرفه البسطاء والبلهاء 
والسذج هي السرية والشك مع الحيطة والحذرء فهل يمكن للمخابرات المصرية ان 
تتجاهل وتسقط من حساباتها دور المخابرات السودانية صاحبة الارض والزمان والمكان 
والتي يشرف عليها اشرافا تاما ومحكما كبار الضباط الانجليز العتاه المنتقين خصيصا 
لتلك الفترة الحساسة الحرجة وقد كانت كما يعلم حتى المتسكعون من اهل الشارع انها 
تتخصص في متابعة الصاغ لتحصي أنفاسه » وتعد خطواته بل وتعرف نكاته وضحكاته ! ؟ 

الحقيقة الوحيدة الاثلة امامي بوضوح هي ان القصة قد استغلت فعلا إلى نهاية النهاية 
وحققت كل أغراضها وأهدافها ولكن قبول مصر لتهديدات وانذارات المهدي وبدون تهيج 
او تشنج وانفعال لابد بل من المؤكد ان يكون وراءه أمر جلل وسر عظيم . 

لا اريد بهذا الذي سطرته وذهبت بعيدا في شرحه ان اصل بالقارىء إلى حكم فاصل 
وجازم على هذه الواقعة المزلزلة وما رويته لا يخرج عن كونه مجرد اجتهادات او 
استنتاجات قد تصل او لا تصل بنا إلى الحقيقة العارية» وبما انني قد نقلت الدلائل 
والبيانات والروايات والشهادات وكل الظروف المحيطة بهذه الواقعة رغم انها غاصت 
بعيدا في زوايا التاريخ والنسیان » فانني آمل ان يتمكن القارىء العزيز وهو في ساعات 
صفائه من حل هذه المعادلة الصعبة والتروي في الوصول إلى الحقيقة قبل ان يصدر 
حيثيات ادانته على اي من الفريقين . 

اعود مرة أخرى إلى موقف مصر الرسمي واستجابتها لمطالب الامام المهدي هكذا 
ببساطة وهدوء ودون تشنج وبلا انفعال وهياج .. اعود مؤكدا بان الذي كان وراء اتخاذ 
هذا القرار والموقف الصعب هو البكباشي جمال عبدالناصر نائب رئيس الوزراء ووزير 
الداخلية أنذاك والقابض على كل شيء من وراء الستار . 

لم اصل إلى هذه النتيجة المؤكدة اعتباطا او تخمينا او اجتهادا ؛ ولكنني تيقنت منها 
عندما التقيت وتحدئت فيما بعد إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في اكثر من لقاء 
وقي اكثر من مقابلة وعرفت عن قرب قريب الرأي الثابت الدائم الذي كونه عن السودان 
وأهل السودان من واقع تجربته ومعايشته الخاصة منذ ان كان ملازما صغيرا في الجيش 
المصري في الخرطوم في بداية الاربعينات . 

جملة واحدة انتهى منها ولخص فيها الرئيس المصري موقفه ورأيه عن السودان وظل 
يتمسك ويؤمن به منذ ان كان ملازما حتى اصبح رئيسا للجمهورية كان يجاهر به في 
جميع لقاءاته بالسياسيين والصحفيين السودانیین؛ خاصة اذا ما برزت على السطح 
السياسي بوادر خلاف او نزاع او مشكلة من المشاكل كان يقول: 

(الشعب السوداني شعب حساس جدا جدا نعد حساباتنا بدقة اشد عند تعاملنا معه 
ومع زعمائه). 

لا أريد أن أقفز فوق الأحداث وانتقل من حديث إلى آخر بلا ترتيب وذلك حتى لا 


10۵ 


نتشاباك خيوطها فافقد القدرة على عاملي السيطرة والمتابعة فيضطرب توقيتها الزمني 
مما يفقدها طبيعة التسلسل المطلوب .. صدقوني انا اريد هذا ولكن قد تفرض بعض 
الاحداث الكبيرة نفسها فرضا مما يدفعني لتابعتها ومجاراتها دون التقيد بعنصري 
الزمن والتسلسل فليعذرني القراء اذن . 

اعود من جديد لاكمل توقعاتي واستنتاجاتي الخاصة بمسلك مصر الغريب الذي 
صبت بعده الماء البارد على ثورة الامام ذلك لان الرئيس عبدالناصر الذي عرف 
اخلاقيات السودان بحكم معايشته له عامين كاملين في فجر شبابه جعله يخمد الفتنة 
دون أن يوقظها ففعل عن رضا واقتناع . 


11 


1 الفصل السادس 4 


© من المسؤول عن افساد الحياة السياسية في السودان ؟ 

© أحداث مارس الدامية غیرت مسار السودان 

© الرئيس الصري يرجع بعد ساعة من وصوله الخرطوم . 
© وزير الخارجية البريطاني حاول ان یکون «ستاك » ثانيا . 


الصاغ صلاح سالم یتوسط آول حكومة برئاسة الازهري علي يمينه 


2 3 
۳ 0 7 ۶ 
یب 





وقعت بريطانيا ومصر اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان في ۱۲ فبرایر 
عام ۱۹۵۲ وتعهدت بموجبها الدولتان على ان تنهيا فترة الانتقال بأسرع وقت ممكن 
وهي الفترة التي تبدأ بانتخاب أول برلان سوداني في يناير ۱۹۵۶ لتشکل على أثرها 
حكومة وطنية حددت لها ثلاث مهام رئيسية أولا : سودنة الجيش والخدمة المدنية ء ثانیا : 
اجلاء قوات دولتي الحكم الثنائي . ثالثا : تنظيم اجراءات تقرير المصير . 

.. ما أن اذيعت بنود هذه الاتقاقية حتى بدأت الاستعدادات والصراعات للحملة 
الانتخابية بين الكتلتين الرئيسيتين طائقة الانصار وحزب الامة تساندهما الحكومة 
البريطانية واثيوبيا من جهة. وطائقة الختمية والوطني الاتحادي تساندهما مصر من 
جهة أخرى ونزل الفريقان التصارعان حلبة السباق (الملاكمة) ونزل معهما الشعب 
السوداني المتعطش للحرية والحياة الكريمة بكل ثقله وبكل فئاته وبلا استئناء وبدأت 
المشاعر تغلي كالمرجل وتلتهب بشكل محموم یشبه في كثير من جوانبه حالات (الصرع ) 
ونشطت وفود الاحزاب فجابت أرجاء السودان مدنه وقراه غاباته واحراشه صحاريه 
وفيافيه وأخذت مكبرات الصوت تنتشر في كل ركن ومكان حتى ان الادارة البريطانية 
المهيمنة على الحكم كانت تتحاشى التصديق باقامة اي تجمع سياسي للفريقين المتناحرين 
ف مكان واحد ف وقت واحد تجنبا لاحتمال الصدام . وبالرغم من الحرص والاحتياطات 
الا ان بعض الاصطدامات الخطيرة قد وقعت بالفعل.. 

.. كان الصاغ صلاح سالم الوزير المصري قد نزل هو الاخر بكل ثقله وحقائبه ولم 
يترك مجالا الا ودخله رغم احتجاج المعارضة . بدأ تدخله بانتخابات المجالس البلدية 
(المحلية) خاصة في مدينة أم درمان حتى يختبر قوة حزبه او قوته الشخصية فكان ان 
فاز فيها الاتحاديون باغلبية كبيرة مما شجع الصاغ وجعله يستعرض عضلاته لا في 
الخرطوم فحسب وانما في القاهرة ايضا مما زاد من صلاحياته ودعم نفوذه وقوى 
مركزه . 

.. ووسط هذا الجو المتوتر كثيرا ما تحدث بعض الفكاهات النوادر التي تقلل من 
درجة الحرارة والغليان ولو للحظات قصيرة . اذكر ان السيد محمد الخليقة شريف وهو 


1۹ 


من اعماق بيت الامام المهدي وكان اديبا وشاعراء لكنه عرف اكثر بالسخرية والجرأة 
وطول اللسان وجه في تلك الايام على سبيل المجاملة دعوة غداء للصاغ صلاح سالم 
وعدد من كبار المصريين وحضر المائدة ايضا عدد من كبار رجالات حزب الامة وفي 
مقدمتهم عبدالله خليل وعبدالرحمن علي طه ومحمد صالح الشنفيطي وعبدالرحمن 
عابدون والدكتور علي بدري وشخصي كلهم انتقلوا إلى رحمة الله ماعدا الاثنين 
الأخيرين ۰ أمد الله في عمر عمنا الدكتور علي بدري ؛ ومنحني فسحة من الايام حتى 
اكمل ما بداته . 

.. توجه الجمع الى مائدة الغداء العامرة بكل معاني الكلمة كما هي عادة المضيف 
وما ان جلس الناس حتى بدأ السيد محمد الخليفة يوجه لومه للصاغ لتدخله في انتخابات 
المجالس وخصوصا مجلس أم درمان الذي هزم فيه الانفصاليون هزيمة شُديدة . 

.. كان الصاغ صلاح سالم اعتاد ان يحمل في جيبه مصحفا صغيرا ظل يخرجه 
ويقسم عليه بالنفي كلما وجه اليه السيد محمد تهمة من الاتهامات وما أكثرها ولما زاد 
عدد المرات التي أخرج فيها الصاغ المصحف الشريف أقسم عليه على خمس مرات ما 
كان من السيد محمد الا ان فجر قنبلته الاولى والاخيرة عندما قال: 

«صلاح سالم!! «انت الصحف مألفو ابوك؟! فضحك الجمع للحظات ولكنها كانت 
قصيرة للغاية ساد بعدها الوجوم نم ما لبث الصاع وف عصبية سديدة ان قذف على 
اثرها «بالفوطة » وانسحب من المائدة وخرج دون ان يفول مع السلامة نم لحق به بقيه 
زملائه » الغريب ان السيد محمد الخليفة بدلا من ان يطيب خاطر ضيفه قال وراء 
ظهره : 

«روح في ستين الف داهية انت واللي جابوك»! 

.. نعود بعد هذه الواقعه التي ارجو ان تكون فاصلا مریحا لنرفع الستار من جديد 
حتى نتمكن من متابعة فصول الأحداث . 

۰ اجریت الانتخابات الحرة الباشرة في نوفمبر ‏ دیسمبر ۱۹۵۳ بعد معارك 
عنيفة لاول برلان سوداني ولم تكن مفاجأة بالعنی الکبیر اذ فاز فیها الحزب الوطني 
الاتحادي وشکل السید اسماعیل الازهري اول حکومة وطنية منح فیها الجنوبیون ثلاثة 
مقاعد من الدرجه الثالثة - وذلك حتی یستمیل اليه الجنوبیین والجنوب . 

.. استقبلت طائفة الختمية وراعیها مولانا اليرغني والاحزاب الاتحادية وعلى رأسها 
اسماعیل الازهري هذا الانتصار بالتهلیل والقرح والسرور ونحر اتصارهم الوف الدبانح 
في مختلف بقاع السودان وزغردوا وهللوا وکبروا وظلت مواکبهم تعيش آفراحها لايام 
وایام . 

... أما طائفة الاتصار والامام الهدي والأحزاب الاستقلالية فقد تجرعوا كؤوس 
الهزيمة مريرة وحتی نهایتها فاطفثت الانوار في دورهم وهدت کل الزینات التي نصبت 


توقعا للفوز ولكن هل يمكن لهذه القوة الكبيرة المؤثرة المنتظمة ان تستسلم هكذا 
وبسهولة إلى هذه الهزيمة النكراء!! ؟ 

.. ثمة ملاحظة هذا مكانها ولابد لي من ذكرها حتى لا تتداخل وتفوت في زحمة 
الأحداث هي أن الاحزاب ‏ جميع الاحزاب كثيرا ما كانت تدعي بل وتتبجح بأن 
السودان قد اتخذ النهج الديمقراطي السليم - على قرار وستمنستر - صوت واحد حر 
لكل مواطن حر وهذه الدعوی - وأنا أقول من التجارب والوقائع - انها كانت مجرد 
اكذوبة بلهاء بیضاء لان الذي كان بیننا وبين الدیمقراطية السليمة فراسخ ووهاد وأمیال 
لاتحصی ‏ وأن أجراس كنيسة وستمنستر ذاتها كانت تدق في عنف وهي تصرخ بأنها 
بريئة مما كنا ندعي ونقول والحقيقة التي لا يختلف علیها سودانیان راشدان عاقلان 
هي أن شعار صوت واحد للمواطن كان بعیدا عنا وانما الذي نعرفه اجمعین بانه 
كانت هناك ثلائة ملايين صوت للامام عبدالرحمن الهدي وملیونان ونصف اللیون صوت 
للميرغني وبقية الاصوات للازهري ومناطق الوعي وجماهیر العمال وهي الوحيدة التي 
يمكن ان تعتبر خارج نفوذ الطائفتین وأقرب ما تکون إلى ديمقراطية وستمنستر . 

.. فالرشح لحزب الامة او طائفة الیرغنية مهما كبر نقوده وقویت حجته وبلاغنه 
وفصاحته لا یمکن بل ویستحیل عليه الفوز في دائرته الانتخابية الا اذا بارکه زعیم 
الطائفة وأصدر اشارته المهورة «بختمه » تأکیدا للتأیید لذلك فقد كنت تری زعیما کبیرا 
کالسید عبدالله خلیل سکرتیر الحزب یرشح نفسه في داثرة «أم كدادة » وهي في اقاصي 
العرب والسافه بینها وبين الخرطوم کالسافه بين الخرطوم وباریس لانها داثرة مغلقة 
ومضمونة وتحت نفوذ الامام الهدي . وعبدالله خلیل فاز في دائرته بالتزكية رغم أنه 
ما قام بزيارة آهلیها الا نادرا جدا وفي أوقات متباعدة جدا جدا!! 

.. کونت اللجان القومية لسودنة الجیش والخدمة الدنية في ابریل ۱۹۵۶ واستطاعت 
أن تنجز كل اعمالها في أول أغسطس ۱۹۵۵ . تقول الادة التاسعة من الاتفاقية ان 
فترة الانتقال يجب الا تتعدى الثلائة اعوام تنتهي بان يجيز البرلمان فرارا يعبر فيه عن 
رغبته في الشروع لتقرير مصيره يرفعه الحاكم العام للحكومتين البريطانية والمصرية وهذا 
ما حدث بالفعل ففي يوم ١7‏ أغسطس ۱۹۵۵ قدم السيد اسماعيل الازهري رئيس 
الحكومة الاقتراح التالي للبرلمان : 

«نحن أعضاء مجلس النواب في البرلان مجتمعا نعرب عن رغبتنا في الشروع في 
اتخاذ التدابير لتقرير المصير فورا ونرجو من معالي الحاكم العام اخطار الحكومتين 
المتعاقدتين بهذا القرار بمقتضى الاتفاق بين الحكومة المصرية وحكومة المملكة المتحدة 
لبريطانيا العظمی وسمال ايرلنده ! 

ثنی الاقتراح السيد الصديق الهدي رئيس حزب الامة فقال: «ان الداولة في هذا 
الاقتراح أمر تقتضيه النظم البرلانية ولولا ذلك لما احتاج موضوع اليوم لحديث قليل أو 


۷۱1 


كثير لان اجماع الشعب منعقد على الجلاء والاستقلال شئنا في هذا المجلس أم لم نشأ» 

.. أما الزعيم الجنوبي المرموق بوث ديو رئيس حزب الاحرار والممثل لوجهة النظر 
الثالتة في البرلان والذي عرف بتطرفه الشدید وتخوفه الاشد من مصر فقد استشهد 
بكلمة نسبها إلى جلادستون أحد رؤساء الوزارات البريطانية قالها في مجلس العموم 
البريطاني عام ۱۸۹۷ (ان السودانيين الذين يناضلون من أجل حريتهم يجب ان يرفع 
عنهم الطغيان المصري) وأضاف بوث ديو: اننا اليوم سنضرب آخر مسمار في نعش 
السيطرة الاجنبية وخاصة سيطرة الدول المجاورة لنا!! 

وفجأة ظهرت ولأول مرة في تاريخنا السياسي «البورصة » وسوق النخاسة وشراء 
بعض النواب ومع الأسف فان عددا كبيرا من النواب الجنوبيين ممن كان الواحد منهم 
يتقاضى قبل انتخابه للبرلمان مرتبا لا يزيد على العشر جنيهات ومعهم عدد قليل من 
النواب الشماليين الضعفاء ظلوا يتأرجحون بين ااتيارين يعلنون انضمامهم لهذا او ذاك 
لانهم لم يستطيعوا مقاومة الصاغ صلاح سالم وحقائبه المنتفخة دائما وأبدا . والحقيقة 
الولة الباقية الخالدة أن الصاغ صلاح سالم هو المسؤول الاول والثاني والأخير عن 
افساد الحياة السياسية في السودان هو المسؤول عن كل مشكلة وأزمة وخلاف ؛ ولكنه في 
النهاية دفع الثمن غاليا وباهظا «بعد أن خرب مالطا وما وراء مالطا) ثم بعد ذلك فقد 
لنقفسة . 

... ظل عدد كبير من النواب الجنوبيين يسببون صراعا مزمنا ومستمرا للاحزاب 
خاصة في لحظات التصويت لحجب الثقة مما جعل بورصة المزايدات وسوق النخاسة 
رائجة في تلك الفترات بشكل يدعو للاسف «والقرف» معا. 

.. تحدث في هذه الجلسة التاريخية بعد الأربعة أعضاء الرئيسيين عدد كبير من 
النواب في نفس المعنى وعند اجراء التصويت لم يسمع صوت واحد يقول: لا - كانت 
کلمة - نعم بالاجماع المطلق . 

.. منذ الصباح الباکر لهذا الیوم التاريخي في عمر الشعب السوداني .. الیوم الذي 
اطلق عليه «یوم الجلاء » توقفت الحياة تماما في دواوین الحکومة والاسواق والدارس 
وظلت جماهیر الشعب تموج تحت وهج السْمس المحرقة وهي تهتف : الجلاء .. الجلاء 
لا أحلاف لا استعمار الشعب یطالب بالاستقلال ... عاش السودان حرا مستقلا . 

.. وفي منتصف الواحدة خرج النواب والشیوخ من البرلان یتقدمهم الازهري رئيس 
الحکو مه ومحمد احمد محجوب زعیم العارضة فهجمت علیهما الجماهیر المتراصة 
وحملتهما على الاعناق وظلت الظاهرات تجوب شوارع العاصمة الثلثة وجمیع مدن 
وقرى السودان وهي تعبر عن فرحنها . 

.. هناك شيء هام وکبیر كان له الاثر الباشر في (الدربكة والفوران السياسي ) وهو 
أحداث التمرد في جنوب السودان التي بذرها وزرعها وخطط لها الاستعمار البريطاني 


Y۲ 


فبمجرد سودنه الجيش السوداني وطرد الضباط والقضاه والموظفين والاداريين 
البريطانيين من الجنوب ‏ وقي جو ملتهب مشحون بالاثارة والمخاوف عند المواطنين 
الجنوبيين والشائعات والنظريات التي ارضعتهم وربتهم عليها الکنانس وجیوش المبشرين 
ذلك ان الشماليين ما هم الا مستعمرون جدد يريدون اسنبعادهم وبيعهم ف الاسواق 
كالاضي حتى بدأت الثورة في الجنوب وأعلن جنود الجيش والبوليس عصيانهم وتمردهم 
وقاموا بقيادة جنود لا تتعدى رتبهم الشاويش والصول والملازم وهي اكبر وأقصى رتب 
كان يحتلها المواطنون الجنوبيون مع عدد قليل من الاداريين والمدنيين ... وقاموا بذبح 
وتقتيل وحرق معظم الشماليين من الاداريين والموظفين والتجار ونسائهم وأولادهم 
واطفالهم حنی زاد عدد الضحايا على الخمسمائه . 

.. كان ذلك في نوفمبر ۱۹۵۵۰ واستطاعت القوات الشمالية بعد جهد جهيد ان 
تحتوي العصيان والتمرد لكن معظم المتمردين كانوا قد دخلوا الغابات والاحراش 
وهربوا إلى الدول الجاورة يوغندا والكنغو واثيوبيا فشكلوا بعد ذلك جيشا آخر ظل 
يغير على السودان ويصطدم بقواته اصطداما مباشرا وغير مباشر بتأييد ومساندة بعض 
الدول والكنائس الاستعمارية لسنوات طويلة حتى تم الصلح ووقعت معاهدة أديس ابابا 
المعروفة في عهد النميري وتوقف الرصاص وجفت الدماء ولكن إلى حين . 

.. مع أفراح الشمال بقرب موعد اعلان الاستقلال كانت المحاكم العسكرية قد 
شكلت في الجنوب لمحاكمة المتمردين فبلغت أحكام - الاعدامات رميا بالرصاص اكثر 
من مائتين كلها صدرت تحت توقيع وبموافقة الحاكم العام البريطاني السير نكس هلم . 

.. من الاحكام الصارمة التي مازلت اذكرها لتلك الحوادث المشؤومة هو صدور حكم 
الاعدام على خمسة وأربعين شخصا أتهموا باطلاق النار وحرق الشهيدين الفاضل الشفيع 
مفتش مركز (ياي) والملازم عصمت بحيري وثلائة من موظفي الغابات الشمالیین كما 
صدرت أحكام الاعدام على واحد وعشرين متهما بقتل اليوزباشي ابراهيم الياس قومندان 
فرقة (کبویتا) والتاجر الشيخ محمد الغزراي . وقد بلغ عدد المعتقلين والسجناء 
الجنوبيين الذين نقلو! للشمال اكثر من ألفين . 

.. كان من أبرز رؤساء المحاكم العسكرية في الجنوب انذاك اللواء ابراهيم عبود قائد 
انقلاب نوفمبر ۱۹۵۸ فيما بعد والذي ظل الصدام السلح في عهده بين القوات السْمالية 
وقوات المتمردين مستمرا بضراوة وشراسة لا تعرف اللين ولا تؤمن بالهدنة والمهادنة . 

استغل قادة الاحزاب الحنوبية الجو الملتهب الدامي فتوحدوا فيما بينهم وبدأوا - 
يضغطون بستى الوسائل والسبل على القادة السياسيين في الخرطوم رافعين راية الحكم 
الفدرالي واحيانا راية الانفصال .. وكانوا يهددون كلما أعلن حكم الاعدام على مجموعة 
من اهليهم بالانفصال التام أو الموت الزؤام فتربعت قضية الجنوب على قمة الاحداث 
واصبحت حيوية وحساسة خاصة ولم يدع احد من قادته للاشتراك ف المحادئات بين 


Y۳ 


أحزاب السودان ومصر مما زاد المرارة» لكن القادة في الشمال ظلوا يعالجون الموضوع 
كله بتعقل ولين وهدوء وسياسة وشفقة حتى استطاعوا أن يحثوا مشاعر الاثارة 
والغضب ويكسبوا العقلاء من العناصر الجنوبية التشددة . 

.. حدد اليوم الاول من مارس ۱۹۵ لافتتاح البرلمان وقد وجهت الحكومة الميرغنية 
الاتحادية برئاسة الازهري الدعوة لكل من الرئيس المصري اللواء محمد نجيب والمستر 
سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية لحضور احتفالات ومراسم الافتتاح وقد اثارت 
دعوة اللواء محمد نجيب ثائرة الانفصاليين والهبت مشاعرهم الملتهبة اصلا فاضافت إلى 
مرارة هزيمتهم في الانتخابات مرارة جديدة لايمكن ان يقبلوا طعمها ویتجرعوها بسهولة 
هذه الرة! 

.. كانت كل الدلائل تشير إلى أن شيئًا ثقيلا وحالكا ومقبضا يحوم فوق الرؤوس › 
وأن نذر التحفز والشر والخطر بدأت معالها تبرز وتزيد حتى أن كل مواطن استطاع 
ان يتحسسها بسهولة ويتعرف على ملامحها وبدأت وفود الامام ورسله (الطائفيون لا 
السياسيون) تطوف سرا مناطق نفوذه في كل شبر وزاوية في السودان وما ان جاء 
الاسبوع الأخير من فبراير حتى أمتلآت العاصمة بأنصار الامام المهدي وهم بزيهم المميز 
العروف يحملون الحراب والسيوف والفؤوس يطوفون شوارع العاصمة في طوابير 
عسكرية منظمة ويعزفون «سمفونية مخيفة » كموسيقى أفلام هتشکوك تفزع القلوب 
وتهيج المجانين . كانوا يقولون بصوت واحد وايقاع واحد «السودان بلدنا ونحن اسياده » 
السودان للسودانيين يعيش حرا مستقلا . كانت هذه الهتافات لها مدلولها السياسي 
الخطير انذاك اذ كان الشعور السائد ان الوحدويين سينادون بالانحاد من داخل البرلمان 
وأن هذه الكارثة (بالنسبة للانفصاليين )ستحقق لان الاغلبية العددية يتمتع بها الوحدويون 
لذلك فلابد اذن من المعارضة والمقاومة بل والصدام المسلح الدامي ان اقتضى الامر 
لايقاف مثل هذه المحاولة الخطيرة . 

.. ظلت مواكب الانصار تجوب الشوارع صباحا ومساء فتعطل كل شيء واختفى 
الخبز والسكر من الأسواق وأغلقت المطاعم وحرص المواطنون وخاصة المواطنات الا 
روا ور و رکو جور وا بخ بهم الامر بل ومبالغة في الحرص اغلق 
البعض ابواب بيوتهم «بالضبة والمفتاح » واعلنوا حالات الطوارىء من الداخل وبالرغم 
من أن الحكومة قد اتخذت كل وسائل الحيطة والحذر والترقب الا أنها كانت تبدو 
ضعيفة عاجزة عن مقاومة هذه الجيوش الجرارة ناهيك عن حفظ الامن والنظام 
والارواح والممتلكات لان عدد الانصار الذين دخلوا العاصمة بل وطوقوها من 
الخارج - تماما كما فعل قائدهم الاكبر الامام محمد احمد المهدي عام ۱۸۸۳).. كان 
عددهم اضعاف قوات الأمن مما جعل وقوع الكارئة شیثا ملموسا وواضحا وبارزا وواقعا 
لا محالة . 


۷ 





الامام عبدالرحمن المهدي نجل المهدي الكبير 
..لم تعرف جماهير طائفة الختمية ولا جماعات الازهري يوما بالعنف لأن معظمهم 
كانوا من الحضر المستنيرين ومن جمهرة المثقفين كما أنهم لم يربوا على وسائل العنف 
والاثارة والتضحية الدمرة كما هو شأن طائفة الانصار التي استمدت عنفها وشدتها 
وولاءها المطلق منذ تاريخها ومنازلة الحكم التركي البريطاني بل والانتصار عليه وذبح 
فائده غردون باشا حاكم عام السودان . 
.. طائفة الختمية وجماعات ازهري قد تعارك بالهتافات والخطب هجاء شعرا 
ونثرا وقد تصل في القليل النادر إلى الاشتباك بالايدي» أما لغة السيوف والحراب 
والفؤوس والرصاص والدماء فهذا ما لا تعرفه ولا تريد ان تعرفه لاخوفاً ولا جبنا » وانما 
سلما وسلاما ونورا وحضارة فماذا كان اذن وماذا حدث؟!! 
.. اقتربت الساعة وانشق القمر ودقت ساعة الصفر وجاءت لحظات الانتقام الرهيبة 
المرعبة التي أعدها ومهد لها قادة وزعماء الانصار الطائفيين كي (ينفسوا) بها على 
انفسهم وما علق بهم من هزيمة منكرة في أول انتخابات برلانية ابعدتهم تماما عن 
السلطة ومیدان الجاه والصولجان وآرادوا بالذي دبروه في الخفاء والعلن ان یثبتوا 
وجودهم للعالم آجمع وعلی الاخص مصر وان يؤكدوا کذلك بان الاغلبية العددية في 


V0 


البرلان ... والانتخابات الحرة المباشرة وصوت حر واحد لكل مواطن حر ما هي الا 
شعارات سخيفة وممجوجة لا يعرفها قاموسهم السياسي وانما الذي يعرفونه هو لغة 
العنف وفرض ارادتهم بالقوة المسلحة خاصة في هدف كبير وغاية نبيلة كالاستقلال الذي 
يسعون له ويداقعون عنه بالمهج والارواح . 

.. ومنذ فجر اول مارس ۱۹۵۶ امتلاً جانبا الطريق الطويل المتعرج المؤدي من 
المطار إلى قصر الحاكم العام (قصر الشعب الان) بكتل بشرية متراصة في نظام 
عسكري فريد من الانصار بزيهم الموحد وهم يرددون هتافاتهم وشعاراتهم بالحرية 
والاستقلال مما جعل الاتحاديين وأنصار طائفة الختمية يبتعدون من الساحة ويكتفون 
بالمشاركة من على البعد لكن معظمهم بما فيهم زعماء حزبهم الحاكم وعلى رأسهم السيد 
اسماعيل الازهري كانوا قد احتلوا فناء المطار ليكونوا في استقبال الرئيس المصري 
محمد نجيب والصاغ صلاح سالم وما ان ظهرت الطائرة في سماء الخرطوم في حوالي 
الساعة العاشرة صباحا حتى ارتفعت الصيحات العادية إلى عنان سماء الخرطوم 
وأخذت زغاريد الحرب التي تشبه كثيرا صرخات الهنود الحمر تملا الجو رعبا وتهديدا 
ووعيدا . كان القومندان السيد /بابکر الدیب - سفیر السودان بالقاهرة فيما بعد أطال 
الله عمره هو المشرف السوداني الرئيسي على قوات الامن وكان ينقل بالتليفون من 
عربته اولا باول کل خطوة وهمسة ويسجل كل سّعار وهتاف حتى تعبيرات الوجوه 
وتحفز الانصار .. كان ينقله إلى المستر بيتون السکرتیر الاداري للحكومة والرجل الثاني 
بعد الحاكم العام . 

.. هبط الرئيس المصري والصاغ صلاح سالم والوفد المرافق لهما أرض المطار 
فارتفعت صيحات الوحدويين بالهتاف بحياة مصر وحياة نجيب والازهري الا انها كانت 
هتافات مخنوقة محصورة فقط فى أرض الطار وفنائه الصغير . وظهر القمندان بابكر 
الديب وعلى الفور أصدر أوامره لقوات الأمن في المطار والقوات المرافقة للرئيس المصري 
بالغاء خط السير المرسوم لركب الرئيس المصري وتحويله رغم اعتراضات واوامر 
الرئيس الازهري إلى الاتجاه المضاد ... الفراغ الواسع الذي يؤدي إلى قرية (بري) شرق 
المطار فوابور المياه فشارع النيل المؤدي إلى قصر الحاكم العام بينما تجمعات الأنصار 
الرئيسية كانت تقف في الطريق المرسوم في الجانب الغربي للمطار ‏ الجانب المضاد 
تماما وقد آنقذ تصرف القمندان بابكر الديب السودان من كارثة محققة لم يكن يعرف 
سوى الله وحده نتائجها وابعادها فقد علمت الخابرات السودانية وعدد قليل ممن 
تقو ومون وان الا مور :انه كانت هان خطة تهذف إل اغنان اللواة: کعیی 
وصلاح سالم وجمیع من معه من مرافقین عسکریین ومدنیین وصحفیین ومصورین ولا 
باس من أن تمد حملة التقتیل لتشمل الازهري وجمیع وزرائه ونوابه وکبار رجال 
القوات السلحة والوظفین هذا على الاقل ما ورد في تقاریر الامن . 


۷1 





الرئيس الصري محمد نجيب عند وصوله للخرطوم 


.. طال انتظار المواكب الانصارية الهادرة المتفجرة المتوعدة وازداد غليانها وعلا 
هديرها بعلو الشمس وارتفاع درجات الحرارة قتصبب العرق حارا على الوجوه وبدا 
(فوران الدم) الذي كان هادا باردا حتى النسمات الأخيرة من فجر ذلك الصباح 
وسرعان ما ذاع وشاع خبر تحويل ركب الرئيس المصري فصدرت الأوامر العليا إلى 
جیوش الانصار بالزحف إلى القصر وكانت التعليمات تعطى الى رؤساء المائة ثم رؤساء 
الخمسين فرؤساء العشرة ثم القاعدة العريضة. هكذا كان تنظيمهم وكان كبار قادة 
الانصار الذين ينقلون أوامر وتعليمات القيادة يلبسون شارات مميزة صرفت لهم قبل 
ساعات من بداية الخطة وذلك حتى تميزهم فيتعرف عليهم بقية القادة المباشرين كما 
ینعرف عليهم جنود الانصار . 

.. بدأ الزحف الکبیر وکان على هذه الامواج ان تمر في طریقها الى القصر بمنزل 
السيد/ الصديق الهدي المكون من طابقين والذي كان يعتلي (سطحه) جمع من كبار 
قادة الطائفة وعلى رأسهم الامام عبدالرحمن الهدي نفسه الذي كان يلوح لهم بيده 
اليمنى مشيرا إلى طريق القصر فكان الأنصار كلما ما مروا قريبا منه تزداد صيحاتهم 
وترتفع صرخاتهم وتتهيج ونتشنج کل اعضائهم واحاسيسهم . 


۷۷ 


.. وفي ميدان وزارة المالية والاقتصاد حيث ما زال تمثال اللورد کتنشنر منصوبا وهو 
على صهوة جواد رافعا يده اليمنى مشيرا بأصبعه إلى ام درمان عاصمة الهدية ... في 
ذلك الميدان المتاخم لقصر الحاكم اطلق النفير ودقت الطبول وأذنت الشیاطین » وهربت 
الملائكة وفجر البوليس القنابل المسيلة للدموع وجفلت جماهير الانصار ... أول الامر 
خطوات إلى الوراء الا أن زعماءهم كانوا يشجعونهم في غير ما توقف وصاروا يصرخون 
في وجوههم: 

(يا انصار المهدي الشجعان البواسل لا تهابوا هذا الدخان انه مجرد شطة لا تؤذي 
المؤمنين وأصحاب الهدي) ... وبدأت الحراب والسكاكين والفؤوس تعلو وترتفع لتقتل 
وتحصد وتذبح كل من يعترض سبيلها وكان اول الضحايا هم من رجال البوليس خاصة 
السواري الذين يمتطون الجیاد؛ وما ان مضت نصف ساعة حتى كانت جميع جياد 
السواري يمتطيها الانصار ... ومع مضي الثواني والدقائق امتلأت الساحة على كبرها 
ووسعها بالدخان وروائح الرصاص ومضى الزحف الانصاري الرهيب فقتل في الحال 
«المستر بکتنو » قومندان عام البوليس كما قتل مصطفى المهدي مساعده وعدد زاد على 
الثلاثمائة من الجانبين وعلى رأسهم ميرغني عثمان صالح وجامعيين وطلبة واساتذة . 


عمر حديد 


كان من المفروض لولا الاجال المسطرة ان أكون احد الضحايا فقد هجم علينا وكنا 
مجموعة مكونة من حوالي.العشرین شخصا تجمعنا في ركن قصير خلف مرحاض عام 
تظلله اشجار كثيفة .. هجم علينا انصاريان يمتطيان جوادين وف يد كل منهما سيف 
مسلول يخطف الابصار مع اشعة الشمس فاطلقنا سيقاننا للريح كل في اتجاه ... وكنت 
أجري في خفة الغزال وعلى طريقة (ستيف اوستن الرجل الذي يساوي الستة ملايين 
دولار) على الرغم من ان الله قد منحني بسطاً في الجسم ولا أحسست بعلو 
الصرخات واقدام الحصانين تقترب مني في سرعة مذهل رفعتني الملائكة إلى شجرة 
عالية ثم قذفت بي فوق الحائط ورمتني ارضا داخل منزل المستر ایفانز مدير الاتصال 
العام والذي يلاصق وزارة الزراعة حاليا وبدلا من ان يستقبل الستر ایفانز ضيفه الذي 
هبط من السماء بالفرحة والترحاب شهر عليه من بعد بعيد بندقيته الاوتوماتيكية بينما 
وقفت بجانبه زوجته وهي تحمل مسدسا طوله نصف قدم وما ان تعرف علي حتى هدأ 
وزوجته وهدأت انفاسي اللاهئة بعض الشيء لكن اعضائي كلها بدأت تخور فجأة وبلا 
مقدمات ثم فقدت القدرة على الحركة والمستر ایفانز وزوجته اراهما كشبحين يتراقصان 
ويتارجحان امام عيني بلا توقف حتى اصبحا سرابا بعيدا واغمي علي تماما ولم اشعر 
الا وانا على اريكة مريحة وصحوت بعد مضي بعض الوقت على رائحة العطر في وجهي 


۷۸ 


«انت رجل محظوظ وقد کنب لك عمر جديد لابد ان تعتبره ربحا خالصا وهديه 
من السماء » وقلیلا قلیلا هدأت آثار العركة في حوالي الخامسة والنصف مساء خرجت 
بعدها مودعا شاکرا مضيفي ومضيفتي وما أن تقدمت بضع خطوات إلى الشارع الرئيسي 
حتی رأيت ما لایقل عن ثلاث جثث مكومة على الارض وهي تنزف دماء حارة غزيرة 
واطلقت ساقي للريح من جدید إلى حيث تقف عربتي وذهبت إلى منزلی لاطمئن اهلي 
اولا ثم استحم لاجفف عرقي النصب واغیر ملابسي الملوءة برائحة البارود والعرق 
نکومت عشرات الجنث ومئات الجرحی على کل شبر من عنابر وفرندات ومیادین 
الستشفی واعلنت بالطبع حالة الطواریء كما اعلن الحداد العام واقتصرت برامج 
الاذاعة على تلاوة القران الکریم . 


قصر الحاکم 


.. نعود مرة اخری إلى السرح الرئيسي للاحداث ... إلى قصر الحاکم العام فکما 
محقق وانقذ بلاده کذلك من کوارث لا يعلم مداها الا الله فقد صدرت الاوامر إلى 
الرئيس الصري ورفاقه بان یتوجهوا إلى الطار فورا ویفادروا البلاد وباسرع فرصة 
ممكنة وتم ذلك بالفعل عند انطلاق اول رصاصة . 


اشتباك آخر 


.. ثمة حادث صغير وخطير راح في غمرة الهيجان ولا يعلم به الا نفر قليل جدا 
حنی هذه اللحظه .. حادث اشبه ما یکون بمصرع السیر ال ستاك » حاكم السودان 
العام عند زیارته للقاهرة والتي قیل انها مؤامرة دبرها الحکم البريطاني مع ستاك 
المريض الذي كان بينه وبين الوت بوصه واحدة فقد روی ‏ ضابط البولیس السید 
سلیمان ابو داود - القاضي بام درمان حالیا - انه كان على رأس القوة التي تحرس 
قصر الحاکم العام وعندما اشتد الصدام ودوی الرصاص والقنابل وارتفعت السیوف 
والفژوس والسکاکین » نزل الستر «سلوین لويد » وزير الخارجية البريطاني من القصر 
مترجلا يريد الخروج لمشاهدة ما يجري ‏ كان الستر سلوین لويد برتدي قمیصا صیفیا 
أبيض وبنطلوناً رمادیاً فاعترضه الضابط سلیمان وطلب اليه في ادب جم ان یعود 
ادراجه خوفا من ان يتعرض لأذى فما كان من المستر سلوين لويد الا ان قال له في 


۷۹ 


ليكة متکبرة متعجرفة ؛ 

«الا تعرفني ياحضرة الضابط؟ انا الستر سلوین لويد وزير خارجية بریطانیا 
العظمی » ودخل الائنان في عراك كلامي أصدر على أثره الضابط آوامره للجنود بان 
یغلقوا على عجل جمیع بوابات القصر الحديدية الضخمة .. وبالطبع فان الضابط سلیمان 
كان في حالة غلیان وهستریا مما يرى ویسمع ومنظر الدماء ورائحة الوت تغطي کل 
شيء ولا ضايقه الوزیر البريطاني صرخ الضابط في وجهه قائلا باللغة العربية والوزیر لا 
یعرفها : 

«يا عم روح بلا سلوین لويد بلا وجع راس آنا قلت ليك أرجع يعني آرجع » وعندها 
فقط أحس الوزير البريطاني الكبير ان الضابط جاد فيما يقول وانه لن يستطيع بأي 
حال من الأحوال ان يخرج ليتنزه في دخان المعركة ويقفز بخفة ورشاقة فوق الجثث 
والدماء الحارة التي غطت ساحة الیدان وهو يخاطر بحياته ... ترى هل كان فعلا 
يخاطر بحياته ليصبح (ستاك ) اخر؟! 


صحف العالم 


... احتلت اخبار هذه المجزرة الرهيبة صدر صحف واذاعات العالم وبدأت الكلمات 
الافتتاحية خاصة في صحافة لندن تصب على النار المتقدة مزيدا من البنزين لتزيدها علوا 
واشتعالا بينما العاصمة السودانية كانت كلها تعوم في ماتم وأحزان ودموع ونواح لا 
يتوقف . وف الساء عادت جیوش الانصار إلى مراكزها الرئيسية في قبة الامام المهدي في 
ام درمان وقصوره وقصور ذويه المنتشرة في الخرطوم وأم درمان كما صدرت الاوامر 
لانصار الجزيرة القريبين من الخرطوم ان يعودوا ادراجهم حالا وبسرعة ومع ذلك فقد 
تم القاء القبض على عدد صغير جدا من رجال الصف الثالث والرابع ومن بينهم اثنان 
من خدم الامام عبدالرحمن وكان ابرز المعتقلين هو السيد/ عبدالله عبدالرحمن نقد الله 
باعتباره امین عام شباب الانصار وهو وزير الداخلية ايضا فيما بعد . أما الكبار فکانوا 
يعتبرون الذي حدث جهادا شريفا قضوا به على الدعوة الاتحادية مرة واحدة وإلى الابد 
وفتحوا بذلك كل الأبواب والنوافذ التي تقود الى طريق الاستقلال التام .. اما هؤلاء 
واولئك فمن هم غارقون إلى اذانهم في معركة الكرامة والشرف كما اسموها فلم يجرؤ 
احد من الحكام الاداريين البريطانيين ولا حتى السيد اسماعيل الازهري ومجلس وزرائه 
ونوابه وطائفته وباغلبيتهم العددية في البرلمان ... لم يجرؤوا ان يشيروا حتى بأصابعهم 
الى الكبار ناهيك عن محاولة اعتقالهم - وهي بعيدة ومستحيلة - او تقديمهم للمحاكمة 
وهذا اكثر بعدا واستحالة!! وهذا التصرف من جانب حكومة الازهري كان عين العقل 
اذ هم بذلك جنبوا البلاد مزيدا من الكوارث والاصطدامات . 


۸ ۰ 


.. هدأت العاصمة كثيرا عندما اختفت طوابیر الانصار وتجمعاتهم الرهيبة فقد بدأوا 
رحلة العودة إلى ديارهم من الجهاد الأكبر وفرحوا وهللوا ورقصوا ساخرين من الرئيس 
المصري الجبان الذي هرب من خلف الاسوار والجدران کالفار عائدا إلى بلاده بعد ساعة 
من وصوله . 

.. بدأت محاكمات محرضي الشغب كما كانوا يطلقون عليهم وعددهم لا يتجاوز 
العشرة اشخاص حكموا على اثنين منهم بالاعدام هما عبدالله عبدالرحمن نقدالله وعوض 
صالح كما حكم على الاخرين بالسجن لمدد متفاوتة غير ان حكمي الاعدام خفضا إلى 
سنوات والسنوات خفضت إلى اشهر . 


سحاعه الصديق 


.. قام السيد/ الصديق المهدي بنفسه ومنفردا في مساء الأحداث الأليمة بزيارة 
المستشفى لاستكشاف الحالة ومعاينة المصابين خاصة من أنصاره وظل يطوف على اسر 
الشهدا ء لیواسیهم ویعزیهم ویخقف جراحانهم » ومن المشاهد المديرة التي لا يسنطيع 
العقل ان ینساها او یتجاهلها ان السید/ الصدیق الهدي خرج من الستشفی وکنت 
قریبا جدا منه فطلب مني ان اصحبه في عربته إلى ام درمان لنعزي سویا اسر الشهداء 
وکان لابد او اواققه على طلبه ولكنني قلت له ان عربتي بالخارج واخشى علیها من 
هذه التجمعات اللتهبة » لذلك فانني سأتبعه حتی يمكنني ان اعود بها إلى اهلي . لابد ان 
يكون السید/ الصدیق قد ادرك مدی جبني ورعشتي اذ أن الرکوب بجانبه في تلك 
الامسية الحزينة التي تقطر دمعا ودما من الأساة معبأة الوت ... لا بل الانتحار 
خصوصا وان سکان العاصمة قد هزنهم الكارئة فخرجوا في جماعات یتصیدون الانصار 
ویقذفونهم بالحجارة والعصي لكنهم في النهاية غالبا ما یطلقون سیقاهم للریح تماما 
عجمعنا ذا ك.. 

.. وعند خروجنا من كبري أم درمان وامام «سوق الوردة » شاهدت تجمعا يزيد 
ويضربونه بالايدي وق نفس الوقت شاهدت السيد/ الصديق يضرب سائقه ضربا مبرحا 
على قفاه (رقبته ) لانه كما يبدو لي خالف أوامر الصديق بالتوقف خوفا عليه من غضبة 
الجماهیر ؛ ولكنه في النهاية توقف وترجل السيد/ الصديق بزيه الأبيض المميز العروف 
«القفطان الحرير » والعباءة البيضاء والعمامة الكبيرة فوق الرأس . أما انا فقد ارتجفت 
تماما ولم أعد في تلك اللحظات اميز بين اليمين واليسار او بين الفرامل والاشارة 
والفتيس والتعشيقة والدركسون كلها اختلطت امامي وأصبحت «عجينة من الحديد» 


م١‎ 


يموت في بطء ... وترجلت نحو الجميع في بطء أكثر وسمعت الصديق المهدي يصرخ في 
ذلك الجمع ويداه الائنتان في جيبيه «وأنا اعرف انه في تلك اللحظات كان يقبض على 
مسدسين سريعي الطلقات ».. صرخ قائلا : 

«عيب عليكم ياجبناء.. اختشوا على حالكم ورجولتكم لا يمكن حتى للنساء ان 
يعتدوا على شيخ مسن بهذه الوحشية » فما كان من الجميع الا ان اطلقوا سيقانهم للريح 
خاصة بعدما اعلن عدد منهم انهم امام الصديق المهدي. واخذ الصديق الانصاري من يده 
وأدخله معه في عربته ولابد لهذا الانصاري انه استعاد كل وعيه وقوته ومازال يفاخر بانه 
يوم الجهاد كتب الله له ان يجلس بجانب الصديق المهدي . وهنا فقط تنفست الصعداء 
وحمدت الله للمرة الالف ان جنبنا اصطداما محققا وكان السيد الصديق في حالة من 
الهياج والاثارة لن يتردد معها في المواجهة مهما غلا ثمنها . 

لابد لاي مراقب سياسي او اجتماعي قريب من مسرح الاحداث ان يكون قد انتهی 
بنهاية أحداث مارس الدامية الى نتيجة واحدة بارزة المعالم والخطوط. هي ان الوجه 
السياسي للسودان بعد وقوع الاحداث قد تغير تماما واتخذ مسارا جديدا في كل تحركاته 
وخطواته وبرامجه وتخطيطاته . اما الشيء الثاني الذي لا يقل أهمية عن هذه الظاهرة 
هي ان جماهير الانصار وحزب الامة استطاعت بعد ذلك وبحد السيف ان تثبت 
فعاليتها وقوتها ونفوذها ووجودها فبعد هزيمة الانتخابات المريرة القاسية استعاد 
الانصار كرامتهم الممزقة وكبريائهم المشروخ ووقفوا بعدها بأقدام فولاذية ثابتة وعلى 
ارض قوية صلبة وبدأوا بعد ذلك مسيرتهم لتحقيق غايتهم الكبرى في الاستقلال التام . 

.. في نهاية المطاف فان افتتاح البرلمان لم يتم بالطبع وصدر اعلان بتاجيل انعقاده 
إلى وقت يحدد فيما بعد وانشغلت بعد ذلك حكومة الازهري ٤‏ الحاکمات وف 
مخاولات کثيرة ومتعددة تستعید بها کرامنها الهددة وکبریاءها السلوت:. 


AY 


© لقاء المهدي والميرغني «لقاء المستحيل »! 

© الاتحاديون يتذكرون للاتحاد فيفقدون مصر . 

© عندما تمرد الازهري على مصر والسیدین » انكمشت أغلبيته البرلانية 
من 45 إلى 0١‏ نائبا . 





.. توقف النواح وجفت الدموع بعد احداث اول مارس الاليمة وانتهت ليالي الأنم 
والأحزان الطويلة بعد صلوات الترحيم والغفران على الشهداء من الجانبين وبدأت الحياة 
تعود إلى طبيعتها رويدا رويدا ولكن بخطوات متثاقلة بطيئة وبمرور الايام التأم الجرح 
الغائر في صدر السودان وشعبه وبدأت العجلة السياسية تسیر في حركات بالسرعة 
البطيئة ولكن سرعان ما اشتد دورانها وهي تنهب الارض علوا وارتفاعا في اتجاه 
وطريق يختلف كثيرا عما كانت تسیر عليه قبل الاحداث المؤسفة . 

.. فتحت جميع الأحزاب دفاترها القديمة وبدأت تراجع حساباتها بأسلوب مستحدث 
وجديد يتمشى مع الواقع المعاش اذ ان احداث أول مارس رغم مرارتها فقد تركت 
بصمات واضحة وظاهرة بحيث لا يمكن تجاهلها او اغفالها . 

.. اختل الميزان السياسي اختلالا واضحا بعدما ظل منذ تكوينه يسير في اتجاهين 
متضادين متخاصمين متنافرين احدهما يدعو للاستقلال والثاني يقود إلى الاتحاد ... 
اخذت الموازين والمفاهيم السياسية التي ظلت سائدة لسنوات مضت تتأرجح في غير ما 
توقف وذلك على أثر المناورات واللقاءات السياسية السرية منها والعلنية » الظاهرة منها 
والباطنة » الواضحة منها والخفية وما كان لاحد ان يتوقع إطلاقا بان موازين القوى 
الاستقلالية أخذت تثقل شيئًا فشيئًا بينما الدعوة الاتحادية أخذت موازينها تخف سريعا 
سريعا ومصر المؤيدة والمناصرة لها في غير ما تحفظ وعلى رأسها الصاغ صلاح سالم 
كلهم وضعوا أيديهم على رؤوسهم من هول المفاجأة والصدمة وهم يرون آمالهم تنهار 
طوبة طوبة » وشمس امانيهم تغرب رويدا رويداء وأحلامهم تتلاثى في غير ما توقف وما 
كانت مصر بكل استقراتها واستخباراتها وحساباتها وعيونها وأصدقائها وحلفائها 
واحبابها ومريديها لتصدق شیثا مما ترى وتسمع الا عندما بدأت تصريحات بعض 
المسؤولين الوحدويين المحسوبين عليها والغارقين في أموالها ونعيمها وحنانها ودلالها 
وعطائها بدأت ترتفع وهي تدافع عن الاستقلال وتتنكر لدعوة الاتحاد وتتخذ بذلك 
مسارا غريبا وجديدا ومفاجئا ومحيرا لم تصنع له مصر اي توقعات ولم تكن في 
الحسبان ولا ف الاحلام وبدات الاتصالات الهاتفية المرصودة بين قادة مصر وقادة 


0م 


الاحزاب الاتحادية تستفسر عن سر الذي يجري بالسودان ثم نشطت الوفود المصرية 
وعل راسها الصاغ صلاح سالم وجاءت للسودان لاهثة حائرة وظلت تسهر الليالي 
الطوال داخل الغرف المغلقة مع القادة الاتحاديين لعل وعسى ان يكون الذي سمعوه 
مجرد اشاعة مسمومة أو مؤامرة مدبرة ولكن الاصوات الاتحادية التي كانت تهمس في 
خوف وارتجاف وخجل مدافعة عن الاتجاه الاستقلالي ظلت ترتفع وترتفع في جنون 
محموم وبسرعة مذهلة شجعها وألهب نيرانها توتر الصاغ وهجومه المحموم على قادة 
الاتحاد حتى نادت وطالبت جهرا بالاستقلال وكان الرئيس الازهري على رأس من 
جاهروا بالاستقلال التام الكامل غير الرتبط بأية جهة صافعاً بذلك الصاغ صلاح سالم 
وصحفه واذاعته . 

.. كان لابد لمصر وقد اصيبت بالذهول وفقدت توازنها وهي تجري في الظلام 
بتخبط دون ان تتمكن حتى من رؤية الطريق ومسالكه المتعرجة ودروبه المتفرعة ان 
تبحث عن (القشة) في أعماق البحر ولم يبق لها من امل انذاك الا مولانا الميرغني 
رجلها الاول والاخير وظهرها وسندها القوي المنيع فلجأ اليه الصاغ صلاح سالم في 
جنون محموم وهو یشکو له طوب الارض وانه لا يمكن ان يصدق بان الازهري واعوانه 
يصلوا إلى هذا الدرك من الخيانة وعدم الالتزام بالعهود والوائیق وان يخونوا «العيش 
واللح » والعشرة الطويلة والحقائب الجلدية المنتفخة و ... و .. ومولانا الميرغني يستمع 
اليه في برود ويرد عليه بطريقته واسلوبه الفريد المميز الذي يستعمله عند الضرورة 
والضرورة القصوی . جملتان قصيرتان فقط يلجأ اليهما مولانا الميرغني عند المحن 
واشتداد الكوارث السياسية والتهرب من الواقف الصعبة وفي حالات الطواریء فقط 
(نحن رجال دين ... ولا شأن لنا بالسیاسة) . 

.. اذن ماذا هناك وماذا كان يجري .. وکیف انقلبت الوازین رأسا على عقب هكذا 
وبسرعة خاطفة وأصبح الوحدویون بين عشية وضحاها آعداء للوحدة ومن الجاهرین 
بدعوة الاستقلال . 

.. تلك كلها أسئلة ظلت تحوم في الافق السياسي تماما كما سببت صداعا دائما بل 
وسرطانا مستمرا وانهیارا تاما للصاغ صلاح سالم شخصیا وللحکومة الصرية . 

.. الحقيقة الکبری التي ذكرتها سلفا ان حوادث مارس الدامية قد فرضت نفسها 
وتربعت فوق الاحداث وعلی أثرها بدأ الاستقلالیون ینخذون مسارا جدیدا یتقربون به 
إلى مولانا اليرغني لیدخلوا معه في حلف او ائتلاف ولکن اليرغني كان في البداية 
يتجاهل هذه الحاولات لانه لايمكن ان یقبل بأن ینادی بالسید الامام عبدالرحمن الهدي 
رئیسا للجمهورية وهو حي يرزق ومع ذلك فلم تتوقف الاتصالات ولم ييأس الداعون لها 
وعلى راسهم عبدالله خلیل سکرتیر حزب الامة والقرب جدا إلى الامام الهدي خاصة 


1م 


وقد لاحظوا عن قرب ومن مجريات الأحداث ان الازهري بدا يتملص من قضية 
اليرغني ولا يعبأ كثيرا بمطالبه وتعليماته .. 

.. من الناحية الاخری كان السيد/ اسماعيل الازهري يرقب هده التحركات 
والاتصالات التي جرت وتجرى من وراء ظهره عن قرب قريب ويحصيها ويعدها 
بحيطة وحذر خاصة والسيد/ الازهري الذي تخرج من جامعة بيروت الاميركية كان من 
ابرز بل وابرز اساتذة الرياضيات في السودان . 

اشتدت حركة الاتصالات والساعي التي تهدف وتدعو لمصالحة السيدين المهدي 
والميرغني ومع هذا التيار بدأت اللقاءات تنشط بين كبار الاستقلاليين والاتحاديين 
المنضوين تحت قيادة الازهري والمحسوبين اصلا على مولانا الميرغني وأحس الزعيم 
الازهري ان خطرا ما يحوم في الافق السياسي وفوق رأسه شخصيا يهدد قيادته 
وزعامته ... أحس بذلك من داخل مجلس وزرائه عندما بدأ ثلاثة من الوزراء (الختمية ) 
يعارضونه ويهاجمونه بصوت كان همسا ثم ما لبث ان ارتفع وصار صراخا مطالبين 
بحل الحكومة واستبدالها بحكومة قومية تجمع السودان كله في صعيد واحد وما لبثت 
هذه الدعوه الني دبرت وحيكت خيوطها ف الخفاء ان اصبحت شعارا تلففه حزب الامه 
والجبهة الاستقلالیه ولکن كان الذي ینقصه مباركة السیدین الکبیرین . اند الضغط على 
الازهري لكنه كان يقاوم بشراسه وقوة واستغل کل وسائل الاعلام . في مخاطبه السشعب 
رأسا حتی كسب عطفه وتأییده ولکن في حدود لا یقوی معها على كسب المعركة كلها . 

.. شيء هام ارید ان ألفت اليه الانظار للمرة الثانية وهو انه رغم کل خلاف كان 
يسود الجو السياسي .. ورغم کل التوترات والشاحنات وتبادل الاتهامات» فان العلاقات 
الشخصية لم تتأثر بها أو یوثر فیها یوما ما . الخلاف الوحید الذي كان قد شذ وخرج 
عن هذه القاعدة الوروثة والعروفة والألوفة هو الخلاف العمیق التاصل والترسب بين 
الزعيمين الرئیسین الهدي واليرغني لانه خلاف لا یقبل الساومة ولا یحتمل التسوية 
ققد یقبل النطق والعقل السوداني منلا زواج ابن كيندي من ابنة خرتشوف ٠‏ او قبلة 
يطبعها ریجان على خد کاسترو او عناقا بين صدام حسین والخميني الا انه لا بستطیع 
لا عقلا ولا منطقا ولا احتمالا ولا املا ان يتم لقاء السیدین ولکن مع هذا ورغم کل هذا 
فقد حدثت العجزة الکبری عندما تلاقت الصالح التبادلة والنافع المشتركة التي فرضت 
نفسها قسرا وبالقوة فتم اللقاء وتمت الصالحة وامتدت الايدي تشد بعضها بعضا 
(والستحیل) ظل يراقب کل الذي يجري آمامه لانه كان مستحیلا (واحد زايد واحد 
لا يمكن ان يكون حاصلهما اثنين في السودان) في کثیر من الاحداث والواقف . 

.. اما كيف تم هذا اللقاء والستحیل فلذلك قصة اسطورية خرافية سأحاول ان 
آرویها بتحفظ شدید حتی تتضح آمامنا الصورة ونستبین آمرها ونری الى اي مدی یمکن 
للمیادیء ان تتحطم على حائط الصالح والنافع! 


AY 


.. عندما كان رجال الاحزاب منشغلين في دوامة لا قرار ولا نهاية لها اصيب الامام 
المهدي بنوبة قلبية (وهو اصلا مريض بالقلب) وعلى عجل وبأول طائرة قادمة من 
(جنيف ) وصل طبيبه الخاص الدكتور دوشوزان وبعد اجراء الفحص حذر ذوي الامام 
بضرورة أن يلزم السيد الراحة النامه والا يتعرض لاي ارهاق او اثارة فان عاقبة ذلك 
ستكون وخيمة وأعد تقريره السري الخاص وعاد إلى بلاده بعد يومين . وما ان استعاد 
المهدي صحته تدريجيا حتى إزدادت المعارك السياسية شراسة وضراوة ونزل بكل ثقله 
رغم نصائح ابنائه وأحبائه ومريديه . 

.. الشخص الوحيد الذي لم يكل ولم يمل ولم ييأس من التمهيد لمصالحة السيدين هو 
السيد /عبدالله خليل رغم ان شريحة مؤثرة من حزبه كانت ترى ان اللقاء والمصالحة مع 
الازهري أفضل وأبقى وأضمن . 

.. كان السيد عبدالله خليل قد عرض اثناء محاولاته ومحادثاته التي لا تفتر مع 
السید اليرغني للمصالحه ان یرشح ابنه محمد عثمان ليكون ناتيا لرئاسة الجمهورية التي 
سیشغلها بالطبع الامام الهدي غير ان اليرغني لم یقتنع ولم يقبل» بل عارض في عنف 
مبداً الصالحة ذاته لانه كان يعتقد في قرارة نقسه ان السید عبدالرحمن قد خطط ودیر 
في السر بان یکون ملكا على السودان باعنباره ارثا مشروعا الشيء الذي لا یمکن معه 
الوافقة او الزايدة او الساومة ناهيك عن اللقاء والصالحة ء الخاوف التي كانت تحیط 
بالیرغنی وممن حوله كبيرة لا یمکن الاطمثنان معها على اي خطوة دون تریث 


.. وبدأت في هذا الجو الشحون بالتوتر وعدم الثقة ... بدأت اللعبة السياسية تخرج 
من محیط الواجهة الباشرة للمواجهة غير الباشرة » ومن محیط العلن والضوء إلى دائرة 
السر والظلام » وتدخلت مخابرات العسکرین لتلعب لعبتها المدروسة وخطتها الوضوعة 
لتضرب بها الضربة القاضية وتسجل هدف النصر الاول والأوحد والأخير وقد اتهم السید 
عبدالله خلیل بانه كان وراء کل ما يجري وجری حتى ان الرسالة السحریه الخطيرة 
التي لا تتعدی اسطرها العشرة والتي غيرت التاریخ وقلبت الوازین السياسية قد وصلت 
إلى اصابع مولانا الليرغني بتدبیر محکم وقي ظلام شدید وسریة تامة وحذر محسوب 
وکانت اللعبة مکتمله التضوج والتخطیط ولم نترك نغرة ینقذ من خلالها سك ولا ريبة . 

.. اخرج مولانا لليرغني نظارته وما ان بدأ یطالع محتویات الرسالة السحرية 
العجيبة حتی انبهر ووقف مشدوها تحیط به الف علامة استفهام وتعجب وظل يعيد 
ويعيد قراعتها قي غير ما توقف الا انه كان تواقا ومتعجلا لعرقة بعض ماورد فيها من 


AA 


اصطلاحات ورموز طبية مما دفعه على عجل ان يستعين بالدكتور امين السيد «وزير 
الصحة » فدعاه مع من دعا من خلانه وامناء سره وأصفيائه وأمن الدكتور امین السيد 
على كل محتويات الورقة التي كانت عبارة عن التقرير الذي أعده الدكتور السويسري 
دوشوزان عن حالة السيد عبدالرحمن المهدي والذي أكد فيه بأن عامل السن مع الارهاق 
الستمر المتواصل وحياة الاثارة مع كثرة الهموم والتوتر ومشاغل العقل التي لا تتناسب 
مع الشيخوخة قد لا تسمح لحياة المهدي مع الاسف الشديد ان تمتد او تعمر لاكثر من 
نة مهن : 

.. توقف كل شيء وصمت كل شيء الا من نظرات بعيدة فارغة مشدوهة وانفاس 
تعلو وتهبط بلا توقف وانفض بعد ذلك اقصر وأخطر اجتماع في حياة مولانا الميرغني 
واتخذ على اثره القرار الذي توصل اليه بعد اقتناع شديد . 

.. ولم تمض ايام قليلة جدا حتى تمت المصالحة بين السيدين الكبيرين وقام الامام 
عبدالرحمن المهدي باول زيارة لنده في ٠١‏ نوفمبر ۱۹۵۵ وبعد اسبوع واحد رد السيد 
علي الميرغني الزيارة للامام عبدالرحمن في قصره المنيف بالخرطوم ولكن ماذا حدث. 
وماذا بعد هذا «اللقاء» المستحيل؟ ! 

.. اهتزت البلاد من اقصاها إلى اقصاها والتفت جماهير الانصار والختمية في الازقة 
والشوارع وفي الحارات والاسواق وفي الميادين وفي كل مدينة وقرية التفت بالعناق الحار 
والأحضان الدافئة وذبحوا الابل والنوق والشياه والخراف والاغنام والماعز وظلت طبول 
الفرح تدق وتدق والزغاريد ترتفع إلى عنان السماء بعد ان تهز الارض هزا حتى ان 
بعض المراقبين وصفوا اللقاء بانه كان أكبر حدث في تاريخ السودان على الاطلاق 
وبالطبع فان اكثر الناس سعادة وفرحة بهذا اللقاء كان السيد عبدالله خليل . 

.. وقع خبر لقاء المصالحة بين السيدين على السيد اسماعيل الازهري ورفاقه 
الحقيقيين القدماء من حزب الاشقاء وقوع الصاعقة اذ كان يحمل كل نذر الشر للحزب 
الوطني الاتحادي الذي ضم الاحزاب الاتحادية بما فيهم شريحة كبيرة وموثرة من 
الطائفة الختمية التي تقع تحت قبضة مولانا الميرغني وعقد مجلس الوزراء اجتماعا 
عاجلا برئاسة اسماعيل الازهري للناقشة الاحتمالات السياسية المترتبة على لقاء السيدين 
بعد مساورات جانبية جرت بين قادة الحزب وعدد من نوابه استعرضوا خلالها اللاحداث 
المتلاحقة لكن الرؤية لم تكن واضحة بسبب الضباب والغبار الذي ملا الساحة السياسية 
وكان عدد كبير من الوزراء والنواب من أصول (ختمية) تتفاوت في ولائها وطاعتها 
لزعيم الطائفة مولانا الميرغني . 

وتوالت الأحداث بسرعة البروق الخاطفة للقلوب والابصار فلوح ثلاثة من الوزراء من 
جانب الميرغني مهددين بالاستقالة وهم السيد ميرغني حمزة وزير الاشغال وخلف الله 


۸۹ 


خالد وزير الدفاع ومحمد نور الدين (الوحدوي الاندماجي ) وكان وزيرا للاشغال ولكن 
الرئيس الازهري عاجلهم بالضربة القاضية (فتغدى بهم قبل ان يتعشوا به) فقام 
بفصلهم اجمعين بعد مقدمة وعنوان أصبح بارزا ومعروفا للازهري هو: إلى من يهمه 
الامر سلاما . نم يذيع بيانه وغالبا ما يكون بفصل وزير او وكيل وزارة او نائب برلماني . 

.. على أثر لقاء السيدين التاريخي ظهرت على سطح الاحداث ولأول مرة ما سمي 
بجبهه الاحزاب المؤتلفة كرد فعل سريع وعاجل للقاء والمصالحة وهي تركيبة او خلطة 
جمعت (الشامي على المغربي) كما يقولون . 

.. كانت خلطة سياسية غير متجانسة لا في الفكر ولا في السياسة ولا في الانتماء 
جمعت بين الاستقلالي المتطرف والوحدوي الاندماجي وبين المطالبين بالحكم الفدرالي 
بين الشمال والجنوب وبين الداعين للانفصال والوحدة وبين الشيوعيين ومشايخ الطرق 
الصوفية والنظار وزعماء القبائل واخيرا جمعت بين الانصار والختمية (سمك - لبن - 
تمر هندي - سفن أب). الحقيقة التي لابد من الاعتراف بها هي ان التجمع الجديد 
الذي ظهر کالنبت الشيطاني والذي يضم زعماء الطائفتین وتابعیهم وتابعي تابعيهم 
والجنوبیین والشیوعیین كلهم .. كلهم زائد مصر وصلاح سالم شخصیا جمعهم وألف بين 
قلوبهم وعفولهم وحناجرهم شيء واحد وواحد فقط هو الاطاحه بالازهري مرة واحدة 
وإلى الابد اما بعد ذلك ماذا يحدث فهذا شيء غير مهم وغير وارد وغیر محسوب ... 
الازهري اصبح الهدف والوقع والیدان والعرکه ولکن الازهري كما قلت كان يضع 
حساباته بدقة متناهية وبحذر وتخطیط فهو قطب علم الریاضیات في السودان ورجل 
صلب يتلذذ من آجواء العواصف والتحدیات فلن ينحني للعاصفة وما هزت شعرة من 
رأسه وما عاد يهتم کثیرا بمشاركة قيادة الختمية في اتخاذ القرار بل صرح في اکثر من 
مناسبة بانه یحمد الله الذي حرره من قیود الطائفية الثقيلة التي ارهقت اقدامه » وشدت 
واقه کثیرا حتی لم يعد یحتملها » وأمام هذا التیار الکبیر الکاسح لجأ الازهري لخاطبة 
جماهیر الشعب السوداني الواعي الواعد فلم تخدله ولم تتخل عن فیادته . 

.. آمنت بدعوته للتحریر من قبضة الطائفية والقبلية وعلى الرغم من موجه العطف 
اللتهبة التي آزرته وایدته الا ان ذلك لا ينفي حقيقة واقعة هي انه امام خصوم عناة 
اشداء لن یقوی زعیم على مواجهتهم الا بانتشار التعلیم والوعي والتحرر وقد يأخذ ذلك 
زمناً طویلا لن يحضره الازهري على کل حال ولکن محاولات الازهري وعدائه الساخر 
للطائفية كانت بصمانها ظاهرة وواضحة في الشارع السوداني ولکن كيف وال متى 
یستطیم الازهري الصمود والبقاء وهو يواجه تجمعا کبیرا وهائلا وهادرا يسبه تماما 
طوفان (نوح ) وانطباق البحر على فرعون ! ؟ 

.. نجح عبدالله خلیل بعد محاولات لم تعرف الیأس ولم تؤمن بالستحیل في تحقيق 


غايته التي ظل يسعى لها ويلاحقها حتى تم اللقاء بين الندين المتضادين اللدودين 
وزينت الاذاعة والصحافة صدر أخبارها بهذا الحدث التاريخي الهام في مسيرة السودان 
وراح الشعراء والكتاب والمعلقون يصفقون له ويثنون عليه ويباركونه في غير ما تحفظ 
باعتبار انه وضع خائمة لاحزان السودان وقضى على التفرقة والخلاف ويسر كثيرا من 
الصعاب والعقبات التي كانت تعترض طريق الاستقلال . 

. حدث کل هذا دون ان یلم احد بعد بتفاصیل اللقاء وماذا جرى بين السيدين ف 
لقائهما الاول الذي دام عشرین دقيقة فقط كما لم یعرف " تفاصیل اللقاء الثاني وقد ظل 
السیاسیون القربون من السیدین لا یزیدون في تصريحاتهم بان لقاء السیدین هبة ونعمة 
من السماء لانه لقاء الاحبة في الله والدین والوطن ولاعلاقة له بساس وبسوس غير ان 
کل هذه التصریحات لم تشبع تطلعات الناس مما جعل رجال الصحافة یضغطون 
ویلهنون وراء الزید من العلومات . 

.. طلب الصحفیون والصورون الحلیون والاأجانب من الزعيمين الجلیلین في لقائهما 
الثاني عند خروجهما من بهو القصر الهدوي الضیف ان یعلقا بأي شيء وان یسمح لهم 
باخذ صورة تذكارية» عندما قال اليرغني انه اعترض على التصویر في منزله وهو 
یعترض عليه هنا حتی لا یفرق بين الدارین ولکنه عندما علم ان الصورة للصحف قال 
في حصافته العروفة وذکائه التشدد : 

«ان الصحفیین یأخذون عادة صورهم بلا استئذان فأعتبر هذا تلميح ذكي من 
اليرغني والتقطت لهما بعد ذلك عشرات الصور ونشرتها صحف الیوم التالي التي نفدت 
في الأسواق بمجرد صدورها ذلك لان آنصار الطائفتین قد قطعوا صور اللقاء العظیم 
مق الصحقة ويروزوها وعلعوها ,قي بيوتوم ومد جرهم سرب والدكرق الغطرة , 

تطاولت الأعناق في كل مكان خاصة في دور الصحف بحثا عن نتائج اللقاءين ولا 
أدرك السيدان ان الشعب السوداني كله في شوق وقلق وشغف يتطلع إلى معرفة اي 
شيء» قاما بتفويض الصديق نجل المهدي والقاضي الدرديري محمد عثمان من المقربين 
جدا للميرغني باعداد بیان يذاع للشعب السوداني وبالناسبة فقد نفدت ايضا كل 
الصحف التي نسر نه ف ساعات فليلة بعد صدورها لان اعدادا كبيرة من المريدين 
والاتباع (قطعته) وقامت ببروزته وعلقته ایضا على جدران النازل وحیطان وواجهات 
المتاجر والطاعم . 

.. صدر البيان وكان قصيرا ليشتمل على اربع فقرات رئيسية بدأت بعزم السيدين 
على الوقوف متكاتفين (متلاصقین) باسم الله والصلاة والسلام على رسوله في كل ما 
يعود على الامة السودانية بالخير والسعادة والحرية والسيادة الكاملة . واظهرا حرصهما 
على ان تجتاز البلاد هذه المرحلة الدقيقة بطمأنينة وسلام . ثم أهاب السيدان بالمواطنين 
جميعا ان ينسوا ذواتهم في سبيل خدمة وطنهم حتى يتوفر الاستقرار والطمأنينة 


8١ 


الضروریان في هذه الظروف العصيبة ليتهياً بذلك الجو اللائم لتعاون جميع الاحباب 
والمريدين على البر والتقوى وطاعة الله ورسوله والخير العام . 

.. ثمة سوّال ظل يلح في خاطري باحثا عن اجابة » ولعل نفس السوّال خطر على 
بال الکنیرین : 

(ترى هل كان الامام المهدي وهو في غمرة افراحه وتشوته واخلاصه وكثرة تطلعه 
وشوقه للقصر الجمهوري (قصر ابيه) .. ترى هل كان يعرف او حاول ان يعرف ناذا 
قبل مولانا الميرغني لقاءه ومصالحته هكذا فجأة وبسرعة وبلا توقع ... ثم هل عرف 
الاجابة فيما بعد ام ظل يجهلها حتى مات!؟ 

جاهر الازهري بتمرده على قيادة الختمية وبتمرده كذلك على مصر اللتين لولاهما 
معا لما استطاع ان يكتسح الانتخابات ويصبح أول رئيس وزراء للسودان وذلك اثر 
عودنه من زيارته المشهورة لانجلترا .قليلا قليلا انقطعت کل حبال الود والمحبة والتعاون 
بينهم وظلوا في كثير من المناسبات يتبادلون الاتهامات ويهاجمون الازهري غمزا وهمزا 
ويصفونه بالعقوق والجحود ونكران الجميل مما جعله يتمسك اكثر واكثر بدعوته 
للاستقلال التام (ودون الارتباط باحد) حتى انقلب الهمز والغمز فيما بعد إلى صياح 
شدید ظلت تردده مع المعارضين اذاعة وصحافة القاهرة والصاغ صلاح سالم الذي قبل 
المستحيل بتعاونه مع الزعيمين يجمع بينهم هدف واحد هو اسقاط الازهري وليكن بعد 
ذلك ما يكون! 

مضت الجبهة الجديدة المتصالحة التي توحدت كلها في الأحزاب المؤتلفة تضغط 
وننادي بضرورة تكوين حكومة قومية » كما ظهر انجاه جديد مستحدث ف الاقق 
السياسي وهو اعلان الاستقلال من داخل البرلمان بدلا من الجمعية التأسيسية او 
الاستفتاء الشعبي لان كلاهما أمر ساق ومرهق ومكلف وقد تكون الظروف في الجنوب 
غير ملائمة لعملية الاستفتاء بسبب الخريف ولكونه خرج حدینا وقويا من حرب اهلية 
طاحنة . 

.. كان معروفا ان حزب الازهري يرفض وبصورة قاطعة الدخول في حكومة قومية 
مادام وضعه الحكومي مريحا واغلبيته البرلمانية كبيرة ومطمئنة الا ان بوادر العصيان 
والتمرد عليه من داخل صفوفه بل ومن وزارته وهيتته البرلمانية اخذت تظهر واضحة 
جلية بعد ان أوعز اليها مولانا الميرغني فاخذ تابعوه ومريدوه يعلنون التمرد والعصيان 
والخروج من الوطني الاتحادي والانضمام إلى الاحزاب المؤتلفة حيث بارکها زعيمهم 
ومولاهم الميرغني ولم تمض ايام قليلة الا واخذت اغلبية الازهري البرلمانية التي يعتمد 
عليها اساسا في الحكم تنکمش قليلاً . . قليلا حتی اوشکت ان تصل مشارف الضوء الاحمر وقد 
ينشط سوق النخاسة ووصلت حقائب صلاح سالم المنتفخة التي كانت لعهد قريب من 
الزمن تصب في أطراف الازهري وتوضع تحت تصرفه ... تحولت ضده إلى الجانب 


۲ 


الاخر فتحول معها عدد كبير من النواب . والذين عاصروا تلك الفترة والفترات التي 
تلنها يتذكرون كيف كان النواب يباعون ويشترون في مواقف معينة قبل حالات سحب 
الثقة من الحكومة لو لومها او اجازة الميزانية حتى أصبح لكل نائب من هؤلاء سعر 
محدد ومعروف بل وله وسطاء وسماسرة . 

.. تزايد الضغط على الازهري مما اضطره وهو يقف على حاقة الهاوية وبعد ان 
تقلصت اغلبيته في البرلمان من ستة وتسعين نائبا إلى واحد وخمسين حتى صار يحكم 
باغلبية صوت واحد او صوتين اضطر ان ينحني قليلا إلى العاصفة العاتية ويبدي بعض 
المرونة «البعبع » الحكومة القومية الذي ظل شبحه يلاحقه صباحا ومساء فلمح مرغما 
بقبول المبدأ وشكل وفدا من رجالاته للتشاور مع خصومه اللدودين بشأنهاء ولكن 
الازهري كما قلت اكثر من مرة كان يتلذد ویستمنع بالمواقف الصعبة لانه كلما خرج 
منها سلیما اعطته مناعة اکثر ومنحته تأييدا شعبیا أكبر خاصة وقد كان في تلك الظروف 
مصدر عطف وشفقة من الشعب وهو يرى شخصاً واحدا یصارع طائفتین کبیرتین 
قویتین یساندهما مصر الحکومة والصحافة والاذاعة (اسود کبيرة تطارد حمامة 
صغيرة ) . 

.. كان الازهري قد أعد حساباته جیدا وعندما يحل العادلة الصعبة التي تواجهه 
يبدأ عادة في «للمة» جمیع آطراف الخیوط البعثرة حتی اذا ما استقامت وانحنت ثم 
استسلمت في لين بين اصابعه ضرب ضربته القاضية وکثیرا ما تکون قاتلة حیناً وموجعة 
احیانا ! 

.. كان التقاوضون من رجال حزبه هم مبارك زروق والرضی ویحیی الفضلي هم 
زملاوه ورقاق دربه في حزب الاشقاء بل ومن نفس الحي والدرسة یعرفون کلامه من 
النظرات واللمحات ویدرکون غرضه وهدفه من مجرد الصمت أو الضحك فکانوا (من 
نفس الطينة والعجينة) ولهم باع معروف ومعترف به ومشهود له في القالب والتأمر 
ونصب الشراك وتصید الاحداث ویبدو انهم اتفقوا فیما بینهم على اطالة الفاوضات 
واختلاق عملیات المد والجزر وقطع الجلسات وتأجیلها لیوم او یومین حتی یعرضوا 
الأمر للازهري ورجال الحزب ..و ... ومضت الساعات والايام وکلها كانت لصالح 
الازهري خسب ما آعد وخطط وهو یماطل ویسوف ویوجل بینما يلوح في الصحف کل 
یوم بانه يبارك الحکومة القومية ویوّیدها وانها ستری النور عما قريب ان شاء الله وعما 
قريب هذه أخذت تطول وتعرض وتنتفخ حتی استنقدت کل آغراضها مما لفت الیها 
أنظار الأحزاب المؤتلفة التي ما کادت تلوح باسقاط الحکومة حتی اصدر الازهري بیانا 
انتظره الشعب وعلی رأسه الاحزاب المؤتلفة «بفارغ الصبر » نقتطف من أجزائه الهامة 
مایلی : 


۹۳ 


اولا: ان الحكومة القومية بالصورة المقترحة من قبل الاحزاب المؤتلفة لا تعني اكثر 
من اتاحة الفرصة لها للاشتراك في الحكم مما يتجافى مع المبادىء الدستورية والاوضاع 
الديمقراطية » ولكن الحزب الوطني الاتحادي يقبلها على اساس تحقيق مصالح وطنية 
عليا وهي الوصول إلى الاستقلال الكامل غير المشروط بشرط او المقيد بقيد من أحلاف 
ومعاهدات او «مركز ممتاز لدولة من الدول». 

انیا : ان يتم تقرير المصير وتحقيق الاستقلال بأقصر الطرق واقراره من داخل 
البرلمان . 

ثالثاً: اذا وافقت المعارضة على هذه الاسس فانها تمثل في الحكومة القومية بنسب 
عدد نوابها في البرلمان . 

وما ان صدر هذا البيان حتى قامت زوبعة سياسية لا حد لها وأخذت تصريحات 
قادة وزعماء الاحزاب المؤتلفة تنهمر على الصحف کالخریف المجنون وهي تعترض عليه 
وتهاجمه . وسبب بيان الازهري وشروطه للحكومة القومية ليلا طويلا متوترا لاحزاب 
العارضة وما ان اصبح الصبح بعد قلق وسهاد وظماًء حتى أصدرت بياناً ترد فيه على 
الازهري نقتطف منه اهم العبارات : 

أولا: ان شروط الوطني الاتحادي (ازهري) معناها رفض صريح للحكومة القومية 
مما يعني انه الوحيد الذي لا يقدر دقة الوضع وحساسية الموقف الذي يمر به السودان 
وانه يتشبث فقط بمقاعد الحكم . وفي الختام قال البيان ان قيام الحكومة القومية يعني 
ان البلاد يمكنها مواجهة اي خطر من الداخل او الخارج صفا واحدا موحد الهدف . 


الظروف تتدخل 


في هذا الجو المتوتر والمشتعل تدخلت الظروف لتعين الازهري المحتاج فعلا إلى 
الاعانة وهذه المرة جاءه الغيث والمدد من الخارج عندما نشرت جريدة التايمز البريطانية 
تفاصيل الاتفاق الانجليزي المصري الذي وقعه وزير الخارجية المصرية والسفير 
البريطاني في القاهرة وأدخلا بموجبه تعديلا على اتفاقية ۱۲ فبراير ۱۹۵۳ (تقرير 
المصير) كما وقعا على ملحق جديد حدد عمل الجمعية التأسيسية بوضع دستور وفق 
نتيجة الاستفتاء بإشراف لجنة دولية منحت صلاحيات خطيرة تعطيها السلطة لتاجيل 
«كل عملية تقرير المصير اذا ما قررت ان هناك ظروفا او تدخلا يجعل من المستحيل 
على الناخبين ان يعبروا عن ارائهم في حرية وعدم تحيز في الانتخابات وفي الاستفتاء ». 

.. مضت الاقدار تمنح ازهري كل حبها وصداقتها وودها وعواطفها ففي اليوم 
الثاني جاءت الاخبار وايضا من خارج الحدود بان الهند اعلنت تعيين مندوبين في اللجنة 
الدولية المنتدبة للاشراف على تقرير المصير في السودان كما اعلنت يوغسلافيا ايضا عن 


٤ 


نعيين مندوبيها وقالت الاخبار ان وكيل وزارة الخارجية المصرية سلم مبعوئي تلك الدول 
نص الاتفاق الذي ابرم بين مصر وبريطانيا حول هذه اللجنة .. 


.. وهنا جر الأزهري أول الخيط وقامت القيامة في السودان وفي دوائر الأحزاب 
عندما أعلن الراديو هذه الاخبار وقال الأزهري في نبرات حزينة مخاطبا عواطف 
الشعب السوداني وهو ادرى كيف يمكن ان يتلاعب بالعواطف السودانية فيلهب 
مشاعرها ويغليها من الداخل والخارج ويجعلها تثور وتتهيج وتتشنج فقال الازهري 
معلقا على اخبار الخارج المزعجة : 

(اخواني كل ذلك يحدث وحكومتكم الوطنية الشريفة صاحبة الامر والشورى لا 
تخطر ولم تخطر بالاتفاق الانجليزي المصري الذي تم وراء ظهورنا ونيابة عنا وعنكم 
یاشعبنا العظيم الباسل ونحن قد بلغنا ولله الحمد الرشد لكن الاستعمار قد طعن شرفنا 
ومرغ كرامتنا في الوحل عندما جعلنا في موضع (كالزوج آخر من يعلم) وفي صراخ 
متشنج هتف الازهري يسقط الاستعمار ونحن الاشراف و ... و .. وخرجت المظاهرات 
وتدفقت سيول الجماهير الهادرة في الشوارع ورددت الهتافات في كل مدينة وقرية حتى 
تربع صوت الازهري المثير وعباراته المهيجة المهتاجة على قمة الاخبار والنشرات والاذاعة 
والاحراش والمجالس فاسقط في يد المعارضة ولم يعد امامها من خيار الا ان تجاريه 
وتلاحقه وهي لاهثة متهالكة لا تقوى على رؤية شيء امامها بعد ما خطف منها الازهري 
كل المصابيح والأضواء وظلت الجماهير تشيد بشجاعته وأصالته وجرأته وتهتف بحياته 
طيلة تلك الامسية وصباح اليوم التالي . 

.. قال لي صديق خبيث من القربین للازهري بعد مدة من هذه الواقعة ان الازهري 
اعدها ودبرها وطبخها ووضعها في صحن من الفضة وقدمها للشعب الذي اقبل عليها 
وخطفها بشراهة وأكلها وهضمها بما في ذلك رجال الاحزاب المؤتلفة وان عملية الإثارة 
والهياج والتشنج التي أبداها الازهري كانت من تأليفه واخراجه وتمثيله ولكن الازهري 
كان امام المقصلة ولابد له ان ينقذ نفسه وحياته ومستقبله ومستقبل حزبه ولابأس مما 
فعل مادام قد حقق غرضه وضرب ضربته في النهاية وكانت موجعة هذه الرة! 

كسب الازهري ثلاثة ايام وهي كثيرة كثيرة بعمر الزمن اذ لم يبق على اعلان 
الاستقلال وهو هدفه وغايته وضالته سوى ايام معدودات وبعد نهاية الفصل الاول من 
الدراما عادت وفود الاحزاب تنعقد وتنفض وتحاور وتناور والصحافة المحلية تعكس 
وتنشر ما حولها ولكنها لم تكن وحدها هذه المرة في هذا الميدان المثير الشتعل فقد 
شاركتها صحف مصر وبريطانيا عندما نقلت اذاعة الجمعة 4 ديسمبر الحوار الذي دار 
بين صحيفة (نيوستيتسمان اندنيشن) والرئيس الازهري حيث قال الازهري ردا على 
احد اسئلتها المثيرة للخلاف انه يؤيد قيام الحكومة القومية فورا ولكن بعد اعلان 


۹۵ 


الاستقلال مباشرة ان شاء الله وعندما اثارت الصحيفة الاشتراطات التي اعلنها حزبه 
وخصوصا الاشتراط الذي جاء فيه وجوب موافقة الدولتين المتعاقدتين على ان يقرر 
البرلان الحالي مصير السودان . قال رئيس الوزراء الازهري : 

«ان هذا الشرط أسيء فهمه وليس معناه ان يتأجل قيام الحكومة القومية». 

عموما ظل الازهري يخلق من الحبة قبة ويصطنع المشاكل ويتعمد الاثارة حتی يدير 
الرؤوس ویشغل كل الناس ويخلق بذلك جوا متوترا ومضطربا يحول به الانظار ويغير 
به" امسار لنکست: ولو سناعات من الزمن: 

قلت في غير مرة ان الازهري كان على موعد دائم مع القدر ويبدو انه دخل معه في 
حلف دفاع وهجوم كما وقع معه معاهدة صداقة وسلام وحسن جوار اذ ما ان جاء يوم 
الائنین ۱۲ دیسمبر حتی حمل في منتصفه حدئا رئیسیا وبارزا من أحداث تلك الایام 
التوترة فقد قام السید/ نكس هلم الحاکم العام بزيارة غير متوقعة للازهري وابلغه بنباً 
استقالته ثم ما لبثت الاخبار ان تدفقت عبر البرقیات من لندن والقاهرة فقد حمل بیان 
وزارة الخارجية البريطانية الذي اذاع فيه استقاله الحاکم العام ان سفير الملكة التحدة 
في القاهرة أبلغ رئيس الوزراء الصري بأن حکومة صاحبة الجلالة مستعدة لقبول استقالة 
الحاکم العام وانها لا تنوي ترشیح حاکم بريطاني اخر لیحل محله واضاف البیان ان 
حكومة صاحبة الجلالة تقوم الان بمشاورات مع الحکومة الصرية على الخطوات التي 
يجب اتخاذها بخصوص منصب الحاکم العام متوخية في ذلك ما تتطلبه الاتفاقية 
الانجلیزیه المصرية من ضرورة ایجاد جو حر محاید فیما تبقى من فترة قصيرة جدا 
لنقریر الصیر . 

.. وجاءت كذلك الاخبار سريعة وکبیرة وخطیرة لاحقه من الفاهرة تقول ان 
مصادر مصرية مسوولة وکبيرة (جمال عبدالناصر ) بان مصر ستوافق على کل ما یجمع 
عليه السودانیون بما في ذلك تقرير الصیر في البرلان سواء اقر السودانیون الاستقلال 
التام أو اقروا اي صيغة من صيغ العلاقات الميزة مع مصر . ولکن مصر تشترط الوافقة 
على کل ذلك ان تؤول سلطات الحاکم العام اولا إلى لجنه قومية یتفق علیها السودانیون 
وبسرعه حنی لا یحدث اي فراع دستوري . 

وف نفس ذلك الساء تحرکت مصر بسرعة کبيرة واستطاعت ان توصل قرارها ذاك 
إلى كل زعماء الاحزاب السودانية بل إلى الشعب بأسره . والواقع ان مصر الشقيقة 
الکبری اعطت السودانیین في تلك الناسبة دعما قویا ودفعتهم دفعا لاتخاذ خطوتین 
اساسیتین : 

اولا: اختیار رأس الدولة السوداني حالا وبسرعة . 

انیا : تقریر الصیر عن طريق البرلان . وقالت مصر في کلمات واضحة ان کل ما 
یجمع عليه السودانیون سیتحقق على الفور وان الوقف كله في ايديهم وحدهم دون 


15 


سواهم وهم يستطيعون باتفاقهم واتحاد كلمتهم ان ينالوا ما یشاژون . 

ادن فقد ظهر «جمال عبدالناصر » في الصورة وبشکل واضح وبارز وظهرت معه 
نغمة جديدة ما كانت معروفة ولا متوقعةمن أحزاب السودان وشعب السودان اذ لاول 
مرة بدأت مصر الجارة الوفية تخاطب السودانيين كلهم لا الجانب الاتحادي فقط كما 
كانت تفعل . كانت تخاطبهم جميعا كاشقاء متساوين امامها كأسنان المشط لا تفرق 
بينهم كاحباب واشقاء وجيران . 

كان لهذه النغمة الجديدة الحلوة المسكرة للسياسة الصرية وقعا طيبا ومؤثرا على 
الشعب السوداني بكل أحزابه وطوائفه وقد أشاد بها وطرب لها حتى خصوم مصر 
التقليديين وتجاوبوا معها على الفور فتم الاتفاق على اختيار لجنة قومية (مجلس السيادة 
فيما بعد) لتؤول اليه سلطات الحاكم وتسد بذلك أية ثغرة دستورية . 

عرف السودانيون كلهم ان جمال عبدالناصر قد اکتشف اللعبة الاستعمارية الخطيرة 
وراء استقالة الحاكم العام المفاجئة حتى يحدث فراع دستوري واضطراب وهرج ومرج 
في الاجواء السودانية قد يمنح بريطانيا فرصة تهدم فيها كل شيء وتعود للسودان من 
. (الشبابيك او الازقة الخلفية ) . 

الم اقل لكم اكثر من مرة ان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ذلك الشاب الذي 
قضى زهرة عمره في السودان قد عرف الشعب السوداني كما عرف سعبه وانه کون عنه 
فكرة معينة آمن بها منذ ان كان (ملازما) حتى صار رئيسا للجمهوریة!؟ أخذت 
الصحف تتناول في تعليقاتها وأخبارها موقف مصر الجديد وأخذ قادة وزعماء الحكومة 
والمعارضة يرحبون ویثنون عليه وكان أبلغ ما قيل هو تصريح للسيد مبارك زروق وزير 
الواصلات وزعيم مجلس النواب في جلسة هامة في البرلان حين قال: 

«الحمد لله لقد ذهب الخوف وزال القلق والتوتر إلى غير رجعة من اعتراض مصر او 
انجلترا على قرار اعلان الاستقلال فمصر صرحت مشكورة بلسان ناطقها الرسمي بانها 
توافق كل الموافقة على مايقره البرلمان وانجلترا كذلك لا تمانع » انتقل زروق بعد ذلك 
إلى الموضوع الحساس وهو الحكومة القومية فوصفها بانها الجهاز الذي سينفذ كل شيء . 

استمرت المفاوضات المشتركة بين الأحزاب المؤتلفة والوطني الاتحادي (الأزهري) 
صباحا ومساء وهي تبحث عن وسيلة مناسبة ومعقولة تتفق عليها لقيام الحكومة القومية 
وبعد اخذ ورد وعطاء وخلاف وكلام ونقاش طويل ومطول.ء وافق الجميع بعضهم (على 
مضض ) وسلموا للازهري برئاستها باعتباره صاحب الاغلبية ولانه رئيس الوزراء الاول 
والحالي ولان اسمه ارتبط بکل خطوات الاستقلال . 

التقت الاحزاب واتفقت على الجانب الهام وهو رئاسة الوزارة وکان ذلك في منتصف 
دیسمبر ۱۹۵۵ ولکن الأزهري الذي وصفته في مناسبات سابقة بانه یتلذذ من الفوران 


۹۷ 





الرئيس المصري جمال عبدالناصر مع اسماعيل الازهري 


والعراك السياسي ويستمتع جدا بالنازله والمبارزة فجر قنبلة مدوية لم تكن في حسبان 
احد خاصة في الجانب الاخر فقال في كلمتين للصحافة والاذاعة . 

«انني سأعلن الاستقلال يوم الاثنين القادم باذن الله وعونه من داخل البرلمان سواء 
اتفقت الأحزاب ام لم تتفق»... وقامت القيامة وحدث الفوران الذي قصده الازهري 
وهاجت وماجت قوى المعارضة ضده بما فيها الامام المهدي ومولانا الميرغني والأحزاب 
المؤتلفة» اما مصر فقد اختفت تماما من الصورة ومن دائرة الضوء ولم تتدخل في هذا 
الذي يجري لا من قريب ولا من بعید » حتى صحافتها واذاعتها توقفت عن نشر واذاعة 
اي شيء يجري في السودان. لا استجابة لتهديدات الهدي او غیره » ولكن لانها كانت 
نؤمن بالذي تفعله . وبذلك ضرب الازهري هذه المرة ضربته التي لم تكن موجعة 
فحسب بل كانت القاتلة القاضية ! 

.. ما ان افاقت المعارضة من آثار انفجار «القنبلة الازهرية » التي هزت الارکان 
والاقدام حتى دعت لاجتماع خطير عاجل ومشترك بينها وبين خصمها اللدود الوطني 
الاتحادي (الازهري) فحضره نيابة عنه السيد/ مبارك زروق الذي سارع قبل ان يشتد 
النقاش وتدور ساقيه الخلافات فقدم للمجتمعين مفاجأة مثيرة دارت معها الرؤوس قبل 
ان تفوق وتلين فعرض صيغة الاقتراح الذي سيقدمه في جلسة الاثنين وفيما يلي كلماته 
وأسطره القليلة الكبيرة : 

«انه من رأي هذا المجلس ان يكون السودان دولة مستقلة كاملة السيادة ويطلب من 
الحكومة ان تتصل بالدولتين المتعاقدتين فورا للاعتراف بذلك ». 


۹۸ 


9 الفصل الثامن ¢ 


© الازهري يسحب البساط من الجميع ويعلن الاستقلال . 
© الأزهري ومحجوب يرفعان العلم . 
© نهاية الصاغ صلاح سالم . 





.. ما أن اعلنت الدولتان المعنيتان موافقتهما على استقلال السودان حتى بدأ الرئیس 
الازهري يستعجل اللعبة التي خطط لها منذ أمد طويل وسرعان ما جمع بين اصابعه 
كل خیوطها. فقد انتهز مجلس وزرائه حسن نوايا الدولتين فقرر ان يعلن الاستقلال 
فورا ومن داخل البرلمان وكان الازهري يتسابق مع الزمن بسرعة شديدة ولكن بحذر 
اشد . ففي الوقت الذي فاجا فيه مندوبه السيد مبارك زروق وفد الاحزاب المؤتلفة 
بقراءته لصيغة الاقتراح لاعلان الاستقلال والذي كان وقعه عليهم كوقع الصاعقة. حتى 
ثاروا وهاجوا وماجوا وأعلن السيد ميرغني حمزة (الختمي) والوزير الذي فصله 
الازهري » اعلن ان موضوع اعلان الاستقلال من الاهداف التي اتفق عليها مسبقا بان 

ققها الوزارة القومية لا حزب منفرد او شخص بعينه وانه لابد من اتصالات مع 
الدولتين لايجاد تفاهم حتى يكون الاجراء مضمونا . وبدأت الساقية تدور والنقاش يطول 
وما كانوا يعلمون ساعتها ان الرئيس الازهري كان في دار الاذاعة يخاطب الشعب رأساً 
وباسلوبه (البلدي) العاطفي - بلا نحو ولا قواعد ولا شعر - الشيء الذي حبب فيه 
قاعدة الجماهير العريضة . كان يخاطبهم دائما بلغة الشارع ويستميل العواطف لدرجة انه 
كان أقدر الزعماء على الاطلاق في اثارة الناس واکتساب عواطفهم ومشاعرمم وتأييدهم 
منی ما اراد ومتى ما دعته الظروف إلى ذلك . 

ما أحوج الأزهري الیوم بل اللحظة وهو يختتم قصة کفاحه الطويلة الريرة وقصة 
صراعه الأمر مع السيدين العملاقين والأحزاب المؤتلفة ... ما أحوجه إلى الناس وقد 
جاءت فرصته ودقت ساعة التاريخ لتعلن نهاية كفاح وبعث أمة . 

قطع الارسال الاذاعي ليعلن للشعب السوداني ان السيد اسماعيل الازهري رئيس 
مجلس الوزراء سيلقي بعد لحظات بيانا خطيرا وهاما فانتظروه .. ظل المذيع يكرر 
هذه العبارة التي لها مدلولها الكبير في تلك الساعات الحرجة من تاريخ السودان .. ظل 
المذيع يطلب من الشعب انتظار البيان» ولكن الشعب كله توقف وماتت الحركة في كل 
مکان؛ والتف الناس حول الذیاع وكل يتطلع إلى جاره ويراهن بان الأزهري سيعلن 
استقالة حكومته وتشكيل الوزارة القومية . 


والذين ذهبوا إلى هذا الاستنتاج كانوا الغلبة والكثرة وهم محقون فيما ذهبوا اليه لأن 
ذلك كان موضوع الساعة الشاغل» ولكن ما ان جاء صوت الازهري وبدا - وكثيرا ما 
كان يحيي المواطنين بمطلع اغنية سُعبية مازالت عائشة في الشارع السوداني .. 

ايها المواطنون والمواطنات 

«ازیکم ... كيفكم ... انا ما غریب ... أنا منكم » 

وبدأ الازهري خطابه الطويل الخطير الهام الذي شد اليه العقول والقلوب معا . اورد 
بايجاز اهم ما جاء فيه: 

«بعد ايام لا تزيد على اصابع اليد الواحدة سيهطل علينا المطر من السماء في عز 
السناء ... سيهطل علينا هذا الخريف فتخضر ارضنا وزرعنا وضرعنا وعقولنا وقلوبنا 
وأجسادنا .. بعد ثلاثة ايام سأعلن ومن داخل البرلمان الاستقلال التام غير المشروط 
بأحلاف او تمييز ... الاستقلال الذي سيحدد علاقتنا مع الجميع بكرامة وشرف على قدم 
الساواة » لا فرق عندنا بين احمر واصفر واخضر وابيض وحبيب وجار الا بما تمليه 
علينا مصالحنا ومصالح السودان العظيم الحر المستقل العملاق وعاش السودان حرا 
فاا دوعا ا الناسل وت نقد اوها ان انه من خطانه حي فامت 
القيامة وخرجت المواكب الهادرة وملأت كل الطرقات حتى النساء اللاتي لم يعتدن 
انذاك الخروج» ساهمن بزغاريدهن وهتافاتهن بحياة الأزهري الذي سحب البساط تماما 
من تحت الزعيمين الكبيرين ومن الطائفتين العملاقتين ومن مضر ومن الأحزاب 
المؤتلفة التي كان الأزهري دائما ما يضيف اليهما ضاحكا مداعبا كلمة (المختلفة )! 

.. ماتت مرة واحدة » انذاك فكرة الحكومة القومية .. ماتت امام الفيضان الشعبي 
الكاسح الذي ينادي بالاستقلال والاستقلال فقط وقد بقيت له ثلاثة أو أربعة ايام» ولم 
يجد أعداء وخصوم الازهري المجتمعون والمؤتلفون جميعا في جبهة واحدة غير الركوب 
مع الموجة العاتية حتى لا تجرفهم بعيدا إلى قاع البحر ! 

توقف الحديث والنقاش عن كل شيء الا الاستقلال ومواجهة اليوم الأكبر وأخذت 
التطورات السريعة تتلاحق دون توقف فقد أبلغت مصر الحكومة السودانية (الازهري) 
والحزب الوطني الاتحادي الجمعة ١1‏ ديسمبر ١500‏ بترحيبها الحار وتدعيم موقفها 
اذا ما اعلنت الاستقلال يوم الاثنين . لم تكتف مصر بهذا بل حملت السيد بابكر الديب 
(منقذ نجيب والسودان من أحداث مارس الدامية ) والذي أصبح وكيلا لحكومة السودان 
بالقاهرة (سفيرا)ء حملته وجهة نظرها بقبولها وتأييدها للاستقلال وذلك عقب اتصال 
تليفوني بين عبدالناصر والازهري » ليس ذلك فحسب بل طلبت من الحزب الوطني 
الاتحادي ان يبعث باحد كبار وزرائه إلى القاهرة ليبحث معها تفاصيل الوضع ليصل 
الطرفان إلى اتفاق . ولم يضع الازهري لحظة واحدة بل ارسل في مساء نفس اليوم - 
بعد ساعتين من الاتصال - السيد محمد احمد المرضي وزير الحكومة المحلية إلى القاهرة 


۱۰ 


مندوبا عن حكومته وحزبه وشخصه . 

وفجأة بدأت لغة العواطف تظهر على مسرح الأحداث . ألم أقل لكم اننا شعب 
عاطفي سريع الغضب .. سريع الانفعال.. سريع الرضا .. بدأت لغة العواطف عندما 
أعلن الحزب الوطني الاتحادي (الازهري) وهو يرد التحية لمصر الشقيقة «انه ليس من 
رأيه ان يقوم في السودان استقلال معاد لمصر او متنكر للمصالح الشتركة ». 


سباق الود 


وکما بدأت مصر تقنح قلبها للسودان وتتسابق لاحتضانه وكسب مودته دخلت 
بریطانیا ایضا السباق مع مصر لتسهیل امور السودان وقد اشارت التعلیقات البريطانية 
الاولية إلى انباء الاستقلال من البرلان الى ان بریطانیا ستکون أول من يوافق كما 
آعربت عن رغبتها في اجراء محادئات مع مصر في ذلك الشأن وساد اعتقاد بين 
السیاسبین واحزابهم ان هذا الاتجاه من جانب بریطانیا قد حدا بمصر إلى السارعة 
والجاهرة باعلان موافقتها وتأییدها وتدعیمها للاستقلال . 

.. آما في الخرطوم فقد بدأ کل شيء وفي کل مکان یستعد للحدث التاريخي الکبیر 
جنبا إلى جنب مع الساعي التي تحرکت لتذلیل الصاعب والخلاف الذي سببه بیان 
الازهري » فقد قامت وفود من اخيار السودانیین بوساطة مشکورة بين الاحزاب ترمي 
الى تأجيل فكرة الحكومة القومية ولو إلى حين (موقت ) والتعجیل بالاتفاق على اعلان 
الاستقلال وقيام (مجلس السيادة الذي ستژول اليه سلطات الحاکم العام)» (الستقیل 
عمدا وقصدا وتوقیتا ) فاتصلت هذه الوفود الكريمة بالسیدین وبقادة الاحزاب المؤتلفة 
فوافقوا مرغمین . 

من الأخبار الغريبة الدهشة المفاجأة "تي ماتت في حینها دون ان تری اشعة الشمس 
ان السید محمد احمد محجوب زعیم ااعارضة كان قد تقدم بشکل عاجل ومستعجل 
للغاية بثلائة اقتراحات لكاتب مجلس النواب لیدرجها في أجندة الجلس لاجتماع يوم 
الائنین .. يهدف الاول لاعلان الاستقلال والثاني بقيام لجنة وصاية والثالث وهذا هو 
الاهم (ومربط الفرس ) سحب الثقة من الحکومة ... لکن يبدو ان هذه الاقتراحات 
وبسبب الاقتراح الاخیر ماتت في مهدها وقبل ان تتنفس لانها تشوه جلال الناسبة 
وتفتل الابتسامة وتؤئر على الخریف الوعود واخیرا لان الشعب كله سيقاوم مسالة 
اسقاط ازهري بصلابة ويرفضها بشراسة . 

الجانب المعارض الاخر الذي يحس بلمرارة وعلى رأسه السيدين الجليلين لم يستطع 
ان يهضم هذا الذي يجري فقد كان الكأس الذي «خلطه » وأعده (الازهري) علقما 
مريراً وسماً زعافاً » وعلى الرغم من ان الظرف المواجه كان دقيقا وحساسا يميل كله إلى 


۱۰۳ 


صالح الازهري فقد اخذ المؤتلفون يعقدون اجتماعاتهم داخل الجدران المغلقة ليضعوا 
من التخطيطات ولمؤامرات ما يثأر لهم من الازهري فكان ان ظهرت صحف اليوم 
التالي وهي تحمل عنوانا مثيرا وبالخط العريض يقول: 

(قيادة الختمية تسفر عن عدائها للوطني الاتحادي) «الازهري » ثم بدأت حملات 
المهاترات الشديدة والتهديدات المستمرة . وكرد فعل لهذه التحركات نشطت حملة قومية 
لتجميع الصفوف وتخفيف حدة التوتر الذي ظهر بلا مقدمات على السطح السياسي فقام 
العقلاء ومعهم تسعة عشر نائبا من الوطني الاتحادي بزيارة لولانا اليرغني سعيا وراء 
اقناعه بقبول رئاسة الازهري للحكومة القومية . كما تكونت وفود اخرى من الزعماء 
القبلیین والدینیین وبعض النقفین الستقلین واجتمعوا بالسیدین الجلیلین کل على حدة . 

وفي هذا الجو التوتر دخل اخواننا الجنوبیون حلبة الحرب وهددوا بعدم الوقوف مع 
الاستقلال الا اذا اعترف الشمال بحقوقهم ومنحهم الحکم الذاتي واستمرت هذه العربدة 
الشيطانية ۰ والساعات نقترب من نهاية عمر الباراة السياسية والشعبية . فتمکن الوسطاء 
وأهل الخیر من أعضاء تلك الوفود ومن العقلاء من العسکرین التخاصمین التحاربین 
من احتواء کل اسباب الفرقة والخلاف وانتهت بذلك الازمة التي اوشکت ان تطیح 
بالائتلاف وبکل شيء . 


خریف الفرح / 


وجاء الغد الکبیر الائنین ۱٩‏ ديسمبر ۱۹۵۵ الجلسة رقم (4۳)... جاء يوم 
السعد .. جاء يوم الخلاص .. جاء خریف الفرح ... فغسل بمائه السماوية العطرة کل 
بقایا وفضلات الاستعمار البغيض واهلت على الناس بشاثر السعد والحب والخیر 
والسعادة وعندما بدأ اجتماع مجلس النواب والشیوخ وامتلات قاعات البرلان عن بكرة 
ابیها وساد الصمت وبدا الثرقب وارهفت الاذان» وخرجت العیون من محاجرها 
وتطاولت الاعناق » وتوقفت دقات القلوب » وساد الصمت الرهیب الا من أنفاس الناس 
وصوت (التکییف ) وکامیرات الصورین ... عندها وقف النائب السید عبدالرحمن محمد 
ابراهیم دبكة الذي دخل التاریخ لیقدم اقتراح البقاء والخلود ؛ وفي صوت وقور مجلجل 
قال : 

«نحن آعضاء مجلس النواب في البرلان مجتمعا نعلن باسم شعب السودان القوي 
الباسل ان السودان قد أصبح دولة مستقلة کاملة السيادة ونرجو من معالیکم ان تطلبوا 
من دولتي الحکم الثنائي الاعتراف بهذا الاعلان فوراً». 

بعده تقدم النصة السید محمد احمد محجوب الحامي وزعيم العارضة الذي قال 
فیما قال لقد كان السودانیون في الاضي فریقین وربما بدا للعالم انهما كان مختلفین في 


۱۰ 


الهدف ولكن حقيقة الامر التي أدركناها كسودانيين ان الاختلاف لم يكن على الهدف 
الاسمى للبلاد الا وهو الاستقلال التام والسيادة المطلقة؛ بل كان على الوسائل . ومضى 
السيد محجوب يقول ان هذه الحقيقة التي جعلتنا كسودانيين نحترم بعضنا بعضا ونقدر 
وجهات النظر ونحاول ان نقنع كل منا الاخر إلى ان كتب الله لنا ان نلتقي في الهدف 
والسبل فكان لقاء وطنيين وحدوا طريق الکقاح ‏ واخذوا يرفعون الحواجز واحدا بعد 
الاخر في يسر واتساق . 

.. واختتم التعقيب السيد مبارك زروق الحامي وزير الواصلات وزعيم المجلس 
بحديث طويل قال فيه عندما نطلب الاستقلال فليست تلك دعوى ندعيها وانما اصبح 
الاستقلال حقيقة واقعة فجهاز الحكم تطهر من اي اجنبي » والسلطات التنفيذية كلها 
أصبحت في يد الحكومة » والسلطات التشريعية كلها في يد البرلان لسان الشعب 
وواجهته » والسلطات القضائية كلها في يد هيئة مقدسة محترمة » والجيوش الاجنبية 
بارحت البلاد ... لم يبق لنا في الواقع الا ان نستعيد اخر حق مغتصب وهو الاستقلال 
والسيادة .. ومضى السيد زروق قائلا نحن لا نشك لحظة ان الدولتين ستقران 
بالاستقلال وتعطيان اعترافهما فورا لان كلتيهما حریصنان على صداقتنا وسيختم هذا 
الاعتراف صفحة مضت بخيرها وشرها خاتمة سعيدة لنفتح صفحة جديدة اساسها 
المساواة والاحترام المتبادل . 

وكان مسك الختام اشارة خاصة ومنفردة ومميزة إلى مصر عندما قال زروق انها 
الجارة العزيزة التي ربطتنا بها روابط الاخاء والزمالة والعروبة والمصالح المتعددة 
المشتركة والتى نكن لها كل ود ولا نتنكر لاياديها الماضية . وقال إن السحابة التي ظللت 
علاقاتنا بمصر لفترة من الزمن ليست الا سحابة صيف عابرة فلتطمئن مصر إلى ان 
استقلال السودان هو قوة لمصر الشقيقة والشرق الاوسط كله . 


محجوب وزروق ... 


السيدان الكبيران الاستاذان محمد احمد محجوب ومبارك زروق كانا من أبرز وأكفاً 
وأنجح القياديين وأعظم السياسيين والبرلمانيين على الاطلاق وقد تركا بصماتهما واضحة 
ومشرفة في سجل السودان . فبالرغم من ان القاسم المشترك بينهما كانت مهنة المحاماة › 
الا انهما أيضاً كانا صديقين متلاصقين متساويين في الذكاء وسرعة الخاطر والطموح . 
والعادات حتى الأناقة والرشاقة والموضة وعالم الازياء والأحذية والشرابات ورباط العنق 
والدنجوانية الوقورة كانا يتنافسان ويتباريان فيها تماما كما كانا يتنافسان في منصة 
البرلان وهما الخطيبان البارعان المتمكنان من اللغة الانجليزية تمكن العارفين من 
أهلها . الشيء الوحيد الذي كان يفرق بينهما ان المحجوب كان قاضيا ومهندسا وشاعرا 


۱ ۰ ۰6۵ 


وأصبح فيما بعد رئيسا للوزارة وبالمناسبة فان اسم محمد احمد محجوب منقوش في 
حجر الأمم المتحدة الرخامي الذي يضم أعظم وأكبر المتحدثين فيها . 


لحظات تاريخية 


وبعد تعقيب زعيمي المعارضة والجلس اجيز الاقتراح بالاجماع الشامل وانفجر 
الجلس بأعضائه وزواره وخدمه وحشمه وصحفيه في تصفيق حار استمر طويلا كان 
أشبه بسمفونية بتهوفن الخامسة التي تسمى (الامبراطور) ولم يتدخل السيد رئيس 
المجلس تقديرا لهذا الشعور الوطني الملتهب رغم ان اللوائح الداخلية للمجلس تمنع 
وتحرم التصفيق منعا باتا . ولولا الوقار لانغمس الرئيس نفسه في هذه الموجة العاطفية 
الطاغية التي تحرف الانسان معها مهما كبر مقامه وعلا شأنه . 

بعد انتهاء هذه الجلسة التاريخية توجه السيد اسماعيل الازهري ومجلس وزرائه 
لزيارة السيدين الكبيرين وأبلغهما بالقرار وتبادلا أحر التهاني والامنيات ثم توجه إلى 
مكتبه لمقابلة السفراء والدبلوماسيين . وما ان وطی عتبة مكتبه حتى علم ان القاهرة على 
التليفون وكان المتحدث هو الرئيس جمال عبدالناصر الذي أبلغه تهانيه الشخصية وتهاني 
الشعب المصري . 

وفي القاهرة أصدر ( البكباشي ) زكريا محيي الدين وزير الداخلية بيانا اعرب فيه عن 
اغتباطه ثم استجابة حكومته لرغبات الشعب السوداني التي عبر عنها في البرلان وقال 
ان حكومة القاهرة على اتصال مستمر بالحكومة البريطانية للوصول إلى اتفاق لتحقيق 
هذه الرغبة . 

في لندن 

.. وفي لندن اجتمع السير نوكس هلم الحاكم العام بالمستر هارولد ماكميلان وزير 
خارجية بريطانيا ثم اعلنت الخارجية البريطانية ان حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين 
الاعتبار والعطف في اي قرار يتخذه البرلمان السوداني للوصول للاستقلال الكامل وصولا 
مباشرا . وعند منتصف الليل اصدر مكتب المبعوث التجاري البريطاني في الخرطوم 
(السفارة فيما بعد) بيانا قال فيه ان حكومته ترحب بقرار البرلمان السوداني الخاص 
بالاستقلال وهي تقوم الان بمباحثات مع الحكومة المصرية لاتخاذ الخطوات النهائية 
لتنفیذ هذا القرار . 

وفي منتصف نهار الثلاثاء أصدر الامام المهدي ومولانا الميرغني بيانا مشترکا هنا فيه 
الشعب على وقفته الجماعية وراء مطلب الاستقلال وأهابا بالسودانيين كافة ان يصونوا 


٠ 


ذلك الاستقلال بالعمل القويم والمنهج السليم وبالتضحية ونكران الذات ثم دعيا كل 
مواطن ان يجعل من نفسه جنديا حارسا للاستقلال وان یستشعر (الواجبات) قبل ان 
يطالب (بالحقوق ) وان يتحلى بالتسامح والعفة والصدق والامانة في تعامله مع الاخرين . 

وادلى الامام عبدالرحمن الهدي للصحف بحديث خاص مختصر قال فيه : لقد فرغنا 
من الجهاد الأصغر لنواجه الجهاد الاكبر وهو تشیید دولة السودان على اسس قويمة وان 
واجبنا الا يبطرنا النصر او يغرناء واشار إلى العلاقات السودانية المصرية فقال: 

«ان بعض ظروف جهادنا الأصغر اقتضت ان نختلف مع مصر ويلزمنا الان ان نفتح 
صفحة جديدة في العلاقات معها فننميها بما يخدم سُعبي البلدين ويرعى مصالحهما 
ويصون استقلالهما » . 


صلاح سالم ! 


.. وف منتصف نفس النهار (الثلائاء) وصل الصاغ صلاح سالم للخرطوم وقضی 
یوما ملیثا بالحركة وقابل الازهري نم قام بزیارتین إلى الامام الهدي ومولانا اليرغني 
لیعبر لهما عن فرحته الشخصية . وفي الساء اجتمع بزعماء الاحزاب وأدلى باحادیث 
صحفية قال فیها انه في زیارته للسودان لا یمثل الا نفسه وانه لا ينوب عن الحكومة 
المصرية. بل جاء في أول فرصة اتیحت له «بعد غيبة طويلة » اقتضتها الخلافات 





الصاغ صلاح سالم والازهري 


۱۰۷ 


والمعارك السياسية في الفترة الماضية وقال ان مصر لا تريد من السودان اي ضمانات او 
موائیق ولا تطالب غير صداقة الجميع . وقال ان مصر قد ازالت جميع أسباب الخلافات 
والطاحنات » وتنظر إلى السودانيين جميعا نظرة متساوية وترغب في التعاون معهم 
جميعا لا مع فريق دون آخر!! 

كان الصاغ صلاح سالم عين مصر ومجلس الثورة المصرية على السودان وبجانب 
وزارة الارشاد القومي كان وزيرا لشؤون السودان التي تقلدها بعده البكباشي زكريا 
محيي الدين وكان الصاغ قد انغمس بثقله في شوون السودان كما سبق وروينا ذلك 
تفصيلا ولكن بعد زيارته الاخيرة وتصريحاته الغريبة التي لا تشبهه » أخذ نجمه في 
الافول وبدأ يختفي رويدا رويدا من مسرح الاحداث لا في السودان وحده » وانما في مصر 
كذلك وف تقييم القاهرة لاحداث ۱۹۵۳ - ۱۹۵۶ - ۱۹۵۵ رأت مصر (عبدالناصر ) 
ان جزء اساسیا من اسباب فشل سیاستها في السودان برجع کلیا إلى اخطاء الصاغ 
صلاح سالم وعدم تقدیره تقديراً سلیما وواعیا لا يجري في السودان فعزل لذلك من 
جمیع مناصبه واختقی کلیا بل وحددت اقامته فیما بعد ! 

اما في لندن فقد ناقش مجلس العموم البريطاني قضية السودان ووافقت الحكومة 
بشقیها موافقة اجماعية على الاعتراف باستقلال السودان . وفي هذه الناسبة اذکر ان 
رئيس حزب العمال الجدید الستر (هیوجیتسکل) تحدث لاول مرة في البرلان بعد 
توليه منصب رئاسة الحزب فأید في حديثه الاسنقلال . 


يوم الفرح الأكبر ! 


في جلسة یوم السبت ۳۱ دیسمبر اجاز البرلان اوصاف العلم السوداني وهي ازرق 
رمزا للنيل واصفر رمزاً للصحراء وأخضر رمزا للزراعة . 

اکتملت افراح السودان في اول ینایر ۱۹۵۲ عندما اصطف النواب البرلانیون في فناء 
البرلان في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا ینقدمهم في الصف الاول اعضاء مجلس 
السيادة نم رئیسا الجلسین (النواب والشیوخ) ثم رئيس الوزراء وزعیم العارضة ثم 
الوزراء وخرج الوکب یحف به رجال البولیس وکانت جماهیر الشعب الغفيرة البتهجة 
تسد الطرقات وتتبع الوکب الهیب وهي نهتف بحياة السودان وحياة الزعیم الازهري 
حتی وصل الجمع إلى حدائق سراي الحاکم (قصر الشعب الان ) حيث جلس السیدان 
الهدي واليرغني في مقدمة القدمة وبداً الاحتفال بتلاوة من القرآن العظیم ثم بخطاب 
قصير القاه الازهري صدحت بعده موسیقی القوات السلحة (نوبة الساء) عندما بدأ 
نلائة من ضباط الجیش ینزلون العلمین الانجليزي والصري من ساریتیهما فیتسلمهما 
الازهري ویسلم احدهما للمستر دودز باکر وزير الدولة البريطاني والاخر للاميرلاي 


١٠١م‎ 


عبدالفتاح حسن مندوب مصر . 

ثم تأتي اللحظات الفاصلة الرهيبة عندما بدأ الازهري وزعيم المعارضة يرفعان علم 
السودان الحر المستقل وعندها عزفت الموسيقى (نوبة صحیان ) واطلقت المدفعية مائة 
وعشر طلقات تحية للعلم فوقف جميم الحاضرين اجلالا وابتهاجا واحتراما بمن فيهم 
السيدان الكبيران وتعلقت انظار الجميع وهي ترقب في اجلال علم الحرية والخلاص 
يرتفع رويدا رويدا حتى استقر خفاقا عالياً فوق سماء السودان ولم يتمالك الامام المهدي 
مع المشهد الرهيب المهيب فانفجر في بكاء حار فرحاً سعيدا بالناسبة ثم نهض وسارع في 
خطوات مهرولة لا تنناسب مع وقاره وشيخوخته واتجه إلى الرئيس الازهري وشد على 
يديه بل قام باحتضانه وهكذا بدأ (خريف الفرح )! في السودان . 

ثمة تعقيب ورأي خاص بي اريد ان 
اسطره رغم انه ثقيل على النفس 
ويشكل بعض الحساسيات . ولكنه في 
نظري وفي رأيي واقع مزعج هو اننا نا 
الاستقلال باقل خسارة ممکنة وبعدد 
قلیل من الضحایا والتضحیات ادا ما 
قارنا انفسنا باللیون شهید في الجزاثر او 
الانتقاضات الافريقية الجاورة ومرد ذلك 
في الحقيقة یعود اصلا إلى وضعنا الغریب 
تحت الحکم الثنائي الانجليزي الصري 
فقد ظلا کلاهما یتسابقات لارضائنا 
وکسب مودتنا وصداقتنا عن دما 
اصطدمت مصالحهما فکان الاستفلال 
بمثابة الوجبة الشهية التي قدمتها لنا 
الاقدار في طبق في الفضة وملاعق من 


الذهب ! 





الأزهري ومحجوب یرفعان علم السودان 


© بعد .و 
9 د وو 
رفع العلم نو وف الحهاد وسقط الساسه 


© عبدالله : 0 / 
ی خليل ت للصاع سالم وعبدالناصر يسد 
ب یباعون في سوق الدخاسه . "۷" 





انتهى الجهاد الاصغر ليبدأ الجهاد الاكبر كما دعا الامام عبدالرحمن الهدي عند 
اعلان الاستقلال . والحقيقة الاولى جميلة وعذبة وحلوة وهي اننا انزلنا العلمين 
الانجليزي والمصري» ورفعنا مكانهما علم السودان الحبيبة وأخرجنا أو خرج الجيش 
البريطاني وتوابعه وتابعوه من الوجوه الحمراء والعيون الزرقاء والخضراء من بقايا 
القضاة والاداريين والمهندسين البريطانيين وتربع رجالنا على مقاعدهم وسكنوا بيوتهم 
فآل الينا كل شيء»ء وهذا واقع مفرح انتهى معه جهادنا الاصغر . أما الحقيقة الثانية 
وهي مع الاسف مريرة ومؤلمة فهي اننا لم نبدأ بل ولم نفكر في جهادنا الاكبر فقد توقف 
جهاد القادة والزعماء السياسيين في النقطة او المحطة التي تفصل بين الجهادين . توقفنا 
تماما فبدلا من ان ینصرفوا بعد خريف الفرح الذي بشر به الازهري في عز الشتاء 
ليرتوي الشعب من امطاره الغزيرة» ويسعد من خیراته. ويستمتع بنسماته الصحوة 
الجميلة فينصرف القادة الى ما ينفع الناس ويشبعوا تطلعاتهم وآمالهم في حياة كريمة 
واستقرار دائم ومستقبل مشرق باسم ... بدلا من ان يفعلوا ذلك الذي جاعوا بسببه. 
وفوضوا شعبيا وكليا من أجله ء انحرفوا بسفينة البلاد الى قاع النيل عندما انحصروا في 
ذواتهم الفانية ومصالح احزابهم ونوابهم ولا غرو فقد انتفخوا وطالواء واشتدت 
سواعدهم » وانتصبت آعوادهم وكبروا واغتروا وسعوا في الارض مرحا كأنهم بلغوا 
الجبال طولا وعرضا! 

.. من ناحية اخرى فان البذور التي غرسها الصاغ صلاح سالم وبدأ بها الفساد 
السياسي وشراء الدمم والتي لم تكن معروفة ولا معهودة ف الحياة السودانية من قبل .. 
هذه البذور نمت وترعرعت وأينعت وحان قطافها بعد ان كبرت وتعددت سيقانها 
وكثرت فروعها وأوراقها حتى صارت غابة كثيفة منظرها مخيف ورائحتها تزكم الانوف 
ودخل فيها القادة والزعماء فغاصوا في وحلها ومنحدراتها حتى الاذنين وشعر الرأس!! 

بعد فرحة الاستقلال مباشرة انحلت حكومة الازهري وشكلت حكومة قومية برئاسته 
ثم سقطت وتشكلت مكانها حكومة اثتلافية برئاسة عبدالله خليل ثم سقطت وجاءت 
اخرى وسقطت الاخرى و ..و .. وكان القاسم المشترك الكبير والأعظم في كل ما لطخ 


١١7 


وجه الحياة السياسية الوليدة في السودان حتى صارت كالحة مصفرة وكثيبة حزينة هو 
أسواق النخاسة والمزايدات المنتشرة في كل مكان لشراء الذمم وأصوات النواب ليناصروا 
هذا ويعارضوا ذاك ويسقطوا الاول ویفوزوا الثاني » ثم يسقطوا الثاني ليفوز الاول . 
نشطت بورصه النواب حتى صار لها سماسرة ومندوبون بل ومكاتب وفروع وبيوت 
< وتليفونات وعربات وقناصون وقناصات تماما كبورصات القطن والصمغ واسواق 
البترول . 
.. يبدا الشعب يتالم ويتوجع بل وكثيرا ما يبكي وهو يرقب القادة الذين حملهم 
بالامس على الرؤوس والاعناق وفي القلوب وحدقات العيون يهبطون بالمظلات إلى احط 
وارذل (البرك الراكدة ) وهم يتسابقون في السر والعلن وكلما تقدمت للبرلمان ميزانية . 
او صوت نقه لشراء الضعفاء والمستضعفين من النواب السّماليين والجنوبيين ممن فقدوا 
كرامتهم ووطنيتهم وعلقوا الضمير والعفل والوفاء وأصوات الشعب المسكين على المشانق 
بعدما خنقوه وداسوه تحت الاقدام ف ارض قدرة مليئة بالدود والطین ! 
.. ظل الشعب يسمع كل يوم رواية وقصة وحادثة ونكتة ومقلبا في دوائر الاحزاب 
والقادة فتارة يضحك ويقهقهء ولكنه كثيرا ما يتوجع ويئن وينوح ويبكي (ويلطم 
الخدود ) . 


اكبر صفقة نخاسة 


كانت اكبر صفقة في سوق البورصة النيابية عندما اشتری صلاح سالم عشرة نواب 
جنوبيين دفعة واحدة دفع لزعيمهم الكبير عشرة الاف جنيه ولكل من الاخرين الفين من 
الجنيهات ففاجأوا في اليوم الثاني المجتمع السياسي والاعلام ببيان يعلنون فيه تمردهم 
على معسكرهم الاستقلالي الذي ينتمون إليه ولينادوا بالوحدة مع الشقيقة مصر . والمصيبة 
ان العشرة كانوا يسكنون مع عدد اخر من زملائهم وبضفة دائمة في أحد منازل الامام 
المهدي المتاخمة لقصره وكان يشرف على راحتهم مجموعة من خدمه ! ! 

كان بيان العشرة مصدرا للتندر والسخرية والازدراء وهو من الاسباب الكبيرة 
المفضوحة التي عجلت بنهاية الصاغ ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون من الناس هو ماذا 
كانت ردود الفعل في دوائر حزب الامة وكيف استقبل هذا النباً المزعج ؟ لهذا قصة 
غريبة جدا ومضحكة جدا جدا وقعت فصولها في السر ووراء الجدران! 


الصوره الاو 


«في الیوم الثاني لصدور بیان العشرة عقد السید/ عبدالله خلیل سکرتیر عام حزب 


۱۱ ۶ 


الامة اجتماعا رسميا وهو أول اجتماع في العالم - حسب علمي القليل وادراكي 
الحدود - والله اعلم ينعقد بتلك الصورة وعلى ذلك المستوى الذي تشبه حلقاته مسرحية 
(شاهد ماشافش حاجة) اذ بعدما استعرض الاجتماع الكبير الهام الذي كانت الصحف 
ترقبه بشغف وتطلع وتنتظر نتائجه على احر من الجمرء اتخذت القرارات السرية 
الخطيرة الاتية التي بالطبع لم تنشر ولم تعرف حتى الان! 

اولا : تشکل لجنه فنية متمكنة من شباب الحزب المعروفين بولائهم الطائفي اولا ثم 
الحزبي ثانيا لتقيم حفلا ساهرا صاخبا للنواب الجنوبيين لانهم يحبون بل ويعشقون بنت 
الحان إلى حد الشراهة ریما كان هذا نتيجة لحياة الحرمان والفقر والبؤس التي ظلوا 
یعیشونها طيلة فترة الحكم الانجليزي القاهر . 

ثانیا : ان يصرف فورا لهذه اللجنة مبلغ ثلائمائة جنية عدا ونقداً لشراء كل اللوازم 
والاحتياجات لهذا الحفل الصاخب . 

ثالثا : قبل طلوع الفجر - وبعد ان (یقضی) تماما على النواب الجنوبيين تقوم اللجنة 
(بنشلهم وتفریغ کل محتویات جیوبهم ومحافظهم وحقائبهم وساعاتهم و ... و ..)! 

رابعا واخیرا ان تتوجه اللجنة بعد انسحابها فنیا بکل غنائمها الى منزل احد القادة 
لتسلیمه جمیع الودائع والسروقات وبالفعل تمت الخطة بحذافیرها وتفاصیلها وکانت 
الحصيلة ثلائة وعشرین الف جنیه عدا ونقدا وسبع ساعات وعددا من اقلام البارکر حتی 
النادیل والکرفتات والشرابات لم تنسها اللجنة فقد (للمتها كلها ) وسلمتها للقيادة لانها 
عانت «جديدة لنج » فيما يبدو ! 

.. كنت بين مجموعة الحاضرین عندما اتخذ هذا القرار الخطیر ولم أتمالك نفسي 
فضحکت کی | جدا ویصوت مرتقم جدا جدا حنی كاد ان یغمی علي الشيء الدي لم 
اعتده خصوصا في حضرة اهلي وابائي الکبار مما جعل عبدالله خلیل بنظر إلي من تحت 
اطراف نظارته السمیکه نظرة سٌزر يطير منها الشرر - كنت قد تعودت من قبل علیها 
فما كان منه وانا اتابع ضحكي الا ان صرخ في وجهي صرخة عسكرية افزعتني فعلا 
قال لي : 

«اسمع ياولد انت معانا هنا بصفتك انصاري وولدنا فقط امشي اعمل طرطشتك دي 
واكتب اسرارنا والله العظيم اضربك رصاص . فهمت ؟ » 

نعم فهمت جدا لانني ايضا قد تعودت على هذه النغمة واستوعبنها اكثر من مرة 
وعرفتها وهضمتها الف الف مرة . 

الاهم من ذلك كله ان الجنوبيين العشرة ومعهم زملاؤهم الابرياء الدين كما يبدو فد 
امتدت إلى جيوبهم أصابع اللجان الفنية (فراحوا في فزع القيامة).. الاهم من ذلك كله 
انهم توجهوا في الصباح وبعد وقوع الاعتداء الاثم والهجوم الخاطف المباغت إلى قصر 
الإمام المهدي الذي كان ملما بالخطة اللعينة وضحك لها اكثر مما فعلت .. توجهوا 


١١0 


وطلبوا مقابلته في الحال وعندما سمح لهم بالمقابلة قام زعيمهم واعلن التوبة وقال اننا 
کا فررتا دان رم رو الضاءغ ان تخيرك او ثم ق متیر غفا 
ونصدر بيانا هاما ننفي فيه كل ما جاء في البيان الاول «وكان قصدنا ان نخفف عليك 
الاعباء الالية » وبعدما فعلوا ذلك فعلا اصدر الامام المهدي قرارا خطيرا بارجاع كل 
المسروقات والنشولات إلى أصحابها والغريب ان الذي قام بتوزيعها واعادتها لهم هو 
عبدالله خليل وكان ذلك في حضرة الامام! ! 


الصورة الثانية 


أما الصورة الثانية فهي لاتقل اثارة وطرافة عن سابقتها فقد كانت لمجموعة من 
النواب الشماليين هذه المرة دفع لهم حزب الامة مضطرا ومجبراً ليجاري سلاح صلاح 
سالم الف جنيه ولا أصبح الصباح وانتهت أجندة البرلان الروتينية وازفت ساعة التصويت 
بالثقة لاحظ عبدالله خليل ومساعدوه من المراقبين (والفنيين) ان ثلاثة ممن دفع لهم 
صوتوا بجانب الازهري وحنثوا بالايمان والعهد بالرغم من أنهم قبضوا ثمن اصواتهم 
واقسموا كالعادة على المصحف الشريف وانفض المجلس وكان عبدالله في غاية التوتر 
والغضب ولكنه ليس بالشخص الهين الذي يمكن ان يلعب عليه الصغار من الخونة 
(ویستکردوه ) فعزم على شيء كبيرء وما ان دقت الساعة الواحدة صباحا حتى انطلق 
بعربته بصحبه ثلائة من شباب حزبه الاقوياء (الفتوات) واتجه إلى منزل النائب رقم 
واحد ودق بابه والصوت من الداخل يسأل مين ؟ من بالباب في هذه الساعة المتأخرة من 
الليل وربما لاح في خاطر النائب الهمام انه (زبون) جديد لان الزبائن عادة يأتون في 
مثل هذه الساعات المتأخرة وعبدالله خليل يواصل طرقاته في عنف وما ان فتح النائب 
الباب حتى امسك عبدالله القوي بيده اليسرى عنق الرجل (زمارة رقبته) وسابت ركبتا 
الرجل الذي شلته المفاجأة غير المتوقعة ولم يزد عبدالله وهو كما قلت قليل الكلام على 
جملة واحدة فقط فقال له: 

«هات الفلوس » وكان الرد موجزا ايضا: «حاضر ياسعادة البیه » 

انتظر عبدالله امام الباب ودخل الرجل وتبعه (الثلاث فتوات) ثم عادوا ومعهم 
سبعمائة وئلائین جنیها ولا استقسر عبدالله عن بقية البلغ (وين راح) قال النائب وکان 
في حالة يرثى لها ... قال : 

«والله يا سعادة البیه كانت علي سویه دیون وحللتها .. واشتریت للاولاد بعض 
الحاجیات » فقال له عبدالله : «تحل ديونك يا ابن ... بفلوس الحزب ؟ » 

معلیش ياسعادة البیه والله اعوضك في الرة الجاية «يعني الصوت القادم » قال 
عبدالله خلیل للنائب الحترم : 


١1١5 


«الساعة اللي في يدك دي جديدة جبتها من وين ... اشترتیها من فلوسنا طبعا! ؟ 

النائب مترددا ومتلعتها : 

«ابدا يا سعادة البيه دي اشتريتها والله في التصويت «اللي فات!!» 

عبدالله خليل موجها حديثه للنائب وللفتوات: انت بتعرف الله؟ بسرعة اقلعوها من 
يده وكمان خذوا معاها القلم والولاعة وعلبة السجاير!! وبالطبع (خلعوا كل شيء 
ونظفوا الرجل تماما) ودارت العربة في طريقها للنائب رقم اثنين وثلاثة . 


الجانب الثاني 


ها السكرتير الاخر في الجانب الاخر من المسألة او (المهزلة) فقد كان صديقي 
العزيز الشيخ محمد احمد الرضي سکرتیر الحزب الوطني الاتحادي (الازهري) في 
فترة من الفترات يساعده في مهمته القاسية (شراء النواب) السید/ يحيى الفضلی الرجل 
الذكي القوي والخطیب الکبیر الذي عرف باسم «الدینمو » والذي يلي الازهري في الشأن 
ومعهما کذلك صديقي الشریف حسین الهندي وهو الثالوث الخطیر الذي بهابه حزب 
الامة ویعمل له الف حساب لانه كان الوئا معروفا بحبك الوامرات وتخطیط القالب 
ذات الشراب الریر والطعم الامر (الأخوة کارامانوف)! 

.. دق بابي في الثالثة صباحا - وهذا آمر مألوف - حسبت ان امرا ما یخص 
الجريدة قد 0 ولكنني وجدت الثالوث امامي وهم في حالة اعیاء شدید دخلوا 
مسرعين وقال لي شيخ الرضی - طبعا بدون اعنذار وبدون ابداء حرج او اسف - فقد 
قلت ان الذي یجمع بيني وبینه هو الذي یجمع بين الشقيقين .. قال لي : 

(تور المرا) يعني صحي امرأتك لتعد لنا طعاما فنحن نكاد نموت من الجوع ولم 
يطل بي التفكير فقد ادركت ان مهمتهم في مثل هذه الساعات المتأخرة من الليل لابد ان 
تكون متعلقة بشراءالنواب ففي نفس الصباح كان صوت الثقة بالحكومة يتربع في قائمة 
الاجندة وهنا بادرتهم بسؤال تقليدي وهم منشغلون عني تماما بالتهام الطعام وبطريقة 
شرهة (ملوخية في الفجر) زائدا لحمة زائدا بيض زائدا موز وساي وزبادي) حاجة 
غريبة ! ! 

قلت وأنا اتثاعب : يا مولانا ان شاء الله خيرا أرجو ان يكون صيدكم ثمينا وكثيرا ! ؟ 
قال لي شيخ المرضى بايجاز شدید وقد عرف بحلاوة حديثه وفكاهته: «والله يا أخي 
تعبنا خلاص . أهلك ما خلو لنا شيء (يقصد الانصار) غايتو بعد تعب شدید حصلنا 
على رأسين!!» 

وضحكنا سويا وعندما أكلوا وشربوا الشاي (هنيئا مريئا) وخرجوا كان اذان الصبح 
قد بدأ باسم الله يدعو للصلاة والتوبة والرحمة والغفران . 


١١7 


هذه وقائع وأحداث مضغوطة ومختصرة قصدت رغم ما فيها من طرائف وفكاهات 
واثارة ان أعطي بها صورة حية واقعة ومعاشة كان الشعب يحسها ویلمسها ويسمع بها 
(حتى فاتت اذانه) . هذا ما كان عليه حالنا وحال قادتنا وزعماء بلادنا وهم في بداية 
الطريق للجهاد الأكبر ! ! 

الم اقل لكم ان بذور الصاغ صلاح سالم التي غرسها فأفسد بها الحياة النيابية قد 
اصبحت غابه قصار الزعماء والقادة ینسابقون من بعده لیتحاربوا بنفقس السلاح وبنقس 
الوسيلة ؟ ؛ ذهبت كثيراء وکان لابد من ذلك في سرد الساویء والانحرافات التي حدئت 
في الیدان السياسي والتي كان لها وقعها العمیق الوجع في نفوس الناس وسببت لهم 
الکثیر الکثیر من خیبات الأمل والتحسر والالم مما جعلهم ینصرفون عن قادتهم 
وزعمائهم وينفضون من حولهم قليلا قليلا لكني ما دمت قد فعلت ذلك » فلابد ی ان 
اسدل الستار الاسود من الفصل الاول على حياة الاحزاب بعد ان اطلقت على رأسها 
الرصاص وغمست في احشائها الخناجر وودعت الحياة ولکن إلى حين ... قبل ان افعل 
ذلك من الامانة بل ومن الواجب ان اذکر محاسن بعض القادة والزعماء السیاسیین 
الذين ترکوا بصمانهم العمیقه في تاريخ السودان خاصة الذین عرفتهم عن قرب قريب 
مما جعلني في موقف متمکن وموقع قوي استطیع معه ان اکتب وباختصار شدید 
الجوانب الاخری من حياتهم الخاصة التي لا یعرف الناس عنها شيئا الا فثة قليلة من 
دواثر الخلان والاصدفاء . 


السید عبدالله خلیل : 


رجل عسكري النشأة والطباع والعادات لا یعرف الخطابة ولا يؤمن بها ویسمیها 
(ثرثرة فارغة ودوشة دماغ) غامض جداً جدا . وجهه جامد لا يعبر عن اي شي لا 
تحدث فيه اي ردود فعل مهما كان الوقف کبیرا . شجاع قوي الشخصية قوي البنية 
بجانب انه ودود ووفي لاهله واصدقائه کریم جدا وفي صمت حتی يخيل للانسان ان 
جیبه منقوب ویده كذلك منقوبة . 

من قصص وفائه وکرمه ورجولته الخارقة : انه عندما كان في القاهرة في احدی 
زیاراته کرئیس للوزراء وکثیرا وغالبا ما كنت رفيقه ویومها ترکته في القاهرة ولیومین 
فقط سافرت خلالهما إلى طرابلس في رحلة خاصة حملني فيها رسالة للسید عبدالجید 
کعبار رئيس وزراء ليبيا وکان فحوی الرسالة اعتذارا عن الزيارة التي كان من القرر 
ان يفوم بها إلى لیبیا اما الرسالة الشفوية التي حملنها لرئیس الوزراء الليبي فکانت 
نهدف إلى تفوية العلاقات بين البلدین ومحاربه الشيوعية ومقاومة اي دولة تحاول ان 
تتدخل في شوّون البلدین والاشارة هنا كانت واضحهة . 

ادکر ان رد رئيس الوزراء الليبي انحصر في ان لیبیا فقيرة (وفي حالها) لا تقوى 


۱۲۸ 





عبدالله خليل 
على منازلة احد في اي ميدان لكنها بالطبع تؤمن بمقاومة السيوعية وبضرورة » تحسين 
العلاقات بين السودان وليبيا الممتدة من عهد المهدي الکبیر . 

قابلت مع العم عبدالله خليل الرئيس عبدالناصر اكثر من مرة في الخرطوم والقاهرة 
وسمعت الرئيس ناصر يقول له في كل لقاء عبارة مكررة : 

«يا سعادة البيه رغم ما بيننا من خلاف وجفوة ء فانا احترمك جدا واحب صراحتك 
جدا جدا ؟. 

كان أصعب واخطر مواجهة بين الاثنين هي الخلاف خول منطقة (حلايب) في 
حدود البلدين عندما ادعى كل منهما ملكيتها ودخلها الجیش المصري واحتلها عنوة فما 
كان من عبدالله خليل رئيس الوزراء ووزير الدفاع الا ان اعلن حالة الطوارىء واصدر 
أوامره للجيش بالتوجه فورا إلى منطقة النزاع وطرد الجيش المصري بالقوة وقبل أن 
تقع الواقعة تدخلت العناية الالهية وصدرت الاوامر للجيش المصري بالانسحاب فورا لا 
خوفا من الاصطدام كما يتبادر إلى الاذهان ولكن لان الشعب السوداني كله بما فيه 
الوحدويون والوظفون والطلبة والعمال والشیالون والنشالون والصعاليك كان ولاول مرة 
في تاريخ عبدالله خليل قد أيد وشد من أزره ووقف بجانبه ولاول مرة كذلك ينزل 
الشوارع هتاف جديد غير معروف ولا مالوف » ومن شرفة مجلس الوزراء كان عبدالله 
خليل يراقب الذي يجري في جمود وبلا ردود فعل ظاهره وهو يسمع الهتافات : «وراك 


١١8 


رجال يا عبدالله ... يخوضوا النار يا عبدالله » ولكن سرعان ما علق قائلا : «عالم ما 
عندهاش شغل»! ولعبدالله تاريخ معروف اذ اعتاد ان يستقبل كل يوم المظاهرات 
العدائية في منزله القريب من منزل الازهري وهي تهتف بسقوطه وخيانته وقي يوم من 
الايام وفي مناسبة لا اذكرها بالضبط لان التظاهرات كانت كثيرة ومتعددة تقوم بلا 
سبب ولاي سبب ... في يوم من الايام ونحن على طاولة الغداء بدأنا نسمع هدير 
مظاهرات تتقدم نحو داره: «يسقط عبدالله عميل الاستعمار .. يسقط عبدالله عدو 
الشعب » فابتسم وقال: اليوم سأضع خاتمة نهائية لهذه المظاهرات الزعجة وفعلا عندما 
قربت من بابه بدأت في قذف الحجارة والطوب حتى خرج عبدالله وبيده بندقية سريعة 
الطلقات وما أن أفرغها في الهواء بصوتها الرعب المخيف. حتى اطلق المتظاهرون 
سيقانهم للريح تاركين وراءهم كميات من الاحذية والدراجات وكانت فعلا خاتمة 
المظاهرات! 

أعود للموقف المتأزم بين مصر والسودان. نزل المتظاهرون المؤيدون بالاجماع 
لعبدالله خليل للشوارع في كتل رهيبة غاضبة هائجة ثائرة وهجموا على السفارة المصرية 
وحطموا ابوابها ونوافذها ومداخلها مما جعل اخواننا المصريين رغم كثرتهم يختفون 
تماما من الشوارع واغلقوا على انفسهم البيوت حفاظاً على سلامتهم وكان ذلك أول 
وأخطر مواجهة مباشرة بين الشارع السوداني ومصر والمصريين مما جعل عبدالناصر 
يأمر وبعجل بل ويعلن الانسحاب في المذياع بنفسه قبل أن تتطور الامور وتخرج من 
اليد فتترتب عليها اثار قريبة وبعيدة لا تخدم مصالح السعبين الشقيفين . 

ولست ادري واذكر حتى الان وعلى سبيل التحديد مصدر الخطأ الذي صعد الخلاف 
الى هذا الحد وعبدالناصر يعرف جيدا اهل السودان وطبائعهم !! 

.. لست ادري ولا اذكر ولكن لابد ان يكون ثمة خطأ ما غير مقصود ولا محسوب 
قد وقع . عندما عدت من رحلتي لليبيا توجهت ونزلت في فندق شبرد حيث اعد جناح 
خاص لعبدالله خليل وقد كان فندق شبرد وقتها هو أكبر وأضخم وأول فنادق القاهرة 
على الاطلاق . هنا اروي لكم قصة الاخلاق الرفيعة والسماحة والعفو عند المقدرة بكل 
معانيها . قال لي عبدالله خليل وقتها بالضبط وبالحرف : عندي ليك مفاجاة كويسة اليوم 
وفعلا تهيات جدا وظننت ان المفاجاة هي زيارة اخرى للرئيس عبدالناصر » وما ان 
ركبنا العربة حتى كانت المفاجأة كبيرة وكبيرة جدا وغير متوقعة حين قال عبدالله خليل 
لسائق العربة وكان يرافقنا ضابط مصري برتبة لواء وعدد من عربات الجيب والدراجات 
البخاریه ... قال له: «من فضلك يا اسطی عایزین نروح بيت الصاع صلاح سالم وكان 
وقنها معنقلا في بيته واختقی تماما وراء الاسوار ووراء الاحداث بعد ان ققد کل جاهه 
وسلطانه ووظائفه وفقد معها نفسه ٠‏ اضطرب اللواء والسائق معا ونزلا مهرولین 
مسرعین إلى أول عربة من عربات الجيب المتلثة بالحرس الخاص لرئیس الوزراء .. 


۱ ۲ ۰ 


هرولا معا بعد ان قال اللواء مضطربا ومرتجفا ومتلعثما : «بس ياسعادة البيه .. ارجوك 
لحظة واحدة .. عن اذنك ثانية .. مش حتأخر ! » وضحك عبدالله وأنا أنظر اليه في حيرة 
ودهشة لان الصاغ انذاك كان مجرد ذكر اسمه يعني من المحرمات وانتظرنا ونحن في 
داخل العربة والطريق مغلق امام المارة دقيقة وخمس دقائق وعشر دقائق جاء بعدها 
اللواء وهو في حالة نشوة وفرح قائلا: خلاص يا سعادة البيه أمرك مجاب وتحرك 
الركب بانواره الحمراء وبصفافيره المزعجة حتی ادركنا منزل الصاغ وقد خلا شارعه 
تماما من كل شيء الا بعض الحراس وهم يحملون مدافعهم الصغيرة ووقفت العربة امام 
القیلا ودخل امامنا اللواء وعدد من الضباط مسرعين مهرولين ليبلغوا الصاغ السجين ان 
رئيس الوزراء السوداني عبدالله بيك خلیل في زيارتك ثم انسحبوا ویبدو ان الصاغ عندما 
سمع «صفیر العربات والدراجات البخارية » كان قد فکر الف مرة تری من یکون غیره ؟ 
ان الفادم هو بلا سك صدیق عمره ورقیق دربه جمال عبدالناصر جاء لیفرج عنه خاصه 
وقد بدأ الرض يداهمه ویلازمه ولکن مفاجأة الصاغ كانت أكبر عندما عبر عنها 
بصرخات مجنونة محمومة » سأحاول مستعینا بالذاكرة والذاکرة لا تخون في مثل هذه 
الوقائع الكبيرة ان اذکر الالفاظ والعبارات ذاتها : 

«مش ممکن ... عبدالله بيك خلیل .. يا ناس انا في حلم والا في علم ايه اللي انا 
بشوفه ده مش معقول!! عبدالله بيه انا حاربتك ودفعت ملایین الجنیهات علشان 
احطمك تقوم تزورني وانا ضعیف وانا معتقل ؟ » انقض الصاغ بجسده الفارع الذي بدأ 
یتراخی ویتقوس وأدخل عبدالله خلیل في أحضانه وظل يبكي قلیلا قلیلا ثم بصوت عال 
ومرتفع ... امال فين صحابي ... فين الرغني ... فين الازهري فين نور الدین ... ده 
انا صرفت عليهم الملايين ماحدش يسأل علي في مصيبتي ومحنتي غير الشخص اللي 
ناصبته العداء وغلطت في حقه؟! 

رد عليه عبدالله خليل وكما قلت فانه قليل الكلام... رد على كل هذا الانفعال 
بجمل قصيرة حين قال: 

«والله يا صلاح سالم مش عارف اللي بعملوا ده هو عبط ولا بلاهة ؟ لكن على كل 
حال احنا السودانية طبعنا كدة بس انت ما كنتش قادر تعرفوا! بعد ذلك بدأ حديث 
المجاملة وكان الصاع هو الذي يتحدث بلا توقف وعبدالله يستمع ف نظرات صماء ووجه 
جامد غير معبر فشكا حاله وانه مريض وان طفلته اصيبت بالشلل وان عقله ذاته قد 
انشل وحالته وحالة عياله صعبة والحياة قاسية وذكر ملحوظة لم اتمالك - معها نفسي 
فاغرورقت عيناي بالدموع عندما قال: 

«راضي بحكمك یارب ... ده یمکن اللي عملتو في السودان وف الناس الطيبين زيك 
یا سعادة البیه ۰.۰ راضي بحکمك وظل برددها حتی لاحظت وبعد عشرتي الطوبلة - 
ومنذ ولادتي - ان وجه عبدالله خلیل الجامد بدأ یتحرك بل وبدأ ینفعل ولم یتمالك 


1۲۱ 


عبدالله نفسه ساعتئذ فضم اليه الصاغ بحنان لم اشهده فيه من قبل وقال عبدالله خليل 
للصاغ وهو يتأهب للقيام بالحرف : بكرة حاقابل عبدالناصر واكلمه عنك ثم خرج من 
جيبه ظرفا دسه في جيب الصاغ - واقسم جازماً رغم انني أعرف أدق أسرار عبدالله 
خليل لأنني كنت موضع ثقته وفي منزلة ابنه تماما إلا أنني لم أستطع ان اعرف كم كان 
بالدموع الغزيرة الا ان قال: راسك ابوسها ياعبدالله بيه ولم ينس حين ودعني ان يقول 
لي بالعبارة السودانية المعروفة : 

«ابقو عشرة على رجالكم يا مختار»! يعني خلو بالكم من رجالاتکم وامنحوهم 
الرعاية والعناية والاهتمام ». 

هذا ما كان من امر العملاق والامبراطور الصاغ سالم عضو مجلس ثورة ۲۳ يوليو 
وزمیل عبدالناصر ووزیر الارشاد القومي ووزیر شوون السودان والاهرام الاکبر في 
احداث السودان الذي انهار وانهار وذاب ثم غاص في اعماق النیل! 
ومفاجاة أخرى ! 


.. أما المفاجأة الثانية والاخيرة ان عبدالله خليل عندما قام في اليوم الثاني بزيارة 
للرئيس عبدالناصر لتكملة ما بينهما من محادثات قال لعبد الناصر بالصراحة التي أحبها 
واعجب بها رغم الخلاف والجفوة ... قال بالبلدي السوداني الذي يعرفه ناصر جيدا 
قال : 
واللي ما فيهوش فايدة ومش حيوصل لشيء... قبل كله دا عايزك تسامح اخوك 
صلاح .. طبعا انت عارف انا زرته امبارح في بيته لقيتو تعبان خالص ... دا انهد 
ده ») 

عبدالناصر : 
كثيرة ... فاكر حكايتو مع المهدي ؟ ! . ولازم كل واحد يغلط فينا ياخد جزاه ... الصاغ 
أخطاؤه كبرت ووسعت ورغم نصائحي المتكررة ليه وهو الذي خلق لي وجع دماغ 
اهلنا وأحبابنا السودانيين » 

عبدالله خلیل : 

«معلیش دلوقت الراجل مسکین راح في شربة مية وکمان مريض ومحتاج هو وعیاله 
لعلاج وکمان (جعانین) ما عندوش اكل يا اخي ما يصحش وانفعل عبدالله خلیل 


۱۳۲ 


حتى اوقع بالطريقة السودانية اليمين المغلظ عندما ناوله عبدالناصر كوب الليمون عبدالله 
خليل: علي الطلاق مش حاخذ (جقمة) يعني رشفه من ليمونك الا اذا وعدتني وعد 
رجال - وانا بعرفك كويس خالص عندما تعد بتوفي انك حتصالح صاحبك وترحمه وقد 
كان واوفى عبدالناصر الوفی بعهده وبعد ايام قليلة ظهر في الصحف والاذاعة نبأ تعيين 
صلاح سالم رئيسا لمجلس ادارة جريدة دار المساء!! 


صورة ثالثة : 


.. عندما تم اختيار عبدالله خليل رئيسا للوزراء لأول مرة جاءه المجاهد صالح 
عبدالقادر رفيق دربه وزميل طفولته يقول له ان الشعب قد توج جهادك وكفاحك فرد 
عليه قائلا : 

«كلام فارغ انا مازلت في نظر الناس جاسوسا وعميلا للانجليز والشعب لم يتوجني 
ولم يخترني وانما الذي جاء بي إلى هذا المقعد هو حزب الامة والسيد عبدالرحمن 
المهدي وانت يا صالح وبقية الاخوان عملتوها في بشهاداتکم في محاكمات ۶ ۱۹۲ الله 
يجازيكم ! ! » 

قال له صالح وهو یبتسم ساخرا: مش برضو احسن اهو مازلت عايش وبقیت رئيس 
حكومة ولا كنت عايز تنشنق ولا تضرب رصاص زي اخوانك ... الحق على انا اللى 
انقدتك من مصايب نورة !!۱۹۲٤‏ 1 ۱ 

عبدالله خلیل : 

اخواني مالهم على الأقل ماتوا شهداء والشعب بیحترمهم ... فرد عليه صالح قائلا : 
یاهدا لا تكن مخرفا او نظریا مين دلوقت اللي عارفهم حد جایب خبر «علي 
عبداللطیف ولا الاظ » ما خلاص ماتوا والتاریخ ذاته اعطاهم ظهره فلم يعد یذکرهم ... 
اهو انا اللي قدامك مش قادر آکل لقمة !! 


۱۳۳ 


۶ الفصل العاشر ¢ 


© من فتل دوق هرر الانيوبي ؟ 
© هيلاسلاسي یستدعی عبدالله خلیل فورا- 


ليتحقق فقي اشاعة الانقلاب . 





.. نعود إلى الخرطوم بعد غيبة قصيرة طفنا خلالها على بعض الدول الافريقية وقد 
تضطرنا الظروف والاحداث متى ما كان ضروريا ان نعيد الكرة مرة ومرتين لأن الذي 
يربط بين السودان والدول الافريقية امره كبير وجلل فمن واقع الجيرة والانتماء الروحي 
والسياسي والاهداف الشتركة والعلاقات الازلية لابد ان تتشابك بيننا الاحداث حلوها 
ومرها مما يؤثر علينا تأثيرا مباشرا في مسيرتنا الحياتية خاصة واوجه الشبه بيننا وبين 
العالم الافريقي كبيرة وعميقة وكثيرة ومؤثرة . 

نعود إلى الخرطوم والى ميادين السياسة لنجدها في قمة فورانها وغليانها ولنلمس 
حقيقة مريرة هي ان الجهاد قد توقف تماما بخروج الانجليز ورفع العلم واعلان 
الاستقلال لينصرف إلى زوايا منحرفة ضيقة انحصرت تماما في الاشخاص والنافع 
الحزبية والسياسية وما ان فازت حكومة مؤتلفة او قومية الا وتهددها الاسقاط والسقوط 
من جدید لان سوق النخاسه وشراء النواب والذمم والضماثر اصبح قویا وعریقا ورائجا 
ومتمکنا .. وقلیلا قلیلا بدأ الشعب ینفض من أحزابه وزعمائه وقادته حتی الکبار امثال 
الامام الهدي بدأ يشكو لطوب الأرض من الاعباء الالية الكبيرة التي تکاثرت وتزایدت 
بسبب الزایدات النيابية والسياسية فضاق ذرعا بها خاصة عندما بدأ يلاحظ بداية التمرد 
والتفتح والتضوج السياسي حتی بين صفوف انصاره ! 

ادکر مرة انه استدعی کعادته وفدا من رجالاته لیعطیهم «الاشارة » والاشارة في 
قاموس الانصار معناها الامر السامي الذي يصدره الامام دون ان یقوی احد على 
معارضته كان الامام یجلس کعادته في منتصف الصالون الکبیر للقصر وحوله الانصار 
وبعد التحية والسؤال عن الحال والاهل قال لهم في شکل آمر ولکن في لين شدید يؤكد 
سمو اخلاقه وتواضعه . 

«اسندعیتکم حتى تؤيدوا «فلان الفلاني » ولنقل ان اسم فلان هذا هو «سندس » 
وتعطوه اصوانکم في الانتخابات القبلة وتجاهدوا حتی ینجح ویفوز ؛ فما كان من احد 
الکبار الا ان وقف بظهره القوس ولاول مرة في تاريخ الحياة الانصارية وقف لیقول 
للامام انه سیعمل بأوامره وینفذ مشیئته ولکنه شخصياً لن يعطي صونه لسندس هذا, ثم 


۱۳۷ 


روى أسبابه في قصة تحكي الواقع الاليم رغم ما فيها من طرافة وقد كانت عبارة عن 
حینیات طويلة تدعم اسباب رفضه . قال موجها حديته للامام : 

«طلبت مني يا سيدي ان ننتخب «سندس » في الجلس الاول ویومها تزوجت 
أمراتي الرابعة فلم يتكلم «سندس » ثم انتخبناه للمجلس الثاني ولم يتكلم ثم وضعت 
زوجني ابني الاول وانتخبناه للمجلس الرابع فلم يتكلم وكبر ولدي وتكلم «وسندس » لم 
يتكلم بعد لذلك فانني ارى بانه غير جدير بتمثيلنا لكننا لا نستطيع ان نرفض لك امرا 
وجلس السيخ بين صمت الحاضرين وتطلعهم المتواصل إلى وجه امامهم وکبیرهم ». 

لم يتمالك الامام نفسه فاستأذنهم لدقائق ودخل مكتبه متأملا في حديث الشيخ الذي 
عركته الاحداث والسنون لكنه ما لبث ان خشي من حديث السيخ الخطير الذي يمثل 
ظاهرة جديدة وخطيرة لابد ان يهيىء لها نفسه ويضع لها الف حساب فالطريقة التي 
وضع بها الشيخ حيثياته بالرغم من انها كانت مؤدبة ومقنعة الا أنها كانت ظاهرة غريبة 
في مفهوم الامامية والانصارية التي كانت تأمر فتطاع دون اعتراض او مقاومة مهما 
كانت مفلسفة ومهما كانت صغيرة . بدا الامام المهدي بعد هذه الواقعة التي تعطي 
موشرا كبيرا وهاما بالاضافة إلى تمرد النواب وسوق النخاسة التي ترتبت عليها مشاكل 
مالية كبيرة لابد للامام ان يواجهها ان اراد كسب المعارك » بعد كل هذا وذاك زاد ضيقه 
بالحياة البرلمانية والنيابية كلها مما جعله فريسة للضيق والتبرم . وق هذا الجو الضطرب 
المليء بالاحداث السريعة والمتلاحقة بدأ ابنه السيد الصديق رئيس حزب الامة يفقد ثقته 
بالائتلاف القائم بينهم وبين اليرغني والختمية بسبب المشاكل المتأصلة والعميقة. بين 
التيارين الحاكمين . فالتيار المصري الذي كان يقوده في مجلس الوزراء الشيخ علي 
عبدالرحمن كان طاغيا وجارفا وبارزا وعبدالله خليل رئيس وزراء الائتلاف اصبح عاجزا 
عن اتخاذ القرار واصبح خائفا في نفس الوقت من سقوط حكومته ان هو حاول 
المعارضة المكشوفة » لكنه في قرارة نفسه كان يفضل هذا الموقف على اية محاولة لتقريب 
وجهات النظر مع التيار القوي الثالث وهو تيار الوطني الاتحادي برئاسة الازهري وكان 
مما شجعه على موقفه :هذا انه كان يراقب بعین نصف مفمضة محاولات التقریب 
ومساعي اللقاء والوقاق التي كان يقوم بها السید الصدیق الهدي رئيس حزبه مع زعماء 
وقادة الوطني الانحادي . ورغم ان هذه اللقاءات التي مهد لها نفر من الجانبین كانت 
تتم في سرية تامة الا أن آبعادها وملامحها بدأت تتضح لكل ذي عقل وبصيرة حتی 
أصبحت عارية ومكشوفة في الشارع» وحتى أوشكت ان تكلل بالنجاح فيشكل حزب 
الامة حكومة جديدة بالوفاق مع الازهري بدلا من الميرغني . هذا ما كان يسعى ويؤمن 
به السيد الصديق المهدي . 


۱۳۸ 


وجهه نظر اخری ... 


.. ومن جهة اخرى بدأ عبدالله خليل يلعب لعبته الخطيرة لأن مثل هذا اللقاء ان تم 
فانه يهدد مستقبله السياسي وكان معناه ان يفقد مقعده لا في رئاسة الوزراء وانما قد 
يتهدد في مقعد سكرتارية الحزب وبداً لعبته بالهمس في اذن الامام المهدي بان البلاد لا 
يمكن ان تستمر بهذه الطريقة المزرية المضطربة وان شيئا ما لابد ان يتم لانقاذ ما يمكن 
انقاذه . ونشطت الاجتماعات السرية والعلنية بين مختلف التكتلات السياسية والحزبية 
حتى ظهرت في الشارع السوداني اشاعة قوية تتحدث عن انقلاب عسكري يعد له 
عبدالله خليل في الخفاء ليطيح بكل شيء. 


خليل إلى انیوبیا 


في هذا الجو التوتر فاجاً السيد عبدالله خليل رئيس الوزراء وسائل الاعلام ودوائر 
الاحزاب والشعب كله بانه مريض وانه سيقوم بزيارة خاصة لاثيوبيا حيث يقضي بعض 
الوقت في حمامات «بشفتو» ذات الیاه المعدنية الساخنة ولا كنت انا شخصيا قد 
فوجئت بهذا النبأ واعلم علم اليقين بأنه ليس مريضا وانما ينوي شيئًا كبيرا الححت عليه 
في ان أصحبه في رحلته هذه فوافق من الوهلة الاولى قائلا : 

«كويس برضوا حاحتاج لك ... استعد للسفر ». 

بدأت التصريحات والتعليقات في الصحف الحزبية والمستقلة تتزايد وتتکاثر حول 
رحلة رئيس الوزراء في ظروف صعبة وملتهبة وبداً المحللون وقادة الاحزاب ينتقدون 
ويهاجمون ویشککون في امر هذه الرحلة في وقت تتحدث فيه البلاد كلها همسا ثم 
بصوت مرتفع عن انقلاب عسكري منتظر ولكن عبدالله, خلیل كان قد سد «اذنه اليمنى 
بطينة واليسرى بعجينة » كما يقول المئل! فلم يرد بل ولم يابه لما يكتب او يقال او 
يساع ! ! 

.. كل شيء في الخرطوم كان فائرا ومتوترا وملتهبا ومتربا ومرعدا . الطقس . 
السياسة » الاحزاب » الصحف . البیانات ‏ الاتهامات» التصريحات . السادة القادة» (اهل 
الله )۰ وأهل الفن؛ وناس الشارع . الاشاعات بوقوع انقلاب عسكري كانت مفروشة في 
السوق العربي؛ وفرندات الدکاکین» عدد کبیر من الزعماء والسیاسیین وعلی رأسهم 
الازهري وعلى عبدالرحمن ومبارك زروق کانوا بعیدین عن السودان . کانوا في العراق . 
عبدالله خلیل كان رئیسا للحكومة الائتلافية بين حزبي الامة والشعب الديمقراطي . 
السید الصدیق الهدي رئيس حزب الامة كان يحاور ویناور الوطني الاتحادي للدخول في 
حلف او اتفاق وعبدالله خلیل براقب کل ذلك في صمت ولا يريد بالطبع أن ینسحب 


۱۳۹ 


البساط من تحت قدميه فكان هو الاخر يحاور ويناور مولانا السيد علي الميرغني للابقاء 
على الائتلاف بينهما . في هذا الجو الضطرب واللبد بالغيوم والضباب يفاجىء عبدالله 
خليل الساحة السياسية المرتجفة بعزمه على السفر لاثيوبيا في رحلة خاصة للاستشفاء 
قنفوم القيامه » ويتكهرب الجو. وتعلو الانفاس والصيحات والاحتجاجات » ولكن سعادة 
البيك لا يعبأ لها ولا یهتم لها فهو جندي صارم وعنید یعرف الهجوم فقط ولا يؤمن 
بالتراجم والتقهقر فلماذا اذن سافر ؛ وماذاحدث بعد سفرهء وماذا حدث في اثيوبياء 
ومادا حدث بعد عودته ..؟ ! 

وفي صباح ۲٩‏ اکتوبر ۱۹۵۸ اقلعت بنا من مطار الخرطوم الطائرة القلة للسید 
عبدالله خلیل رئيس الوزراء في طریقها إلى اديس ابابا ولم يرافق عبدالله خلیل في هذه 
استغرق في النوم وبدأت ادردش مع السفير ملس الذي تجمعني به صداقة وطيدة قوية 
فملس وشقيقه امان عندوم الذي كان قائدا للحرس الامبراطوري الاثيوبي كانا اصلا قد 
ولدا وترعرعا في الخرطوم حتى عاد بهما الامبراطور من منقاه في الخرطوم في اوائل 
الاربعينات لاثيوبيا وقام بالاشراف على تربيتهما «تربية امبراطورية » فاصبحا في عداد 
ابنائه المخلصين . كان الشقيقان ملس وأمان يتحدثان ويكتبان وينطقان العربية بدرجة 
يشك أقرب الاقربين اليهما انهما غير سودانيين وفي نفس الوقت كانا يتحدثان 
«الامهرية » باعتبارها طبعا لغة الاباء والامهات . 

قال لي ملس ونحن ما زلنا في الطائرة : 

۰ ... عمك عبدالله الدور دا حيعملها فيكم لكن اعتقد ان الامبراطور سوف يتمكن 
من ايقافه او على الاقل ارجو ذلك!› 

فلت له: 

«ايه حكاية الرحلة الخاصة التي احدئت ضجة في الخرطوم ... ما هو أصلها ؟ !». 

اجابني ملس : 

«والله شوف هي مش خاصة وانما دعوة عاجلة وشخصية من الامبراطور لعبدالله 
للحضور فورا إلى ائیوبیا ... طبعا انت عارف انا کتبت تقریر سری للامبراطور عن 
اشاعة الانقلاب والامبراطور انزعج وطلب من عبدالله الحضور فورا ومضینا نتجاذب 
اطراف الحدیث حتى اعلن قائد الطائرة باننا على وشك الهبوط في مطار اديس ابابا . 

ومن النافذة ونحن نقترب من الهبوط رأيت عجبا ... استقبالات رهيبة وحشودا 
كبيرة للغاية كلها تنفي بالبنط العریض ان الزيارة خاصة ثم ما ان هبطت الطاثرة حتی 
رأيت الامبراطور ووزراءه والحرس وکبار الستقبلین ورجال السلك الدبلوماسي والجالية 
السودانية و ... و ... آلاف من الواطنین من الجنسین . 


۱۳ ۰ 


نزلنا من الطائرة وتلقى الضيف والمضيف قرة قول الشرف وعزفت الموسيقى 
السلامين السوداني والاثيوبي وبدأ الركب المهيب وعشرات الدراجات البخارية تشق 
الشارع في صعوبة شديدة وأمواج المستقبلين تفور والفتيات الاثيوبيات وبنات الفنون 
الشعبية يغنين ويرقصن ويزمرن ويهتفن في السوارع» کل الشوارع . 

كانت الفاجاة الكبرى ان الامبراطور قد استضاف ولاول مرة زائرا له ف قصره 
الجديد «الجبولي » الذي لم يفرع بعد من التشّطييات النهائية وكان ذلك بمنابه المبالغة ف 
تكريم عبدالله خلیل . وكان القصر الذي يعتبر اليوم المقر الرئيسي لحكم منغستو هيلا 
مريام وهو في مواجهة قاعة افريقيا تحفة معمارية نادرة فقد اعد في الطابق الاول جناح 
لعبدالله خليل كما اعد لي جناح صغير بالطابق الارضي وان كنت قد مضيت معظم 
وقتي في ضيافة صديقي العزيز السيد خليفة. عباس سفیرنا في اثيوبيا آنذاك . 

كان من المفروض ان يتم اول لقاء رسمي بين الامبراطور وعبدالله خلیل في نکاس 
والنصف من مساء نفس يوم الوصول بقصره «جنة اللویي » وما ان جلسنا في البهو 
الفاخر ثلائتنا عبدالله خلیل والسفیر خليفة عباس وانا حتی بدأت الشاکل تطل برأسها 





الؤلف یتوسط السفیر ملس عندوم على يمينه والسفیر خليفة عباس 


١١ 


خليفة عباس 


.. السيد خليفة عباس من أبكار رجالات السلك الدبلوماسي السوداني عمل سفيرا 
لنا بجانب اثيوبيا في العراق وتركيا وواشنطن وتدرج حتى أصبح وكيلا لوزارة الخارجية 
ثم اختارته حكومة قطر مستشارا لسفيرها في لندن ثم تونس وهو الان اكتفى بمداعبة 
مزرعته في «الجيلي» احدى قرى الخرطوم . وعرف خليفة في تاريخه الحافل بالحزم 
والشدة والصراحة والصرامة والصدق والامانة مما افقده الكثير من الاصدقاء وقد جمعتنا 
واسرتينا صداقة عميقة امتدت جذروها إلى ثلاثين عاما .. قبل ان نأخذ انفاسنا فجر 
السفير خليفة اولى قنابله المحرقة اذ قال لرئيس وزرائه ان التعليمات التي وصلته من 
الخرطوم تقول بأن الزيارة خاصة وهي كما يبدو بعيدة كل البعد عن الخصوصية وهي 
اكثر من رسمية في استقبالاتها وجميع مظاهرها وطلب من رئيس الوزراء تفسيرا يعينه 
في واجبه تجاه زملائه ووضعه كسفير للسودان في العاصمة الائیوبیه فما كان من عبدالله 
خليل الا ان أكد له بأنها زيارة خاصة مما جعل السفير يخرج البرنامج في حالة شبه 
عصبية ليدعم حجته بانها رسمية ثم ما لبث ان دخل الاثنان في مغالطة وعراك كلامي 
بعد ذلك تحول الحديث إلى زيارة عبدالله بك المرتقبة في المساء إلى القصر الامبراطوري 
وطلب السفير لاعتبارات كثيرة ان يصحبه. الا ان عبدالله خليل رفض مصاحبة السفير 
له مصرا على ان الزيارة خاصة ولا شأن لها بالسياسة والحكومة والدبلوماسية مما جعل 
السفير خليفة ينفجر في عصبية شديدة هذه المرة عندما قال: 

١‏ .. يا سيادة الرئيس في الخامسة سيأتيك ركب رسمي تسد له الشوارع والطرقات 
حیث يأخذك ال قصر الامبراطور وسيكون على مشهد من الجميع وكرامتي ومنصبي 
یقتضیان بان اکون في صحبتك والا ما معنی انني سفیر لکم ؟! 

۰ كل ذلك وانا مجرد مستمع للمغالطات الحادة بين رئيس الوزراء وسفیره کل 
مصر ومتمسك بموققه حتی وصل نقاشهما طریقا مسدودا فما كان من السفير خليقة الا 
ان قام وتوجه إلى احدی الوائد وسطر استقالته وسلمها لعبدالله خلیل الذي ما ان اطلع 
علیها حتى اخرج قلمه في عصبية شديدة واشر علیها بعبارة : 

«قبلت الاستقالة اعتبارا من الآن »... وکتب التاریخ والساعة ثم خرج السفیر خليفة 
بعد ذلك ف نورة شدیدة ودون ان یودعنا! 

ولا كنت اعرف الطرق التي توصل لقلب عبدالله خليل فقد طلبت اليه ان يذهب إلى 
جناحه ويخلع ملابسه ويرتاح قليلا ثم أخذت ورقة الاستقالة ووضعتها في جيبي وهو 
يراقب كل ذلك في صمت . 

كانت الساعة آنذاك حوالي منتصف النهار ولم يبق على الغداء الا ساعة واحدة تركت 
خلالها عبدالله خليل يأوي ويأخذ قسطا من الراحة بينما رحت اتجول في حجرات 


۱۳۳ 


وردهات القصر المنيف ولشْد ما كانت دهشتي عندما لاحظت ان جميع الخدم كانوا من 
الفتيات الرقيقات في مقدمتهن ثلاث يابانيات يانعات كن بمثابة الرئيسات وقد بلغ عدد 
الحسناوات اللاتي سهرن على راحتنا حوالي الخمس عشرة فتاة كلهن خريجات لاكبر 
جامعات الفندقة وكلهن يتسابقن ويتنافسن في الفتنة والمرح والجمال والدلال. 

.. لم تكن هذه هي زيارتي الاولى ولا الثانية لاثيوبيا فقد كنت ازورها مرة أو مرتين 
واحيانا ثلاث مرات في العام اما لعمل صحفي واما برسالة هامة من الخرطوم إلى 
الامبراطور الذي عرفني معرفة تامة خلال هذه الزيارات المتكررة واصبحت في مقام 
ابنائه .. كل ذلك يرجع إلى علاقتي الاسرية بالامام المهدي التي وثقت من علاقتي 
ورابطتي بالامبراطور واسرته إلى درجة افاخر بها امام زملائي . 


موتمر القمة ... 


.. اذكر في افنتاح مؤتمر القمة الافريقي ابان تولى الصادق رئاسة الوزراء عام ۱۹۰ 
ورئاسة مجلس السيادة الازهري كنت ضمن وفد السودان لائیوبیا وعندما ذهبت إلى بهو 
الصحافة في فندق هیلتون في الیوم الثاني وجدت عددا لا یستهان به من کبار صحفيي 
العالم وعلی رأسهم اريك دوننتون کبیر مخبري الديلي تلغراف وكنزلي مارتن وجون فاین 
وغیرهم وغیرهم من الصحفیین العرب وقد كنت اعرف معظمهم من لقاءات ومناسبات 
مختلفة ومتكررة ووجدتهم یشکون لطوب الارض من آنهم طلبوا مقابلة الامبراطور منذ 
اسبوع دون ان يتمكن احدهم من ذلك وکانت صیحات الغضب والاستنکار واضحهة 
وبارزة على الوجوه فاستغللت هذا الوضع استغلالا صحفیا بعیدا فقلت لهم في شيء من 
الکبریاء وف صوت مرتفع تعمدت ان یسمعه اکبر عدد منهم » قلت : 

«هذا شيء غريب اما انا فقد وصلت بالامس وعلى موعد في الحادية عشرة مع جلالة 
الامبراطور ؟ ! » 

وبدأ كل من في القاعة بحدجني بنظرات ساخرة كانت كلها تصرخ في وجهي قائلة 
بصوت مرتفع : ۱ 

«بلاش فشر ... بلاش أنزحة !۱ 

واطلقت قنبلتي الثانية وأنا أفحص الوجوه الستنكرة والأفواه الفتوحة والتي لم 
تصدق مزاعمي عندما قلت لهم وقد انتفخت کل آوداجي » : 

«من المدهس ان اتوکتما وزير الخارجیه هو الذي سیحضر ليرافقني إلى الامبراطور 
ولست ادري نادا ناخر هکذا ! » 

.. وهنا تبادل الجمع النظرات في سخرية غريبة واوشك بعضهم ان يطبق على عنقي 
التطاول حتی یعیده مکانه وصمت الجمیع وهم یرقبون هذا الغرور العتوه الجنون 


۱۳۳ 


الذي يتحدث في كبرياء وتعال محاولا الغاء عقولهم ووجودهم!! 

لم تخذلني فراستي » ولم تطل حيرة الجميع ونظراتهم المشدودة الساخرة حتى دخل 
وزير الخارجية صديقي اتوكتما وبالأحضان ثم حيا بقية الجالسين بحركة من رأسه وقال 
لي فاتحا ذراعيه: 

«هل انت جاهز ! ؟ 

وهنا فقط بدأت انتفخ كبالون الهواء وغيرت طريقة حديثي حتى مشيتي في الارض 
وتعمدت قبل ان اخرج من الباب ان ارفع كلنا يدي بحركة ملوكية مودعا جمع 
الصحفيين وهم بين مكذب ومصدق وراحوا يتابعونني ويلاحقونني بنظراتهم حتى 
اختفيت عن عيونهم ! ؟ 

. بدأت علاقتي بالامبراطور واسرته في ١507‏ . وفي يوليو عام ۱۹۵۷ عندما انشأت 
اول وكالة انباء افريقية في الخرطوم قمت بزيارة اثيوبيا تسبقني توصية من السفير وفي 
جيبي خطاب شخصي من الامام عبدالرحمن المهدي لجلالة الامبراطور وكان قصدي من 
الزيارة ان احصل على بيان من جلالة الامبراطور افتتح به الوكالة الجديدة فاستقبلت 
استقبال الكبار وفي يومين قابلت الامبراطور وحصلت منه على بيان كبير وهام وخطير 
آنذاك ما ان صدر في أول عدد من اعداد الوكالة حتى رددته صحف واذاعات العالم مما 
فتح أمامي آفاقا عديدة ومن يومنا الأول فكانت بداية طيبة وموفقة للوكالة الوليدة التي 
جاءت عملاقة . 

.. تكررت زياراتي لاثيوبيا وتعرفت على عدد كبير من أعضاء الاسرة المالكة وعلى 
رأسهم دوق هرر الذي كان معبود ومحبوب والده الامبراطور . كان دوق هرر شابا حيا 
متحمسا استطاع ان يثبت وجوده في السارع الاثيوبي وكان نشطا يتقدم ويتبنى كثيرا 
من المشروعات الاصلاحية والتعليمية والاجتماعية في بلاده مما زاد في حب الناس له 
والتفافهم حوله » انه خرج عن القاعدة الامبراطورية الموروثة وتزوج مدرسة من عامة 
الشعب كانت أجمل ما في اثيوبيا ... زهرة صغيرة حلوة رقيقة تسعى في مشيتها كأنها 
النسيم وعندما تضحك او تتحدث او تتثنى يتحرك حولها الصخر وتتراقص الثريات 
وتصدح أسراب الحمام اعجابا وحبا وهياما . 


من الفاتل ؟ 


.. لم يكن دوق هرر ابن الامبراطور من زوجته ام ولي العهد الذي كان دائم المرض 
ومنطويا على نفسه بدرجة جعلت امه الامبراطورة تخشى عليه من اخيه لابيه من ان 
يسطو على كل شيء بحيويته الفاثرة وشخصيته المحبوبة فبدأت تكرهه وتغير منه بدرجة 
كبيرة حتى ان أصابع الناس ... كل الناس ظلت تشير اليها بانها كانت وراء مقتل دوق 


۱۳ 





هرر في حادث التصادم المشئوم الذي راح ضحيته والذي أدخل الامبراطور في عالم 
الاحزان والالم بشکل مستديم لم يستطع ان يخرج منه حتى مات ولحق بابنه !! 

وبالمناسبة فان زوجة الامبراطور هيلاسلاسي كانت في الاصل زوجة للامبراطور 
منليك الذي سطا على عرشه هيلاسادبي وقضى عليه وورث عنه الحكم بما فيه زوجته 
ويبدو من تسلسل أحداث التاريخ ان الامبراطورة الفجوعة في عرشها وزوجها الاول 
ظلت تكيد للامبراطور حتى عرفت مواجع الألم فيه فقضت على حبه قضاء تاما عندما 
اتهمت بمصرع فلذة كبده ومحبوبه وصفيه دوق هرر! 

لن انسى اثيوبيا مطلقا فقد أودعتها ذكريات حلوة وعطرة ستبقى ما بقي الزمن 
فالاصدقاء الذين ما زالت تربطني بهم علاقات قديمة اوفياء بالرغم من أن معظمهم 
مات مقتولا في احداث الانقلابات فتفراورك وزير القلم وأقوى شخصية ثم الرأس تفرا 
وزير الدفاع وصهر الامبراطور «وهبت والد » رئيس مجلس النواب «ومكنون اندلکشو » 
رئيس الوزراء كانوا من أول ضحايا الثورة في الجزرة الرهيبة التي مزقوا فيها 
بالرصاص في قصر الامبراطور ! ! 

كانت الصلة التي تربطني بالسفير ملس عندوم الذي يعيش الان في المنفى في 


۱۳۵ 





القاهرة على مقعد متحرك وشقيقه امان عندوم قائد الحرس الامبراطوري صلة قوية 
وعميقة وكانا يعتبران من ابناء الامبراطور المحبوبين والمقربين خاصة الجنرال أمان 
الذي تدرج في الجيش حتى أصبح جنرالا وقائدا للحرس الإمبراطوري » وكان يسكن في 
القصر مع الامبراطور ... وكان ظلا لا يفارق الامبراطور ومع ذلك فقد انتهى كل شيء 
بينهما نهاية ماساوية غريبة ورهيبة سنخوض تقاصيلها فيما بعد . 

قصدت من كل هذا ان اعطي فكرة واضحة عن مدى العلاقة التي كانت تربط بيني 
وبين اثيوبيا والتي مكنتني إلى حد كبير من الالمام الماما تاما بما كان يجري في ردهات 
قصورها من همسات ومؤامرات وتخطيط . ومع ذلك فقد كان الامبراطور قويا عانيا 
تركع له الجباه وتقف امامه الانفاس ودقات القلوب وبالرغم من انه كان قصيرا نحيلا 
يداعب رفيقه الاسد العجوز فقد وهبه الله قوة ف صونه تسّبه قصف الرعد وكان لا 
يجلس في حضرة ضيوفه الا على منصة حتى يصبح أعلى من الجميع . 

.. ومن الاشياء التي استرعت انتباهي وظلت عالقة وستظل كذلك إلى الابد انني 
عندما دخلت على الامبراطور مرة وكان يصحبني السفير ملس تسمرت في مكاني 
كالابله وانا ارقب السيد السفير ينبطح على الارض امام قدمي الامبراطور ويرفع يديه 
ثم يخفضهما مرات والامبراطور يبتسم ويرفع له أصابع يده اليمنى في شكل «صليب» 
علامة التبريك ثم يقف السفير على قدميه ويتقهقر حتى يختفي من صالة العرش . 

وعند خروجي من الامبراطور انحصر همي في سؤال صديقي السفير ملس عن سر 
الحركة التي قام بها دون ان يمد يده ليسلم على الامبراطور فقال لي وقد جحظت 
عيناه : 

«..انت مجنون ياعبدالرحمن لا انا ولا اي مخلوق غيري من الوزراء استطاع ان 
يلامس يد الامبراطور حتى الان والذي يركع امامه كما رأيتني هم فقط القربون 
اليه ! » . 

عجبي ! 

قلت له: 

وماذا عن تفرا ورك وزير القلم وهو أقوى وزير في البلاط الاثيوبي الم يمس يد 
الامبراطور ايضا ؟ ! 

فرد السفير قائلا : 

«تفرا ورك» «مين يا عمي؟ كذاب من يقول لك انه لمس يد الامبراطور الا 
الأجانب وأهل بيته وهذه عندنا عادة معروفة ومقدسة كالفرض المؤكد دلالة على الوقار 
والاحترام ولا تنس ان الامبراطور هو زعيم الكنيسة وسيف الله المختار والرجل المنزه 
الكامل وملك اللوك» وسبط يهوذا من سلالة النبي سليمان وملكة سباً . 


۱۳۹ 


7 الفصل الحادي عشر 0 


© رسالة خطيرة من سفير السودان بمصر . 
© حسناء تهمس في اذني : 

الامبراطور يريدك الان 

© الابن الذي اطاح بعرش ابیه لماذا ؟ 

© العودة إلى البرکان الثاثر 








صورة لاحدی زیارات عبدالله خلیل الرسمية إلى ائیوبیا 


اخذ عبدالله خليل قسطا لا بأس به من الراحة حتى اذا ما جاء موعد الغداء ذهبت 
لاتفقده وضحكت كثيرا عندما وجدته مستلقيا في استرخاء شدید على ارض غرفته 
فضحك هو الاخر قائلا: «يا اخي فرش السرير وثير وناعم لدرجة لم ترح ظهري 
فنصف المرتبة الاعلى من الحرير وريش النعام تماما كما كان في عهد هارون الرشيد ... 
حاولت مرة ومرتين ان استمتع به » لكنني غطست واوشكت ان اختنق ثم لبس ونزلنا 
معا للغداء وكانت مناسبة لا باس بها للتحدث معه بشأن خلافه مع السفير خليفة . كان 
عم عبدالله يبدو صحوا ونشطا بعد فترة الراحة ثم كان سعيدا بوجوه الحسان اللاتي 
التففن حولنا في المائدة «کعقد اللؤلؤ » وهن يتراقصن بالاواني وأطباق الاکل واللاعق 
والشوك التي كانت تحدث صوتا بشبه موسيقى السامبا ويتمايلن باجسادهن النحيلة 
وئغورهن الباسمة كهبات النسيم العطر مما جعل العم عبدالله في اغماءة شديدة ونشوة 
دغدغت عليه مشاعره واحاسيسه المتعبة المرهقة . 

نعم هذه هي الفرصة المناسبة ... قلت له : 

الا تعتقد يا عم عبدالله بانك ظلمت السفير خليفة! ؟ 

اجاب : 

«هو خليفة صاحبك ده اصله معقد وبتاع مشاکل خلاص انا قلتلو الزیارة خاصة 
یعنی خاصه ! ! » 

أنا : 

لكن الحقيقة يا عم عبدالله «ربنا ما شافوه بالعين لكن عرفوه بالعقل ». الحقائق 
والاستقبالات والامبراطور والركب والدافع كلها تقول انها زيارة رسمية ... الا تعتقد 
ذلك ! ؟ 

قال: 

«كلام فارغ! ده الامبراطور صاحبي خالص وأراد تكريمي فقط وبالناسبة انت 
حطيت الاستقالة بتاعت صاحبك في جيبك انا شايفك ... روح حطها في شنطتي!! 

انا : 


۱۳۹ 





ديا عم عبدالله ما في داعي للمشاكل وانا عندي حل وسط ينقذ الوقف المتأزم 
ويحفظ ماء وجه السفير ويوفر عليك مشاكل كثيرة . وباكر اذا وصل خبر استقالة 
السفير للخرطوم حتستغلوا المعارضة والصحف استغلالا تكون الخاسر فيه أنت! 

عبدالله : بلا صحف بلا معارضة بلا قرف ..! 

«ايه الحل الوسط بتاعك عامللي زي جحا!؟ ؛ 

قلت له : 

«الحل بتاعي ان السید خليفة بوصفه سفیرنا من حقه ان یکون برفقتك في العربة 
الامبراطورية والوکب الرسمي وذلك من دواعي الظهر لیحفظ حقه ومکانته امام زملائه 
وامام رجال القصر على شريطة الا يدخل معك للامبراطور وهدا من حقك انت کرئیس 
للوزراء! » 

.. صمت عم عبدالله ولم يعلق على اقتراحي وهذا يعني بالنسبه لي موافقة مبدئیه 
یمکن على ضوئها ان اتصرف بسرعة لان موعد مقابلة الامبراطور لم يبق له سوی ثلاث 
ساعات . وقبل ان اکمل معه الغداء استأذنته وخرجت ولابد انه عرف وجهتي فلم 
یعترض وذهبت رأسا إلى منزل صديقي السفیر خليفة وبعد محاولات طويلة قبل عرضي 
التواضع لأنه حفظ عليه ماء وجهه وارضی بشکل ما رئيس الوزراء فکانت خاتمة طيبة 
ومفرحة للازمة الدبلوماسية بين رئيس الوزراء وسفیره وانتهت قبل ان يسمع بها احد 
على الاطلاق ! 

جاء معي السفیر خليقة إلى قصر الضيافة وهو في زيه الرسمي ونياشينه العلقة وف 
لباقته العهودة استطاع ان ينقي ويصفي الجو بينه وبين عبدالله خلیل وما ان شارفت 


۱ ٠ 


الخامسة حتى وصل الركب الرسمي بلواءاته ودراجاته البخارية وصفافيره وحراسه 
وهيلمانه واغلقت الطرقات توجه عبدالله خليل ومعه سفيره ودخل قاعة العرش 
واستغرقت مقابلته مع الامبراطور حوالي الساعة والنصف والسيد خليفة ينتظره في غرفة 
مجاورة مع السفير الاثيوبي بالخرطوم وكبار موظفي القصر . وعاد عبدالله خليل 
وسفيره بنفس الركب والهيلمان الرسمي إلى قصر الضيافة وودعنا السفير خليفة على 
امل ان اقضى معه ومع اسرته تلك الليلة على دعوة عشاء سودانية . 

.. كان عبدالله خليل في حالة قلق واضطراب . لم يكن سعيدا كما خرج وطلع إلى 
جناحه وخلع ملابسه بنياشينها وأحزمتها والبدلة الفراك السوداء التي لها ذنب طويل 
كفستان الزفاف ورباط العنق . وبالمناسبة فان بروتوكول البلاط الاثيوبي كان من أصعب 
وأعقد البروتوكولات فالذي أنعم عليه الامبراطور مثلا بوسام ما في وقت ما لابد ان 
يلبسه عندما يزور قصره وكذلك يتمسك البروتوكول بضرورة البذلة الفراك والياقة 
النشاة والبمياق الاسود » ولكن يمكن لزائر الامبراطور ان يستعيض عن كل ذلك بزيه 
القومي المتكامل وهذا ما كنت افعله انا في جميع لقاءاتي واضعا نياشيني في العباءة 
وهي بالمناسبة اكبر نياشيني الامبراطورية ولكن العباءة السودانية الطويلة كانت كثيرا ما 
تسبب لي المشاكل وتوقعني في حرج ضحك له الامبراطور مرة بصوت عال اذ جرت 
العادة الا يعطي الزائر ظهره للامبراطور مهما كان مقامه او مكانه وعليه بعد الوداع ان 
يعود ويرجع متقهقرا «حركة وراء» ملوحا بكلتا يديه حتى يدرك المخرج وكثيرا ما 
انطوت عباءتي تحت قدمي وانا في حالة التقهقر هذه فاوقعتني مرة على الارض متكوما 
كجوال الارز مما جعل الامبراطور يضحك بصوت مرتفع على غير عادته . 

لم يفاتحني عم عبدالله خليل يوما بنيته في التمهيد لقيام انقلاب عسكري في السودان 
رغم ان رائحته فاحت في الشارع السوداني وأصابع الاتهام كلها بدأت تتوجه نحوه خاصة 
عندما أعلن عن زيارته المفاجئة لاثيوبيا ولا كنت أعرف طباعه ومزاجه ولحظات نشوته 
التي يمكن اسنغلالها للدخول معه في دردسة خاصة وسرية فقد تجنبت في لحظات توتره 
بعد عودته من مقابلة الامبراطور ان أتحدث اليه حتى يهدأ وتظهر عليه علامات الرضا 
والاستعداد للدردسة . 

.. استلقى عبدالله خليل على الارض بجلبابه السوداني وانا اقلب بعض الصحف 
والاوراق ثم قال لي بطريقته العفوية : 

ديا اخي انا في حيرة شديدة ... حاولت أستحم فلم اعرف مكان الحنفية ولا الدش .. 
كل الذي وجدته ازرارا حمراء وخضراء حتى «بيت الادب » لم أعثر له على اثر .. قوم 
من فضلك شوف لي المصيبة دي!!» 

.. دخلت الحمام فاذا به مجموعة الغاز لم اعهدها ولم أرها ولم أعرفها من قبل .. لا 
وجود لمعالم اي بانيو ولا مغسلة ولا «بيت ادب ۰... وفي الحائط الرخامي المرمرتي 


١١ 


الجميل مجموعة أزرار وكأنها شبكة مواصلات او دائرة تلفزيونية . كان من الممكن ان 
انادي على واحدة من الحسناوات لتحل لنا اللغز ... وكان عبدالله خليل يمكنه ايضا ان 
يفعل ذلك ولكن طبعنا الذي يغلفه الخجل والحياء وعدم الظهور بالجهل هو الذي 
آدخلنا في هذه المآزق الحرجة التي كنا في غنى عنها!! 

.. الهم توكلت على الله وبدأت أضغط الازرار واحدا بعد الآخر... أزرار حمراء 
وسوداء واخرى خضراء . خرج البانيو من بطن الارض بحنفياته المذهبة التي تسبه 
الثعابين ثم خرج «البديه » فحوض اليد وتمردت أحواض كثيرة اخرى وأقسمت رغم 
توسلاتي الا تخرج ثم بدأت اواجه مشكلة اخرى كيف احصل على الماء ؟ المهم في النهاية 
وقفت عاجزا وحاولت ان اعيد كل شيء إلى ما كان عليه ففسّلت مما اضطرني بعد 
محاولات يائسة ان استعين بواحدة من الحسناوات فجاءت وبخفة ورشاقه وحلاوة 
تحسد عليها ففكت الطلاسم والألغاز واستطاع عم عبدالله ان يستحم ومياه الكلونيا 
تعطره من كل جانب . 

... طلبت من الفتاة ان تجهز لنا الشاي «والنسكفي » بكل لوازمه فعم عبدالله يحب 
دائما ان يتناول واحدا منهما في مثل ذلك الوقت . وكانت الفرصة مواتية وقد خرج عم 
عبدالله لتوه من الحمام وهو معطر بارياح باريس ونهر السين ووجد امامه الشاي 
والقهوة على اوان من ذهب وفضة خالصة ... وبدات الدردسّة اذ جاء وقتها وحلت 


شا 
قلت له: 
«عمي ... ماذا هنالك ... لماذا عدت من الامبراطور وانت مش على بعضك »؟ ! 
عبدالله : 
مش وقته ساحدئك فيما بعد!!؟» 
انا : 


«لكني اريد ان اراك سعيدا لا متجهما هكذا فان كان خيرا شاركتك فيه وان كان 
غير ذلك احاول ان اخففه عنك ». 

عبدالله : 

ديا أخي .بلاش فلسفة .. كل ما هنالك انني زهجت مما يجري في السودان . 
الشعب كل يوم مظاهرات واصبح في حالة فوضى أخلاقية لا حدود لها .. والسياسيين 
كلهم كفروا بنعمة الحرية وبدأوا يعربدون زي العيال والبلد كلها بقت في حالة من الفوضی 
تهددنا جميعا بالخراب .. واذا سكتنا عنها حنروح في ستين داهية وحا يخدها 
عبدالناصر ونبقى (في حيص بيص ) ولذلك فلابد من عمل شيء يؤدب العالم دي!!؛ 

أنا : 

.. لكن ايه دخل الامبراطور بالسائل دي! ؟ 


۱۶ ۳ 


عبدالله : 

«الامبراطور صديق من زمان وما تنساش انا كنت على رأس جزء من القوات التي 
حررت بلاده وأعادته الى عرشه وهو فوق كل ذلك راجل واعي وحكيم وعنده خبرات 
كثيرة ممكن نستفيد منها وفوق كل ذلك فهو جارنا وشايل معانا الهموم ». 

انا : 

طيب يا عم عبدالله انا عرفت انو الامبراطور هو الذي دعاك ... صحیح! ؟ 

عبدالله : 

«مين اللي قالك الکلام الفارع ده... طيب انا بعد باكر مسافر «بشفتو» مع 
الامبراطور علشان الحمامات وانت عارف الرطوبة عاملة عمايلها معاي!» 

انا : 

«ابلغني بذلك ملس ... قال الامبراطور سمع باشاعات الانقلاب لذلك استدعاك على 
عجل للتاكد من الحقيقة! » 

عبدالله : 

«هو ملس صاحبك ده ليه بيطلع اسرارنا؟ دا أنا حاكلم الامبراطور علشان يرفتوا 
حالا بس لکن انا بحبو كثير علسّان هو ولد مؤدب خالص وبعرف كمان انه صديفك 
خالص خالص . 

انا : 

«علشان كده انا عارف وسامع كل شيء بس دي أول مرة يا عم عبدالله تخفي عني 
حاجة ... هل خذلتك في يوم من الايام!؟ 

عبدالله : 

يا اخي باكر حتعرف كل شيء ما تفتح معاي محضر بس انت عارف «وكالعادة 
وللمرة الالف قال لي: «والله العظيم تتكلم ولا تحاول تعمل شاطر وتطلع اسراري 
حاضربك بالرصاص »! ! 

لم يحدئني عبدالله في تلك الامسية بشيء وكانت الساعة قد اوشکت على التاسعة 
فاستأذنته بانني سأقضي الليلة مع السفير خليفة واسرته فقال: «طيب مع السلامة » 


۱۳ 


ليلة مع السفير ! 


.. كانت الليلة التي قضيتها مع صديقي السفير خليفة من أطول الليالي فلم يتمكن 
النوم من اقتحام جفوننا حتى الساعات الاولى من الصباح ... تحدثنا في كل ما يجري 
في السودان حديث المشفقين على بلدهم واهلهم وكان خليفة على علم بكل الشائعات 
التي ظهرت في الخرطوم عن التمهيد للانقلاب العسكري ثم جاعت زيارة عبدالله خليل 
وخلافه معه فزادت من علامات الاستفهام والحيرة وبالطبع فاننا ما تركنا شائعة ولا 
شاردة ولا واردة ولا ميدانا او حدثا الا وتناولناه بتفصيل واسهاب ٠‏ الشيء الوحيد الذي 
لم أتعرض له بالطبع هو سر الزيارة وتفاصيلها وأسبابها . وبالرغم من ان صديقي 
السفير خليفة حاول بطرق وأساليب مختلفة ان اسره بشيء مما يعتقد هو أنني أعلمه . 
إلا أنني ما فتحت له أبواب قلبي وما نطق لساني بشيء رغم العلاقة الوطيدة الحميمة 
والنقه المتبادلة التي تربطنا منذ عديد السنين .. 

.. في الصباح قام السید عبدالله بزیارات خفيفة عاد منها في منتصف النهار وتناولنا 
طعام الغداء ومعنا السفیر خليفة . الشيء الذي لاحظته من تساولات عم عبدالله 
الايحائية وغير الباشرة انه كان یتوقع محادثة خاصة من الخرطوم اما الاخبار الاخری 
بما فيها السياسية والديوانية فکان يزوده بها السفير اولا باول ولحظه بلحظة . 

ودعنا السفير خليفة بعد الغداء والدردشة الخفيفة وطلع العم عبدالله لجناحه حيث 
اعتاد ان يتسطح أو ينام كما شأن السودانيين بعد تناول الغداء وظللت أتشاغل بالقراءة 
في بعض الصحف واقلب احيانا التقارير الواردة من الخرطوم ورحت في اغفاءة صغيرة 
وكانت الساعة آنذاك حوالي الثالثة والنصف ظهرا وبعد ساعة تقريبا دق جرس التلفون 
الداخلي لينبئني بأن هناك محادثة عاجلة من وزير خارجية السودان للسيد رئيس 
الوزراء ورأينا ان نستشيرك اولا قبل ان نزعج سيادته ... قلت له: 

«هات الحادنه ! ..». 

هلو مين ! ؟ 

انا امین التوم «وکان آنذاك وزیرا للخارجية بالانابة » كيف حالك يا عبدالرحمن 
ممکن بالله اكلم عبدالله بك عندي رسالة هامة جدا ومستعجلة جدا جدا! ؟ 

أهلا أخ أمين ... بس والله عبدالله بيه طلع یرتاح . 

امین النوم : 

طيب حضر ورفة وقلم وخدها جاهز ... نعم : 


ء ۶ ۱ 


امین التوم وبصوت مرتفع : 

رسالة هامة من السید یوسف مصطفی التني سفیرنا في القاهرة إلى السید عبدالله بك 
خلیل رئيس الوزراء ووزیر الدفاع : 

التحية والاحترام : 

«یصل الى الفاهرة بعد غد ۲ نوفمير السيد اسماعيل الازهري وبرفقنه الشيخ محمد 
احمد المرضى ومبارك زروق قادمين اليها من بغداد كما وصلها اليوم الشیخ علي 
عبدالرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي وبرفقته السيد محمد نور الدين وعدد من 
قادة حزبهم وقد استقبلوا في القاهرة استقبالا ملفتا ومنقطع النظير كما تستعد الجهات 
الرسمية لاستقبال السيد اسماعيل الازهري استقبالا كبيرا مما جعل التكهنات 
والاستنتاجات كثيرة ومثيرة من أمر هذا التجمع الغريب والمفاجىء . 

وقد علمت من مصادري الوئوق بها ان الرئيس جمال عبدالناصر سيستقبل الوقدین 
كلا على حده ثم يستقبلهم معا في جلسة هامة وذلك بعد اجراء مشاورات وصفت بانها 
خطيرة للغاية وتهدد مستقبل السودان السياسي !!». 

يمضي السفير في الرسالة فيقول: 

اسرني نفر ممن اثق فيهم من رجال الصف الاول في الثورة وفي الصحف بان مصر 
تعد خطة محكمة للوفاق بين الازهري وحزب الشعب الديمقراطي وان الاحتمال كبير 
للغاية في اكمال هذه الخطوة وتتويجها باللقاء والتفاهم . 

ومن تحليلاتي واستقراعتي الشخصية - والكلام هنا مازال للسفير - التي ظهرت في 
الاجواء السياسية العليا ان الهدف من وراء هذا الاتجاه الجدید هو اسقاط الحكومة عند 
عودتهم مهما كلف الثمن وبلغ الجهد ثم تشکیل حكومة جديدة برئاسة الازهري ونيابة 
على عبدالرحمن تمهيدا لاعلان الوحدة بين السودان ومصر من داخل البرلمان ويبدو ان 
سبب هذه التحركات الغريبة والمريبة التي تجري في القاهرة هو الاشاعات التي ملأت 
الأجواء السياسية بان هناك تمهيدا لانقلاب عسكري مما زاد من مخاوف مصر 

التوقيع يوسف مصطفى التني سفير السودان بالقاهرة . انتهت الرسالة ! 

أعدت قراءة هده الر ساله مره ومردین وثلائا وبدأت تتجمع أمامي وبشكل سريع 
ومرتبك كل خيوط القصة التي يبدو ان السيد/ عبدالله خليل قد اعد أطرافها منذ عهد 
بعيد ثم حاول ان يستفيد من العوامل الزمنية بشکل مخطط ومدروس ومحسوب . 
ولاول مرة استيقن بعد الاطلاع على هذه الرسالة الخطيرة ان مسألة الانقلاب جادة 
وحقيقية وليست اشاعة وأوهاما وان المثل السوداني الذي يقول (مافي دخان بلا نار ) 
بدا يتحقق ف شكل واضح وسافر وسن 

.. توهمت في لحظة من لحظات التفكير العميق والحيرة والتأمل بان الرسالة قد 


۱ 0 


تكون مطبوخة ومزيفة من أولها إلى آخرها بل ومتفق عليها مسبقا حتى تعطي التبرير 
الكافي لعبد الله خليل للاعداد لانقلاب عسكري ومرد هذا التوهم ان صديقي يوسف 
التني وهو مهندس وشاعر ومرموق ومحدث لبق وزينة مجالس من أخلص المخلصين 
لعبدالله خليل الذي الحقه سفيرا بالسلك الدبلوماسي؛ واذا سلمت نفسي وعقلي إلى 
التوهم لقلت ايضا ان السيد أمين التوم وهو مساعد لسكرتير حزب الامة الذي هو 
عبدالله خليل نفسه وانه يقوم بتصريف شئون وزارة الخارجية وهو بالاضافة إلى كل هذا 
وذاك من أقرب الاقربين واخلص المخلصين لعبد الله خلیل ... اذا اسلمت نفسي وعقلي 
إلى هذا التوهم كله الذي تبرره قرائن الأحوال وملابسات الظروف التي تبدو مريبة في 
الحقيقة » فانني لا استطيع مع كل هذا وذاك ان انفي او الغى بعض جوانب 
الاحتمالات التي وردت في رسالة السفير الخطيرة . فالحقيقة الثابتة ان اشاعة التمهيد 
لانقلاب عسكري قد ملأت الشارع السوداني ومن ثم فان السفارة المصرية باستخباراتها 
المتقدمة لابد ان تكون لديها معلومات اكثر تفصيلا من الشارع مما يجعلها تضع حسابات 
دقيقة لاحتمالات الانقلاب» بل وتقاومه ان استدعت الظروف او اقتضت المصلحة او 
تبحث لها عن صاحب مصلحة حقيقية يقاومه لمصلحته ونيابة عنها في ان واحد . كل ذلك 
وارد ومحتمل اذ لا يمكن لمصر او للمعارضة السودانية ان تقف متفرجة دون ان تحتاط 
لكل أمر أو خطر ترى او تعتقد انه يهدد مصالحها بطريق مباشر او غير مباشر . 

.. الهم ما أن اكملت اعداد الرسالة وسرحت بعيدا في تحليلها وأبعادها وغصت في 
بحور عميقة من الحيرة والتساؤلات هل هي حقيقة واقعة » ام مزيفة ومتفق علیها ‏ ام 
هي مجرد اجتهادات!؟ ما أن اكملت كل شيء حتى هرولت بجلبابي إلى الطابق 
العلوي ودخلت على عم عبدالله وقلت له : كان امین التوم معي في التلفون وحملني 
رسالة خطيرة من يوسف التني ناولتها له فاعادها إلي وطلب مني أن اقرأها ففعلت 
وظللت أتطلع إلى وجهه فكان جامدا كعادته خاليا من كل تعبير او انفعال او رد فعل. 
ولعلني في مناسبات سابقة كررت وصفي هذا الذي عرف به عبدالله خلیل . 

قال لي عم عبدالله في لهجة حازمة أمرة : 

«كويس خالص ... قم بترجمتها للانجليزية ترجمة جيدة وحرفية وبسرعه شديدة 
وحذار ان تطلع صاحبك السفير خليفة او اي شيطان على تفاصيلها لا هنا ولا في 
الخرطوم واذا فعلت فانت عارف بانني سأضربك رصاص !! » (الجملة التقليدية ) وقبل 
ان أهم بالخروج وضع عم عبدالله نظارته على وجهه وبدأ يفتح حقيبته الخاصة ويراجع 
بعض الاوراق ثم قال لي بلهجة آمرة اخرى : 


۱:1 


تفرا ورك 


«قبل ما تخرج اطلب لي في التليفون (تفرا ورك) بسرعة ». وكما ذكرت من قبل 
فان تفرا ورك هذا كان وزير القلم كما كان أكبر وأخطر شخصية في البلاط الاثيوبي . 
كان كتلة من الذكاء والدهاء والمكر وكان فوق ذلك ظل الامبراطور الذي لا يفارقه الا 
في ساعة النوم . فعلت ذلك وبدأت الحادثة الخطيرة لكنني خرجت عندما حدجني عم 
عبدالله بنظرة حادة وعرفت ساعتها ان الامور تتطور بسرعة شديدة وبخطورة اشد! 

ما ان فرغت من اعداد الترجمة وخرجت إلى البهو حتى سمعت هرجا ومرجا وقرة 
فول سلاح وصراخ من الحرس و ... ودخل بعض الضباط بزيهم الرسمي والخاص 
يتوسطهم تفرا ورك وزير القلم وهو يتمخطر في مدخل القصر بهندامه المنضبط واناقته 
المعهودة. 

لم يحيني وانما قبض على يدي وهمس في اذني بسرعة عجيبة بان لي رسالة عاجلة 
سأبلغ بها الان فاندهشت وذهلت ولكن الوزير الخطير لم يمنحني فرصة للاستفسار 
فمضى في سيره نحو عبدالله خليل الذي ما ان سلمته ترجمة الرسالة حتى عدت إلى 
حجرتي وقبل أن استعد إلى الخروج سمعت طرقات خفيفة على بابي فأذنت لصاحبها 
بالدخول فاذا بها امرأة حلوة تبدو عليها ملامح المسئولية والكبرياء حيتني بانحناءة نصف 
داثرية كعادة أهل اثيوبيا وهي تشبه إلى حد كبير طريقة اليابانيين والصينيين وأهالي 
شرق آسیا .. وما أن همست المرأة الوقور في اذني حتى تسمرت في مكاني وأوشكت 
دقات قلبي ان «تطير » ثم تبلدت تماما للحظات واوشك عقلي ان يتوقف كليا ... قالت 
هامسة : 

«جلالة الامبراطور يريد رؤيتك الان .. نعم الان والعربة وانا في انتظارك تعليماتي 
لك الا تخبر احدا ... ارجو ان تسرع يا سيدي ... «اكزهارستلنج » وهي كلمة امهرية 
معناها شكرا من القلب الفتوح!! 

ما هذا الذي يجري حولي ... ماذا يعدون لي ... كيف أتصرف ... ما معنى لا ابلغ 
احدا ... اسئلة كثيرة ظلت تحوم في رأسي بسرعة البروق الخاطفة وقد أوشك ان يغمى 
علي ورحت في شبه غيبوية لكن عقلي الذي يفكر ويقدر وكثيرا ما يساعدني على 
الخلاص قد هرب من رأسي ولم أصح الا على يد السيدة الاثيوبية الوقور الجميلة وهي 
تضغط على ذراعي وتردد ارجوك يا سيدي ان تسرع فان موقفي حرج ومهمتي قاسية 
وخطيرة فالامبراطور ينتظرك . خرجت ونهبت بنا العربة المرسيدس ٠٠١‏ الطويلة بلا 


١ ۷ 


رقم ولا بطاقة ولا علامة فهي عربة القصر الامبراطوري ... نهبت بنا الارض وما هي 
الا دقائق حتى كنت في حضرة الامبراطور ورفيقتي هي التي كانت تحرس المدخل وقد 
علمت فيما بعد انها من سكرتارية القصر وفي قسم الاستخبارات الخاصة بالقصر . 

وبالمناسبة فان اثيوبيا كلها كانت عيونا واذانا للامبراطور صاحب القبضة الفولاذية 
فبالرغم من ان وسائل مخابراته الرسمية كانت قوية جدا الا أنه كان يستعين على بعضها 
البعض بفروع مختلفة للاستخبارات : البوليس » الجیش ‏ أمن الدولة » استخبارات القصر 
شأنه في ذلك شأن كل حكام العصر . لكن الامبراطور كان يعتمد ايضا وكليا على عيون 
الكنيسة وعلى الوف العيون والاذان التي زرعها في المتاجر والمذارس والمصالح والأسواق 
والمزارع وحتى بين اللصوص والشحادین والصعاليك والمجانين لدرجه خشي منها الجميع 
وظنوا انه ساحر او نبي او صاحب وحي ورسالة وانه يرى بقدرة الرب والصليب ما 
يفعلون ويسمع ما يقولون ولو كانوا بين جدران مغلقة! ! 

.. سمعت قصصا خرافية وحكاوى عجيبة وكثيرة مما يحتمل ان تكون المخابرات 
قصدت اطلاقها وزرعها في الشارع الاثيوبي وفي قلوب الناس حتى يتمتع الامبراطور 
بالهالة والقداسة » لكنني اعرف قصة وقعت في قصره ومع وزير شاب اعرفه قيل انه كان 
فاسدا ومرتشياً وما ان احكمت حلقات الخطة لاعتقاله حتى نفذها الامبراطور بنفسه . 

... ذهب إلى الوزير في مكتبه وظل يأمره بان يفتح الدرج الاسفل ثم الخزينة 
الجانبية ثم ... ثم . كان الامبراطور على علم مسبق بكل محتويات الاماكن التي اشار 
اليها فظهر ان للوزير الشاب حسابا في سويسرا وانه اختلس كذا وشارك او ساهم في 
كذا فما كان من الامبراطور الا ان امره برد كل الذي اختلسه وعندما هم بالخروج رجع 
الشاب وأمسك بحذاء الامبراطور وظل يبكي ويطلب الغفران ودقات قلبه في تلك 
اللحظات كانت تعد ما تبقى له في الحياة ان سحب منه الامبراطور قدمه فهي علامه 
عدم الرضاء لكن الامبراطور ظل واقفا ودموع الشاب قد غسلت حذاءه وبللت «جوربه ؛ 
وهي علامة الرضا وقبول التوبة . علمت فيما بعد ان الشاب كان ابنا لاحد جنود 
الامبراطور الخلصین ومن قدامی الحاربین فاکتفی بان أصدر امره بنقل الوزیر الشاب 
کاتبا في مصنع للاسمدة . بعد ان يقضي فترة غفران وتوبة لستة اشهر خادما للكنيسة ثم 
جرد بالطبع من کل شيء الا الحياة!! 

... كانت الساعة حوالي السادسة من مساء يوم ۲۰ اکتوبر اي ناني يوم وصولنا 
وقد وجدت الامبراطور یداعب «حفید أسده العجوز » يناوله بيده قطع السندوتش 
والحلوی والشکولاته والشبل الصغیر یقفز هنا وهناك فرحا مرحا لکنه اخافني فوقفت 
ثم تراجعت وباشارة صغيرة من يد الامبراطور دخل الشبل النعم تحت مقعده 
«وتکرفس » في ادب دون ان نبدر منه اية حركة اخری ! 

انحنیت بجسدي الضخم انحناءة نصف دائرية کالعادة وکانت متعبة للغاية خاصة وقد 


۱:۸ 


تناولت عند الظهيرة غداء دسما وفاكهة وحلوى ومياهامعدنية كتب في وسط زجاجتها 
عبارة «القصر الامبراطوري الاثيوبي ». 

.. من اللحظة الاولى احسست بان الجو كان خاليا من جميع عفد البروتوكول وكان 
الامبراطور يرتدي زيه الوطني كما لاحظت ولاول مرة غياب تفرا ورك الذي كان يقوم 
بمهمة الترجمة الا ان الامبراطور في حالات نادرة وشاذة يتحدث الانجليزية بطلاقة كما 
يفهم العربية اكثر مما يتحدث بها ويبدو ان الحالة التي اواجهها هي من الحالات النادرة 
والشاذة معا اذ لم الاحظ لا من قريب ولا من بعيد شخصاً الثا او اي شخص الا 
الخدم الذين كانوا يحيطون من بعيد بالامبراطور ليلبوا طلباته كما كنت الاحظ من 
وقت لآخر ظل المرأة التي جاءت بي وهي تقف وراء الباب! 

.. الذي اقلقني بعض الثيء وجود ألة صغيرة بالقرب من الامبراطور حسبتها 
بادىء الأمر انها وضعت خصيصا لترصد كلماتي وحركاتي . لاحظ الامبراطور انني لم 
أكن طبيعيا فقد كان القلق والخوف واضحا وباديا على تصرفاتي .. القلق من أي شيء 
والخوف من كل شيء ولان التجربة التي اواجهها ليست بالامر الهين الذي يمكن 
لشخص مثليٍ ان يهضمها او يحتملها فقد ظلت الهواجس تلعب بي كما يلعب الموج 
الثائر بمركب صغير حتى افقدها القدرة على الاتزان والوصول إلى بر الامان وكانت 
اصابع يدي العشرة تتشابك وتتداخل في بعضها البعض وقد اصبحت مبللة بالعرق كما 
كانت نظراتي شبه زائغة وعاجزة عن التركيز في اي شيء حتى وجه الامبراطور الذي لا 
یبعد عني اكثر من ثلاثة او اربعة امتار كنت اتحاشى النظر اليه لست ادري ان كانت 
هي الرهبة ام الخوف ام القلق ام الترقب ام الحذر ام كلها مجتمعة في اناء واحد!؟ 

لابد ان الامبراطور بخبرته الطويلة وتجربته المستمرة في وجوه الناس استطاع ان 
يقرأ بفراسته المعروفة ما آشعر به في حضرته في تلك اللحظات الرهيبة لذلك فقد اراد 
ان يكسر حواجز الجلال والرهبة والخوف ليريحني ويساعدني ولو قليلا في «اخذ او 
انزال انفاسي المعلقة » فبادرني بابتسامة حلوة صافية وقال لي بالعربية : 

سلام عليكم وبخير ان شاء الله .. يا عبد الحران!! قلت في نفسي وقبل ان اجيب 
جلالته : 

«الحمد لله الذي لم يجعله يضع ميما «م » مكان النون في أسمي الذي كان يسبب لي 
مشکله مستديمة بسبب طوله وعرضه !! » 


١8 


الامبراطور وانا 


.. بدأ الامبراطور حدیثه قائلا : تعرف طبعا مدى تعلقي وحبي وحب اثيوبيا 
للسودان ومدى العلاقة التي تربط بيني وبين الامام المهدي ومن هذا المنطلق فان الذي 
يصيب السودان ينعكس بدوره ان سلبا او ايجابا على اثيوبيا لذلك فانني اريد ان اتحاور 
معك بوصفك صحافيا ثم بوصفك لصيقا بالاحداث وبالمهدي وعبدالله خليل وبدات اسئلة 
الامبراطور : 

س : ما هو الوقف بالضبط وهل صحیح هناك مخاوف من مصم ! ؟ 

ج : حقيقة ان الوقف متأزم والناورات السياسية على اشدها لکنها حسب رأيي لا 
ترقی إلى درجه الخاوف من مصر . 

س : والرساله التي جاءتكم من الفاهرة وترجمنها بنفسك ما هو سرها هل هي 
صادقة وماذا نقول في توقیتها ؟ 

ج : مبلغ علمي على الاقل ان بعضها جو وافقة وهي وصول الازهري وعلي 
عبدالرحمن إلى القاهرة واجتماع عبدالناصر بهما أما بقية الرسالة فهي لا تخرج عن 
كونها استنتاجات او اجتهادات او استطلاعات . 

س : ان اعتبرنا جزءا منها مجرد استنتاجات فما هو رأيك انت فيما يجري!؟ 

ج : الاستنتاجات لا تخرج عن كونها وجهة نظر خاصة قد تكون حقيقة او قريبة من 
الحقيقة أو قد يجانبها الحظ. لكنني شخصیا وبحكم مواقف عبدالناصر المعروفة منذ 
تقرير المصير ووقوف مصر مع استقلال السودان يجعلني استبعد تماما التفكير في مسألة 
اعلان الوحدة من البرلمان . 

س : هل الامام المهدي على علم بتحركات خليل وهل صحيح ان محاولة الانقلاب 
التي یشاع عنها وراءها اتفاق مع العسكريين بان ينصب المهدي ملكا او رئيسا على 
السودان . 

ج : (أ) الحقيقة ان الامام المهدي ضاق ذرعا بمسلك النواب وتعليقاتهم السياسية 
ومطالبهم التي لا تتوقف مما ارهقه ماديا وعقليا وجسديا وكما تعلم جلالتكم ان مسألة 
شراء النواب اصبحت مسألة خطيرة هي في حد ذاتها تهديد للديمقراطية . 

(ب) اما ان الامام المهدي على علم بما يجري فهو كذلك لكنني لا استطيع ان اقول 
بانه وصل حد العلم باشاعة الانقلاب كحقيقة واقعة وثابتة . 

ج :اما ان هناك اتفاق او شبه اتفاق مع العسكريين لتنصيب المهدي رئيسا للسودان 


فانا لست في موقف اجيب على هذا السؤال لكن من واقع الانقلابات وتاريخها فان هذا 
يكاد يكون مستحيلا . 

س : ما رأيك وتقييمك الشخصي هل تعتقد ان الانقلاب حقيقة واقعة ام هو مجرد 
فكرة لتقضي على فكرة اخرى؟ ! 

ج : اعتقد يا جلالة الامبراطور ان السيد خليل هو الوحيد الذي يستطيع ان يجيب 
على هذا السؤال لكن اشاعة الانقلاب في السودان صارت اكبر من اشاعة . 

س : ما رأي الشارع السوداني في الانقلاب هل سيؤيده ام يعارضه اذا وقع؟! 
ج : رأي الشارع السوداني يأتي دائما من خلال اجهزته واحزابه وتكويناته السياسية التي 
تحرك الشارع وتعبر عنه وهي مع الاسف مشغولة عنه بمشاكلها وخلافاتها الشخصية 
والتطلعات إلى كراسي الحكم دون الاهتمام بتطلعات ومطالب الرأي العام . والمسرح 
السياسي الان في السودان يشكو على الاقل من جفوة بين الشعب والاحزاب من جهة 
وبين السعب والحكومة من جهة اخرى . 

وفي ختام الحديث قال الامبراطور : 

اريد أن احملك رسالة للامام المهدي وهي ان مجرد التفكير في وقوع الانقلاب فيه 
خطر ان لم يكن قريب المدى فسيكون بعيد المدى والانقلاب في السودان ان فتحت 
ابوابه فلن تقتصر عليه وحده ومن الافضل للسودان ان نشجع کل الخطوات التي سعى 
ويسعى اليها السيد الصديق المهدي للوصول إلى حد ادنى من الوفاق بين حزب الامة 
وحزب الازهري وهذا هو الطريق الوحيد المتاح الذي يمكن ان يحقق للسودان نوعا من 
الاستقرار . 


۱ ۱ 


نهاية العرش الامبراطوري 


.. صدقت كل رؤى الامبراطور الشيخ فقد وقع الانقلاب في ۱۷ نوفمبر وبعد عام 
واحد هبت عاصفة على اثيوبيا ووقع فيها انقلاب منغستو الاول لا منغستو هيلامريام 
وذلك عندما كان الامبراطور في زيارة للبرازيل وقد قطع زيارته وعاد إلى عرشه عن 
طريق السودان وخضعت له اسمرا اولا اذ كان الحاكم فيها صهره نم دخل عاصمة بلاده 
على صهوة جواد ابيض يحيط به رجال القساوسة وكوكبة من الفرسان ومع ذلك 
تراكمت السحب الداكنة فوق سماء ائیوبیا من جديد وهبت العاصفة وكانت قوية هوجاء 
لم تهدا حتى اقتلعت شجرة الامبراطور هيلاسلاسي من جذورها مرة واحدة وإلى الابد . 

.. كنت في بيروت عندما وقع الانقلاب الاخير في اثيوبيا ولشد ما كانت دهشتي 
شديدة ومحيرة عندما اعلن ان قائد الانقلاب هو الجنرال امان عندوم ابن الامبراطور 
الذي جاء به من الخرطوم والذي نعهده وتولاه ورباه وجعله ابنا من ابنائه وادخله 
المدارس والجامعات حتى تخرج من كلية سانت هيرست العسكرية المعروفة وتقلب في 
وظائف القصر حتى اصبح قائد الحرس الامبراطوري . ما استطعت ان افهم او اهضم 
هذا والذي اسمعه من الاذاعات فسارعت نحو التليفون وطلب محادثة شخصية مع 
الجنرال امان قائد الانقلاب وصديقي الكبير منذ سنوات عديدة وبعد ساعات جاءني 
صونه من خلال التلیفون وهو يبادرني بنفس السوال الذي كنت انوي توجیهه إليه 
وبعربية طلقة قال: 

.. اهلا بيك ياعبدالرحمن طبعا مستغرب جدا ومن حقك ان تكون كذلك في فيادتي 
للانقلاب ضد والدنا الامبراطور لكنك لو كنت مكاني لما ترددت في ان تقوم بنفس 
الذي قمت به .. ومضى الجنرال يقول لا اريد هنا ان اوضح اكثر فحاول ان تتصل باخي 
ملس وقد كان سفيرا لاثيوبيا في القاهرة. وبعد فترة لا تزيد على الاسبوع استطعت ان 
اجمع الاسرار الخطيرة والكبيرة وراء الانقلاب والتي لا اعتقد انها كانت معروفة حتى 
لوسائل الاعلام . 

.. قبيل الانقلاب الاثيوبي احس الجنرال أمان عندوم ان الامبراطور بدأ يفقد 
ذاكرته بشکل متدهور حتى اصبح لا يفرق بين الابيض والاسود ولا بين موظفيه 
ومستشاريه وابنائه وظل الجنرال ومعه تفرا ورك وزير القلم القوي يضربان حصارا 
شدیدا على الامبراطور الا من اطبائه الخصوصيين الذين عجزوا عن مداواته . وخشي 
الجنرال ان يفتضح امر الامبراطور خاصة في أوساط القوات المسلحة التي كانث فائرة 


۱ ۳ 


بعدد من الضباط التهورین - حسب تعبيره - فبداً الوزير الخطير يضغط على الجنرال 
الشاب يستعجل هو للاستيلاء على السلطة قبل ان يقوم بها متهور آخر لان الاحتمالات 
واردة اذا تسربت انباء الامبراطور وحالته الصحية للشارع الاثيوبي وفعلا قام الجنرال 
امان ببعض الاتصالات بمن يثق فيهم من الضباط وتم الانقلاب في صورته الاولى تحت 
شروط مسبقة وضعها الجنرال وقبلها الضباط وهي تنحصر في النقاط الاتية : 

أولا : يعفى الامبراطور من جميع سلطاته على ان يعين ابنه الامير اصفا واتسون ولي 
العهد امبراطورا على اثيوبيا . 

انیا : تقديرا واحتراما لمكانة الامبراطور يظل في قصره «جنة اللول » يتمتع بالتقديس 
المعروف له ولاسرته دون ان يسمح لافراد الاسرة بالعمل العام . 

لكن بعد مرور اقل من شهرين على هذا الوفاق بدأ بعض اعضاء مجلس الثورة 
يتململون من هذا الوضع غير المريح وغير السليم بالنسبة لتغيير اداة الحكم مما جعلهم 
یشکلون ضغطا متواصلا على الجنرال امان رئيس مجلس الثورة ويكسبون كل يوم ارضاً 
جديدة حتى جاء يوم الفصل وما هو بهزل ففاتحوا الجنرال بضرورة انهاء هذه الصورة 
باخراج الامبراطور من القصر الى مكان آخر هكذا بدأت المشادات ولكنها بالطبع كانت 
تخفي وراءها ما تخفي . 

وفي يوم عاصف انتهى فيه مجلس الثورة إلى طريق مسدود خرج الاعضاء في عصر 
ذلك اليوم وقد بيتوا النية على الاستيلاء الكامل والمباشر على السلطة رغم انف رئيسهم 
الجنرال عندوم فطوقوا داره في المغرب وامروه عن طريق مكبرات الصوت ان يستسلم 
فأبى في شجاعة الفرسان وظل يتبادل معهم النيران الحامية اكثر من الساعة والنصف ثم 
توجهت المكرفونات لسكان المنطقة المجاورين باخلاء منازلهم ووجهوا نحو منزل الجنرال 
امان نيران المدافع والدبابات حتى هدموا فوقه وفوق اهله البيت من اساسه ثم جاعوا 
«بالبلدوزرات » فازالوا الانقاض بما فيها جثمان الجنرال امان فانطوت بذلك مأساة 
اثيوبيا وتربع بعدها منغستو هيلاماريام على قمة عرش الامبراطور . 

.. وهكذا صدقت نبوءة الامبراطور عندما قال ان محاولة الانقلاب في السودان ان 
نجحت فستكون بداية لعاصفة لن تهدأ وسیتأثر بها الجيران وعلى رأسهم بالطبع اثيوبيا 
وفعلا لم تهدأ العاصفة الهوجاء الثائرة حتى اقتلعت النظام الامبراطوري العريق من 
جذوره مرة واحدة وال الابد . 


۱۳ 








اخر لقاء وآخر وداع بين الامبراطور وعبدالله خليل 


العودة إلى البركان السياسي 


.. انتهت زيارة السيد عبدالله خليل لاثيوبيا وكانت فاشلة بكل المقاييس اذ انها لم 
تحقق الغايات التي كان يصبو اليها وهي اقناع الامبراطور هيلاسلاسي بتأييد الانقلاب 
الذي كان يسعى إلى تنفيذه رغم المحاولات التي بذلها في لقاءاته المتعددة به والتي 
اعتمدت كما يبدو اساسا على الرسالة الخطيرة المخيفة التي بعث بها سفيرنا بالقاهرة 
المرحوم السيد يوسف مصطفى التني وقد بذل الامبراطور من جانبه جهدا متواصلا في 
محاولة لاقناع السيد عبدالله خليل بالعدول عن محاولاته لما تترتب عليه من مخاطر 
مستقبلية لا على السودان وحده وانما على جيرانه وقد وصف الامبراطور المحاولة 
الانقلابية بانها باب اذا ما فتح فمن العسير اغلاقه والتحكم فيه نسبة لما يصحب 
الانقلابات عادة من عواصف هوجاء لا يمكن التحكم فيها ولا يمكن التعرف على سماتها 
وافرازاتها غير المرئية وقد أصاب الامبراطور السيد عبدالله خليل في موضع الالم والجرح 
عندما دعاه لتأييد خطوات السيد الصديق المهدي الرامية إلى انجاح الحوار الدائر مع 
السيد الازهري لما فيه من خير على السودان واستقرار للاوضاع السياسية . 

.. وعدنا الى الخرطوم في الرابع عشر من نوفمبر ۱۹۵۸م وكان لابد لنا من ان 
نعود اليها فوجدناها اكثر هياجا وفورانا وململة» واصبحت تعيش تحت بركان هائج 
یندر بين كل لحظة واخرى بالهيجان والانفجار وكان السيد الصديق المهدي انذاك قد 
سافر إلى سويسرا للاستشفاء مما جعل الحوار الذي بدأه مع السيد الازهري يصاب بنوع 
من الهزل والفتور اذ كان غياب الازهري في رحلته لبغداد ايضا من العوامل التي زادت 
من هذا القنور . ۱ 


١ ۶ 


اجتماع خطير 


.. شهدت سراي الامام عبدالرحمن الهدي أكبر وأخطر تجمع سياسي في الساعة 
الثامنة والنصف من مساء ۱۵ نوفمبر ترأسه الامام عبدالرحمن نفسه وعلى غير العادة 
فقد عقد في سطح الطابق الاول للسراي هروبا من مئات الضيوف والمواطنين الذين 
يروحون ويغدون في حديقة القصر وفي طابقها الاول وقد دعا لهذا الاجتماع عدد من 
اقطاب حزب الامة ليستمعوا الى تقرير مفصل من السيد عبدالله خليل عن رحلته إلى 
اثيوبيا اولا وعن الاشاعة الانقلابية ثانيا التي ملأت شوارع المدينة وقد كانت بمثابة جلسة 
محاسبة للسيد عبدالله خليل اكثر منها تجمعا سياسيا تقليديا . 

.. حضرت هذا اللقاء من لحظاته الاولى حتى انتهى في حوالي الواحدة صباحا كان 
عاصفا وعنيفا ومثیرا وخطيرا تغطيه سحب داكنة من الشكوك وعدم الثقة والحيرة 
والحذر وتبادل الاتهامات المريرة التي خرجت عن كل الحدود والتقاليد المرعية في مثل 
هذه الاجتماعات مما جعل الامام عبدالرحمن يدق على المائدة بين الفينة والاخری 
ليسكت الاصوات المتشنجة والمرتفعة التي راحت تكيل السباب بغير حساب وبلا توقف 
وكان الهدف بالطبع هو السيد عبدالله خليل الذي ظل يتابع التحدئین بنظرات شزرة 
دون ان يفتح فمه بكلمة الا مرة او مرتين وهو يطلب من الامام حمايته من هذه 
المواجهة القاسية الصعبة . وعندما جاء دور السيد عبدالله خليل في الحديث لوح بان 
الموقف السياسي خطير للغاية وان مستقبل السودان واستقلاله وحريته «أصبحت في كف 
عفريت » وقد طلب من الحاضرين ان يمنحوه تفويضا كاملا لحماية البلاد حنی يتمكن 
من تعطيل البرلمان والصحف واعلان الاحكام العرفية فتصدى له بالحديث السيد محمد 
احمد محجوب وكان عنيفا على غير عادته فقال: 

«لن نسمح لك ان تكسر الاقلام وتغلق ابواب الهواء والحياة والحرية والديمقراطية 
التي لا يمكن ان تتحقق وتترعرع وتزدهر الا بمزيد من الديمقراطية ولو سمح لك 
خيالك ان تسبح في الظلام وتتصور الاشْباح ثم تريد ان تخيفنا بها فنحن لسنا صغارا 
نهاب الاسباح وانا ‏ ومازال الحديث لمحجوب ‏ من هذا المكان ارفض جملة وتفصيلا 
منحك مثل هذا التفويض الذي يقوض الديمقراطية من اساسها ». 

ما أن انتهى محجوب من حديئه حتى قاطعه السيد عبدالله خليل بجملة واحدة قال 
فيها : 

«نحن مش في ندوة أدب وشعر يا محجوب... نحن مواجهون بمصائب لا اظنها 
غانبه على أحد ..» 


۱ 0 


.. اشترك في النقاش والجدل الحاد عدد كبير من قادة حزب الامة وكان الأمام 
عبدالرحمن يديره باسلوب ديمقراطي ويخفف في كثير من الاحوال من بعض الحدة في 
القول وعوامل الاثارة الا أنه شخصيا لم يبد رأيا واضحا فيما دار كعادته لان الاجتماع 
انتهى بمفاجأة لم تكن متوقعة ولم تكن في الحسبان . 

كان اكثر التحدئین إيلاماً وعنفاً وتهجماً على السيد عبدالله خليل هو الرحوم 
الدكتور مأمون حسين شريف وزير مواصلات حزب الامة وابن اخت الأمام عبدالرحمن 
من نطاقه العروف لينال من شخصية وتاريخ عبدالله خليل وكان في حالة هياج سُديدة 
لم يستطع حتى الامام عبدالرحمن نقسه من اسكاته والجامه فما كان من عبدالله خليل 
الا ان خرج متوجها إلى سلم الهبوط في عصبية ظاهرة لم تفلح معها ولأول مرة في 
تاريخ الحزب صيحات الامام عبدالرحمن لعبدالله خليل بالرجوع . 

كانت آخر كلمات السيد عبدالله خليل التي مازال صداها يتردد بوضوح في ذهني 
وعقلي قبل خروجه من حلقة الاجتماع الملتهبة . 

«طيب حتشوفو باكر ..» 

.. كان علي في تلك اللحظات الحاسمة ان افكر بعجل وبسرعة وبلا توقف فخروج 
عبدالله خليل بتلك الصورة العصبية : وعدم انصياعه لصيحات الامام عبدالرحمن - وهو 
شيء غير مألوف ولا معروف - لم تترك امامي الا خيارين كلاهما مر فاما ان أبقى 
لنهاية الاجتماع الذي خرج نجمه الاساسي واما ان الاحق النجم قبل ان يغيب فقررت 
وبسرعة ان الاحق السيد عبدالله خليل لسبب بسيط وهو ان الاجتماع لم يعد مثيرا ولا 
مفيدا بعد خروجه وقد كان محورا للاجتماع ذاته وادرت عربتي على عجل وتبعت عربة 
عبدالله خليل «الهمبركوك » فاتجه شمالا نحو شارع النيل وكان طبيعيا ان يلف لليسار 
غربا وهو الاتجاه الطبيعي لام درمان؛ لكن دهشتي كانت شديدة ومتواصلة أحاطها 
شيء كثير من الارتباك والخوف والغموض عندما دارت عربة عبدالله بك إلى اليمين 
«شرقا» وهو اتجاه لا يمكن ان يصدق أو يفهم او يهضم خاصة وان كوبري شمیات 
الحالي كان لايزال مجرد فكرة أو حلم بعيد . ومضيت أتعقبه في ذلك الليل المخيف وقد 
توقفت الحركة تماما وهو يعبر كوبري الخرطوم بحري وهو يتجه يسارا حتى طلمبة 
البنزين ثم يتجه يمينا ثم يساراء ثم یشق المقابر ثم يدخل سراي الميرغني . 

.. هنا توقفت بالقرب من المقابرء وتوقفت كذلك أنفاسي تماماء كما توقف عقلي 
عن التفكير وأوشكت ان اصاب بالشلل ان لم اصب به بالفعل ولم يعد السجائر كاف 
لاسترد به بعض تفكيري اذ كنت في حاجة الى انبوبة اكسوجين من النوع الكبير حتى 
اعيد انفاسي إلى الرئتين وكنت استعين على الهدوء وضبط النفس بالتدخين المتواصل 
وبالنظر إلى الساعة بين كل ثانية وثانية متشاغلا بالراديو . 


١05 


.. الساعة كانت بالضبط في تلك اللحظات الحرجة المحسوبة تشير إلى الواحدة 
والدقيقة عشرين . الصمت كان مخيفا ومطبقا وصفير الهواء كان مزعجا ومثيرا خاصة 
وانا اقف بين القبور والاموات وقد خيل إلي في تلك اللحظات انني اصبحت واحدا منهم 
لا ينقصني شيء على الاطلاق فقد مات في داخلي كل شيء ولم اعد الا مجرد شبح له 
عيون جاحظة وانفاس متوقفة وعقل مشوه وحائر ومن على البعد رأيت اضواء عربة 
تقترب شیثا فشیئا تشق هي الاخرى ذلك السكون المخيف والصمت القاتل وسرعان ما 
اختفيت وراء عربتي وبدأت اراقبها حتى دخلت هي الاخرى بيت الميرغني لكنني 
بالطبع لم استطع إن أتبين من فيها وكانت الساعة بالضبط الثانية الا ربعا وبعد عشر 
دقائق جاءت عربة أخرى وسارت في نفس الاتجاه وقد استطعت ان اتبين رقمها جيدا 
الشيء الذي فات علي ان افعله في المرة السابقة . 

.. عاد الصمت من جدید يطوفني وقد هدأت أنفاسي بعض الشيء واستطعت بعد 
مجهود کبیر ان استعید بعض لا کل حواسي . كان الامر بالنسبة إلي اشبه بالالغاز 
والاساطیر التي نقرژها عادة في کتب الأحاجي لکن بقلیل من التوقف مع النفس 
وائعقل ومع ربط الاحداث حلقة حلقة وخیطا خیطا ضاقت الشقة وتجمعت الارقام 
وزالت کل الغیوم وراح الضباب واصبحت الرؤيا واضحة بلا رتوش ولا زرکشهة ؛ لکن 
الاسئلة التي ظلت ولازالت تؤرقني وتلازمني هي : 

اولا : هل كان السيد عبدالله خليل على موعد مسبق مع مولانا السيد علي الميرغني في 
تلك الساعة المتأخرة من الليل؟ 

انیا : كيف استطاع عبدالله خليل ان يوقت حساباته وزمنه بهذه الدقة وهو لا يعلم 
متى وكيف ينتهي الاجتماع الخطير في سراي الامام ؟ 

الثا : اذا استجاب اجتماع حزب الامة بقيادة الامام فمنح عبدالله خليل التأييد 
والتفويض الذي طلبه » هل سيسعى عبدالله خليل إلى مولانا الميرغني وفي نفس 
الميقات ؟ 

رابعا : هل يمكن ان اسقط من حساباتي كل هذه الاحتمالات واقول بان لقاء عبدالله 
خليل بمولانا الميرغني كان سيتم رغم كل شيء واي شيء وبالتالي فان الانقلاب واقع لا 
محالة وتحت كل الظروف ومهما كانت النتائج ؟ 

.. من هذه الصور العديدة المرتبكة والمربكة والمتشابكة التي عشتها وعايشتها استطيع 
ان أوكد بان قادة حزب الامة - على الاقل ممن شاركوا في ذلك الاجتماع الخطير وهم 
كثر ‏ كانوا على غير وفاق مع السيد عبدالله خليل بدليل انهم وقفوا بسدة وبحدة 
وبصلابة امام محاولاته لتعطيل البرلمان والصحف واعلان الاحكام العرفية ناهيك عن 
تأييدهم لمحاولة الانقلاب خاصة وقد أنكرها السيد عبدالله خليل بشدة وبوضوح . 

... هناك حقيقة قد يسعى وراء البحث عنها الكثيرون وهي رأي الامام عبدالرحمن 


۱ ۷ 


نفسه في المحاولة الانقلابية هل كان ملما بأطرافهاء هل كان يعرفهاء هل كان 
يباركها ؟ 

الواقع انني رغم ابلاغي له برسالة الامبراطور هيلاسلاسي الشفوية » ورغم كل الذي 
كان يحدث في الساحة السياسية » فانني لست في موقف قاطع استطيع ان اجيب فيه 
اجابة مباشرة على هذه الاسئلة لانني اولا لم اسمع رأي الامام نفسه » لكنني استطيع من 
استقراءاتي الخاصة» ومما كان يدور وراء الكواليس» ومما احسست به ان الامام 
عبدالرحمن المهدي كان قد ضاق ذرعا بمسلك النواب المشين وتقلباتهم المؤسفة التي 
ارهقته ماديا وعقليا وصحيا فوق ان نتائج هذا كان قد تلخص بشكل واضح في اللملة 
الشعبية وعدم الاستقرار الذي احاط بكل شيء واخاف كل عاقل ومتحسب . 

ثمة ملاحظة اخرى ونحن نسعى للبحث عن الحقيقة ولايجاد سمعة ولو خافتة تنير 
لنا سراديب ذلك الماضي البعيد وهي ان السيد الصديق الهدي ما كان له ان يقوم 
بمحاولات اللقاء مع السيد الازهري - الامة والوطني الاتحادي - دون ان يأخذ المباركة 
والضوء الاخضر من والده الامام عبدالرحمن راعي الحزب ومن هنا يأتي سؤال آخر 
اترك الاجابة عليه للفطنة والذكاء لكل مريض بالسياسة والتاريخ وباحث عن الحقيقة 
المجردة. 

.. هل تم انقلاب نوفمبر باعداد من السيد عبدالله خليل لحسابه الشخصي ام ان 
هناك من الاسباب ما خفي واندس في صفحات التاريخ ؟ 

أما السؤال الاخر وهو فرعي هل كان الامام عبدالرحمن رغم صدور بيانه بعد يومين 
الذي بارك فيه انقلاب نوفمبر بتحفظ شديد يعني معرفته او مباركته المسبقة للسيد 
عبدالله خليل؟ 

.. الشيء الذي استطيع ان اؤكده ان الامام عبدالرحمن المهدي وهو كبير في كل 
شيء وبكل المقاييس لا يمكن ان يؤيد ابنه الصديق في مساعي اللقاء بالازهري ويؤيد في 
نفس الوقت السيد عبدالله خليل رغم البعد الشاسع والواسع والعريض بين التيارين في 
الفكر والمعنى والسياسة والهدف لانهما متضادان ومختلفان ومتناحران في كل شيء واي 

.. بعد كل الذي دونته ورويته اريد ان أؤكد حقيقة كبيرة وباقية وحية شعرت بهاء 
وتذوقت طعمها وتحسست أطرافها ومواضعها من خلال ملاحظاتي واستقراءاتي بحكم 
موقعي القريب والملتصق بالسيد عبدالله خليل ان لم يكن عرفانا ووفاء له فليكن تسجيلا 
للحقيقة والتاريخ وهو ان السيد عبدالله خليل ذلك الرجل العظيم الزاهد الشجاع مهما 
قيل ويقال عنه فقد فعل الذي فعله طوال حياته العسكرية والسياسية عن ايمان مطلق 
وثابت لا يتزحزح ولا يتزعزع ءدوافعه الاساسية الاولى والاخيرة هي لمصلحة السودان 
وحماية السودان وخدمة السودان وحب السودان وبالطبع فان أحكام الناس تختلف ‏ 


١ 48 


ومن حقها ان تختلف - في تقييم الرجل غير ان التقييم في مثل هذه الحالات لابد ان 
ينبني من منطلق العقل والمنطق والعرفة أما ان بني على مجرد العاطفة والاقاويل 
والقصص السماعية والتسرع فان ذلك يعتبر نشویها للحقيقة والتاريخ جزئيا كان ام كليا 
وهذا على كل حال ليس من دوافعي على الاطلاق . 

.. على كل حال حتى لا نذهب بعيدا عن نبش الماضي ونتوه في دروبه وسراديبه » لم 
يعد امامنا بعدما قلناه وكتبناه وقد قلنا كثيرا وكتبنا كثيرا » لم يبق امامنا سوى سويعات 
معدودات ونحن الان في صباح السادس عشر من نوفمبر ۰۱۹۵۸ الا ان نستمع إلى 
المارسّات العسكرية ويعلن علينا البكباشي عثمان نصر عثمان البيان رقم )١(‏ لانقلاب 
نوفمبر فتذبل الازهارء وتترنح الاشجارء وتصفر الخضرةء ويضمر الضرع» وتجف 
مياه » وتنتهي الافراح» وتنهد الزينة » ويموت الربيع في السودان . 


۱۹ 


۶ الفصل الثاني عشر ¢ 


انقلاب توفمیر ۱۹۵۸ 


© الانقلابت العسكري كان صوریا 

© الامام الصدیق الهدي كان قائد النضال 

© رحلتي اليتيمة والمشؤومة مع عبود . 

© العالم العربي «المحنط» في حاجة إلى مهدي جديد 

© سافرنا لثلاث دول من أجل الصداقة ففقدناها حميعاً . 





انقلاب نوفمبر ۸ ۱ 


انقلاب ۱۷ نوفمبر ۸۱۹۵۸ / ۲۱ أكتوبر ٤١۹٠م‏ لم يكن انقلابا بالعنی العروف 
والمألوف في عام الخمسینات عندما بدأ ذوو الیاقات والقبعات الحمراء یتسللون بمدافعهم 
في الظلام ویسطون على الحکم ویسحلسون ویقتلسون ویشردون ویملژون السجون 
والعتقلات بمئات الاشراف والاطهار . لم يكن انقلاب نوفمبر السوداني كذلك. وانما 
كان انقلابا ابيض لایعدو ان یکون عملية تنازل اختيارية او تسلیم ونسلم قام بها رئيس 
الوزراء البرلاني الشرعي السیدعبدالله خلیل سکرتیر عام حزب الامة بعد ضغط 
متواصل على کبار القادة والضباط وعلی رأسهم الفریق ابراهیم عبود القائد العام للجیش 
السوداني آنذاك هذا على الاقل ما حوته یومیات التحقیق وجاء في اقوال قادة الانقلاب 
بعدما انتهی عهدهم على اثر قيام ثورة اکتوبر الخالدة ؛ وعلى الرغم من ان عاصفة من 
الشائعات قد سبقت قیام هذا الانقلاب الا انه كان سلمیا وأبيض إلى درجة لم یشعر 
معها الواطنون بتغییر واضح وبارز في معالم الحياة اليومية باستثناء تعطیل البرلان 
والدستور الوّقت فلم تقم الحاکم السياسية » ولم تعطل الصحف . ولم تظهر اية بادرة تنم 
عن تغيير السلطه بسكل يدعو إلى لفت الانظار » ویبدو ان ذلك برجع إلى عاملین 
اساسيين اولهما الشعور بالخوف وبالذنب من جانب العسكريين الجدد وثانيا لكبر سنهم 
وارتباطهم الوثيق بالتقاليد الموروثة والاصالة السودانية المعروفة مما جعل اللين والمعاملة 
الحسنة طابعا مميزا لهم خاصة في ايامهم الاو » ومن العوامل الاخرى التي ساعدت 
على الهدوء والسكينة هي الوضع الاقتصادي المستقر اذ كان فائض الخزينة العامة يزيد 
على المليوني جنيه استرليني وان الجنيه السوداني كان قويا ومتماسكا اذ كان يعادل 
اكثر من دولارين حتى إلى ما بعد نهاية الحكم النوفمبري مما جعل المواطن العادي في 
حالة استقرار نفسي واقتصادي لم یشعر معها بالتغيير السياسي الواضح الذي انحصر 
فقط في دوائر الاحزاب والطلاب وبعض المهنيين والسياسيين .. لم يكن هناك ما يبرر 
قيام انقلاب نوفمبر لان التجربة الديمقرااية الفريدة التي تنبع من التاريخ السوداني لم 
تتعد انذاك العامين ولم يكن سلوك الساسة اذا استئنینا عددا لا يتجاوز اصابع اليدين فيه 
ما يشين او يسيء إلى التجربة الديمقراطية أو ممارسة الحكم لكن السيد عبدالله خليل 


۱۹۳ 


الذي سلم السلطة للعسكريين كانت له نظرته وفلسفته الخاصة التي انحصرت اساسا في 
تخوفه من التغول المصري على السودان في مرحلة من مراحل الخلإف العنيفة المملوءة 
بالشكوك وعدم الثقة والحذر وذلك نتيجة مباشرة لمحاولات التقارب واللقاء التي كان 
يشرف عليها الرئيس عبدالناصر بين اسماعيل الازهري والعناصر المنشقة من الختمية 
التي كان يتزعمها الشيخ علي عبدالرحمن عندما التقوا جميعهم في القاهرة والتي كانت 
تهدف اساسا إلى اسقاط حكومة عبدالله خليل عند افتتاح البرلمان في ۱۷ نوفمبر . وعلى 
كل حال ومهما اتفق او اختلف الناس حول سلوك عبدالله خليل وادانة حزب الامة 
بعملية التسليم فان الحقيقة الباقية هي ان عبدالله خليل قد فعل الذي فعله عن قناعة 
وايمان . 


استقرار 


استطاع حكام نوفمبر العسكريون ان يحققوا نوعا من الاستقرار النفسي للناس 
ويفيفوا كيرا .ين اب ریم الاتشانية كالشوارع والكباري ومصانع السكر وغيرها ويسيروا 
دفة الحكم بلا تغيير يذكر ولم يمارسوا اي نوع ظاهر من انواع العنف او الضغط او 
القهر او الكبت للدرجة التي لم يسّعر معها المواطن العادي بانه فقد شیثا يذكر مما يؤئر 
على مساره الحياني العادي وقلت ان هذا المسلك يعود ف الاساس إلى طبیعه تكوينهم 
النفسي وتربيتهم العسكرية المنضبطة اذ ان الجيش السوداني طيلة العهد النوفمبري كان 
لا يزال يتمتع بقدرات عالية وراقية افتقدها مع مرور الزمن خاصة في العهد النميري 
المايوي . 

الصراع الوحيد والموجع الذي ظل يلازم عهد نوفمبر هو حركة العصيان والغليان في 
الجنوب التي تصعدت إلى درجة كبيرة وصلت معها حد الحرب العلنية فقد آل حكام 
نوفمبر ان يواجهوا غضبة الجنوب بالحديد والنار ولم يفكروا بل ولم يخطر على بالهم 
موضوع التفاوض او بحث الظالم التي كان يشكو منها اهلونا فى الجنوب مما جعل 
الغليان يستمر بقیادة وليم دینق رئيس حزب سانو . 

انحصرت العارضة اساسا في دوائر الاحزاب النحلة وفي الجامعات والدارس في 
شکل منشورات لکنها سرعان ما بدأت تلفت انظار العامة مع مرور الزمن ومع حرب 
الجنوب من جهة وململة الشارع السياسي من جهة اخری بدأت الواجهة السافرة في 
اضراب عمال السكة الحدید الذي استغرق وقتا طویلا وقد انتهت العارضة الحقيقية 
باعتقال القادة والزعماء السیاسیین وعلی رأسهم اسماعیل الازهري وعبدالله خلیل 
وترحیلهم إلى جوبا وسط تذمر الشارع السوداني التحفظ بصورة ما في ذلك الوقت . 

اشتدت القاومة السياسية وکان یتزعمها ویتقدم صفوفها بلا منازع ولا مشارك السید 


١15 


الصديق المهدي النجل الاكبر للامام عبدالرحمن المهدي زعيم الانصار الذي التف حول 
قيادته جميع السياسيين والطائفيين والنقابيين بما فيهم قادة الحزب الشيوعي السوداني 
وقد سجل التاريخ السياسي للامام الصديق الهدي مواقف شجاعة مع العسكريين في 
مناسبات مختلفة حتى جاءت احداث المولد النبوي الشريف بأم درمان التي التحم فيها 
الانصار مع قوات الامن فراح عديد من الضحايا من الجانبين غير ان الامام تصرف 
بحكمة وتعقل واستطاع ان يقضي على الفتنة في مهدها قبل ان تنمو وتكبر وتستفحل 
و ۶ ۶ 

ف لحظات من لحظات الياس بدا الازهري يضغط على الامام الصديق لاستغلال 
الانصار في اسقاط الحكم غير ان الامام رفض هذا العرض لا ضعفاً منه ء ولكن لانه كان 
يرى بان الانصار اذا ما دخلوا في ملحمة الملاحم وانتصروا فيهاء فان الدعوة لعودتهم 
تكون بمتابة المستحيل وهو لا يستطيع ان يتحمل مسئولية الدماء والضحايا فوق انه قد 
لا يستطيع ان يتحكم في الامر ان انتصر الانصار في معارك مواجهة . وبنفس القوة التي 
رفض بها عرض اسماعيل الازهري رفض كذلك مبدأ الاغتيالات بالرغم من انها غلى 
حسب تعبير الامام الصديق ‏ من اسهل الحلول - الا انها ستكون بداية خطيرة لحل 
المشاكل وقد لا تتوقف عند حد معين وقد تصبح عادة كريهة وقبيحة مما يتنافى مع 
سلوك الإسلام وأخلاقيات الشعب السوداني الذي تربى على السلام والشورى والهداية . 

كان الامام الصديق يجمع بين اصابعه کل خيوط المشاكل. ويضع فوق اكتافه کل 
هموم السودان ويتمتع بتأييد مطلق من جميع المحاور السياسية والعمالية والطلابية ومع 
ذلك فقد كان يتصرف بعمق ومسئولية وتجرد في الحدود الديمقراطية دون اللجوء إلى 
العنف الذي يؤمن في قرارة نفسه وتفكيره بان عواقبه وخيمة فوق انها لا تحقق الهدف 
النشود ولا الفائدة المرجوة.. من هذا النطلق» ومن هذا الايمان وبهذا القدر من 
الفهوم » كان الامام الصديق یتشاور ويتحاور مع العسكريين الذين كانوا رغم كل شيء 
یعملون له الف الف حساب . 


اصرار واصرار 


كان الأمام الصديق يداوم على رسائله المتكررة والمعروفة للعسكريين مصرا على 
ضرورة عودتهم إلى الثكنات واقامة حكم الشوری والديمقراطية وكانت لقاءاته بهم كثيرا 
ما تصل درجة العنف والحدة مما اصبح يسبب لهم قلقا بل سرطانا مستديما غير انهم 
ابوا واستكبروا ولم يستبينوا النصح الا ضحى الغد . 

قامت اثناء الحكم النوفمبري محاولات عسكرية اخرى لقلب نظام الحكم كان اكبرها 
خطرا ونفوذا تلك الني تزعمها البكباشي علي حامد والني اننهت باعدامه ومعه عدد من 
زملائه لكن محاولات الانقلاب المضادة لم تكن تجد تأییدا شعبيا او سياسيا الا في حدود 
محصورهة جدا وضیقه جدا جدا ذلك لانها لا نعني ف واقعها الا تغيير اسماء ورتب 
باسماء ورتب اخرى . الذي كان يهدف ويرمي ویسعی اليه الشعب السوداني هو الحکم 
الديمقراطي السلیم بکل مؤسساته التشريعية والتنفيذية والدستورية . 

ونحن نسجل التاریخ» فان الامانة تفرض علینا ان نقول بان الحکم العسكري 
النوقمبري ولاسباب كثيرة دکرتها لم يكن عسکریا بالعنی العروف والتعارف عليه فمن 
محاسنه القليلة بين مساوئه العديدة انه لم يلجأ إلى سیاسات الصادرات والحاکمات 
الصورية الهزلية ولم يلغ او یعطل القانون فقد ظل ساریا في حدود حققت نوعا من 
العدالة والساواة والاستقرار » ولم يكن فاسدا او مرتشياً فوق انه لم بعطل الصحف كما 
جرت العادة عند شعوب اخری وعلی الرغم من انه ظل یطارد الصحف ویخنقها بسلاح 
التخويف والتعطیل الا ان بعضها استطاعت رغم کل ظروف الکبت ان تؤدي ما علیها 
من واجبات تکلفها احیانا ثمنا باهظا بالتعطیل ستة اشهر كما حدث في مناسبات ثلاث 
على الاقل لجريدة الصحافة . ومن محاسن الحکم النوفمبري ایضا انه لم يخرب الخدمة 
الدنية ولم یفسد القوات السلحة وانما استطاع ان یحافظ علیها بقدر الظروف التاحة 
والتیسرة : 

من الاشیاء الطريفة التي علقت بذهني وهي في حد ذاتها تأکید صریح وواضح بان 
السلطة قد فرضت قسرا وقهرا على العسکریین . هي المؤتمر الصحفي الذي عقده الفریق 
ابراهیم عبود یوم ۱۸ نوفمبر فقد رفض بل وحذر الصحفيين تحذیرا قاطعا من وصف 
الذي حدث بانه ثورة او انقلاب ولا ضایقه الصحفیون بضرورة تعریف هوية الذي حدث 
قال في نبرات حاسمة وجازمة انه «تصحیح اوضاع»! فما كان من احد الصحفیین 
الخبثاء الا ان قال معلقا : يعني ياسيادة الرئیس نکتب باکر مانشتات الصحف بانه قام 
في السودان تصحيح اوضاع ! ؟ فاجابه عبود بکل بساطه وبحزم «ایوه ! ! » 


١11 


وفاة الامام الصديق 





الفترة الزمنية التي عاشها الامام الصديق كزعيم للامة السودانية جمعاء كانت بجانب 
انها قصيرة زاخرة ومليئة بالاحداث الجسام وعلى الرغم من انه كان يتمتع بصحة متكاملة 
وحركة وحيوية لا تتوقف ‏ الا ان الاحداث الكبيرة والمواجهة العنيفة مع حكام نوفمبر ثم 
بعدها حوادث المولد المؤسفة بدات تهده وتهزه هزا عنيفا وطل یشکو من متاعب المرض 
والارهاق ولما كنت لصيقا به في تلك الظروف فقد عرضت عليه ان نسافر معا إلى 
سويسرا للاستشفاء والترويح قليلا على النفس غير ان محاولاتي رغم انها كانت مستمرة 
ومتواصلة الا ان الامام ابى ان يترك سفينة البلاد وقد اصبح ربانها وسائقها واذكر انني 
قبل يومين فقط من وفاته اعدت محاولاني من جدید الا انة حدنني حدینا عجبا وهو 
في کامل وعیه وصحیانه عندما روی لي انه رأی في النام الامام الهدي وامامه حصان 
ابیض وظل ینادیه في غير ما توقف ان يركب الحصان ویخوض مع الخائضین فقال لي 
انه ركب الحصان ف النهاية ولذلك فهو يرى انه عما قريب سیغادر هذه الدنیا فقلت له 
يا مولاي دعك من كل هذه التفسيرات التي ذهبت معها بعيدا جدا ورحت احاول اقناعه 
بالاهتمام بصحته وبضرورة السفر طلبا للعلاج فلاحظت انه كان ساهما شاردا بنظراته 
كأنما يبحث في جو الغرفة عن شيء ضائع . 

وبعد يومين من هذا اللقاء المؤئر ۲ اكتوبر ١١۹٠م‏ وانا اقود عربتي بعد المغرب 
بقليل في طريقي إلى أمدرمان لمعاودته والسؤال عن صحته لاحظت على غير العادة 
الاذاعة وهي تتلو القران وما ان وصلت مرسى توتي - مکان قاعة الصداقة الحالي حتى 
اوقفت عربتي بحركة لا سُعورية وانا استمع إلى النبأ المفزع الحزين بوفاة الامام الصديق 


۱۷ 


وكان حالي في تلك اللحظات كحال اهل السودان اجمعين الم وحرقه وحزن وبكاء 
وفقدان كبير لا يعوض ولن يعوض . 

قال لي صديقي المرحوم حسن محجوب والدكتور محمد الحسن ابو بكر وعدد ممن 
حضروا لحظات الفراق الاخيرة ان الأمام الصديق اخرج بيده امبوبه الاكسوجين ونادى 
ابنه الصادق وبدأ يملي عليه وصيته وقد حاول الاطباء.والحاضرون عبثا ان يثنوه عن 
عزمه وقال لهم قولته الشهورة ما معناه: 

«ليس منا من مات ولم تكن وصيته تحت وسادته» رحم الله الامام بقدر ما ضحى 
وأوفی . ۱ 

انتفاضاتنا وئوراتنا التي لا تقل في محتواها ومضامینها ومعانیها واسلوبها وسلوکها 
عن الثورات والانتفاضات العالية التي قامت في الهند والصین وروسیا ومصر والکونغو 
وکوبا وایران لکن حظنا العاثر وقدرنا الشئوم وهو ما لا حيلة ولا طاقه ولا يد لنا فيه - 
ان حواء في بلادنا لم تنجب بعد ... زعيماً كفاندي او الهدي او قائدا كماو او کاسترو 
او جمال أو الخميني رغم كل ما قيل ویقال عنه . 

.. نحن في السودان نملك عشرات القیادات والزعامات التي تخلقها الاحداث ‏ ولکننا 
لا نملك مع الاسف الشدید في اعوامنا الائة الاخيرة قائدا واحدا یخلق الاحداث اذا 
استثنينا الامام محمد احمد المهدي. ان قيادة الثورات والشعوب الحرة لابد لها من 
مواصفات محددة ومعينة تأتي في مقدمتها وقمتها عناصر التجرد والتضحية والحسم 
والعنف الثوري العادل والبعد عن کل مظاهر الفساد والبذخ والاسراف في المأكل 
واللبس والظهر . وحتی يتبين جیلنا الحدیث العاني السامیات لواصفات وسلوك 
القيادة الثورية الرشّيدة اروی لهم صورة حقيقية لستها ووعيتها وعرفت ابعادها رغم کل 
خلاف سياسي ونظري فمن يدري لعل هذا يدقع واحدا من شبابنا ليخلق ويتيح لنقسه 
فرص الانقضاض لا ان تتيح وتخلقها له الظروف والصدف . 

ف مايو ۱۹۱۶ صحبت الفريق الراحل ابراهيم عبود ولاول مرة بعد المصالحة 5 
رحلته إلى الشرق الاقصى واروباء تلك الرحلة التي كانت بحق (رحلة السُوّم) فبجانب 
اننا فقدنا خلالها صداقة باكستان والهند والصين فاننا قد انهينا بها ايوب خان وبعد 
مغادرتنا دلهي إلى بكين بيومين مات نهرو وعند وصولنا لبيكن وقع شو آن لاي فكسرت 
ذراعه وقبل ان نصل لندن بيومين ايضا اصطدمت اللكة اليزابيث بعربتها واوشکت ان 
نموت .. هذه مجرد خواطر قصدت ان ارويها حتى ازيل بها جفاف الحدیث عن 
السياسة وحديث الذكريات وربما تدخل في النفس شيا ما.. 

.. اتيحت لي فرصه اللفاء بالزعيم والاب ماوتسي تونج كما يسميه اهله وهو على 
غير ما توقعت طويل القامة وممتلىء الجسد لا يحمل وجهه (الرخامي) اي نوع من 
التعبير مهما تحسمت وتأزمت الواقف وقد كان في زيه المعروف بالافرول (بزة الكاكي ) 


١ 14 





ماوسي تونج يصافح المؤلف 


قلت في نفسي هذه فرصة قل ان يحلم بها صحفي لكنني وصلت إلى نتيجة مسبقة 

وقناعة لا رجعة فيها بانه من العبث ان اسائله او احاوره في السياسة فبحرها عريض 

وطويل وعميق وواسع خاضه من قبلي من هم أعلى مني مرتبة وشأنا وعالمية فخطرت 

لي اسئلة غريبة ما أظن ان احدا من قبل قد سبقني اليها كما لا أظن ان الزعيم الاب 

ماو کان يتوقعها او يتضورها: 
سألته قائلا: كم بزة تمتلك؟ 
خاب اتن ! 


قلت: وكم جوربا (شرابا)؟ 
اجاب : اثنين . 


سألته : وكم قميصاً ؟ 
اجاب : ائنين . 


سألته : من يغسل ملابسك ؟ ! 
اجاب: زوجتي واحيانا اغسلها بنفسي . 
سألته : هل تحب «الشبس »؟ ! 


سالته : هل لديك عربة ؟ ! 


١16 


اجاب: لا ولكني احب رياضة المشي ولدي «بسکلیت ». 

سألته : کم كتابا الفت واي الموضوعات تحب ؟ ! 

اجاب : الفت كتبا لا اعرف عددها وبقدر ما كتبت للكبار كتبت للصغار . 

الفت كتبا في السياسة والاقتصاد كما الفت كتبا عن الطبخ والموسيقى وحكاوى 
الاطفال وتربية الحواجن واصطياد السمك والسباحة و ... و ... 

سألته کم كتابا تملك ؟! 

اجاب : لا ادري.شکرته کثیرا باسم الصحافة والشعب السوداني وعندما كان 
يصافحني مودعا قال لي الترجم: 

«الاب ماو یقول انك صحفي شاطر جدا لانك لم تسأله ابدا عن السياسة .. فاجبته 
بانني احببت الزعیم الاب جدا لانه يحترم الزمن باجاباته القصيرة جدا جدا ۰ والزمن كما 
فيل عنه کالسیف ان لم نقطعه قطعك ویقال ایضا انه من ذهب » 

استرقت السمع بعد ذلك إلى ما دار بين الزعیم والسید احمد خير وزير الخارجية 
انذاك امد الله في عمره واعزه بتاريخه والترجم دائما وکعادته یجلس القرفصاء او یقف 
سا اه دی 

قال السید احمد خير لاو : ۱ 

«نحن في السودان من العجبین بتاريخك ونضالك وقد قرأت لك كما قرأ لك 
العدیدون في بلادنا ملاحم وبطولات الشعب الصيني لکن الاستعمار كان یسجن کل من 
يعثر في يده او في بیته على مولفانك! 

سأله ماو : وكم من السودانیین سجن بسبب قراءة مؤلفاتي ؟ 

اجاب احمد : والله حوالي عشرة أو عشرين . 

قال ماو ومازال وجهه في تجمد كقطعة الرخام : 

هل تعني ان سكان السودان عشرة او عشرين فقط؟ 

ضحك صامت ثم تبدل الحديث إلى دنيا السياسة وعالم المجاملة هذه صورة واحدة 
وصغيرة ومضغوطة من صور التضحية والفداء ونكران الذات للزعيم الذي يخلق 
الاحداث ويفرض الاحداث ويروض الاحداث لمصلحة شعبه وامته فالزعيم ماو تسي تونج 
بصرف النظر عن خلاف الكثيرين معه في النظريات والايدولوجيات الا ان الحقيقة 
التاريخية الباقية والخالدة انه رفع امته من مستنقعات الخطيئة ووحل الرذيلة ومن غابات 
الافيون والمخدرات ومن كل وجوه الضياع والتيه والفاقة والبطالة والانكماش الى أمة 
كلها نداوة رطبه » وحيوية فاثرة » واخضرار زاهر ء وانتاج وافر » وعطاء متدفق وتطلع 
بلا حدود وامال بلا نهاية . 

عندما واجهت الصين هجمة الذباب الشرسة المعروفة والتي ولدت الامراض وفتكت 
بالالاف قاد ماو تسي تونج حملة الابادة بنفسه وظل يقتل عشرات من الذباب يوميا 


۱۷۰ 


فتبعه الشعب وقي وقت وجيز صارت الصين بلا ذبابة لكن الطريقة التي ابتكرها ماو 
كان لها صدى عالميا واسعا حتى ان امیرکیاً معروفاً اصدر كتابا كبيرا يحكي فيه حملة 
الابادة اسماه (الصين بلا ذبابة ) CHINA WIHT NO FLY‏ . 

وقف ماو مرة في حفل كبير كان خاصا بالمرأة الصينية فاشاد بجهادها وقال لها لقد 
ازف الوقت ان تخلع صغيراتنا الزي الكحلي الرسمي للمرأة الافرول وان يقبلن شيئا 
قشینا على الحياة بان يرتدين بعض الملابس جميلة المنظر قليلة الزركسّة تبرز الجمال 
والمحاسن ولكن في وقار وبساطة . ووقفت بعده رئيسة مجتمع المرأة الصيني لتشكره 
وتقول له في جملة قصيرة واحدة قاطعة: 

«.. ليس بعد ايها الاب العزيز المحبوب». 

.. لقد جعل ماو من الشعب الصيني الذي كان غارقا في الفوضى والانحلال شعبا 
منضبطا إلى ابعد حدود الانضباط ففي الساعات المبكرة من الصباح والمساء يؤدي 
الشعب كله حركات رياضية متعارف عليها على انغام الموسيقى التي تبثها المايكروفونات 
المعلقة في كل شارع وحارة وزقاق حتى العابرين والراجلين يتوقفون ان كانوا في 
الطرقات ليمارسوا هذه التمارين المقدسة لعشر دقائق مرتين يوميا . 

.. ما حزنت وما أسفت على شيء عزيز وغال افتقدته في زحمة الحياة قدر حزني 
واسفي على كتابين من مؤلفات ماوتسي تونج اهداني اياهما بتوقيعه ولقد ظننت - وان 

بعض الظن اثم ‏ ان صديقا اجنبيا كان وقتها سفيرا لبلاده ف السودان ويبدو انه كان 

من المولعين والمعجبين بماو قد اخذهما لانه ما ان رأى صورتي 3 ماو وتوقيعه في 
الكتابين حنی ابدی دهسه انارتتي وكان يردد: 

ديا الهي .. انا على استعداد ان ادفع عمري كله مقابل لقاء ماو او صورة تجمعني به 
او کتاب یحمل توقيعه! تری هل استولی هذا الصدیق على الکتابین معا دون ان یدفع 
اي شي ء من عمره ؟ 

اين نحن شعوب العرب وقادة العرب من سعب وزعماء الضين ... الوزراء 

والوكلاء الذين شارکوا في الفاوضات مع الوفد السوداني وعلى رأسهم «ليوشاوشي » 
وزير الخارجية كانوا يمتطون البسكليتات وقد دفعني حب الاستطلاع لاتابع وزير 
الخارجية بعدما ركب دراجته ذات الثلاث عجلات حتى اختفى وسط الزحام وبين الوف 
الدراجات وبالمناسبة العربات في الصين لا يستعملها الا الضيوف ورجال السلك 
الدبلوماسي ! 

.. ارجو الا اكون بهذا قد خرجت ولو قليلا عن خط المسار لكن العبرة في النهاية 
هي مسألة التوفيق في ربط الاحداث بعضها ببعض ولو في صورة متباعدة والمهم والاهم 
انها لا تشوه الصورة امام القارىء بدرجة تربكه أو تباعد بينه وبين مجرى الاحداث ومن 
هذا النطلق اوجه دعوة صريحة لابنائي الصحفيين الذين يتربعون الآن في القاعد 


1۷1 


الامامية او ينتظرون دورهم في المقاعد الخلفية في عالمنا العربي العريض ادعوهم ان 
يحملوا هذه الصور المشرقة وهذه الاسئلة التي وجهتها للزعيم الصيني الراحل لقادتنا 
وزعمائنا ممن يتربعون في القمة او ممن ينتظرون في الظل فانا ومعي جمهرة القراء 
ان انعر کم تحن فل رق رف وات 


۱۷۳ 


انقفلاب نوفمبر والصحافة 


.. لم اسمع في الاقاصيص والاحاجي» ولم ار في النام او الصحيان» ولم أقرأ في 
كتب التاريخ والاساطير والسياسة والقصة قديمها وحديثها ان حكومة ناصبت كاتبا 
وصحيفة مثلما فعلت حكومة نوفمبر معي ومع جريدة الصحافة ويبدو وانا احاول تفسير 
هذه الظاهرة الغريبة الشاذة ان مجرد علاقتي الاسرية بالانصار - وعلاقتي الشخصية 
القريبة واللصيقة بامامهم وزعيمهم السيد الصديق المهدي العدو رقم واحد لحكام نوفمبر 
هو السبب الباشر لهذه العداوة التي اخذت تنمو وتتطور وتتخذ اشکالا وصلت حدا 
عطلت فيه جريدة الصحافة اليومية سبعة عشر شهرا خلال ثلاثة أعوام لاسباب بعضها 
واضح بين وبعضها الاخر خفي مستتر . ۱ 

۰ ظلت کل اجهزة حكومة نوقمبر تطارد جريدة الصحافة وصاحبها ونقرا کل ما 
تکنبه جريدة الصحافه حتی الشعر والقصص بعیون محمرة وعقول عدوانیة حتى وصلت 
درجة قدمت فیها الصحافة للمحاکمة من اجل قصة غرامية فحکم علیها بالغرامة واعدام 
العروضات وایقاف النشر . 

.. في منتصف عام ۱۹۰۳ عطلت الصحافة لاجل غير مسمی هذه الرة بسیب خبر 
انساني عن مظاهرات قام بها طلبة البرازیل أو الارجنتين لا اذکر فانحاز اليها في النهاية 
الجیش واحتلوا القصر الجمهوري واسقطوا الحکومة . نشر هذا الخبر صباح الیوم الذي 
سبقته في الساء ندوة عنيفة في جامعة الخرطوم التحم في نهایتها الطلبة مع قوات الأمن 
التي قست كثيرا على الطلبة واستعملت الغاز السیل للدموع واعتقلت العدیدین وعندما 
جاءنا اخطار وزارة الداخلية في الساء بألا نشیر إلى احداث الشغب كما سموها التي 
وقعت في الجامعة لم يكن امامنا بد من الحیلة حتی ولو كانت في شكل إيحاء محاولة 
منا لاداء رسالتنا ولو بالطرق اللتوية ومن النوافذ الخلفية فکان ما اصابنا وامره جلل 
وکبیر وخطیر . 

.. مضى شهر وشهران واربعة وسته ودورنا مظلمة وابوابنا مغلقه وصحفنا ممزقة 
واقلامنا مكسرة ومحابرنا جافة ثم خزینتنا لم يبق فيها فلس واحد وعجزنا بالطبع عن 
الایفاء بکل التزاماتنا فشردنا صحفیینا وعمالنا وانذرنا اصحاب الطابع عن طریق 
وکلائهم البنك البارکلیز انذاك ثم هددونا عندما عجزنا عن سداد الاقساط الشهرية التي 
تراکمت مع الفوائد وذلك بالاستیلاء على الطابع وعلى الرغم من ان العالم كله اصبح في 
نظري آنذاك اصغر من ثقب الابرة الا ان العدید من الاصدقاء والاخوان کانوا قد ابدوا 


۱۷۳ 


استعدادهم للمساهمة في حل الضائقة وكان ان سافر الصديق الوفي المرحوم مبارك زروق 
المحامي واول وزير خارجية في السودان .. سافر الى انجلترا للتفاوض باسمي محاولا 
انناء المالكين عن قرارهم بالاستيلاء على المطابع وجاء وهو يحمل فسحة اخرى من 
الوقت . 

.. لم اکن اعلم بان الاقدار كانت تعد لي مفاجأة العمر وان الحلقات التي ضاقت 
وضاقت واستحكمت عما قريب ستنفرج وينقلب مسلسل الاحزان والدموع واليأس إلى 
فرح طويل وابتسامات حلوة ففي مساء يوم من ايام فبراير قصدت منزل الاخ اللواء 
هاشم الكمالي الذي تربطني به علاقة الصاهرة لأهنئه بمناسبة عودته من العمرة وهو 
يسكن في القصر الجمهوري وكانت المفاجأة بالنسبة لي كبيرة عندما وجدت الفريق 
الرئيس ابراهيم عبود يجلس بين حوالي خمسة اشخاص فتعمدت وانا في قمة حالات 
اليأس ان احيي كل الجالسين متجاهلا الرئيس عبود عمدا ومع سبق الاصرار مما وضع 
صاحب الدار ومن يجلسون حوله في حرج ما بعده حرج » وخيم صمت ثقيل موحش 
قطعه الرئيس عبود الذي لم يكن اقل حرجا وحيرة من الحاضرين فاستفسر في شيء 
من الدهشة وبصوت خافت موجها سؤاله إلى اللواء الكماللي صاحب الدار قائلا : 

١‏ ...يا كمالي اليس هذا هو عبدالرحمن مختار ؟ وعندما اجابه بنعم قال لي الرئيس 
عبود معانيا : 

«طيب يا ابني ليه ما تسلم علي ؟!»2. 

فاجینه مسرعا ودون اكتراث: 

«اسلم عليك ليه يا سیاده الرئیس وانت خربت بيني وشردتني ! ؟ يبدو ان الرئیس 
الذي اندهش بالطبع کنیرا لسلوكي الغریب وصراخي وعدم اكترائي به وبغیره فوقف 
مودعا وخطا اربع او خمس خطوات في الحديقة ثم ناداني بصوت عال : 

فهرولت نحوه مسرعا ویبدو انه قصد الانفراد بي حتی یکون في مأمن وبعيدا عن 
العیون فمسكني من يدي قائلا : 

«ليه يا ابني تعاملني کده .. انا عملتلك حاجة لك وحشة!؟ ». 

.. لم تكن هناك فرصة مواتية لي اکثر من هذا اللقاء الانفرادي اذ كان عبود خاصة 
في ايامه الاخيرة في حالة عزلة تامة وقد ضرب حوله سیاج حديدي لن یخترق بسهولة 
بدلیل انني حاولت لقاءه اکثر من عشر مرات وکتبت له اکثر من خمسة استتنافات 
لاعادة صدور الصحافة فلم افلح ولم اتلق مجرد الرد علی محاولاتي ولقد تعرضت 
بجانب تعطیل الصحافة الى مطاردة ومراقبة بوليسية شديدة ومتواصلة ومحکمة حنی 
تليفوني ورسائلي الخاصة لم تسلم هي الاخری فهل یمکن ان افوت مثل هذه الفرصة 
الثمينة التي لا تقدر بالنسبة إلي بذهب العالم كله خاصة وانا اعرف ان الرئیس عبود 
رجل طيب یخاف الله کنیرا ويخشى حسابه وعقابه ؟ 


۱۷ 


كان لابد لي ان اطرق الحديد وهو ساخن قلت له: 

يا سيادة الرئيس لقد عطلت الصحافة وشردتني وشردت موظفي وعمالي ولقد 
حاولت كثيرا ان اقابلك ففشلت كما كتبت لك اكثر من خمسة استئنافات فلم ترد علي 
ولذلك لم يبق لي وانا في قمة مأساتي ونهاية احزاني وبعدما قضيت على مستقبلي 
ومستقبل صحيفتي وانا مازلت في ريعان الشباب والطموح .. لم يبق لي الا ان اشكوك 
إلى الله ! ؟ ْ 

لم يستطع الرجل ان يتماسك فانتفض جسده كله كأنما لدغه ثعبان فرد علي وقد 
اوسشك ان يضع يده ف فمي : 

لا يا ابني حرام عليك ارجوك الا تكرر هذا الدعاء فهو يقلقني ويعذبني واؤكد لك يا 
ابني انني لم اتسلم منك خطابا ولا استئنافا كما لم يخطرني احد بطلبك لقابلتي ... 
واختتم عبود حديثه بقنبلة شديدة الانفجار اوشكت معها ان افقد الوعي والاحساس 
والادراك لولا ان استجمعت قواي قليلا قليلا وانا اكاد اطير من الفرح والفاجاة غير 
المتوقعة ولا مرتبة ولا كانت ف الحسبان او الخيال قال ل عبود : 

«اذهب يا ابني في هذه اللحظة واجمع موظفيك ومحرريك وعمالك وعاود صحافتك 
غدا... فقط لا تشكوني إلى الله .. هذا كثير لا يحتمله مسلم! » 

.. كانت فرحتي كبيرة إلى درجة اوشكت معها ان اخرج دون ان أودع صاحب 
البيت ولا الجالسين لكنني تمالكت نفسي وعدت اليهم واخفيت عنهم كل ما دار بيني 
وبين الرئيس عبود حتى لا ينتشر الخبر قبل ان استغله استغلالا جيدا ومحکما ومفيدا . 

.. الساعة كانت تقارب الثامنة عندما انطلقت بعربتي كالمجنون متجها نحو داري 
فابلغت بالطبع زوجتي واهلي نم ادرت قرص التلفون الى السيد وزير الداخلية اللواء 
محمد احمد عروة وتحدئت اليه من مركز القوة وطلبت اليه في لهجة لا تخلو من 
الغطرسة المفتعلة ان يجهز لي في الصباح الباكر خطاب معاودة الصدور لجريدة الصحافة 
دون ان ابوح له بمصدري مما جعله يرد في شبه انفعال بانني اصبت بالجنون ثم 
ضحكنا واكدت له بانه غدا سيرى . 

۰ جاءني خطاب الداخلية في حوالي الساعة الحادية عشرة نهارا بعدما احدث دويا 
هائلا وحيرة واسئلة وعلامات تعجب کثيرة في اوساط الجلس الاعلی ومجلس الوزراء 
وکبار رجال الدولة وقد اقسم کبارهم بان جريدة الصحافة لن تری النور وهم على قيد 
الحياة وصدرت الصحافة ورأت النور وبصدورها انفضت من حولي كلاب الصيد وازیلت 
الرقابة واختفت الدراجات النارية والعربات التي كانت تلازمني ملازمة الظل وتطاردني 
اينما ذهبت واینما وقفت ومن یومها دخلت سراديب حکومة نوفمبر وحطمت الحواجز 
وقطعت کل الاسلاك الشائكة التي كانت تقف بیننا فاصلا منیعا وسدا قویا واختصرت 
علاقاتي على القمة واصبحت خلال اسابیع صدیقا قریبا من الرئیس عبود فانحنت امامي 


1۷۵ 


كل الهامات وانفرجت وجوه الكثيرين عند لقائي بابتسامات عريضة بعضها صفراء. لكن 
كلها كانت باهتة تماما كابتسامات مضيفات الطائرات والمطاعم . 

.. اخذت العلاقة بيني وبين الرئيس عبود تقوى وتزدهر شيئًا فشيئًا حتى ان لقائي 
به وفي منزله الخاص كثيرا ما يزيد على المرة في الاسبوع نناقش فيها ادق الموضوعات 
ونبحث من خلالها بعض المشاكل خاصة المستعصية منها فاصبحت في وقت وجيز على 
علم تام بادق الأسرار داخل اجهزة الدولة ولاول مرة خلال الخمس سنوات من عمر 
حكم نوقمبر طاف الرئيس عبود خلالها نصف الكرة الارضية دون ان يصحبني معه مرة 
واحدة بسبب سوء العلاقات ... لاول مرة يصحبني معه في الرحلة . 
اليتيمة والشوومه في زياراته لباكستان والهند والصين وانجلترا دون غيري من الصحفيين 
الاخرين الذين اعتادوا فيما مضى ان يرافقوه في مثل هذه الرحلات وذلك باستئناء 
مراسل رويتر في الخرطوم الاستاذ محمد ميرغني رحمه الله وقد احدث هذا الاختيار 
ضجة في اوساط الصحافة والصحفيين كما احدث ضجة في اوساط الحكومة خاصة وقد 
جاء اختياري من قبل الرئيس عبود سشخصيا لا من وزير الاعلام كما جرت العادة . 

.. كان الوفد يتكون من اللواعين طلعت فريد وزير الاعلام وحسن بشير وزير 
الدفاع والقائد العام والمقبول الامين وزير التجارة واحمد خير وزير الخارجية وما أن 
اقعلت الطائرة بنصف ساعة حتى استدعاني الرئيس عبود إلى الغرفة الخاصة والمعدة له 
في الطائرة وتجاذب معي اطراف الحديث واخذت له صورا فريدة «بكاميرتي » الخاصة 
والتي انشر بعضها في هذا الكتاب لاول مرة .. 

.. اوشکت ان اصاب بالجنون عندما استدعاني احمد خير وزير الخارجية وطلب 
مني اعداد خطاب باللفنین الانجلیزیه والعربیة الذي من الفترض ان يلقيه الرئیس عبود 
عند هبوطه ف مطار كراتشي ومرد الجنون والحيرة هذه انني ما تصورت ابدا ان 
خطابا كهذا يعد في الطائرة وقبل ساعات من هبوطها اذ ان اعداد مثل هذه الخطابات 
يتطلب دراسة متأنية تفي بالغرض مما يتطلب الوقت والتروي والبحث والاستقصاء 
وربما الرجوع إلى خلفيات معينة . كنت على الاقل اعتقد قبل هذا التكليف ان وزارة 
الخارجية أنشئت خصيصا لمثل هذه الاغراض وما كنت احسب ان الارتجال يصل إلى 
هذه الدرجة من العفوية والهامشية التي تصل حد التخبط والارتجال . 

وبالفعل اعددت الخطاب انا وزميلي الاستاذ محمد ميرغني والقاه الرئيس عبود 
عند هبوطه ثم اعد له خطاب آخر القاه على مثات الالوف من البشر تجمعوا في حديقة 
البلدية واستقبلوه بحماس بالغ وتصفيق حاد وصراخ وتشنج خاصة عندما اعلن عبود 
بان كشمير جزء لا يتجزأ من باكستان وبالمناسبة فان الشعب الباكستاني يعتبر السودان 
القطر الثاني بعد مصر من ناحية الثقل العربي والاسلامي - على الاقل في ذلك الوقت . 

.. في صبيحة اليوم الثاني عقدت الجلسة الاولى والاخيرة للمحادئات المشتركة بين 


۱۷۳۹ 


الجانبين الباكستاني برئاسة ايوب خان والسوداني برئاسة عبود فابتدر اللقاء الرئيس 
خان بكلمة ترحيب حارة اساد فيها بخطاب عبود الذي الهب مساعر السشعب الباكستاني 
وطلب ان يضمن کففرة اساسية ف البيان المشترك ودار حديث ونقاش طويلين من 
وزير الخارجية اراد ان يفصل فيه بين الخطاب الشعبي والمحادثات الرسمية فما كان 
من ايوب خان الا ان يفقد اعصابه ويخرج عن كل دوائر العقل والصبر التي يتطلبها 
مثل هذا الموقف فما كان منه الا ان صرخ في وجه وزير خارجیتنا قائلا : 

ارجو ان تصمت ولا تقاطعني يا سيادة الوزير فانا رئيس اتحدث إلى رئيس وهنا 
اسقط في يد الرئيس عبود وتناول الحديث من حيث انتهى وزير خارجيته فما كان من 
ايوب خان الا ان قال له: 

ديا سيادة الرئيس انا لا اريد ان اسجل في البيان المشترك اكثر من حقيقة واحدة 
قلتها بالامس فلما حاول عبود ان يسوف الامر ويتحايل كما فعل وزير خارجيته ضرب 
ايوب خان المائدة بقبضته القوية فهو رجل فارع الطول مفتول العضلات فانقلبت اواني 
القهوة والشاي رأسا على عقب وخرج من قاعة الاجتماعات في عصبية شديدة ما كان 
يبنغي ان تكون بتلك الصورة لكن من الناحية الاخرى فالرجل معذور إلى حد ما في 
مطلبه خاصة وقضية کشمیر في تلك الظروف كانت قضية الساعة وكانت مسألة حياة أو 
موت . 

.. غضب عبود وخرج من القاعة بعصبية اقل وغادر وفد السودان باكستان دون ان 
يصدر اي بيان مشترك ففقدناها وفقدنا صداقتها وهبطنا في نيودلهي التي سبقتنا اليها 
تصريحات عبود المتلفزة والمذاعة في كشمير والتي اثارت بالطبع حفيظة الهند فكان 
الاستقبال فاترا وصل إلى حد الجمود ومکننا فيها نلانه ايام ثقيلة جافة باهته خلت من 
كل معاني الحيوية ناهيك عن الفرح والابتسام والحرارة . 


نهرو الحياة ... نهرو الموت 


کل الذي خرجت به شخصيا من نيودلهي هو لقاء خاص مع نهرو اجریت فيه حدینا 
صحفیا لم یتجاوز العشر دقائق اذ كان نهرو بشعر بوعكة صحية كانت معالها واضحة 
ف لونه المصفر وجسده المنهك وصوته الخافت وانا الذي سمعته يهز النابر والحاور 
وينشي المستمعين بأدبه وشعره ولغته المتمكنة البارعة في الانجليزية فقد عده المستر 
وینستون تشرسشل رئيس الوزراء البريطاني المعروف ثالث من يجيد الانجليزية بعده 
وبعد برنارد شو في العالم . 

© قلت لنهرو من بين ما قلت: 


۱۷۷ 


.. سيادة الرئيس يشاع بأنك تمهد لابنتك انديرا لتخلفك في رئاسة الحزب والحكومة 
فأجابنى بصوت خافت: 
It is still too early for me to die!‏ 


«لم تحن ساعتي بعد فامامي فسحة طويلة من العمر ...» 


© غادرنا نيودلهي فقدناها وفقدنا صداقتها وبعد خمسة ايام مات نهرو ثم وصلنا 
بكين ففقدناها هي الاخرى عندما وضع:الصينيون في محادثاتهم شرطا اساسيا وهاما هو 
ارسال الاسلحة لثوار انجولا عن طريقنا مقابل شراء جميع اقطان السودان ومساعدته 
في مختلف الميادين فرفض الجانب السوداني هذا الشرط وغادرنا بكين بعدما وقع شوان 
لاي وكسرت ذراعه وعندما وصلنا لندن سمعنا بحادث التصادم الذي وقع للملكة والذي 
اوشكت ان تموت بسببه ولم يكن هناك شيء يذكر في رحلة بريطانيا اذ كانت رحلة 
مجاملة لم نخرج منها الا ببعض المساعدات الطفيفة . 

.. لم تدم صداقتي مع الفريق الرئيس ابراهيم عبود طویلا.. ولم تعمر أكثر من 
بضعة اشهر ويبدو ان خلافا بيننا تم في الوقت الضائع كما يبدو انني كنت شؤما على 
عبود وعهده وانا اقف بجانبه من سر فه القصر في لحظات عمره الاخيرة ونحن نستمع 
معا لهتافات الشارع الثائر بسقوطه وسقوط حكومته ثم مالبث ان دوى الرصاص 
وتطاير الدم والاحذية والدراجات في ساحة القصر والشهداء يتلوون ويصرخون ثم ما 
تلبث انفاسهم ان تسکت مرة واحدة وإلى الابد حتى بلغ عددهم اكثر من مائتي شهيد في 
ساحه القصر ولحظنها كان عبود يردد تلعنانه على ثلانه من وزرائه وف عينيه دموع 
ظلت تتساقط على خدیه کحبات الارز وهو يضع من وقت لاخر کلتا يديه على رأسه 
كان یقول بصوت فيه حشرجة الوت: 

«ده انا كنت فاکر الشعب شبعان ومبسوط ومتغطي ... ده انا كنت مغشوش .. الله 
يلعنك يا فلان . . . الله يلعنك يا فلان. .۰ . الله يلعنك يا فلان ! تلانة من وزرائه الکبار الذين 
كان بيدهم السلطان والصولجان لم يكتشف عبود خداعهم وغشهم الا بعد فوات 
الاوان ». 

وبعد يومين من التظاهرات والضحايا .. وبعد يومين من اصرار الشعب على اقتلاع 
حريته بأغصان النيم. والاشجار » استشهد الحكم النوفمبري وأعلن عبود حل المجلس 
الاعلى ومجلس الوزراء ثم بعد ايام قليلة تنحى هو عن الحكم وأصبح بعد اشهر قليلة 
فردا عاديا يراه الناس ٤‏ زنك الخضار وامام دكاكين البقاله وطلمبات البنزين وبيوت 
الاتم . 


۱۷۸ 


لغة الكاميرا 
المؤلف يلتقط صورتين نادرتين للفريق ابراهيم عبود رئيس حكومة نوفمبر وهو في 
الطائرة في رحلته المشؤومة يقرأ القرآن ثم يبتسم في غرفته الخاصة بالطائرة . 









۰ 


في القصر الجمهوري 
ومع دوي الداقع الرشاشة 
ف اة القصر عبسود 
یقول آخر کلماته في ثورة 
اکتوبر وفي الصورة اللواء 


۱۷۹ 





و 
هر ۹ سج مونب 
و 


١8١ 


IRI ب‎ ۱۳۲۳ 13 |S AS eee تب‎ ECE | 


مح بت تسم و666 RS (çîr?‏ سو 





1 
r RHEE 


< الفصل الثالث عشر » 


ثورة اكتوبر ١9514‏ 


© بيانات القادة والزعماء 

© ماذا دار في أخطر اجتماع لرؤساء تحرير الصحف . 

© بعد صدور عدد «الصحافة » السري : 

صدرت الأوامر بتصفيتي وشمعت دار الصحافة 

© عبدالخالق محجوب واحمد سليمان وقصص وحكايات . 








القنابل المسيلة للدموع في جامعة الخرطوم 


في نحو الساعة التاسعة من ليل الاربعاء 54 اكتوبر ١5145‏ كان اتحاد طلبة الجامعة 
يعقد اجتماعا في داخلية عطبرة لبحث مسألة الجنوب عندما أمرهم البوليس بفض 
الاجتماع فلم يفضوه .. اقتحم البوليس الندوة وطوق المكان بالسلك الشائك والقى بعد 
ذلك القنابل المسيلة للدموع فهرع الطلبة إلى حجراتهم ثم عادوا ووقع بينهم وبين 
البوليس صدام استخدم فيه الطلبة الحجارة والزجاج الفارغ واستخدم البوليس القنابل 
المسيلة للدموع مرات ومرات . 

استمر هذا الصدام نحوا من ساعة ثم انذر الضابط المرافق للبوليس الطلبة بانه 
سيستخدم الرصاص ان لم ينفذوا التعليمات بعدها أمر باطلاق النار واستمر الضرب 
بعض الوقت .. قتل الطالب احمد قرشي وجرح اخرون جراحا متفاوتة واعلن رسميا ان 
عدد المصابين من رجال البوليس كان ثمانية وثلاثين ولكن لم يحجزوا احدا منهم 
قالش یم 

تأخر نقل الطلبة الصابین إلى الستشفی لان البولیس كان قد اقفل الابواب ومنع 
دخول الاسعاف الا بعد مضي بعض الوقت واعتقل اربعة اطباء کانوا في طریقهم لانقاد 
الطلبة ... اجرت سلطات المستشفى ليلة الحادث عملیات سريعة للمصابین وصفت حالة 
بعضهم ليلة الحادث بالخطورة . نقل لاحد الصابین کمیات كبيرة من الدم اشترك في 
عملیات العلاج كل الاطباء بالستشفیات الحكومية والاطباء الخصوصیین . 

كانت سلطات الجامعة قد اغلقت نادي الطلبة تفادیا لعقد الندوات وعندما علم 
الناس ليلا بوقوع الاصطدامات خفت جموعهم إلى الستشفی ... الطلبة الذين اصیبوا في 
الحادث السنوم هم : 


١06 


بابكر حسن - خالد نجم الدين - حسن الوديع السنوسي - عثمان البلك - خالد 
الحاج - على ابراهيم احمد محمود ‏ حمزة عبدالله كنة ‏ احمد البشري - محمد 
الحسن محمد سعيد ‏ جلال الدين عباس - النور عبدالخالق ‏ يس الدسوقي - محمد 
فائق يوسف - محمد الفاتح الطريفي - الامين عبدالله - حمد احمد الهدي - عبد 
العزيز محمد فرج حسن احمد عجبنا - سلیمان عبدالواحد - والانسة سهام مصطفى 
الصاوي . 

وکان ان اصدر وزير الداخلية امس :۱۹۱۶/۱۰/۲۶ حظرا بمنع التجول في الدن 
الثلاث من الساعة السادسة مساء حتی الخامسة من صباح الیوم التالي وکان الوزیر قد 
اصدر امرا منذ صباح الامس بمنع التجمهر لاکثر من عشرة اشخاص الا فيما یتعلق 
بالعبادات والافراح وما إليها ... في الخرطوم تظاهر القضاة والحامون واساتذة الجامعة 
والعهد الفني وبعض موظفي مکتب النائب العام وسیروا موکبا لیحمل عريضة منهم الى 
القصر الجمهوري حول الوقف وقد تجمهروا آمام الهيئة القضائية الامر الذي دعا رجال 
البولیس لتطویق الکان فامره القاضي عبدالجید امام بالانصراف ثم جاءت فوات الجیش 
ومنعت الوکب من التحرك واطلقت بعض الطلقات النارية في الهواء . 

جرت على اثر ذلك مسشاورات اشترك فیها رئيس القضاء وانتهت إلى ارسال مندوبین 
من السادة عبدالجید امام من الهيئة القضائية وعابدین اسماعیل من نقابة الحامین 
والدکتور طه محمد خر من اساتذة الجامعة والدکتور طه بعشر من الاطباء وممثلین 
لاساتذة العهد الفني ومکتب النائب العام لتقدیم العريضة . اعلن هذا الحل عن مبداً 
الاضراب السياسي العام السید عابدین اسماعیل.علمت الصحافة ان مجلس الوزراء عقد 
اجتماعا ظهر الامس لاستعراض الوقف وانه سیجتمع الیوم ایضا ... قامت مظاهرة على 
اثر انفضاض موکب الامس فرقها البولیس باستخدام الغازات . 


۱۸۹ 


بیانات القادة 


.. ملات المنشورات الشوارع وهي تدين التسلط والقهر واستطاعت جريدة الصحافة 
ان تجمع كل هذه البيانات من مختلف الاتجاهات الفاعلة وتنشرها في عددها السري 
المعروف وهي كما يلى : 


بيان الميرعني: ' 


بسم الله الرحمن الرحيم 

لقد علمنا بالتفصيل ما حدث في العاصمة منذ يوم الاربعاء الماضي وتتبعنا باهتمام ما 
يجري ويحدث وانه ليبعث في نفوسنا الاسى والاسف الشدیدین ما حدث ولا سك ان 
هذا امر غير مرض وغير باعث على الاطمئنان ولابد من وضع حل لكل ما يثير الشعب 
ولهذا كله نناشد الحكومة ان تعمل على وحدة البلاد وان تحافظ على شعور الشعب 
وتحقق اهدافه وعلى الشعب ان يهداً وان يستجيب لنداء العقلاء منه حتى تصون البلاد 
سمعتها لايجاد نظام ديمقراطي سليم يتفق مع ديننا وتقاليدنا وتراث بلادنا لحفظ وحدة 
البلاد واستقرارها وتقدمها والله ولي التوفيق . 


مذكرة رجال القضاء: 


إلى صاحب العالي رئيس المجلس الاعلى للقوات السلحة ورئيس مجلس الوزراء: 

نحن رجال القضاء والمحامين نشعر ان مسئوليتنا نحو العدالة وسيادة القانون في هذا 
البلد تفرض علينا: ان نقرر ان حادث الاعتداء الذي وقع على طلبة جامعة الخرطوم امر 
يهتز له ضمير العدالة ويتنافى والقواعد القانونية الواجب احترامها من قبل الحكومة قبل 
الافراد وذلك لأن حرم الجامعة محراب مقدس وداخليات الطلبة التي وقع الاعتداء 
عليهم في داخلها وسالت دماؤهم في ارضها هي مكان خاص لا يمكن القول بان ما دار 
فيه امر فيه اخلال بالامن العام او الطمأنينة لان هذا الوصف لا ينطبق الا على عمل يتم 
في مكان عام وفوق ذلك ان تصرف البوليس لم يصدر بناء على امر من قاض كما يقضي 
بذلك القانون وعليه فاننا نطالب باجراء تحقيق فورا بواسطة قاض في الحوادث المؤسفة 
التي راح ضحيتها طالب بريء واصيب اخرون فيها بجراح خطيرة في ظروف قد ترقى 
إلى الاتهام بجريمة القتل العمد كما نطالب بتقديم من تثبت عليه السئولية إلى المحاكمة 
الجنائية سواء كان عضوا في المجلس الاعلى او وزيرا كبيرا او صغيرا وسواء اكانت 


۱۸۷ 


المسئولية نتيجة عمل ايجابي ام سلبي وبغير ذلك فلن يهدأ لنا بال ولن نستطيع ان 


... بعث الامام الهادي المهدي بمذكرة إلى صاحب المعالي الرئيس ابراهيم عبود 
يستعرض فيها الاحداث ويوضح رأيه في الوقف الحالي وقد تقدم بمطالب سياسية 
محدودة هذا وقد بعث السيد اسماعيل الازهري ببرقية حول الموقف . 


بیان اسانذة الجامعة : 


بما ان سلطات البولیس قد انتهکت حرمات الجامعة فتصدت لندوة عامة عقدها 
الطلبة یوم السبت العاشر من اکتوبر ١514‏ عنوانها التقييم العلمي لمسألة الجنوب ثم 
مدت تلك السلطات يدها للجنة انحاد الطلبه فاودعنها محابس التحفظ . 

وبما انها عادت یوم الاربعاء الحادي والعشرین من اکتوبر فتصدت لاجتماع داخلي 
بحت لجمعية الطلاب العمومية اقتصر على طلاب الجامعة شهودا ومتحدئین وعقد في 
فناء مساکن الطلبة بقصد تحدید الراي في مسألة الجنوب فاعتدی جنود البولیس على 
الطلاب العزل بعدد هائل من القنابل السيلة للدموع ثم امطروها بالرصاص الوابل 
فاردوا بعضهم قتلی وترکوا البعض الاخر بين الحياة والوت ولم یقتصروا على هذه 
الفعلة الشنيعة بل تعقبوا الطلبة في حجرهم وقادوهم معتقلین الى الاعتقال بل بلغت بهم 
الجرأة ان اعتقلوا بعض اساتذة الجامعة وانتهت بهم الوحشية إلى تعویق مجهودات 
الاساتذة والاطباء لاسعاف الجرحی ونقلهم إلى الستشفی . 

وبما انها تمادیا في الكيد للجامعة واستخفافا لشأنها تصدت لوکب نعش الطالب 
الشهید فحظرت نقلة للجامعة ووقف جنودها متهیئین لامتهان کرامة النعش ولابادة 
الاساتذة والطلبة وغیرهم من الشیعین فقد رأينا نحن الاساتذة ان هذه الجامعة فقدت 
مقوماتها واصبحت صورة بلا معنی وبناء بلا كيان فاذا كانت الجامعة موطنا لحرية 
الفکر ومنارا للعلم التجرد فقد خنقت في هذه الجامعة حرية الفکر ودنست فيها قداسة 
العلم وحکمت فیها سياسة رعناء هوجاء قوامها القهر والبطش والارهاب واذا كانت 
الجامعة من صمیم هذا الشعب تخدمه وتقوم على شئونه فقد اصبحت جامعتنا الیوم 
عاجزة عن ادنی مشاركة في حل السائل القومية في هذا البلد الذي تستصرخنا حاجاته 
الضائعة وقضایاه التي افلست فیها سياسة الحکام واذا كان للجامعة حرم جدير 
بالتقدیس واذا كان لطلبة العلم وحملته حق في التوقیر والاکرام فقد انتهك البوم حرم 
الجامعة واصبحت مسرحا لاراقة الدماء ودیست قداسة العلم في اهله واصبحوا عرضة 
للتقتیل والتنکیل وبما ان الجامعة من جراء ذلك لم تعد موطنا للعلم ولا مجال لبحث 


۱۸۸ 


قضايا الامة السودانية ولم يبق لها حرم مكرم ولا اهل يوقورن وبما اننا ايقنا انه لن تقوم 
لاستقلال الجامعة قائمة في ظل الاوضاع الحاضرة فقد قررنا نحن اساتذة جامعة 
الخرطوم السودانيين الموقعين ادناه ان نطهر ايدينا منها بالتوقف عن العمل فورا 
والاستقالة عن وظائفنا فيها استقالة غير مشروطة ولا موقوتة الا بزوال هذا الوضع 
المظلم وقيام نظام دستوري يعرف للجامعة استقلالها ويقدر اهلها حق قدرهم.. 
بیان رؤساء الصحف : 


تجتاز بلادنا الان فترة عصيبة لم تعرف لها نظيراً في تاریخها الحدیث وذلك بسبب 
الاحداث العنيفة التي وقعت وتلاحقت من یوم الاربعاء الاضي مما هز ضمير الامة هزا 
عنیفا وعرضها ویعرضها إلى الخطر الجسیم ونود نحن روساء تحریر الصحف الوقعین 
على هذا البیان ان نناشد آمتنا حکومة وشعبا ان تستخدم الحكمة في هذا الوقف 
العصیب وان تعمل لاجتیاز الخطر ولصيانة مکاسب البلاد وتأمینها بکافة السبل 
والوسائل . 

وبعد فانه لمن دواعي اسفنا العمیق الا تتمكن الصحافة السودانية في هذا الوقت 
العصیب من اداء واجبها بنشر الحقائق والتعلیق علیها بسبب الحظر التوالي بنشر 
الحقائق ففي ليل الاربعاء الاضي حين وقع الصدام المشئوم بين طلبه الجامعة ورجال 
البولیس مما ادى إلى مقتل احد طلبة الجامعة واصابة اخرین بجراح امرت السلطات 
الصحف بالا تنشر عن الحادث شيئا والا تعلق عليه وقد ترتب على هذا الوقف ان 
احنجبت الحقيقة وانتشرت الاشاعه وان التهبت العاطفه وانحبست الحكمة . 

ان روساء تحریر الصحف لیستنکرون اشد الاستنکار اطلاق البولیس للرصاص على 
الطلبة ویعتقدون ان الوقف كان يمكن معالجته دون حاجة إلى اطلاق النار لهذا نطالب 
السئولین باجراء تحقیق قضائي في مستوی عال لتحدید السئولية ومعاقبة التسببین في 
هذا الوقف ايا کانوا . 

وقي یوم الخمیس خرج الاساتذة والطلبة ومعهم جمع غفیر في موکب کبیر لتشییع 
جنمان الطالب الشهید ولم يكن في وسع الصحف ان تنشر شيئا عن ذلك الوکب او 
تعلق عليه بسبب الحظر .. واصدرت وزارة الداخلية بيانين حول الحادث ارفقت بهما 
خطابا یحذر الصحف من التعلیق وبذلك جردت الصحافة من کل ما تستطیع به ان 
ترتفع الى مستوی الاحداث .. 

ومنذ ذلك الوقت وقعت مظاهرات متصلة في شوارع العاصمة جنح بعضها الى اعمال 
التخریب والفوضی وال اشعال الحرائق في عدد من الاماکن والمتلکات العامة والخاصة 
ونحن اذ نحترم حق الواطنین في التعبیر عن مشاعرهم نستنکر اعمال الفوضی التي لجأ 
الیها بعضهم ونری فیما يتهدد هذا البلد وسمعته وسلامنه ومسنقبله لخطر عظيم . 


۱۸۹ 


وفي مساء الخميس الثاني والعشرين من اكتوبر ١514‏ دعا وزير الداخلية بالنيابة 
لؤتمر صحفي في وزارة الاستعلامات والعمل ادلی ببيان عن الحوادث واستمع الى اراء 
الصحفيين الذين اكدوا في ذلك المؤتمر اهمية رفع الحظر عن النشر ويؤسفنا ان الاذاعة 
السودانية وهي تذيع شريطا مسجلا لما دار في المؤتمر ان بترت الجزء الخاص بنقاش 
الصحفيين فلم تذعه على الناس . 
وتوالت الاحداث حتى صباح الامس حين خرج القضاة والمحامون واساتذة الجامعة 
وغيرهم من المواطنين في موكب لتقديم مذكرة للمسئولين حول الموقف فاعترضتهم 
قوات الامن وهددتهم باطلاق الرصاص ولو لم تسد الحكمة في النهاية لتطور الموقف الى 
ما لا تحمد عقیاه .. 
ان الصحافة السودانية لا تستطیع ان تؤدي واجبها في خدمة الامة وهي مكبلة 
بالقیود في مجتمع تنعدم فيه الحریات العامة وهي بذلك تأبی لنفسها هذا الوضع وتصر 
غل تأدية رسالتها کاملة.... 
الایام 
عبدالرحمن مخنار 
الصحافة 


عابدین محجوب 
الراي العام 


السودان الجدید 


محمد مکی 


الصیاح الجدید 


العدد السري : 


وبما ان جريدة الصحافه هي الصحيفة السودانیة الوحيدة التي النزمت بالعهد والیناق 
فاصدرت عددها السري العروف وضمنته جمیع هذه البیانات ضد تعلیمات الحکومة فقد 
كتب رئيس التحرير تحت عنوان عزيزي القاریء یقول : 

شهدت البلاد محنة قاسية وتهددها خطر مبین كان من المکن تفاديه ان تغلبت 
الحکمة على الاثارة والعقل على العاطقة .. ولو اتخذت الحکومة نفس السياسة التي 


۱۹۰ 


اتخذتها في ندوة الجامعة السابقة التي عقدت في العاشر من هذا الشهر لما انطلق 
الرصاص ولا سالت دماء ابنائنا من الطلبة ورجال البولیس ‏ ولا عمت الفوضى 
واضطربت الاحوال؛ ولكن يبدو ان الذي أصدر امر اطلاق الرصاص مهما كان وصفه لم 
يكن بعيد النظر ولم يضع في الحسبان ان الطلقات التي مزقت سكون الشاطبیء الوديع 
وفناء الجامعة الاخضر المزدهر ستكون نتائجها اكبر محنة واعنف هزة تواجهها البلاد في 
تاریخها الحدیث . 

ان الصحافة السودانية ظلت تجاري الاحداث بلا توقف ولکنها لم تستطع نقل 
الحقائق بسبب حظر الحکومة الذي سلب حقوق الصحفیین في ان یعالجوا الامور بهمة 
وینشروا الانباء للشعب بلا اثارة تدفعهم في ذلك مصالح علیا على رأسها وحدة البلاد 
وتجنبها الویلات . 

والحکومة لابد الان ادرکت خطورة حبس انفاس الحقائق على الواطنین وبسط 
المشاكل التي یعانونها وما يترتب على ذلك من مخاطر فلو اعطیت للصحافة حرية 
النشر للحقائق في اي ميدان وفي أية بقعة من بلادنا الحبيبة لما وجدت الاشاعات الضارة 
طريقها إلى صفوف الشعب ولا صدرت الصحافة السودانية يوم الخميس الماضي بناء على 
اوامر الحظر وهي تحمل في صفحاتها الاولى نبأ رواد الفضاء السوفيت وديون اتحاد 
كرة القدم ومنظمة اليونسكو وتحت ارجلها محنة هزت البلاد من اقصاها إلى اقصاها .. 
ان الحكومة لو اتاحت للصحف في ذلك الوقت فرصة تقدير الموقف وعظم المسئولية على 
رجال الصحافة وهم الحريصون على بلادهم ... لو اتيحت لهم فرص النشر لنشروا 
للناس في الصباح الحقائق المجردة ولا عزل الصحفيون من مجتمع وهبوه انفسهم 
واقاموا صحفهم من اجله ... اننا لسنا خوارج ولا نرتضي ان نعزل عن شعب نحن منه 
واليه وعن ارض انجبتنا وعلمتنا واحسنت صنعنا .. 

اننا معشر الصحافيين حريصون كل الحرص ان نجنب بلادنا الويلات وان نجنب 
شعبنا الهزات (والصحافة) التي اتشرف برئاسة تحريرها لم تعتد يوما على هيئة» ولم 
تحتقر يوما رأي مواطن ولم تحد عن مسئولياتها تجاه الشعب فقد صدرت لتبني وتعمر 
وتدفع بالبلاد والمواطنين الى اعلى عليين وتاريخها خير دليل وشهید ان الحكومة 
بحرمانها للصحف من نشر الانباء قد عرضت صحافة البلاد إلى محنة وباعدت بينها 
وبين الناس وبين الناس والحكومة ولست ادري ان كان ذلك سببه عدم ثقة وتقليل 
قدراتناء غير انني أؤكد بان سياسة الحظر التي فرضتها الحكومة على الصحف لم تكن 
سياسة موفقة وبعيدة النظر . 

ان الصحافة السودانية كما استنكرت في بيانها اعمال التخريب والحرق والاعتداء على 
الممتلكات ايضا تستنكر الوسائل التي اتخذت ععالجة الموقف مما ادى إلى تفاقمه 
وتعريض مكاسبنا الوطنية لمخاطر لا يعلم مداها الا الله .. 


۱۹۱ 


(والصحافة ) تناشد من هذا المنبر كافة المواطنين بان يقمعوا اي حركة تخريبية وان 
لا يسمحوا بالاعتداء على الناس والممتلكات وهي مهمة لا اظن اي مواطن امين يحب 
بلاده ومواطنيه يتردد ف ان يؤديها حتى تزول في غد قريب هذه المحنة التي تسا الله 
ان يجعل نهايتها خيرا لهذا الوطن والمواطنين .. 

اللهم اننا نسألك من هذا المنبر المقدس باسم الملايين من ابنائنا واخواننا في الوطن› 
باسم الطلبة والمزارعين باسم العمال والموظفين باسم رجال الأمن والجيش باسم كل من 
أنجبته هذه البلاد الطاهرة .. باسم ماضينا التليد باسم آبائنا وأجدادنا الذين وهبوا 
دماءهم الحارة في سبيل الوطن المفدى باسم هؤلاء جميعا اسألك اللهم ان تنصر الحق 
على الباطل وتعيد لسوداني الحبيب امنه وسلامته حتى يسير في طليعة ركب الشعوب 
الزاحف من اجل عالم يسوده الامن والسلام والخير والعدالة والحرية .. 


بيان الحكومة 
في مؤتمر صحفي : 

عقد بوزارة الاستعلامات والعمل في السادسة والنصف من مساء الخميس الماضي 
مؤتمر صحفي حضره معالي اللواء احمد رضا فريد وزير الداخلية بالنيابة ومعالي اللواء 
محمد نصر عثمان وزير الاستعلامات والعمل ومعالي السيد احمد خير وزير الخارجية . 
والسيد حسن علي عبدالله الوكيل الدائم لوزارة الداخلية والسيد أحمد عبدالله ابارو نائب 
مدير البوليس لشئون الامن والقى معالي اللواء رضا فريد وزير الداخلية بالنيابة البيان 
التالي : 

مند ان بدأت الاحداث الاخيرة في الجنوب ظهرت على الصحف الحائطية التي 
تحررها الهيئات الطلابية المختلفة مقالات نكيل اللوم على الحكومة الحاضرة وتنعتها 
بأبشع الالفاظ الشيء الذي يوقع كاتبي تلك الصحف والهيئات التي تنتمي اليها تحت 
طائلة القانون الا ان الحكومة رات ان تصفح عن كل هذا في رحابة صدر طالما ان هذه 
الأحداث لم تتعد دائرة الطلبة وفي محيط الجامعة.ان هذا التسامح قد فسر خطأ من 
جانب الطلبة وظنوه تساهلا مما جعلهم يتمادون في ارتكاب خرق القانون الذي لا يميز 
بين افراد السعب ومكان ارتكاب الجريمة سواء كان داخل الجامعة او في اي مكان اخر 
الا ان اجراء لم يتخذ امعانا في التسامح .. 

وق شهر سبتمبر ١1114‏ كونت الحكومة لجنة شئون الجنوب التي تعرفون عن 
صلاحيتها الكثير وفي نفس الوقت تغاضت الحكومة عن القوانين التي تمنع الاجتماعات 
وسمحت بقيام ندوات لمناقشة موضوع الجنوب ايمانا بحيويته وضرورة اشراك المواطنين 
بالادلاء بارائهم وفي اليوم التاسع من سبتمبر عقد طلبة جامعة الخرطوم اول ندوة لهم 
دعوا اليها مختلف الطبقات وخرجوا بالندوة عن محيط الجامعة إلى المحيط العام حدث 


! 


ان خرج بعض التحدئین من محترفي السياسة والمبتورين من أصل الوضوع وتعرضوا 
لاشیاء لا تمس موضوع الجنوب لا من قريب او بعيد وقد وجد بعضهم في هذه الندوة 
فرصة لمهاجمة الحكومة وارتكاب مخالفات صريحة للقانون الا ان الاجراءات الجنائية لم 
تتخذ واكتفى السئولون بايقاف هذه الندوات التي اتخذها بعضهم وسيلة لمهاجمة 
الحكومة ولخرق قوانين البلاد الشيء الذي يعرض الامن والاستقرار الى الخطر .. 
رغم هذا التسامح من جانب المسئولين لم يقف طلبة جامعة الخرطوم عند حدهم بل 
تعدوه ونادوا بقيام ندوة ف يوم ۸۰ ولا كانت ادارة الجامعة على علم بمنع 
قيام الندوات كهذه قفلت دار الاتحاد وتحول الطلبة إلى المكان الواقع بين داخليتي 
كسلا والقاش لاحياء ندوتهم الا ان البوليس منعهم واستجابوا للمنع ... وفي تاريخ 
لاحق تقدم عشرة من لجنة اتحاد الطلبة بعريضة الى وزير الداخلية كانت كلها هجوم 
سافر وتحد مرير للسلطات واعتقلت السلطة مقدمي العريضة تحفظا ولم تقدمهم الى 
محاكمة مع العلم ان المخالفة القانونية واضحة والبينة كافية لادانتهم ومن ذلك التاريخ 
خرجت صحف الحائط للمعسكرات والاتجاهات المختلفة ترتكب يوما بعد يوم مخالفات 
قانونية واضحة وظلت السلطات المسئولة تراقب عن قرب وفي صبر هذه الاعمال 
الصبيانية لعل الطلبة يعودون الى رشدهم ولكن شیثا من هذا لم يحدث بل بدأ الطلبة 
في التحضير لتحدي الحكومة والقانون وكانت السلطات تعلم بأنهم قد اعدوا عدتهم 
للاصطدام بقوات البوليس لنعها من تأدية واجبها وهو حماية القانون ففي يوم امس 
الاول دعا الطلبة لاقامة ليلة لدراسة مشكلة الجنوب علما منهم بان قيام مثل تلك الليلة 
يمنعه القانون فلما بدأ الطلبة خاطبهم الضابط المسئول بان يتفرقوا وانذرهم فلم يزدهم 
انذاره الا تحديا وتحدثوا عن تكميم الافواه وتقييد الحريات وقد ذكروا بانه آن للقيد ان 
ينكسر وعند اصرارهم اضطر البوليس إلى القوة برمي عدد من قنابل الغاز المسيل 
للدموع فجرى الطلبة الى داخلياتهم ثم خرجوا مرة اخرى حيث بدأوا في رمي رجال 
البوليس بالحجارة كما التحم بعضهم مع البوليس مستعملين العصي الغليظة وفروع 
الاشجار والزجاج الفارغ مما اوقع الاذى بما يزيد عن ثمانية وثلائين رجل بوليس وكان 
اصرار الطلبة واضحا في تحديهم لقوات الأمن وتأكيدا لما ذكروه وهو دحر رجال 
البوليس مهما كلفهم الامرء ظل جماعة من البوليس يحاولون لفترة ساعة كاملة تفريق 
جماعة كبيرة من الطلبة مسلحة بالعصي الغليظة والحجارة والزجاج مستعملين معهم 
اقل ما يمكن من قوة الا ان الطلبة استغلوا هذا الموقف واحكموا الحلقة على هذه الفئة 
من الرجال الذين وجدوا انفسهم في موقف صعب الشيء الذي دعا الضابط المسئول وهو 
برتبة حكمدار ان ينذر الطلبة للوقوف عند حدهم وان يوقفوا الحاق الاذى برجال 
البوليس وقد كرر الضابط عبارات الانذار بانه سوف يأمر باطلاق النار ... الي الذي 
تسبب في موت طالب وايقاع الاذى بالاخرين حجز بعضهم بالمستشفى . ظل الطلبة 


۱۹۳ 


طيلة ليلتهم يتربصون برجال الأمن الذين واجبهم حفظ الامن ورمي عرباتهم بالحجارة 
كما تعرضت عربات بعض الواطنین للتكسير من جراء هذه الاعمال الطائشة ومنذ 
الصباح بدأت جموع الطلبة تزحم ساحة الستشفی بالخرطوم متذرعين بتشييع الطالب 
المتوفى ولما سمحوا لهم بذلك استغلوا الموقف وخرجوا في مظاهرات عدائية لم تقف عند 
حد الهتافات بل تعدتها اعمال الضرر بممتلكات المواطنين كما احرقوا بعض عربات 
الحكومة التي كانت بسبب او اخر بدون حراسة وامتدت مظاهرات الطلبة وتفرعت إلى 
العديد من الشوارع والطرقات وكان رائد الطلبة في كل مظاهراتهم اظهار العنف واعمال 
التخريب ان قوات الامن لن تسکت عن هذا التحدي للقانون ولن تقف مكتوفة الايدي . 

© قال وزير الداخلية في المؤتمر الصحفي ان قوات الامن لن تسكت ولن تتهاون 
وستتخذ من الاجراءات ما يضمن سلامة المواطنين وممتلكات الحكومة .. 

© في سؤال لوكيل الداخلية بان الداخليات جزء من الحرم الجامعي وليس للبوليس 
الحق في دخولها اجاب الوكيل ليس هناك الزام بعدم الدخول اذا كان هناك اخلال 
بالامن وان البوليس له الحق في التدخل طللما هناك جرائم واخلال بالقانون . 


الداخليات ليست حرما جامعیا : 


في سؤال للصحافة لوكيل الداخلية جاء فيه : المعروف ان البوليس لا يدخل حرم 
الجامعة عندما يعتصم بها الطلبة بلع يظل مرابطا خارج سور الجامعة حتى تعلن 
سلطات الجامعة اغلاقها فتصبح مباني حكومية وتزول عنها حماية العلم . ولكن البوليس 
اخترق حرم الجامعة وضرب الطلبة اجاب بت الداخلية بان البولیس قد دخل 
الداخلیات وهي ليست ضمن الحرم الجامعي .. 

© قال الاستاذ عبدالرحمن مختار رئيس تحریر الصحافة في المؤتمر الصحفي : 

. لو رفعتم عنا الحظر لنشرنا انباء حوادث الجامعة بطريقة أقل استفزازاً من 

لبیان الذي اصدرته الحکومة صباح الخمیس . 

... وقال ایضا ان الحکومة لا تعطي اعتبارا للصحافة ولا للصحفیین مما عزل 
الصحف تماما عن الجتمع وفي ذلك کل التحقیر للصحافة والصحفیین . 

.. وقال ایضا ان رئيس التحریر يستطيع في کل وقت ان یقرر الاحداث وینشر 
الحقائق واضعاً في الاعتبار الاول مصلحة البلاد . 


شید والضحف 
© أسرار كبيرة في اجتماع رؤساء التحرير : 
© قررنا الصدور بالاجماع ببيانات الهیئات والوقوف مع الشعب ولكن! 
© الصحف سمحت للداخلية بقراءة البروفات ووقعت على التعهد فلم تصدر ... 
© الأيام لم تصادر ولكنها احتجبت دون أن تخطر زميلاتها للمشاركة ... 

في منتصف السبت ۲۶ اكتوبر سنة ١53114‏ تعاهد رؤساء التحرير ان ينضموا إلى 
الصفوف السعبیه مستنكرين موقف الحكومة من طلبة الجامعة ومن فنات السعب ... 
ومستنكرين اطلاق الرصاص ومطالبين بانهاء الوضع ... زملاني رؤساء التحرير الاساندة 
بشیر محمد سعيد عن الايام ومحجوب محمد صالح عن المورننج نيوز وفضل بشير عن 
السودان الجديد وعابدين محجوب عن الراي العام ومحمد مكي عن الناس وحسين 
عنمان منصور عن الصباح الجديد وبابكر كرار عن الرسالة وعبدالرحمن مختار عن 
الصحافة تعاهد رؤساء التحرير ان يصدروا صحفهم اليومية كلها في صباح الاحد وهي 
تحمل بيان الصحفيين وبيان اساتذة الجامعة وبيان القضاة والمحامين وبيان الاطباء 
والزعماء ورجال الاحزاب ... وتفرق الجمع باسم الله وباسم الشعب کل نحو دار 
صحيفته نتبادل العلومات والانباء حتى منتصف اللیل ... وف صباح الاحد لم تصدر 
صحيفة غير الصحافة.ماذا دار في اجتماع الصحفیین ... وکیف واجهنا الحنة؟ 

لا اريد أن اکتب تعلیقا او تقریظاً في موضوع حساس کهذا یتعلق بزملائي في الهنة 
ولا اريد ان افضل صحيفة على اخرى فقد كنا جمیعا نعمل تحت ضغط عنیف ورقابة 
محكمة وتعليمات صارمة لم تكن وقفا على الصحف وحدهاء وانما الشعب كله كان 
يعاني منها ... 

لا اريد سيئًا عن ذلك ولكنني فقط اريد ان اسرد الحقائق والوقائع والطريقة التي 
اتبعناها في الناقشة ونحن نواجه محنتين المحنة الاولى هي التي كان يواجهها شعبنا امام 
الارهاب والكبت والرصاص والحنة الثانية هي التي كنا نواجهها نحن أمام شعبنا من 
جهة ومن الحكومة من جهة اخرى ... 

انني سأسرد مجرد حقائق من حق المواطن والقارىء ان يعلمها ويتعرف عليها حتى 
لا تلتبس عليه الامور فيحكم على هدي المنطق والوقائع دون ان يظلم صحيفة او بثني 
على الاخرى بدون مبررات . في ليلة الاربعاء المشئومة ۲۱/ اكتوبر سنة ١57114‏ وقبل ان 
اتسلم اعمالي بصفة رسمية في الصحافة حيث كنت ما زلت في طور النقاهة بعد رحلة 


١ 0 


مرضية طويلة في الخارج ... في تلك الليلة اصطدمت قوات البوليس بطلبة جامعة 
الخرطوم يسبب ندوتهم التي عقدوها واستعمل في ذلك الاصطدام القنابل المسيلة للدموع 
والرصاص فاستشهد الطالب احمد القرشي واصيب عدد كبير من الطلبة. 

ابلغني بهذا النبأ المؤسف الاستاذ حسن مختار فاسرعت إلى ميدان الاصطدام لاجد 
شارع الجامعة ونادي الاساتذة غاصا بالطلبة وعربات البوليس تعبر الطرقات جيئة 
وذهابا . 

توجهت إلى المستشفى بعد ذلك ورأيت مشهد الدماء والدموع كما رأيت الاصرار على 
كل وجه فلم املك في تلك اللحظة الا الحرقة والتحسر والدعاء وهي اسلحة العاجز الذي 
لا يملك السلاح ولا يملك القلم ... 

ذهبت إلى المكتب لاجد مسئولا من وزارة الاستعلامات وبعض قوات الامن وهي 
ترابط في الخارج فاذا بالخطاب المألوف المختوم بالشمع الاحمر يمنع الصحف من ان 
تش ال اي اشي .. 

وبدأت اتصالاتي بالمسئولين فنفوا بادىء الامر حادث اطلاق الرصاص ثم اصروا 
بعنف ان لا تتعرض صحيفة الى حادث الاصطدام حتى ينجلي الامر في الصباح وتوزع 
الحكومة بيانا بالحادث إلى الصحف . 

لا اريد ان ابرر موقفي بانني وزملائي قد استجبنا كعادتنا لامر الحكومة فقد كنا 
أضعف من ان نعصي لها امرا . لقد كنا جميعا سلبيين لا نحن في ميدان الصحافة ولكن 
معظم طبقات الشعب كانت سلبية ما عدا حوادث متباعدة منها اصطدامات الانصار 
بالمولد ومظاهرات طلبة جامعة الخرطوم التي كانت تقوم من أن لاخر .. 

اريد مرة اخرى أو اؤكد سلبية الشعب في بداية الحكم العسكري فقد كان التاجر في 
متجره يخشى من ان يحمي طالبا يتعقبه البوليس في مظاهرة ... لقد كانت جماهير 
الناس في الشارع لا تشارك الطلبة في مظاهرات الاستنكار حتى تسرب اليأس الى 
نفوس الطلبة انفسهم وال المثقفين والى الموظفين والعمال نم الى جماهير السعب 
تاره 

تعطلت الصحافة مرة بسبب مظاهرات الجامعة فقد كانت آنذاك تأمل کثیرا من 
الخیر في قلعة الجامعة وفي جمهرة الواطنین ... لم تستطع ان تکتب خبر التظاهر 
ولکنها استغلت في نفس الليلة خبرا عالیا نشرته بالخط الاحمر وهو یقول ... طلبة 
البرازیل يسقطون الحكومة!! ۱ 

وروت في الخبر في صبيحة مظاهرات جامعة الخرطوم كيف تظاهر الطلبة في 
البرازيل وكيف واجهوا الرصاص وكيف انضمت إلى صفوفهم قوات الجیش والسُعب ... 
وكيف زحفوا جميعا إلى القصر الجمهوري فسقطت الحكومة وف العاشرة من صباح 
ذلك اليوم تعطلت الصحافة لاكثر من ستة اشهر وتشردنا اجمعين . 


۱۹۹ 


لا اريد بذكر هذه الواقعة ان ابرر موقفي ؛ ولكن فقط اردت ان اوضح مدى السلبية 
التي استركنا فيها جميعا والتي انتهت بالامس القريب إلى ايجابية ذخيرتها الدم الاحمر 
والايمان والاصرار .. 

لم استطع في ليلة الاربعاء المشئومة الا ان استجيب مرغما لامر الحكومة وفي عيني 
دموع الحسرة وف قلبي توجع وانين وصدرت الصحافة يوم الخميس ۲۲ اكتوبر ١5514‏ 
وهي تحمل انباء فرنسا واتحاد كرة القدم ومجلس تأديب للطيارين وتحت سمعها 
وبصرها رصاص ينفجر في رؤوس مواطنيها ودماء سقت فناء الجامعة الاخضر المزدهر 
ونورة ارتسمت على كل وجه واصرار بدا في كل عين ... 

كانت الصحافة على غير عادتها باهتة كئيبة مصفرة لا حلاوة فيها ولا طعم ... 

كانت على غير عهدها منعزلة عن الناس ... بعيدة عن الميدان وهي التي ظلت وفية 
امينة حريصة على ان تكون مع الناس طيلة حياتها القصيرة ... كانت عثرة ولكنها 
كبيرة ... كانت كبوة وذلة ومذلة ولكن الحظ والاقدار هي وحدها التي ارادت ذلك ... 
بل وفرضت ذلك فسرا وقهرا . 

عدت إلى منزلي لاقضي اطول ليلة في حياتي ليلة كانت كلها سهاد ء وألم» وعذاب 
حتى قررت ف ليلني تلك ان اعطل الصحافة واهجر البلاد إلى الابد كما سبق ان 
قررت » كنت افكر كثيرا واتحدث الى نفسي كثيرا وانا اتابع ببصري في سماء احاط بها 
السواد وماتت في جوفها لألأة النجوم وانمحت منها كل معالم النور والاشراق . 

ومضى يوم الخميس تشهد ساعاته الطويلة اصرار امة كاملة وزحف شعب كامل أبي 
هذه المرة ان يتقهقر واجريت اتصالات تلفونية متعددة مع زملائي لنعقد جلسة صغيرة 
في مكتب «الايام» قبل ان نذهب إلى المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الداخلية بالانابة 
في وزارة الاستعلامات وذلك حتى نتدارس الموقف فيما بيننا ونواجه المؤتمر ونحن 
عصبة واحدة ففعلنا . 

ذهبنا للمؤتمر الصحفي وارتفعت حرارة النقاش والاستنكار والمطالبة بحرية النشر 
وقد تجلت في المؤتمر وطنية الصحفيين بالاجماع وتجاوبوا مع المحنة ووقفوا إلى جانب 
الت .. 

كان لكل صحفي رأي صريح قوي ٠‏ وكان اكثرنا قوة وصراحة هو الاستاذ بابكر 
كرار رحمه الله الذي انفعل في الوزراء وهاجم الوضع العسكري واستنكر بقاءه ثم انتقلنا 
بعد ذلك الى مكتب الايام لنتدارس الموقف غير ان حظر التجول قد اعلن لاول مرة 
عند التاسعة مساء فانفض الاجتماع ولم استطع ان اخفي ما في نفسي الى زميلي 
الاستاذين بشير محمد سعيد رئيس تحرير الايام ومحجوب محمد صالح امام الزميل 

«ان الايام اوقعت زميلاتها في محنة وحرج مع الشعب وان الاعتداء الذي حدث 


۱۹۷ 


للزميلة الراي العام ومحاولتي الاعتداء على دار الصحافة والسودان الجديد وقعتا كسبب 
مباشر لاحتجاب الايام» وقلت للاستاذ بشير: 

.. «عندما قررتم ان تحتجبوا عن الصدور صباح الخميس من انقسکم بعد تسلمكم 
انذار الاستعلامات والداخلية بعدم تعرضكم لحوادث الاربعاء المشئومة ... اما كان 
الاجدر بالزميلة الايام وقد ساء الوقف ان تتصل ببقية زميلاتها لاتخاذ نفس الخطوة؟ 
الا تری الايام ان فعلت ذلك لخدمة القضية اكثر من احتجابها منفردة لتعرض زميلاتها 
الاخريات إلى محنة وحرج تكسب على حسابه عطفا واحتراما مؤقتا . 

قال الاستاذ بشير انه بحث عنا ولم يجدنا ... وايد القول الاستاذ محجوب محمد 
صالح قلت لهما : ان الموقف انذاك كان يتطلب اكثر من محاولة للاتصال الشخصي لانه 
موقف یحناج إلى تضافر ووققه موحدة وكان يمكن لاي منكما ان يذهب راسا إلى دور 
الصحف ویبلغها نبا فرار الاحنجاب او یکتب مذكرة او يتصل تلقونیا بمنازلنا او یفعل 
اي شيء... وکان من المکن ان تحتجب جمیع الصحف ان اردتم ذلك . 


مسدولية الایام 


وقي وضوح وصراحه حملت الزمیلة الایام في حديثي مع السیدین محجوب وبشیر 
آمام الاستاذ فضل بشیر مسوولية اثارة الجماهیر على بقية الصحف الاخری التي وصفت 
بالخيانة فاستفادت الايام من الوقف وطارت الاشاعات بانها صودرت الشيء الذي لم 
یحدث مطلقا انا لا أريد ان اقلل من سلامة تفکیر الايام في قرار الاحتجاب فهو قرار 
يتمشى مع الوقف ‏ ولکنها كانت تکبر في نظري وفي نظر الشعب ان عممت فکرتها 
وابلغت زمیلاتها بقرار الاحتجاب ‏ اذن لاستحقت منا نحن معشر الصحفیین اكثر من 
مجرد التقدیر والاحترام .. 

.. وجاء يوم الجمعة نقیلا طویلا نتحرق فيه الانقاس ویتضاعف الاصرار ویتزاید 
عدد الضحایا ومضی الصحفیون ینجاوبون مع الواکب وینصلون مع بعضهم حنی 
یتمکنوا من اتخاذ خطوة ايجابية یقفون فیها الى جانب السّعب وققة واضحة وقوية . 

واشرقت شمس السبت ترسل اشعاعاتها الحارة الوهاجة فاستمد منها الشعب حرارة 
فازداد اشتعالا واصرارا ... وفی منتصف النهار عقد رؤساء تحریر الصحف الحلية 
والاسبوعیه باستثناء الاخبار وانباء السودان اخطر واکبر اجتماع في مکتب الاستاذ بشیر 
محمد سعيد لیندارسوا موففهم . 

كنت اول التحدئین قلت ... قبل ان نناقش كيفية اصدار صحفنا لانها قد تصدر وقد 
لا تصدر اقترح ان نسمع صوتنا للشعب وننضم إلى صفوف المواكب الشعبية .. 

أ - ان نرسل الان برقية إلى الرئيس عبود نستنكر فيها حادث اطلاق النار ونطالب 
فيها بالحريات العامة وانهاء الوضع القائم .. 


۱۹۸ 


ب - ان نشكل موكبا من رؤساء التحرير لیلحق بركب القضاة والمحامين والطلبة . 

قال الاستاذ بشیر : نحن لا نملك ان نرسل برقية كهذه لاأننا لسنا هيئة او نقابة 
مسجلة كالمحامين» كما اننا لا نستطيع ان ننضم الى الموكب ونحن لنا منابر هي 
الصحف نستطيع ان نعبر فيها عما نريد . 

وسقط اقتراحي . وكان المجتمعون أنذاك الاستاذ بشير محمد سعيد عن الايام 
ومحجوب محمد صالح عن الورننج نيوز وفضل بشیر عن السودان الجديد نم جاء 
عابدين محجوب عن الرأي العام وبابكر كرار الرسالة وحسين عثمان منصور عن 
الصباح الجديد وبدأنا نناقش نقاط البيان الذي قررنا اصداره في صحفنا .. 

تقرر في تلك الجلسة ان تصدر جميع الصحف يوم الاحد وهي تحمل في صدر 
صفحاتها بيانات رؤساء التحرير والقضاة والمحامين واساتذة الجامعة وبرقيات الاستنكار 
من الزعماء ثم اضفت إلى ذلك ان نكتب افتتاخية موحدة في جميع الصحف نستنكر فيها 
الوضع غير ان اقتراحي هذا سقط ايضأ وترك الخيار لرؤساء التحرير . 

كان الاستاذ بابكر كرار قد وافق على صيغة البيان لكنه اصر على ان يوجه الى 
الرئيس عبود ودار نقاش طويل حول هذه النقطة انتهت إلى الاكتفاء باصدار البيان لانه 
يحمل المعنى الذي يرمي اليه الاستاذ بابكر كرار .. 


قرار الصدور 


تفرق رؤساء التحرير ليبحثوا عن العمال والمحررين بعد ان تعاهدوا على اصدار 
صحفهم وان يظلوا على اتصال دائم لراقبة الوقف وتبادل الانباء والبروفات حتى تصدر 
كلها بقدر المستطاع في صورة موحدة تؤكد للشعب تمسكها ووقوفها إلى جانبه ... وظل 
التعاون بين الصحف مستمرا حتى العاشرة فبعثت لنا الزميلة الايام بصورة من بیان 
السيد علي الميرغني مما يؤكد حسن النية والتعاون ... وفي الساء جاء إلى دار الصحافة 
ضابطان من البوليس وحذراني من نشر البيانات او التعليق على الموقف وطلبا الي الا 
اصدر الصحافة قبل ان يطلعوا على جميع البروفات فتعهدت لهم بذلك ومضيت إلى 
عملي ... وبعد خروجي اتصلت بالاستاذ بشير فلم اجده ثم اتصلت بالاستاذ محجوب 
وابلغته بتحذير البوليس وعزمي الاكيد على اصدار الصحافة مهما تكن النتائج فابلغني 
بان البوليس قد وصله في اللحظات التي كنت اتحدث اليه فيها فانتهت الحادثة وفي 
حوالي الساعة العاشرة جاءني الاستاذ بشير محمد سعيد وابلغني بان الايام تعهدت بان 
لا تصدر فاكدت له عزمي على الصدور مهما تكن النتائج وبينما نحن نتناقش دخل 
علينا الضابط عصمت معنى وطلب مني البروفات . 
وقلت له: 


والله ياسيد عصمت انا لسه ما عملت حاجة وعندما تجهز سوف ارسلها لكم ... كانت 
بروفة الايام الصفحة الاولى في ذلك الوقت امامي .. 

خرج الاسناد بشیر واوعدني بانه سيتصل بي مرة اخرى بعد ما يبحث الموقف 
ومضت دار الصحافة تعمل في صمت وتعد الصحافة للصدور رغما عن کل شيء وفي 
الحادية عشرة جاءتنا قوة من ضباط البولیس فخرجت لهم في الشارع مؤكدا لهم بان 
الصحافة لن تصدر قبل اطلاعهم على البروفات التي لم تجهز وان الامل ضعیف في 
اصدار ها . 

في الحال اتخذت خطوة ايجابية لجابهه الوقف ودوریات الضباط فجمعت الحررین 
والعمال بعد ان خرج الضابط وامرتهم بالاتي : 

. الا برد على اي تلفون‎ ١ 

۲ - ان تطفاً جمیع الانوار في الکاتب . 

۳ - ان یحیطوا اعمالهم بالسرية التامة . 

4 - الا یسمحوا لاي کائن من كان ان یدخل الطبعة . 

۵ - ان یوجهوا اي زاثر او ضابط إلى مكتبي . 

1 - ان یغلقوا الطبعة وهم في داخلها والا یفتحوا الابواب الا عند سماع ضربات 
خاصة اتفقنا علیها . 

۷ - الا یتحدئوا الا همسا وعند الضرورة . 

وقبل منتصف اللیل بقلیل جاءني . الاستاد بشير محمد سعيد ليبلغني ان هناك 
استحالة في الصدور وانه ذهب إلى وزارة الداخلية محاولا السماح بالصدور وعلی صدر 
صفحانها البیانات التاريخية للهيئات والزعماء التي تدين الوضع وتنادي بانهائه فورا ... 
ووزارة الداخلية في تلك اللحظات كانت اضخم عماد للوضع الذي اجمعنا على انهائه . 

ذهبت محاولات الاستاذ بشیر ادراج الریاح بالطبع ومنعه السئول في وزارة الداخلية 
على حد قوله من النشر فلم تصدر الايام ولم تصدر السودان الجدید ... ولم تصدر اي 
صحيفة اخری قلت له : يا أستاذ بشیر طبعا لیس من العقول ولا من النطق ان تسمح 
لنا الداخلية بنشر البیانات التي تدين الحكومة وانا شخصیا لن اعرض بروفات الصحافة 
على الداخلية مهما كانت النتائج» كنت أحس او خیل لي ان الاستاذ بشیر كان يعمل على 
تجميد موقف الصحف حتى لا تصدر اي منها لان موقف الايام الشعبي وفي نظر 
الكثيرين كان في القمة ... وفي المجد قال بشیر : 

هناك فكرة قد خطرت لي وهي ان نصدر صحفنا جميعا بيضاء حتى يعلم الناس اننا 
نعيش في جو من الكبت وان وزارة الداخلية رفضت لنا الصدور بالبيانات والانباء 
والتعلیقات قلت له: 

«الناس بتضحك علينا ... وقلت له ان المواقف السلبية لا تخدم القضية ولا تحتمل 


انصاف الحلول وهناك طريقان فقط ولا ثالث لهما اما أن نختار طريق الشعب او 
الحكومة ولا الح علي الاستاذ بشير تقديرا للظروف العصيبة التي نعيش فيها وقدم لي 
کنیرا من النصح دون ان يعلم انذاك ان الصحافة قد طبعت اكثر من ثلاثة الاف نسخة 
من عددها السري وافقته وشكرته . فذهب الاخ بشير مودعا بالاحترام وعدت انا من 
الشارع الثاني وعاد العمال لنكمل مهمتنا العسيرة » ومسيرتنا الشاقة . 


الم امد امس 


. انه لومس ع أن تردى IED‏ یر 


7 4# 7_4 الاب و نے 
۱( 


ERE 2 SE E 7 لحت نزن‎ EEE یلآ‎ 


۸؛ * کر 5 ا ۳ 
ر وردر دار هليل مس 3 سم عالتجول يي ادن 


1 ا 2 


۲ اشلاث‌من الساعه ل و حور و 

د دوم و ۳ -وزدر ود امبدر امر #۴ صیاح الا 4 أل ليمة 
التجمهر لاکتر ص خدہ۔ر ه ل ع سس سس اص الا قدما بتعلق المي رغني يطالب ب يمقراطية 

ادج يتارت خی ید ی سیادته بطالب ب بالهدوء » واجابة رغيات الامة ۰ | 

ا موظفى مكتب ,لنانب العام موكيا ليحملمذكرات منهم الى القص جات بيان ان من حدر وثلامه کرامتها وان بهنف‌الجمیع | 
يد لموقف ووففوا امام الهينة القضائية ووصسلالبوئيس لتطوية 7 سس احب السيادة مھا “يد الايجاد نظام ديمقراطي سليم بتفقا] 


ھ تست مسال 





3 


© وصل العدد السري إلى الشارع الهائج فصدرت الأوامر بتصفيتي وأغلقت 
الدار بالشمع وی 

© كيف واجهت اللحظات الرهییه ! ؟ وال أين هربت وکیف !؟ 

© ليس الرجل هو الهارب » وانما الرجل هو الذي يأوي الهارب . 

الذين یعتقدون او یظنون ان الصحافة هي مجرد اخبار وصور وتعلیقات وانارة 
ونکات وقصص وحکایات ورسومات فحسب هم البسطاء والسذج او الواهمون 
والادعیاء . الصحافة في الاساس رسالة انسانية تعمل على اعانة الساکین وتدافم عن 
الظلومین والقهورین وتعلم الناس وتنیر بصائرهم وتدعوهم الى الخير والخلق الحسن 
وتدفعهم دفعا إلى الانتاج والتضحية ونکران الذات من اجل آنفسهم وأوطانهم ؛ والصحافة 
فوق کل هذا وذاك هي الحارس الامین على امن البلاد والراقب الشجاع لسلوکیات 
الحکومة وکل مرافق الحياة .. خاصة كانت ام عامة ... هي رسالة شريفة عظيمة 
ومقدسة لا یعرفها ولا یقدرها الا الشرفاء والطهرون والتطهرون لذلك فان الذين 
یمتهنون الصحافة لابد ان یکونوا على خلق واستقامة وامانة حتی یکونوا القدوة الحسنة 
لقرائهم ومواطنیهم وصحفهم . 








#قبل أن اتطرق إلى الحديث عن الصحافة السودانية في فتراتها الذهبية لابد ان 
اتحدث في ايجاز شدید عن ام الثورات اكتوبر التي فكت وثاقنا وحررت رقابنا واقلامنا 
بعد ذل طويل من الحكم النوفمبري الذي مهما قيل ويقال عن مساوئه . فان من بين 
حسناته القليلة مقارنة بعهد مايو الاكثر ظلما وقهرا انه لم يلجأ لتأميم الصحف او لسياسة 
التأميم والمصادرة بشكل عام لكن مع ذلك ظلت الصحافة تعمل في عهده وهي مكبلة 
الايدي والاقلام حتى جاءت ثورة اكتوبر ففكت وثاقها وحررتها من اله جن . ولفائدة 
القراء من شبابنا ممن لم يعاصروا تلك المرحلة الثرة المليئة بالعبر والتضحيات انقل 
صورا مضغوطة ولكنها واضحة وبينة عن احداث اکتوبر الخالدة كيف قامت ولاذا 
قامت؟ 

© كانت القشة التي قصمت ظهر الحكم النوفمبري هي الندوة العامة التي عقدها 
طلبة جامعة الخرطوم يوم السبت العاشر من اكتوبر عام ۱۹۱۶ وعنوانها (التقييم 
العلمي لمسألة الجنوب) بعدها مدت السلطات يدها للجنة اتحاد الطلبة ثم عادت يوم 
الاربعاء الحادي والعشرين وتصدت لاجتماع داخلي بحت لجمعية الطلاب العمومية 
اقتصرت على طلاب الجامعة شهودا ومتحدثين وف مساكن الطلبة بقصد تحديد الرأي 
في مسألة الجنوب فاعتدى جنود البوليس على الطلاب العزل بعدد هائل من القنابل 
المسيلة للدموع ثم امطروهم بوابل من الرصاص فاردوا بعضهم قتلى يمثلهم في الشهادة 
باعتباره اول الشهداء الطالب احمد القرشي . 

ماذا قالوا عن أكتوبر ؟ 

© في ۵ دیسمیر ۱۹۰۶ اصدرت جريدة الصحافه عددا خاصا في اربع ونلانین صفحه 
ننفل لكم منها رؤوس الموضوعات التي نشرت وقد زین صدر هذا السفر التاريخي 
الكبير العدد السري الذي اصدرته جريدة الصحافة ووزعته مجانا . 

© العدد السري عنوانه الاحمر (بيان رؤساء تحرير الصحف- اصدرنا الصحافة من 
اجل الشعب فلن نتخاذل ولن ننعزل عنه - الصحافة لن تستطيع ان تؤدي رسالتها 
وهي مكبلة بالقيود ‏ سيادة الميرغني والمهدي يصدران بيانين عن حالة التوتر - بیان 
اساتذة جامعة الخرطوم - مذكرة رجال القصاء والمحامين ‏ بیان رؤساء تحرير 
الصحف - بیان الحكومة كيف ناقشه الصحفیون ؟ ! 

© اسرار اجتماع روساء التحریر : عبدالرحمن مختار یکتب : قررنا الصدور بالاجماع 
رغم الاوامر والرصاص والوقوف مع الشعب ولکن الصحف الاخری سمحت لوزارة 
الداخلية بمراجعة (البروفات) ووقعت على التعهد فلم تصدر صحيفة واحدة ولم تلتزم 
بالانقاق والعهد سوی جريدة الصحافه -. 

© (الایام) لم تصادر كما اشيع ولکنها احتجبت من نفسها دون ان نخطر زمیلاتها 
فاصبحت بطله ولکن إلى حين ! 


© عبدالرحمن مختار یکتب عن اللحظات الحرجة القاتلة التى واجهت العدد 
السري - وصلت الصحافة للشعب ثم عطلت واغلقت بالشمع الاحمر . 

© قوات الجيش تقفز الحيطان في بيوت عبدالرحمن مختار واهله واصدقائه وتبحث 
عنه في درج الدولاب!! نصحوني بالهروب قبل ان يعثروا علي فيقتلوني - السفير 

© السفير خليفة عباس يقسم الطلاق الا تدخل القوات منزله للبحث عن عبدالرحمن 
مختار الا على جثته - ليس الهارب هو الرجل» وانما الرجل هو الذي يأوي الهارب! 

© إلى روح الشهيد الذي حرك الاعماق الساكنة بقلم الاستاذ يوسف خليل بالسجانة 

© (الصحافة ) مع المصابين في ثورة اكتوبر (طلحة الشفيع). 

© اسرار القاوضات كيف سارت وماذا فلنا وماذا قالوا! حديث صريح وواضح 
وعميق للدكتور حسن الترابي وقد كان الدكتور الترابي احد ممثلي اللجنة القومية التي 
باشرت تنفید الاضراب وباشرت تطورات الموقف وهذا نص حديث الترابي : 

مع صبيحة الثلائاء ۲۷ اكتوبر كانت الثورة الشعبية في السودان قد حققت اولى 
مكاسبها بعد ان اعلن عن حل المجلس العسكري ومجلس الوزراء وبدأت الجماهير في 
طول البلاد وعرضها تتبادل التهاني وتهلل وانظارها متجهة صوب الخرطوم حيث كانت 
المفاوضات جارية بين ممثلي الشعب والجيش وكان نادي اساتذة جامعة الخرطوم 
وسراي الامام بأمدرمان ورئاسة القوات المسلحة هي الاماكن الثلاثة التي شهدت كل 
التنظيمات والاجتماعات والمفاوضات حتى اكتمل نصر الشعب . وقد مدل الجبهة القومية 
الوحدة (هيئات واحزاب) السادة : الصادق المهدي ٠‏ مبارك زروق » احمد السيد حمد . 
عابدین اسماعیل والدکتور حسن الترابي بینما مثل القوات السلحة الضباط: الطاهر 
عبدالرحمن القبول » عوض عبدالرحمن صغير » محمد ادریس عبدالله ؛ والباقر ویوسف 
الجاك ومزمل سلیمان غندور . وکان أول لقاء بين ممثلي الشعب والقوات السلحة قد تم 
مساء التلاناء ۲۷ اکتوبر صبیحه اعلان حل الجلسین . 

© ويمضي الدکتور حسن الترابي وهو يروي للصحافة اسرار القاوضات الى ان 
یقول : 

وکانت الفاوضات تسیر بتكافؤ متساو بين الجانبین غير ان الفاوضات (جاطت) 
عندما وصلت نقطة التشکیل الوزاري وذلك للاسباب الاتية : 

آولا: مطالب الجیش بشأن وزارة الدفاع واختیار عبود للوزرا». 

انیا : عملية استبعاد اللرشحین ذوي الاتجاهات الحزبية والفكرية من قائمة الهیئات . 

ثالثا: رئاسة الوزارة التي رفضها بابکر عوض الله » ومبارك شداد » وعابدین اسماعیل 
نم وافقت کل الاطراف على سر الختم الخليفة وقد كان سبب التأخير في اعلان الحكومة 
هو الساورات الني جرت انناء بحث تشکیل الوزارة » غير ان هذه تعتبر قترة قصيرة 
بالنسبة للفترة الطویله التي تستغرقها عملية تشکیل الوزارات في البلاد الاخری . 


۲ ۰ 


تعليق الصحافة 


إلى هنا انتهى حديث الدكتور حسن الترابي (والصحافة) لا تنسى ان تشير إلى دور 
الترابي الكبير في قيادة الحركة الشعبية وبالذات حديثه في اول ندوة تعقد في الجامعة عن 
الجنوب حيث اعلن فيها (ان مشكلة الجنوب لا يمكن ان تحل في ظل الحكم العسكري › 
وانه من الغباء حل المشكلة قبل وضع دستور البلاد) . 


) ۱۹۹٤/۱۲/۵ (الصحافة:‎ 


© ونمضي ونحن نقلب ونقرأً مجرد العناوين البارزة فنجد تشكيل مجلس وزراء 
ثورة اكتوبر برئاسة سر الختم الخليفة» ومحمد احمد محجوب» وعابدين اسماعیل 
واحمد السيد حمد ء وعبدالكريم ميرغني. ورحمه الله عبدالله» ومحمد صالح عمر. 
واحمد سليمان والامين محمد الامين » وعبدالرحمن احمد العاقب » وخلف الله بابکر ‏ 
وامبروز وول وكلمنت امبوروء والشفيع احمد الشيخ . 

© (مذكرات جريح) إلى امة بقلم كوركيل كجو الابن الجريح . 

© (عود الكبريت الذي اشعل النار) ماذا جرى في داخليات الجامعة وكيف انفجر 
برميل البارود بقلم الاستاذ ربيع حسن احمد وكان محررا في الصحافة آنذاك . 

© محمد صالح عمر وزير الثروة الحيوانية يتحدث عن سلاح الاضراب السياسي 
فكرته ... قصته . . بدايته . . . مستقبله ؟ ! 

© المرأة السودانية صنعت ثورة اكتوبر بقلم زينب الفاتح البدوي وكانت المسئولة عن 
صفحه المراة بجريدة الصحاقة . 

حوادث الجامعة وحوادث القصر ... لماذا شرحت جثة القرشي ... وماذا قال التقرير 
الطبي عنها بقلم محمد نوراني وقد كان محررا بالصحافة والان بصحف الخلیج . 

© ابارو یمنع الاسعاف من حمل الصابین في الحوادث والاطباء یطردونه من 
الستشفی ! 

© اول مذكرة سياسية مکتوبة من طلاب جامعة الخرطوم الى الجلس الاعلی للقوات 
السلحة (مجلس اتحاد جامعة الخرطوم ۱۰ سبتمبر ۱۹۵۹ - من داخل الاذاعة اثناء 
الحصار . القوات تغلق الابواب » محاولة لتعطیل الاجهزة . الاضراب نفذ في اللحظات 
الاخیرة ) . 

© صف واحد في معركة الحرية بطولات اسطورية ... آلوية النصر لن تسقط ابدا 


۲ ۰0۵ 


بعد هذا الاستعراض المضغوط والحديث عن نورة اكتوبر لابد ومن الضروري ان 
حتى لا تضيع الحقائق والاسرار وراء اسوار التاريخ وتغطس كلها في بثر النسيان واليكم 
صورة حية انقلها لكم في نفس العدد الخاص الذي نشر يوم ۱۹۱۶/۱۲/۵ لمجرد 
التاريخ مع بعض التعليقات الخاصة . 


عهد ووعد 


© في منتصف ظهر السبت ۲۶ اكتوبر ١5115‏ تعاهد رؤساء التحرير ان ينضموا الى 
الصقوف الشعبية مستنکرین موقف الحكومة من طلبة الجامعه ومين فشات القت 
وحوادث اطلاق الرصاص ومطالبین بانهاء الوضع وقد حضر الاجتماع زملائي الاساتذة 
بشیر محمد سعيد عن الايام» ومحجوب محمد صالح عن الورننج نيوز الانجلیزیه . 
وفضل بشير عن السودان الجدید » عابدين محجوب عن الراي العام » ومحمد مكي عن 
الناس » وحسين عثمان منصور عن الصباح الجديد » وبابكر كرار عن الرسالة 
وعبدالرحمن مختار عن الصحافة ‏ تعاهدوا جميعهم ان يصدروا صحفهم في صباح الاحد 
مهما كلفهم الامر ۰ ومهما بلغت النتائج والمعوقات بصورة واحدة يضمنونها بعد 
افتتاحياتهم وبيانهم الخاص بيانات اساتذة الجامعة والقضاة والمحامين والاطباء والزعماء 
ورجال الاحزاب وتفرق الجمع الهادر من قادة الفكر والرأي والممثلين الحقيقيين للشعب 
والبلاد ... تفرقوا باسم الله وباسم الشعب كل نحو دار صحيقته واتفقنا ان نتبادل 
المعلومات والانباء عن طريق الاتصالات الشخصية . 


الصحافة فقط لا غير 


© ف صبيحة الاحد وهو اليوم الموعود لم تصدر صحيفة سودانية واحدة غير جريدة 
الصحافه بينما اختفت كل الصحف الاخرى ولم تصدر رغم العهد الذي قطعناه على 
انفسنا فكيف صدر العدد السري» وكيف وزعء وكيف استقبله الشعب ثم السؤال المهم 
والاهم مادا حدث لي سشخصياء وماذا كان مصيري وكيف اختفيت » واين ؟ حتى لا اقع 
ف قبضة القوات العسكرية لا قوات الشرطه التي كان قد صدرت اليها الاوامر باطلاق 
النار علي اين ومني ما وجدنني ... 

ليس الذي ساکنبه لکم الان عن مخاطر العدد السري هو خواطر جديدة وانما هي 


۳۰۹ 


قديمة سبق ونشرتها ٤‏ جريدة الصحافة (العدد الخاص ) الذي صدر ف ۵ ديسمبر 
۶ كسجل خالد لأحداث ثورة اکتوبر » ولانها طويلة وتفاصيلها دقيقة فانني سأنقل 
منها مجرد فقرات محاولا الا تفقد العنی» وها هو ما كتبته نقلا عن ذلك العدد . 


© (لا اريد وأنا اروي قصة اللحظات الرهبية التي عشتها ان اسجل بطولة لان الذي 
فعلته مهما كان قدره في ثورة اكتوبر فانه يهون بجانب الارواح التي زهقت والدماء التي 
سالت» غير أنني وانا اواجه المطبعة وارقب العدد السري تحت نور الشمعة الضئيل 
حتى خرج للشعب صباح ۲۵ اکتوبر » كنت اعلم نتائج ما افعل وكنت اضرع بالدعاء 
إلى الله ان يمكنني من اصدار عشر نسخ من الصحافة لتساهم وتزيد المعركة اشتعالاً ثم 
اموت او اقتل» وكان ان استجاب الله لدعائي فخرجت ثلاثة عشر الف نسخة منه» ليس 
هدفي من رواية اللحظات المريرة والمثيرة والمخيفة التي عشناها ليلة السبت ان نسجل 
بطولة ولكنني فقط اريد ان اسجل تاريخا وتاريخا صادقا ومشرفا . 

© جاء المساء واعلنت حالة الطوارىء من جديد وماتت الحركة في الشوارع؛ كان كل 
شيء قد تجمد وصمت حتى فروع الشجرء حتى الهواء نفسه ولكنه صمت وجمود يخفي 
وراءه ثورة واصرارا وعزيمة ومضت اللحظات رهيبة مملوءة بالقلق حتى كدت اسمع 
صوت انفاسي » ودقات قلبي والمطبعة ندور ف ظلام دامس وتحت انوار السموع غير ان 
حبل الامل على ضعفه وقصره انذاك كان يدفعني إلى الحركة والتعلق بالحياة» كنت 
ارى الطريق امامي طويلا عريضا مظلما مليئا بالاشواك والحجارة والمطبعة تدور 
والقلوب تعلو تهبط مع دقاتها كلما قذفت بعدد » كنت احسب خطواتي واتحسس 
الارض من تحتي حتى لا یکشف امري » كنت قلقا مضطربا ارقب كل حركة من فوق 
السطوح ثم لن البث بعد ئوان معدودات حتى انزل إلى المطبعة ثم اعاود الكرة من 
جديد . 

الصمت كان يلف كل شيء نحن والعمال والمحررين في داخل الدار نتحرك كالاشباح 
نتحدث في همس وننظر في اصرار ونراجم بعضنا في حزم فقد ماتت في شفاهنا 
الابتسامة» وتجمدت تعبيرات وجوهنا لكن الهدف الذي كنا نسعى اليه اجمعين هو 
إفتذاى الضحافة موه يلغت اتسار 

© عربه لوري تمزق صمت الشارع وتعرج على دار الصحافه والشيخ ادريس بركات 
وطلحة السفیع يقف كل منهما في نهاية الزقاق الخلفي بالبطارية ليعطيا اشارة الخطر 
فتقف المطبعة ويصمت کل شيء» اربعة من الضباط (الداخلية) ينزلون امام الدار 
ويطلبون مراجعة البروفات فاؤكد لهم باننا لم ننته بعد ثم يعودون مرة ومرتين وثلاثا 


١ 


كانت آخرها برئاسة الضابط عصمت معنى فنعطيهم بروفات مزيقة ولا ابلغونا بان كل 
الصحف قد اغلقت ابوابها قلنا لهم اننا كذلك سنفقل ونذهب إلى بیوتنا وصدفونا وذهبوا 
خاصة عند سلموني انذار وزارة الداخلية يمنع فيه منعا باتا نشر بیانات النقابات 
والهیئات والاساتذة والاحزاب ... و .. ولم یکونوا یعرفون آنذاك اننا قد طبعنا اکثر من 
خمسة آلاف نسخة . 

© كانت الطبعة كلما فرغت من طبع كمية اخذها عامل إلى الحمام في الطابق 
العلوي وهو ايضا مظلم وهناك عامل آخر يجري عملية اللف والربط والتجهيز ثم تنزل 
بالحبل للعربة التي يحرسها حسن مختار وكلما اكتملت الف نسخة ينطلق بها إلى نقاط 
التوزيع التي اتفقنا عليها وهي منازل الاصدقاء كانت اعصابنا مضطربة وانفاسنا لاهثة › 
وصدورنا تعلو وتنخفض كأمواج البحر ورؤوسنا جميعا تدور وتدور نوع من الدوار حتى 
اوسّك ان يصيبنا الشلل ونحن نواجه اللحظات الرهيبة وصوت المطبعة يهدر كطلقات 
المدفع الرشاش ليمزق رؤوسنا وصدورنا حتى همساتنا كانت تحدث ضجيجا في آذاننا 
يشبه نعيب البوم ! ! 

© بعد انفضاض اجتماع العهد لرؤساء التحرير توجهت رأسا إلى عيادة صديقي 
وحبيبي الدكتور حسن عبداللطيف وكان معه من الاحياء الاخوة محمد عبدالكريم ود. 
احمد البلة وعبدالمنعم عبداللطيف و ... و... عرضت عليه ما انتويت عليه . تم عرجت 
على منزل مبارك زروق - قرب سينما كلوزيوم - ووجدت معه الشيخ المرضي وبالناسبه 
ان العلاقة التي تجمعني بمولانا المرضي ترجع إلى جذور عميقة في القدم فقد كان والد 
الشيخ احمد وعمه علي من اعز اصدقاء والدي وقد جمعتهم خلاوي القران كان ابي 
شیخا ورعا یحفظ القرآن بل وکتب بخطه الجمیل العروف مصاحف عديدة اهدق منها 
نسخا للامام عبدالرحمن الهدي ومولانا الیرغني والشریف یوسف الهندي . بعد لقائي 
بهما توجهت إلى الدکتور عبدالحلیم محمد الرجل الادیب الرموق والذي ضحی بمنصبه 
عضوا في مجلس السيادة من اجل الرياضة فهو یعشقها ویعبدها وهو من رواد الحركة 
الوطنية ومکان احترام دائم ... کل هؤلاء بارکوا من غير تحفظ اصدار العدد السري 
بعدما نبهوني بوضوح لخطورة نتائجه والتي وصفوها كلهم بان السألة مش لعب وانما 
هي تضحیه اقرب إلى الانتحار غير ان تعلیق الشيخ الرضي بسخریته العروفة كان عنيفا 
لا يزال صداه يتردد ف داخلی كلما تدکرت الواقعة قال لي رحمه الله : 

© (اسمع يا عبدالرحمن حنی تقیح عينيك الكبار زي (القعونجة العاصرة الزير ) دي 
خطوة فد تعرضك للمشنقة والموت ... والموت حق الرجال امشي موت موتك وليك علينا 
ندخلك التاريخ ونعمل ليك اعظم واكبر دافنة ويا بختك شي مرائي بالشعر وشي بالنثر 
وضحك ضحكته اللطيفة وعندها تدخل زروق مازحا وقال: (يا مولانا قطعت قلب 
الراجل واصلو هو قلبو مقطوع). 


لما كان التوزيع للعدد السري يشكل بالطبع المشكلة الرئيسية فقد قررنا اولا ان 
يكون مجانا ثم تعهد كل الذين ذكرتهم بان نقذف في بيوتهم اي كمية من العدد السري 
ليقوموا بعملية التوزيع بطرقهم الخاصة وقد استاجر الدكتور حسن عبداللطيف وعلى 
نفقته الخاصة بكاسي سافرت بالعدد السري الى رفاعة وقرى الجزيرة حبى مدني 
وكذلك من الجيلي والقرق حنى عطبره عاصمه الحدید والنار وف الخرطوم كان هناك 
غيرهم جنود مجهولون من الشباب والفتيات اخترناهم من مواقع مختلفة في العاصمة 
حنى تنجح عملية الانتشار ونجحت بالفعل ... ماذا كان مصيري بعد التوزيع ... واين 
اختفیت ومن الذي آواني وحماني ! ! ؟ 

سئة حميدة ومتعارفة كنا نتبعها زمان في الصحف في ذكرى مناسباتنا الكبرى 
واعيادنا القومية وذلك اما بالاشارة اليها في يومهاء او باصدار عدد خاص عنها - وقد 
اعتبرنا واعتمدنا (العدد السري) الذي اصدرناه في اكتوبر ضمن مناسباتنا الصحفية - 
خاصة ونحن نفتقدها ‏ وظللنا نخلد ذكراه كل عام لسنوات طويلة حتى انقضت علينا 
مايو المغرمة بتشویه التاريخ فوقف هذا التقليد ستة عشر عاما وعندما انهد بنيانها 
وجاءت حكومة الانتفاضة ظننا - وکنا آئمین فيما ظننا - ان ابنائي في جريدة 
الصحافة - ورغم اشارتي لهم - خاصة ومعظمهم قد شارك بعرقه وروحه ۰ وضحى 
بحیاته في اصدار عدد الصحافة السري وعلی رأسهم القائم باعمال رئيس التحریر قد 
تنکروا لاضیهم ولانفسهم ولتضحيتهم الخالدة » فلم یشیروا ولو بکلمة صغيرة لا لذکری 
العدد السري ولا لعيد ميلاد الصحافة بينما احتفلت الايام بعيد ميلادها ف عدد خاص 
هللت وطبلت له وفاء جمیلا ... ماذا تنتظرون ممن يتنكرون لتاريخهم » ولا يوفون 
أنفسهم حقها» وهل يمكن لامثال هؤلاء ان يكونوا اوفياء لغيرهم وفاقد الشيءاساسا لا 
يعطيه . .! ! 

أعود من جديد لتابعة مسيرة العدد السري وكيف وصل إلى القراء وكيف اختفيت 
ومن هم الرجال الذين حموني هم واسرهم من موت محقق؟! 

© لابد لي وانا اسجل التاريخ العظيم والتضحيات الجسيمة التي قدمها الكثيرون في 
اعداد وتوزيع العدد السري ان اسمي بعضهم فبجانب الذين وردت اسماؤهم من 
الاصدفاء والمقربين اذكر من محرري وعمال دار الصحافة الذين طبعوا واعدوا العدد 
القنبلة حسن مختار والشیخ ادريس بركات وطلحة الشفيع وشريف طمبل ومحمود 
ادريس وبكري خضر ومن العاملين عبدالله يعقوب ومحمد الدومة وعلي يوسف ويحيى 
عوض الله واكثرهم مازالوا يعملون حتى كتابه هذه السطور في (دار الصحافة القومية) 
اما الاصدقاء والاهل والاخوان فكان على رأسهم المهندس حمد عبدالله حمد بالادارة 
المركزية والان (بالشارقة) وقد استعان واستغل اسطول الطوارىء من عربات الهيئة 
بسائقيها وعمالها في توزيع العدد السري فاستحق بذلك نيشان (ابن الصحافة البار ) ثم 


5+8 


الاساتذة بدر الدين هاشم مدير الثقافة سابقا وعبدالله مصطفی الامين وعلي يوسف 
هاشم ... وعدد كبير ممن لا تسعفني الذاكرة باسمائهم فلهم شكري . 

© نسيت واقعة هامة وانا اتنقل بين الاحداث ان عداد المطبعة عندما وصل ۱۳۲۰۰ 
نسخة صرخ حسن مختار صرخة هستيرية افزعتنا جميعا وكاد ان يفقد معها الوعي ... 
يا جماعة كفاية ... بالله عليكم وقفوا الطبع ... يا جماعة الطمع ودر ما جمع والله 
حنروح كلنا في ستين داهية ! ! 

ولما وصلنا كلنا إلى نفس درجة غليانه وهستيريته فقد أمرت بايقاف الطبع فوقفت 
المطبعة وصمت كل شيء ومات كل شيء وعندما نزل العدد السري في السوق دون أية 
صحيفة اخرى ومجانا بالطبع فقد تلقفته الايدي وعلمنا فيما بعد ان نسبة الذين كانوا 
يقراون النسخة الواحدة من العدد السري تزيد عن الائه مواطن وكان له سحره الخاص 
واثره العميق في النفوس خاصة مع مطاردة الشرطة وسرى وسط الجماهير کالنار في 
الهشيم وما ان تغلغل العدد السري في الشارع الكبير وهو يحمل في صدره بيانات 
السيدين واساتذة الجامعة والقانونيين والصحفيين و .. و .. حتى انفجر البارود انفجارا 
قضى على آخر انفاس الحكم النوفمبري وبعدها اختفيت تماما عن الانظار والاسماع 
وعلمت ان المرحوم اللواء محمد نصر عثمان وزير الثقافة والاعلام دخل القصر في حالة 
هياج شديد ورمى العدد السري امام الرئيس عبود قائلا له بصوت عال: 

(عبدالرحمن مختار نهانا) وكان الحاضرون فيما علمت اللواء حسن بشير نصر 
رحمه الله واحمد خير امد الله في عمره وعباس فضل مدير الشرطة وابارو مدير الجهاز 
السري ومتولي عيد وكيل الثقافة والاعلام الذي اخبرني فيما بعد ان اوامر مشددة 
صدرت في تلك اللحظة بان يحضروني لهم حيا او ميتا وقال انه اول من ترحم على 
روحي! ثم صدر امر بالقاء القبض علي للبوليس واخطار القوات المسلحة للاشتراك في 
البحث عني واغلقت دار الصحافة بالشمع الاحمر وحولها حراسة مشددة . 


۲1° 


اعداد محاولات للهروب 


وضع اصدقائي وهم يعرفون سلفا بالطبع هذه النتائج خطة على مرحلتين » مرحلة 
محلية واخرى للهروب إلى اثيوبيا بعدما عرفوا بالاوامر الخطيرة التي صدرت وقد اعد 
لاندروفر باشراف د . حسن عبداللطيف خصيصا لتنفيذ المرحلة الثانية . 

كان اول من حماني واواني في الرابعة والنصف صباحا هو المهندس حمد عبدالله 
الذي اتصلت من منزله بمحطة بري مباشرة بمحمد توفيق (كاتب الجمرات) وكان 
توفيق ولازال وسيزال الصديق والحبيب الوفي الذي انقذني هو واولاده من موت محقق . 
كان محمد توفيق يسكن انذاك في بري لمدة تسع سنوات بعدما ترك منزل الحكومة 
والوظيفة سألني عن مكاني ثم صمت وقال لي لابد ان تحضر لنزلي حالا لانني عملت 
اتصالات بشأنك وفي منزلي حتعرف الموقف كويس واحسن اسرع حتى نتصرف وقد 
ابلغت (حميدة) ‏ زوجته بأن يرتبوا ليك كل شيء بعدها ادخلني الهندس حمد في 
بوكس الهيئة مغلق ومولع نار وذهب بي رأسا الى منزل محمد توفيق فوجدت حجرة 
قد خصصت لي كانت تحتفظ بمفتاحها دائما ابنته الكبرى خوفا من ان يراني اخوانها 
الصغار . وفي الظهر عاد محمد وابلغني بالاثر الكبير والخطير الذي احدثه العدد السري 
في الشارع (الفاير ) كما ابلغني بان عباس فضل مدير الشرطة والمفروض فيه ان يعمل 
كل ما في وسعه للعثور والقبض علي كان يعرف مكاني ويعمل مع محمد توفيق 
والاصدقاء على مساعدتي وانقاذي ومتابعة تطورات الموقف وفعلا في اليوم الثاني اتصل 
تليفونيا بمحمد توفيق وقال له بهدوء: 

(الامانة اللي عندك وزعها) وما ان ابلغني محمد بذلك وهو في حالة من الرثاء 
والشفقة اخافتني وكادت ان توقف قلبي ترى هل معنى ذلك ان امري قد انکشف وان 
انكشف فما اسبابه اذن كيف نتصرف وظللنا محمد وانا نتبادل النظرات الجامدة في 
بلاهة وبلا معنى!! (قيل يطلع من الفسيخ شربات) واحيانا من البكاء والخوف 
والدموع تأتي الطرافة فابن محمد توفيق الصغير عدلي الله يجازيه ويعفو عنه ويهنيه في 
وقت واحد وقد كان في السادسة او السابعة من عمره راني فجاة لست ادري من 
(ثقب الباب) كما كنت افعل للاخرين ام من فتحة الشباك فخرج مهرولا الى الشارع 
يصرخ بفرحة لكل من يلاقيه في الشارع وكأنه اكتشف زحل: (عبدالرحمن مختار قاعد 
عندنا جوه) ان يقول ذلك في بري وبالقرب وبالقرب من منزل اسرة زوجتي المحاصر 
بالعيون فذلك هو الخطر نفسه وكاد محمد توفيق ان يصاب بالشلل والجنون وعلى 


51١١ 


عجل اوقف عربته ملاصقة للباب واخرجني بين زوجته وابنته الكبرى واصر علي ان 
(ارقد) على ارضية العربة حتى لا يراني احد وانطلق كالسهم بالخلاء الواقع شرق 
المطار ‏ لم يكن هناك انذاك لا امتداد ناصر ولا الرياض ولا يحزنون .. خلاء وحفر 
وتضاريس والعربة تنهب بنا الارض نهبا وترتجف كعيدان القصب ولكم بعد ذلك ان 
تتخيلوني بجسدي الممتلىء كم كنت اعاني لكنني ما كنت آشعر في الواقع بما اعاني!! 

وصلنا منزل دكتور حسن عبداللطيف شارع ۱٩‏ امتداد الدرجة الاولى والذي اخذني 
بدوره راسا إلى غرفة في السطوح وصار يقبلني من الوجنتين وفي عينيه دموع الفرح ثم 
بكينا معا دون ان نتحدث وعاد محمد توفيق لكنه كان على اتصال دائم بنا . 


۳ (۳ 





توفيق وعبدالخالق محجوب 


هنا يستوقفني حدث كبير وخطير ليفرض علي نفسه ويأبى الا أن ادونه قبل ان 
امضي في مسيرتي وانساه في وسط اكوام الاحداث وحاشا لي ان انساه . 

© السيد محمد توفيق وزير الثقافة والاعلام وكاتب (جمرات) في الصحافة منذ عام 
۱ رجل مرح وساخر لکنه قبل کل هذا وذاك انسان کامل متکامل وف وشجاع 
ومخلص واب بار بأهله .. وصدیق (منتشر ) في كل میدان ... كان من اقرب القربین 
للاستاذ عبدالخالق محجوب سکرتیر الحزب الشيوعي مما اضطر الاخیر يوم فشل 
محاولة انقلاب هاشم العطا الا يلجأ لاي سوداني او بيت سوداني الا لحمد توفیق 
وبیت محمد توفیق ففعل ولکن وبعد يومين فقط انکشف امره وطوقت الدبابات 
والصفحات بيته واعتقل هو وعبد الخالق محجوب معا وقد لاقی ما لاقی في الاعتقال 
ولولا لطف الله ومساعدة الاصدقاء من حوله لصفي محمد توفيق ولکان الیوم في عداد 
الشهداء والصدیقین وحسن اولئك رفیقا . 

© اعود من جدید لاکمل الصورة صبيحة صدور العدد السري فقد طوقت قوات 
البوليس منزلي في بري الدرايسة کوریا وقفزوا الحیطان وضربوا خادمي الخلص الامین 
واخي الان محمد عبدالله الذي مازال معي حتی کتابة هذه السطور فعذبوه واذلوه 
واغروه في نفس الوقت لیدلهم على مكاني ‏ محمد عبدالله هذا التحق بخدمتي وعمره 
سبعة عشر عاما وقد تزوج وله سبعة ذكور واناث من الاولاد؛ وقد اصبح جزء لا 
يتجزا من الاسرة بعدما ضرب الثل الاعلی في الوفاء والاخاء والودة . 


۳۲۳ 


© وقوة اخرى مشتركة من القوات المسلحة والشرطة كانت (تقفز الحيطان) لمنزل 
اسرة زوجتي ببري المحس طيلة ساعات الليل في محاولات متكررة للبحث عني وكانت 
تقوم بکشف الغطاء عن كل النائمين حتى خجل احدهم مرة وقال لزملائه يا جماعة 
عيب ديل كلهم عوائل! 

© وذهبت قوة من الجيش إلى منزل صديقي العزيز وخلي الوفي السفير خليفة عباس 
اطال الله عمره ومتعه واولاده ابدا بالصحة والعافية بحنا عني لكنه اقسم الا يدخل احد 
منزله الا على جثته وتكهرب الجو في الجيلي الامنة الوديعة واحاط به المئات من اهلي 
الاوفياء مما اضطر القوات على الانسحاب خوفا من العواقب . 

© وقوة اخرى ذهبت لمنزل اخي الاكبر محمد رحمه الله ولكنها قوة يبدو انها كانت 
بليدة عندما طلبت منه فتح دولاب صغير كان في حجرته فضحك وقال لهم: (يظهر 
انكم ما عندكم فكرة عن عبدالرحمن کویس ) يقصد ان ثلائة دواليب من ذلك الحجم 
كما قال لهم لا يمكن ان (تحتويني) او تستوعبني . 

لم يتركوا بيتا لاهل ولا صديق ولا رقيب الا وداهموه واخيرا جدا وفي المساء بدأت 
قوة من الشرطة في أكثر من (لوريين) تحيط يمنزل د . حسن عبداللطيف وانا قابع في 
سطوح الطابق الثالث اراقبهم بقلب اوشك ان يطير خاصة عندما توقفوا مما جعل د . 
حسن يجري داخل بيته مستعينا بسلم صغير وهو في اشد حالات الاعياء والارتباك 
ونادى على جاره الايطالي الاصل وهو سكرتير في السفارة الايطالية وباختصار شدید وفي 
اقل من دقيقة قال له عندي صديق عزيز كذا وكذا وهو مطارد وها انت تلاحظ القوات 
بدأت تحيط بمنزلي وانا اخشي ان يهجموا علينا ويقتلوه فهل تسمح بايوائه ان شعرنا 
بالخطر - وبدون تردد قبل الدبلوماسي الضيف والانسان الكبير رغم ما في ذلك من 
مخاطر وقال دعه يقفز داخل بيتي متى ما سعرتم بالضرورة بكل سرور دعه يحضر 
وأنا سعيد بذلك!! 

جاء د . حسن وابلغني بما فعل وقال لي (تحت معاي اكثر من عشرة من اصدقائك 
وبينهم اخوك محمد وحسن مختار وعدد من اهلك وكلهم مشفق عليك وهم يتبارون في 
نقل الاخبار فمنهم من قال انك هربت لارتيريا ومنهم من قال انك اعتقلت او قتلت 
و ...و .. والهم ان لا احد یعرف مكانك حتى لا ينكشف الامر في النهاية نتيجة لخطأ 
صغير او (فلتة لسان). 

وابلغني ايضا بان عباس فضل (مدير عام الشرطة ) هو الوحيد الذي يعرف مكانك 
وقد اتخذنا العدة وبعد مشورته واعطاء الضوء الأخضر لتهريبك من البلد . 


۳۲ ۱ ۶ 


يا ما انت كريم 


كان عزاني الوحید وسلواي ومنعني 2 تلك اللحظات الحرجة الحاسمة من عمري 
والتي كانت رفيقة وحشتي وهلعي وخوفي عندما ينقلوا إلي كل لحظة مدى الاثر الذي 
خلفه العدد السري في الشارع السوداني وبعد ساعة ونصف وفجأة وبلا سابق انذار 
سمعت جلبه وضوضاء ظننت انها القوات داهمت المنزل فاذا بدكتور حسن عبداللطيف 
يطلق صرخات مجنونة وتسرع خطاه في السلالم» رأيته وهو مقبل علي يرقص ويتمايل 
بل ويزغرد ويغني كالمجنون أو الذي لدغه ثعبان وعلى انغام الصفقة بيديه كان يقول 
بلحن السيرة . 

© الليلة والليلة هوى الجلس الاعلی حلوة ... الليلة والليلة هوى مجلس الوزراء 
کندکو ! ! واقبلنا نتعانق ونبكي ثم اتجهت مباشرة للتلیفون وابغلت زوجتي وماهي الا 
لحظات حتى قامت القيامة وانفجرت الشوارع واتجهت العاصمة كلها (الاعمی شايل 
المكسر ) نحو القصر .. نحو النصر ... 

كان الرحوم د . حسن عبداللطیف شخصية محبوبة (ومنتشرة) تماما کمحمد توقیق 
وکان معروفا بعدائه للحکم العسكري في اي بقعة من العالم لانه كان دیمقراطیا بسليقته 
وکان ادیبا ومتحدثاء ذرب اللسان حلو العشر متجددا ناکرا لذاته وکان يحب جمع 
التراث والفولکلور ویعشق الادب والشعر ویتذوق النکنة كان وطنیا اتحادیا رشح مرة 
مجلس السيادة كما رشح وزیرا لکنه آبی وعندما ضاق (بمایو اتولد) هاجر إلى نیجیریا 
لكنه ووا اسفي وواحسرتي عليه عاد محمولا داخل صندوق رحمه الله رحمة واسعة . 


وعباس فضل من !؟ 


هنا لابد ان اقف قلیلا عند الرحوم عباس فضل مدير الشرطة وما فعله فيه الكفاية 
لتحویله الکان الاسمی من التعظیم والتقدیر والاجلال ولابد ان یتوقف الرء کنیرا عند 
دوره العظیم الذي يدحض کل افتراء وظلم وتجن على رجال البوليس فهم ایضا 
انسانيون ووطنيون وفدائيون متى ما كان ضروريا وانا لا املك غير الدعاء له بالرحمة 
والمغفرة وما كتبت الذي كتبت تسجيلا للتاريخ فقط وانما ايضا لاحيي فيه وعن طريقه 
رجال الشرطة حتى يكونوا خير خلف لخير سلف . 


۲ ۵ 


كما انا مدين بحياتي للمرحوم عباس فضل ومحمد توفيق وحسن عبداللطيف 
ولاسرهم واولادهم فالهارب ليس هو الرجل. وانما الرجل هو الذي يأوي الهارب فتحية 
لهم اجمعين وتحية حارة لكل من اسهم ووزع العدد السري وليعذرني الكثيرون 
والكثيرون جدا ممن لا قدرة ولا طاقة لي بذكر اسمائهم فهم خالدون في القلب والروح 
معا. 

خرجت الجماهير وزحفت کالوج الهادر نحو القصر وكانت تزغرد وتغني وتهلل في 
غير توقف ولا هوادة وفي اقل من ساعة كان معظم محرري وعمال دار الصحافة قد 
وصلوا الدار وبدأنا جميعا في الاعداد للصحافة غدا في يوم عيدها الاغر وليلة زفافها 
السعيد . 


احمد سليمان وانا !! 


حدث شيء لا يمكن ان اتجاهل ذكره لانه ملك للتاريخ العمور والمسُّوه والمجهول 
الذي لابد ان يزال عن وجهه الفناع ورداء التخفي ففي طريقي لبري استوقفني موكب 
صغير يصفق ويهلل ويحيط بالاخ احمد سليمان المحامي تكريما له وكان قد خرج من 
سجن كوبر لتوه ‏ كان ذلك في شارع الطابية بين القوات المسلحة ومكتب الخطوط 
الجوية السودانية للحجيج وما ان رآني ورأيته حتى نزلنا وبالاحضان والقبلات وتبادلنا 
التهاني وكان في حالة هيجان وانفعال سُديدين يردد على مرأى ومسمع من الناس 
عبارات لا ولن انساها : (يا عبدالرحمن مختار على الطلاق انت ارجل راجل ... وحياة 
شرفي الماركسي العملتو ده ما يعملوا راجل غيرك يا أب ضرس ...یا اب ضراع ) يا .. 
ويا.. وشكرته ووصفته بالبطل الخارج من العرين وذهب کل منا لحاله . 

© وتدور الايام بكل ما فيها من حب وكره وحلال وحرام » وصدق وکذب ‏ ونفاق 
ورياء وتبداً القصص والحكايات والروايات والناورات والمفاوضات بين جامعة الخرطوم 
والقصر الجمهوري وقبة المهدي فتنتصر (جبهة الهيئات للتجمع النقابي ) على ضعفها 
وقلة عددها ويصبح الاخ العزيز احمد سليمان وزيرا ثم رئيسا للجنة التطهير ويبدا 
القصاص الجبهوي التجمعي النقابي ... وتشكل اللجان المتطرفة لا في البحث عن الحق 
والعدالة ومطاردة المجرمين والخونة واللصوص. وانما سلكت طريقا وعرا ومسدودا 
ومظلما في كيف تبتز الشرفاء وتطارد الامنين وتلاحق الاحرار .. 


ف الساعة السادسه والدقيقة الاربعین من مساء یوم ۲ توقمبر ۶ وعلى غير 


51١1 


موعد مسبق قام بزيارتي في دار الصحافة كل من السيدين الوزيرين احمد سليمان 
والمرحوم الشفيع احمد الشيخ وقد استقبلناهم بحرارة تليق بهما والتف حولهما العاملون 
والمحررون يهنئونهما ثم دخلا مكتبي وبعد التحية وكانت فاترة على الاقل من جانبهما . 
اغلق الاخ احمد باب مكتبي بطريقة غريبة وابلغني بانهما يريدان طبع جريدة الميدان 
فاعتذرت لهما بادب جم وبسبب ضيق الامكانات لانني كنت اطبع جريدة الیثاق 
الاخوانية والمجلات الانجليزية بالاضافة إلى جريدة الصحافة كل ذلك والمرحوم الشفيع 
هادىء كعادته صامت لم يشارك الا ف حدود ضيقة وبالنظرات التي لها الف معنى 
ومعنى ! ! 

ما ان انتهيت من اعتذاري عن استحالة طبع الميدان الا وفقد الاخ احمد اعصابه ولم 
يتمالك نفسه فابتعد بحديثه وصراخه وتصرفاته قليلا عن حدود اللياقة وظن انه بسلوكه 
هذا انني ساجئو على ركبتي واخر عرقا خاصة عندما كان يكرر القسم بشرفه الماركسي 
وبدأت اصواتنا ترتفع كثيرا بدرجة لفتت انظار المحررين فدخل شيخ ادريس بركات 
فقطع علينا كل شيء بعدما فقدنا انا والاخ احمد منطق العقل والحكم واوشکنا ان 
نشتبك بالايدي لكنني استطعت والحمد لله اخيرا جدا وفي اللحظة المناسبة ان اتمالك 
نفسي واختصرت الطريق بان طلبت منهما بذوق وادب ان يخرجا من مكتبي غير 
مطرودين فخرجا في عصبية ظاهرة . 


وبدأت المملاحقات 


بعد ايام قلية حذرني الاخ مبارك زروق مما يدور خلف الكواليس في مجلس الوزراء 
وسألني ان كان بيني وبين التجمع النقابي» آسف جبهة الهيئات اي سوء تفاهم فرويت 
له القصة حرفیا كما روينها للعديد من اصدقاء الطرفين وعلى راسهم محمد احمد 
محجوب الراجل العظيم والذي سارويه لكم يعلمه جيدا الاخوان الاحياء من اعضاء 
مجلس الوزراء الاكتوبري وهم كثر ... لن اتعرض في هذه العجالة لعلاقة الاخ احمد 
سليمان بمايو وصلاته بصناعها فقد روى هو قليلا من كثير عنها ! 

© بدأت ملاحقة مسيرة الصحافة وتاريخها في مجلس الوزراء من الوزراء الشيوعيين 
وبعض الممثلين لجبهة الهيئات فقالوا ان جريدة الصحافة عميلة وصاحبها جاسوس 
مخابرات شأن الضعفاء واسلوب الحاقدين وان العربة التي اركبها هدية من المخابرات 
الامريكية وقالوا ... وقالوا ... وقالوا وجاءوا بميزانية الصحافة وراجعوا تاريخها 
فاكتشفوا اولا ان العربة اشترتها دار الصحافة وهي (شفرلیت) من متسّل كوتش 
ب ۲:۰۰ وبالاقساط ... واكتشفوا ان الصحافة رابحة جدا جدا لدرجة عندما وصلوا 
لراتبي وراتب زوجتي صرخ احدهم عفا الله عنه بعدما انهارت کل دعاواهم وجنايتهم 


۳۷ 


وحججهم (شوف مرتبه قدر ثلاثة وزراء ابن ال ...!! 

لم تتوقف المحاولات وبدأوا يبحثون ويتصيدون عن كل خطايا واخطاء الصحافة 
فوجدوا ايصالا في وزارة الثقافة والاعلام سلفية بألفي جنيه وبتوقيعي وبالرغم من انهم 
كان يعرفون حقيقتها الا انها كانت كافية لغايتهم واغراضهم ووجدوا فيها ضالتهم فاصدر 
وزير الداخلية كلمنت بعد قرار مجلس الوزراء بيانا عطل فيه ستة صحف سودانية على 
رأسها الصحافة بدعوى انها صحف منحلة وعميلة و .. و .. وقصة السلطة قديمة ابطالها 
مازالوا احياء وهو اللواء (م) طلعت فريد وزير الثقافة في نوفمبر منعه الله بالعافية 
والسيد احمد خير وزير الخارجية امد الله في ايامه ومحمد عبدالحليم ( وزير مالية 
سابق ) وكان مستشارا في مكتب الوزير ومن الذين فارقوا الحياة المرحومان محمد عامر 
بشير فورآوي ومتولي عيد . كان ذلك عندما استدعيت في مكتب الوزير بعد وصول 
المطابع لبورتسودان ولدهشتي وحيرني معا وجدت اتفاقية وعقد شراكة جاهزين /.6١‏ 
للحكومة وه7/5' لي وقرأ الاتفاقية على الستشار محمد عبدالحليم فرفضت جملة 
وتفصيلا وكنت اتساءل کالجنون لكن لاذا ؟ ! 

© اختصر علينا الطريق اللواء طلعت الذي عرف بامانته وصرامته وبعدله ايضا فقال 
لي : (شوف يا عبدالرحمن يا اخي الحكومة شاكه في المطابع دي لانها حتستخدم حسب 
تقاريرها ضد الثورة فاما ان تقبل الشراكة واما سنرفض منحك رخصة الجريدة ) وبعد 
اجتماعين منتالين قدمت فيهما للسيد الوزير جميع المستندات من بنك باركليز والبنك 
العثماني واثبت من خلال المراجعة ان وكالة الاخبار الافريقية حققت في ثلاث سنوات؛ 
ما يزيد عن الخمسة وعشرين الفا وكانت العشرين الفا منها هي القسط الاساسي 
للمطابع و ... واخيرا اقتنع طلعت المؤمن العادل بسلامة موقفي لكنه قال لي حنديك 
قروش مساعدة فقلت له الحمد لله انا ما محتاج في الوقت الحاضر فاردف قائلا : 
(المابشيل قروش مننا ما معانا !!) . 

كل ذلك كان بحضور كل من ذكرت فكان الخيار صعبا وامام ضغط الاخ المرحوم 
والصديق الوفي متو عيد قبلت البداً مكرها لكنني استطعت ان اخفض مبلغ المساعدة 
المقترح من عشرين الف جنيه إلى الفين وأصررت على اعتبارها سلفة وعلى كل حال 
فقد سددتها وانتهى الامر . 


دفاع هزمته الاعلبية الظالمة 
علمت فيما بعد ان عددا من الوزراء ممن كانوا في صفي حاولوا جاهدين وبالمنطق 


مهما فعل ومهما اخطأ فالعدد السري يغفر له كل شيء بل ويجعله في مصاف الابطال 


۲۱1۸ 


والمجاهدين ويستحق ان يشيد له تمثال لا ان يعاقب بهذه المرارة والقسوة لكن مع ذلك 
اصر الجانب المسيطر على الوزارة (تجمع الهيئات) على اجراء التصويت فامتنع رئيس 
الوزراء للتاريخ عن التصويت وهكذا غلب الباطل الحق» وقهر الظالم المظلوم وانتصرت 
الاغلبية الباغية على الاقلية الطاهرة وتعطلت الصحافة إلى حين لكنها عاودت الصدور 
بعد اسبوعين او ثلاثة من تشکیل حكومة ما بعد اكتوبر وكان مقدم اقتراح اعادتها 
مولانا الشيخ المرضي ... عادت الصحافة اقوى مما كانت عليه فقد ضمها الشعب إلى 
صدره لانه كان يحس بها في نفسه فهي انيسته وحبيبته وصديقته وی صفحاتها کل ما 
يسنهي ويريد ويتطلع اليه . 

© انا لست في موقف اروي فيه قصص الابتزاز التي حدثت اثناء فترة ما بعد اكتوبر 
فهي كثيرة وعديدة ومحزنة ومخزية فكم خلفت من ضحايا ابرياء أعرف أسماءهم 
وتاريخهم ورواياتهم وحكايتاتهم لكن الشيء الوحيد الذي بقي والذي مازال صداه يتردد 
في صدري هو صوت الاخ احمد سليمان عندما التقيت به عقب خروجه من السجن وهو 
يصرخ في وجهي بعصبية ووطنية : 

علي الطلاق ياعبدالرحمن انت ارجل راجل ... والعملتو ما يعملوا غيرك يا ابو 
قوسن ونا واا 

ما اردت والله الا ان اسجل التاريخ فهو الشيء الوحيد الضائع والمشوه في حياتنا وبعد 
هل اطمع في ان يغفر لي الأخ احمد وله العتبى حتى يرضى ولا اظنه يأبى بعدما هداه 
الله وعاقاه . 


© بقي سؤال لئيم وملحاح وغريب لكنه محق ظل يؤرقني منذ (رجب - ابريل) 
ومازال وسيظل يحوم فوقي وتحتي ومن يميني وعلى يساري وقد رأيت لذلك ان الجأ 
اليكم يا قرائي عسى ولعل ان تجدوا لي مخرجا: 

(ايه حكايتي مع الثورات والانتفاضات !؟ فلما قامت ثورة اكتوبر ١53714‏ وبالرغم 
من انني قد ضحيت من اجلها بروحي واه .. وبالرغم من انها كان المفروض ان 
ترحمني وتحنو علي ونمحو معصيتي وتغفر لي خطاياي - ان كانت هناك - لكنها بدلا 
من ذلك مع الاسف الشديد والحزن العميق ظلمتني واذلتني عندما عطلت جبهة الهيئات 
صحيفتي ... نم جاءت انتقفاضة رجب-ابریل وبدلا من ان تنصفني وترد الي حقي 
الغتصب وکرامتي المسلوبة قتلت الفرحة في نفسي واطفأت البسمة في شفتي عندما 
مضت في ظلمي وتجاهلي فقذف بي التجمم النقابي وحکومته الانتقالية إلى كوشة الغابة» 
ومستنفع النسیان ! ! 


اللهم رد غضبك عني ‏ والطف بي فانا عبدك الضعيف عبدالرحمن ود أمنة بت علي 
ساله ! ! 
© خير ختام جال ويجول ف خاطري هذه الايام هو زجل احمد فؤاد نجم الذي 
يقول فيه : 
ولو احس الالم 
يوسُوسٌ القلم 
يصرخ على الورق 
ويقول كل الكلام 
عريان (مايزوقوش) 
ويشرح الالام للي ما اتألوش ! ! 


۳ ۲ ۰ 


9 الفصل الرابع عشر 4 


© احاديث وتعليقات ثورية 

© كيف التحم الجيش والشعب . 

© ماذا نريد من حكومة الثورة 

© نطالب بالتطهير لحماية الثورة . 





صف واحد لن ينقسم 


© كانت معركة الامس انتصارا كبيرا حققه الطالب والقاضي والمحامي والطبيب 
والجندي والاخ المسلم والشيوعي والتاجر والزارع والجنوبي والشيخ المسن والرأة 
والطفل . 

.. كان انتصارا لا تستطیع قوة في الارض ان تشكك فيه او تعزوه إلى فرد أو هيئة 
او جماعة .. ولا تستطيع كذلك ان تعزل عن هذا الانتصار قواتنا المسلحة لانها ارادت 
طوعا واختيارا ان تذوب في وسط الشعب. لانها جزء لا يتجزا منه غير ان التاريخ 
القريب سيثبت إلى اي مدى تجاوبت مشاعر الجيش مع مشاعر المواطنين فاستجابت 
لصوتهم وآمنت بحقوقهم فجنبت بذلك البلاد مزيدا من المحن... ومزيدا من الدماء 
ومزيدا من الدموع .. 

ان صفوف الشعب السوداني التي سارت في الشارع الكبير في العاصمة وفي كل بقعة 
من السودان لم تكن تهتف لغير هذا السودان كانت تهتف وهي تخترق المصاعب 
والاهوال في الشارع الكبير شارع الحرية والبقاء والخلود . 

:.. عاشت وحدة الشعب ... وعاش السودان ». 

.. والان اريد ان اقف قليلا قبل ان يستجم قلمي فيبدأ رحلة اخرى قد تتخذ طريقا 
مغايرا .. اريد ان اقف عند شعارات الامس الكبيرة حتى نتمعن معناها ... ونتعرف على 
مدلولها ونتبين قدسيتهاء قبل ان تضيع وسط الضجیج » ووسط الزحام .. 

.. هذه الشعارات القوية الموحدة التي اكتسحت امامها كل شي واهتزت من هديرها 
المدن والقرى والصحارى والودیان » نريد ان نترجمها الى افعال ... إلى حقائق حتى لا 
تضيع وسط الزغاريد وطبول الفرح . ولا يمكن ان نترجمها إلى حقائق واقعة الا اذا 
توحدت في المفهوم والدلول وفي القلوب والالسنة ... وفي الارواح والشاعر .. فاذا: ما 
استطعنا دائما وابدا ان نوحد الصفوف والاقوال والافعال قاننا سننتصر دائما » وسنسير 
إلى الامام دائما ... وسنكتسح امامنا الالغام دائما ... وسنمضي إلى تحقيق اهدافنا 
دائما .. 

۰ ان الانتصار الذي حققناه امس الاول وامس بالحافظة على مكاسبنا لا يقل عن 


۳۳۳ 


الانتصار الذي حققناه يوم ۲۱ اكتوبر لانه كان بالنسبة لنا اول لغم يتفجر تحت اقدامنا 
ونحن في اطراف الطريق لرحلة جديدة من اعمارنا . 

.. انفجر اللغم تحت اقدامنا ولكن اقدامنا كانت اقوى من صوت الانفجار فخنقته 
تحت الارض وكتمت انفاسه قبل ان يؤذي اصبعاً واحداً من ملايين الاصابع التي 
داسته » ولكن ليس معنى انتصار الامس انه انتصار لنا في بقية الرحلة فنحن ما زلنا 
نسير على الارض محفوفة بالمخاطر وما زلنا نتقدم في طريق لا نعرف كمية الالغام 
وعدد المتفجرات التي تحيط به حتى ندرك نهاية الشارع ولكننا مع ذلك لن نتخوف› 
ولن نقف » ولن نكف عن السير حتى ندرك نهاية الرحلة ؛ ولا بأس من ان نتبين معالم 
الطريق » ونتحسس مواضع الاقدام دون ان نعبأ بالالغام والتفجرات لان اقدامنا كثيرة 
وخطواتنا فویه منتظمة تستطيع ان تخنق تحنها اي صوت وتكتم تحتها اي انفاس . 

.. لقد ادرك الان الشعب السوداني سیثا واحدا لا يختلف فيه اثنان هو ان انتصاره 
هذا لم يحققه بغير التماسك والائتلاف ووحدة الصف والهدف والاخلاص ونحن نريد 
الان ان نحول رصيدنا الضخم من هذه المعاني والمفاهيم الى حكومتنا التي جاءت عن 
طريق الجبهة الوطنية الموحدة البرلمان الشعبي الذي اجمعت عليه جميع قطاعات 
الشعب ... نريد ان نمنحها اليوم تأييدنا المطلق ونهيىء لها في الوقت ذاته الجو المناسب 
الذي تستطيع معه ان تؤدي اعمالها الكبيرة الضخمة في فترة الانتقال القصيرة 
الحرجة ... نريد ان نعد لها الجو المناسب حتى نمكنها من انجاز بقية مطالبنا وتكملة 
انتصاراتنا . ۱ 

ولکننا مع ذلك يجب علینا ان نمضي في الحذر والترصد والترقب فنرهف الاذان ‏ 
ونقتح العیون ونشد السواعد حتی نحمي حکومتنا وجبهتنا الوطنية ففي ذلك حماية لنا 
ولطالبنا القومية . 

۰ «والصحافه » وهي حريصة على مکاسب الشعب لن تتردد وهي ترقب الامور في 
ان تکشف للشعب الوفي الخلص وهو يسير في طریق الخلود .. لن نتردد في ان 
نتحسس الطریق ونکشف له مواضع الالغام حتی نکتم انفاسها دون ان نفقد اصبعا 


و احدا ۰ 


۵ھ ۵ 


سعب ... وجیش 


© .. احسست بعبء كبير ينزل من صدري وانا اطالع سطور المذكرة الخالدة التي 
سلمتها قواتنا المسلحة الباسلة امس إلى رئيس الوزراء في نادي الضباط . 

.. واحسست بالفخار وانا اتابع كلماتها ومعانيها التي تعبر عن وطنية صادقة ‏ 
ومشاعر قوية ترتبط كلها بجماهير الشعب ‏ وتمتزج بصفوفه » وتتجاوب مع احاسيسه . 


۲ ۲ ۶ 


رغما عن الدسائس والمؤمرات التي حسبوها قادرة على ان تفرق بين شعب وجیش 
وهما يجتازان اخطر اختبار في التاريخ . 

.. قلت مرارا ان الايام ستثبت إلى اي مدى كان جیشنا النظيف الطاهر يتجاوب مع 
رغبات الشعب ومع هتافاته وصيحاته .. وكيف كان يتمزق حزنا والما على الرصاص الذي 
حصد ارواح الشهداء وعلى انين المصابين داخل الاسوار . ورغما عن الحواجز الشائكة 
التي كانت تفصل بينه وبين الشعب» فقد أبى جيشنا الباسل الا ان يدخل المعركة وهي 
في غليانها فاوقف كل محاولة آثمة وكل مؤامرة ضارة تهدد مكاسب الشعب ‏ وتهز كيان 
الحكومة الشرعية وتعرض الشعب إلى مزيد من الاحزان والدموع والدم . 

.. ولم يكتف جيشنا الباسل بذلك بل تجاوب مع الشعب والحكومة فاقتطع يوما من 
مرتبات ضباطه وجنوده » تبرعا للشهداء ... لشهدائه وشهداء شعبه . 

.. وامس قدمت قواتنا السلحة وثيقة الشرف والخلود إلى الشعب السوداني في 
شخص رئيس الحکومة الشعبية الفومية . 

.. فبالاحضان جیشنا العظیم ‏ وبالتهنثة الحلوة العطرة ‏ ومرحبا بایادیکم الطاهرة 
وارجلکم القوية وهي تسير متشابكة مع الشعب في رحلة الخلود . 

.. عاشت وحدة السّعب والجیش والله اکبر والعزة للسودان . 


۷ ایام تحت الجهر 


© .. واجهنا مشاکلنا في الداخل بصراحة واصرار وایمان حتی انتصر الشعب 
والجیش ورجال الامن على عدوهم الباشر الذي تمرکز في الحکم العسكري ... وواجهنا 
في سبیل ذلك اختبارات عديدة كانت نتيجة طبيعية لرحلة الکفاح بين شعب وحکومة .. 
واجهنا في الداخل الكثير من المشاكل» ولكننا حتى الان لم نواجه مشاكلنا في الخارج او 
مشاكل الخارج منا .. 

.. الاسابيع القليلة الماضية كانت محشوة في الداخل بأحداث كثيرة لا اقول أنستنا ما 
يقال وما يكتب عنا في الخارج ولكن اقول بأنها صرفتنا إلى بعض الوقت ... وان 
صرفتنا الى بعض الوقت فانها لا تستطيع ان تصرفنا إلى الابد .. 

.. ماذا قالت صحافة الدول الاجنبية عن ثورة السودان؟ 

.. هذا السؤال تقتضي الاجابة منا عليه ان نستعرض في ايجاز موقف الدول الغربية 
من السودان وعلى رأسها امريكا وليكن استعراضنا اليوم منحصرا في امريكا بوصفها دولة 
الاستعمار الجديد الذي يعود إلى الشعوب الجديدة (بالشبابيك) وفي يديه وحول اكتافه 
حقائب مليئة بالدولار كما نسميه نحن او المعونات الاقتصادية كما يحلو لامريكا ان 


۳۳۵ 


.. كانت سياسة السودان الخارجية فيما يبدو حيادية اكثر مما يجب وسلبية اكثر من 
السلبية ولئن ارتضى شعب السودان سياسة الحياد الايجابي وصداقة الشعوب... كل 
الشعوب على اسس الصالح المشتركة فان الحكومة العسكرية السابقة قد تبنت هذه 
الفكرة في الظاهر وحنطتها تحنيطا مباشرا في واقع الامر . فالنفوذ الاستعماري وعلى 
رأسه امريكا كان مسلطا تسليطا مباشرا على سياسة السودان الخارجية وتصرفاته في 
المحافل الدولية ولئن كانت هناك حسنة اذكرها للرئيس السابق عبود فهو انه رفض ان 
الصين وف العالم جعلت موقفه دقيقا وحرجا مما جعله يصر على زيارة الصين .. ان 
هذا الموقف يدل إلى اي مدى كان النفوذ الامريكي قريبا وعميقا في سياستنا الخارجية . 

.. سمعت باسطورة اتفاق ثم بين انجلترا وامريكا على ان تخرج بريطانيا من 
افريقيا بالابواب وتدخل لها امريكا من النوافذ ... يعني باختصار ان ينتهي الاستعمار 
السياسي الباشر ليأتي استعمار غير مباشر وانا شخصیا افضل الاستعمار السياسي 
المباشر لان معالمه واضحة ف كل مكان تستطيع الكتل الشعبية ان نتبینه بوضوح 2٠‏ 
وتهاجمه بوضوح » وتطرده بوضوح . 

.. اما الاستعمار الاقتصادي فهو كمرض السرطان يحس الجسد الامه ولكنه غالبا لا 
يحس موضعه فيظل ينخر في الجسذ وببطء شدید .ولأطول مدة ممكنة حتى يقضي 
عليه تماما . 

ان الحكومة العسكرية السابقة كانت لها سياسة مريبة (غير مدركة) مع العالم 
الخارجي ولكني استطيع ان أؤكد بانها كانت ضعيفة فاقدة المعالم والمعاني فنظرة 
وزير الخارجية السابق للعالم الخارجي كانت نظرة شخصية. بحتة اتسمت بالضيق 
والجهل والغرور واستسلمت له الحكومة في لين حتى بدأت معالم السرطان تنخر 
في الحكومة وفي سمعة السودان وشعب السودان الذي تدحرج بسرعة البرق من فوق إلى 

.. ليس هذا وقت التفصيلات فسأكتب في القريب العاجل ان شاء الله عن سياستنا 
الخارجية نحو الشرق والغرب مستعينا بما حدث في زيارة وفد السودان الرسمي وعلى 
رأسه الرئيس السابق عبود إلى كل من الباكستان والصين والهند وبريطانيا ... قریبا 
سأتحدث باسهاب عن هذه الزيارات فهي تحمل صورة قلمية وصوتية لسياستنا الخارجية 
المهتزة المضطربة . 

.. اعود الان إلى موقف الصحف الاستممارية التي تمثل الوجه الحقيقي للسياسة 
الامريكية نحو ثورة السودان فقد نشرت مجلة النيوزويك في عددها الصادر بتاريخ ٩‏ 
نوفمبر تعليقات وتحليلات لا ادري ان كنت اصفها بالجهل ام بالاماني ام بالتضليل ام 
بالجهل والاماني والتضليل معا ويستحسن ان اترك ذلك لتقدير القارىء وهو يستعرض 


۳۳۱ 


معي ما كتبته الصحيفة . قالت النيوزويك : 

ارسلت الحكومة قواتها لتفریق ندوة طلبة الجامعة الذین تغلبوا على البولیس ومضوا 
یخربون التاجر ویحرقون العربات . 

طالب الرجل الثاني في الحکومة ان یسمح للجیش باسکات الطلبة . 

۰ من هو الرجل الثاني ؟ 

قامت حكومة انتقالية ضمت جمیم الانجاهات من السلمین في اقصى اليمين إلى 
الشیوعیین في اقصی الیسار وعلی رأس الدولة رجل غامض اعلن ان الانتخابات ستتم 
كاذل کته اه 

... واختتمت الجلة الامريكية حدینها عن احداث السودان فقالت : 

«ان الراقبین الذين یعرفون حقيقة الجیش السوداني وانجاهانه یستبعدون قیام تلك 
الانتخابات ».. هکذا وبکل بساطة حللت النيوزويك احداث السودان .. حللتها بمنظارها 
عي وكما يخاو لها فى هت ی 1 

.. قلت سأترك للقارىء العزيز وهو يستعرض معي ما كتبته هذه المجلة فرصة 
التقدير . 

أما تقديري انا فهو يتلخص ف : 

(۱) ان السياسة الامريكية صدمتها أنباء ثورة السودان وأدارت رأسها تماما لانها لم 
تكن تتوقع حسب مفهوم (المراقبين السياسيين) ان ينتصر سُعب على جیش . 

(۲) افتقدت امريكا مع انتهاء الحكم العسكري قبضتها على السودان التي امتدت من 
الناحية الاقتصادية في اقصى اليمين إلى النفوذ السياسي في اقصى اليسار . 

(۳) المراقبون السياسيون حسب المفهوم اتهموا الثورة الشعبية بأنها شيوعية او ذات 
ميول يسارية حتى یخففوا اللطمة على البيت الابيض . 

(۶) تعدى نفوذ السفارة الامريكية في الخرطوم حدوده فأغلقت حكومة السودان 
السابقة الباب امام رأس المال الاجنبي الحر الذي لا يتمشى مع السياسة الامريكية 
الاستعمارية وركد بذلك التطور الاقتصادي والتجاري في كل مياديننا . 

( ۵) ساهمت السياسة الامريكية إلى حد كبير في تجميد سياستنا الخارجية 
(وتحنيط) سياستنا الداخلية وامتدت اصابعها إلى مختلف الاجهزة الحساسة وغير 
الحساسة وطوقتها تماما . 

(1) ساهمت إلى حد کبیر في تحنیط (الصحف السودانية ) لدرجة لم تستطع معها 
التعقيب على الاحداث العالية فأمرت الحکومة جمیع الصحف السودانية بالابتعاد عن 
التعلیق على الأحداث العالية وعدم التعرذى لسیاسات العدوان مهما كان نوعها . 

.. تستطیع امریکا ان تدعی ان الصحف عندها تتمتم بحرية النشر ولا تمثل في ذات 
لوقت سیاستها ونحن نستطیع ان نقبل هذا النطق فیما یختص بسياسة الصحف 


YY 


الامريكية الداخلية لكننا لا نستطيع ان نقبله مطلقا فيما يتعلق بسياسة صحفها الخارجية 
لانها مرتبطة ارتباطا كليا بسياستها العامة في افريقيا على الاقل ان لم يكن في العالم 
كله . 

.. ان المشاكل الداخلية التي واجهناها يجب الا تصرفنا بعد اليوم عن المشاكل 
الخارجية التي سنواجهها غدا وبعد غد . فالاستعمار سيحاول ان يسترد انفاسه من 
جديد ليدخل الشبابيك من جديد وبسياسة جديدة . 

.. الذي نريد ان نؤكد اننا حريصون على تحقيق مكاسبنا وتنفيذ رغباتنا وسنظل 
نسير في طريقنا الصحيح دون ان نغفل الخارج وسياسة الخارج ومع ذلك فاننا نؤمن 
بالحياد الايجابي وصداقة الشعوب من موسکو... إلى بكين ... إلى لندن .. إلى 
بلغراد ... إلى واشنطن ونرحب بجميع الايدي التي تمتد الينا مهما كان لونها .. ومهما 
كان طولها وسمكها وعرضها لكننا لن نسمح بعد اليوم ليد تصفعناء او سياسة تملى 
علينا » او تدخل بننینا عن سيرنا . 

.. ان السودان الذي قفل ابوابه امام رأس المال الاجنبي الحر ليفتح الابواب جميعها 
الان على اسس عادلة في قمتها مصلحة السودان أولاء ومصلحة الاطراف العنية ثانيا . 

.. انني أمل ان يواجه الشعب السوداني التسلط الخارجي بنفس الحماس وبنفس 
الاصرار وبنفس التکتل ... وبنفس القوة التي انتصر بها في ثورة ۲۱ أكتوبر لأن ذلك 
هو الشيء الوحيد الذي يحمي ظهورنا ونحن نسير بعنف إلى الامام . 

© كانت ايام الاسبوع التي انتهت امس ۱۹۱۶/۱۱/۱۳ فاترة وساعاتها تمشي في 
تثاقل مثير وهي تحمل في كل لحظة مفاجأة كبيرة تدير الرژوس وتمزق الاعصاب حتى 
عاش الشعب كله يزمجر كالزلازل ويزأر كالاسود .. ويغلي کالبراکین؛ لكن الاقدار 
تدخلت ووعي الجماهير نضج فلم تحدث انفجارات خطرة» ولم تحدث خسائر يخثى 
منها على ضياع مكاسب السشعب ‏ ولكن مع ذلك لابد لي من أن استعرض الراحل التي 
تسببت في الغليان ... ولابد لهذا الاستعراض ان يكون صريحا وقويا ومنطقيا وعادلا . 
فما هي الاسباب التي ادت إلى الغليان... وما هي الخسائر التي تعرضنا لها وما 
الکاسب التي حققناها ؟ 

© .. دعوني اولا ابدأ من اللحظات الاولى . . من اللحظات التي اشتعل فيها عود 
الکبریت حتی اقترب من برمیل البارود .. إلى اللحظات التي انطفأ فیها عود الکبریت 
واختنق فیها البرمیل بعدما فار وتحرك وأوشك على الانفجار . 

.. يوم الائنین الاضي كان يوم الاحداث فقد نما إلى علمي ان هنالك اجتماعات 
منعقدة في رئاسة القوات بين القادة وکبار الضباط في الرئاسة وظللت اتابع هذا الاجتماع 
تساورني الخاوف ... وازدادت مخاوفي هاته عندما جاعتني رسالة في الساء محشوة في 
اعقاب طعام ... ثم تضاعفت مخاوفي عندما اتصل بي الضابط الواطن ( ...) تلفونیا 


۳۳۸ 


وهو يبدى اكثر من المخاوف واكثر من الشكوك من هذا الاجتماع الذي وصفه بالخطورة 
إلى درجة يخشى معها ان تلعب الساومات دورا تطيح معه مكاسب البلاد .. 

.. اجريت اتصالات خاصة سريعة بكبار المسئولين في الحكومة وابلغتهم بأنبائي 
وطلبوا منى ان اتابع انباء الاجتماع » ويتابعونها هم بطريقتهم الخاصة وظللت اراقب كل 
حركة من حولي وانفض الاجتماع وتوجه القادة إلى قياداتهم وابلغوها بما دار واتصلت 
بضابط صديق في رتبة (الصاغ) فنقل إلي ما نقله اليهم قادتهم وهو يتخلص في موضوع 
الضباط العتقلین ۰ وتطهير الجيش ۰ وضرورة ولائه للحكومة . 

.. هكذا كانت طبيعة الاجتماع في رئاسة القوات المسلحة غير أن الظروف التي 
تجتازها البلاد آنذاك كانت دقيقة وحساسة إلى الدرجة التي تخيف أي مواطن بمجرد 
سماعه عن اجتماع في القوات المسلحة .. 

.. من المؤكد ان الخاوف التي اسر إلي بها الضابط ( ..) في محادئته التلفونية 
معي .. وف الرسالة التي وصلتني من داخل اللکنات كانت خطيرة وكبيرة ... ومن 
المؤكد ايضا ان مجرد اجتماع قادة الاسلحة وضباط الرئاسة في لحظات حرجة حساسة 
محشوة بالبارود بصرف النظر عما يدور في داخلها فيها الكفاية لاثارة الخاوف 
والشكوك .. ومن المؤكد ان هذه المخاوف قد انتقلت انباؤها إلى العديد من المواطنين بما 
فيهم رجال الجبهة ... ومن المؤكد ان رجال الجبهة افرادا کانوا ام جماعة وهو يلمون 
بخطورة الموقف اكثر من غيرهم قد تجسمت المخاوف في عقولهم . 

. . ومن المؤكد كذلك ان يتصرف الافراد او الجماعات تصرفات سريعة ومستعجلة 
ترتفع إلى مستوى الثورة ... ومن المؤكد ان مستوى الاحداث في تلك اللحظات يجعل 
الواقفيث على حقائق الامور في شبه هستيريا.. ومن المؤكد ان هذه الهستيريا قد 
احاطات برأس الفرد أو الافراد في الجبهة فكانت نتيجتها الحتمية هي اذاعة النداء 
للشعب من الاذاعة . 

.. اريد ان اترك موقف الفرد أو الافراد الذين احاطت بهم (هستيريا المخاوف على 
الثورة ) فاذاعوا النداء للشعب فقد اوشکت انا نفسي ان اصدر ملحقا خاصا انبه فيه 
الشعب للخطر حتى يحمي مكاسبه لان (هستيريا الثورة) في تلك اللحظات قد 
اصابتني وملات عقلي وقلبي وروحي؛ ولكن الفرق بيني وبين الفرد او الافراد الذين 
اصابتهم (هستيريا الثورة) هو انني استطعت ان الم بحقائق الاجتماع وبتفاصيل 
الاجتماع وهم لم يستطيعوا ان يعرفوا شيئا فماذا كان يمكنهم ان يفعلوا ؟ 

.. دعونا أولا وقد استقرت الأحوال الآن ان نتساءل هل كان هناك دافع سيىء 
وراء اذاعة النداء ... وهل كان هناك غرض وراء ما حدث ... اي غرض ؟ 

الجواب بالبنط العريض «لا». 

.. قلت اريد أن أكون صريحا وأنا استعرض الموقف . 


۳۲۹ 


.. ان الدوافع التي حدك الفرد او الاق اد الذين وكيوا النذاة كانت كبيرة وريظة .: 
دعونا نتعمق في اللحظات التي كانوا يعيشونها فقد عشتها نفسي حتى الساعات الاولى 
من المساء. 

.. انها لحظات يفقد فيها المواطن عقله واعصابه لان موطنه يواجه الخطر ... 
وسُعبه يواجه الخطر . 

.. ومكاسب نورته تواجه الخطر ... واسرته تواجه الخطر ... وهو نفسه يواجه 
الخطر وكما قلت فقد اوشکت وانا في لحظاتي تلك ان اصدر ملحقا خاصا انبه فيه لهذا 
الخظر, ۱ 

.. وماذا وکیف كنا ننتظر من الفرد او الافراد في الجبهة ان یتصرفوا في تلك 
اللحظات والخطر یعیش في عقولهم وقلوبهم .. 

۰ تقولوا لي كان من الاجدر ان یتصلوا بمجلس الوزراء .. ولا تقولوا لي كان من 
الاصوب ان یفعلوا کدا وکیت ... ولا تقولوا لي كان من النطق ان ... وان ... وان » 
فلم تكن تلك اللحظات لحظات منطق ‏ ولم تكن الساعات ساعات اخذ ورد وتفکیر 
وتحلیل لاننا كنا نعيش في ثورة لم نترکز بعد ... ثورة امة تحیط بها الخاوف 
والوامرات ... ثورة عارمة لم تعرف بعد منطق العقل والتريث والقانون والنظم ومن 
يدير الاذاعة ومن لا يديرها كانت ثورة منطقها الثورة . 

ان اللحظات التي كنا نعيشها كانت كلها ثورة وقلق ومخاوف ومخاطر ... وفي 
لحظات كهذه يفكر العقل بمنطق الثورة فقط ولن يلجأ لمنطق الروية والتحليل والتريث 
لا لانه لا يريد ولكن فقط لانه لا يستطيع ولن يستطيع . 

.. دعونا مرة ثانية وقد استقرت الاحوال لان نتساءل عن مبلغ خسارتنا وارباحنا 
من نتائج اذاعة النداء للشعب يوم الاثنين ... هل كان رصيدنا. الخسارة ... ام الربح ؟ 

.. (قلت اريد أن أكون أكثر من صريح وانا استعرض الموقف). 

..ان خسارتنا قليلة جدا ... فقد كانت نتائج الثورة الثانية في مساء الاثنين وصباح 
الثلاثاء ان ثار بعض المواطنين فاعتدوا مع الاسف الشديد على بعض السفارات احدثوا 
بها بعض الحرائق ونحن مع اعنذارنا لما حدث نرجو ان يقدر رجال السفارات ومن 
اعتدي عليهم الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد . 

.. أما جانب الارباح فقد كانت موازينة ثقيلة جدا لا يستطيع احد غير الشعب كله 
ان يحملها .. فقد كان النداء اختبارا عسيرا اكد على كل حال ان هذا الشعب لا يمكن 
ان ينهزم ... ولا يمكن ان ينقسم ... ولا يمكن ان يتراجع وف ذلك كل الكفاية لتخويله 
المكان الأسمى من التقدير والاجلال والتعظيم . 

.. دعونا مرة ثالثة ان نكتفي بالارباح التي حققناها يوم الاثنين الماضي وبالقرارات 
التنظيمية التي اتخذتها الحكومة على اثر ما حدث من تصرفات يبررها حسن النية لان 


۳۳۰ 


فترة ما قبل القرارات كانت فترة تريث ومنطق وفي ذلك ايضا كل الكفاية . 
.. ارتفع اتحاد عمال السودان إلى ما فوق مستوى الاحداث ولو لم يفعل ذلك لما 
كان اتحاد عمال السودان الشامخ الضخم الذي يتصدر دائما طليعة الاحداث مع صفوف 
شعبه ومواطنيه فقد قرر يوم الاربعاء الماضي ان يتبرع كل عامل نقابي بمرتب يوم من 
مرتبات ديسمبر تدعيماً لوقف الحكومة الالي . وموقف الحكومة الالي كما تعلمون يحتاج 
إلى تدعیم منطقي لوقف الحکومة 
فهل للموظفین والتجار والزارعین والمرأة وکل طوائف الشعب ان تتخذ اي قرار 
منطقي يدعم موقف الحکومة اماي ؟ 
.. السفارات وعلی رأسها سفارة الشقيقة مصر ‏ والفوضیات والاجانب الذین عاشوا 
وسط هذا الشعب وتنسموا هواء هذا البلد لابد وقد احسوا ما كنا فيه وما اصبحنا عليه 
لا اريد ان استعرض ما كنا فيه » فکفی اننا نعيش تحت الاحذية ؛ ونتنسم هواء الداخن 
الاسود الفاحم حتی امتلات صدورنا بالعلة والرض والاثارة والئورة . 
.. ارید فقط من جمیع السفارات التي اعتدی علیها بعض الثاثرین (دون ان اصفهم 
باکثر من اثرین) .. وارید من جمیم اخواننا الاجانب الذين اصابتهم شظایا الثورة في 
عرباتهم أو .. ممتلكاتهم ... اریدهم فقط ان یعذرونا فنحن ما كنا یوما حاقدین ولا 
معتدین .. وما كنا يوما نسيء إلى ضیفنا او جارنا ؛ وتاریخنا خير دلیل وشهید ولکننا كنا 
في حالة هستیریا ثورة عارمة فقدنا من اجلها الکثیر » وکنا على استعداد ان نفقد من 
اجلها الاکثر ؛ ومع ذلك فاننا نأسف لا حدث ... ونستمحیهم العذر فیما جری . 
وقواتنا المسلحة هي الاخری قد ارتفعت الى ما فوق مستوی الاحداث » ولو لم تفعل 
ذلك لما كانت جديرة بأن تكون قواتناء فقد قرر ضباطها وجنودها التبرع بیوم واحد من 
مرتباتهم للشهداء . 
وبعد هل يمكن لهذا الشعب ان ینهزم ... وهل یمکن لهذا الشعب بعد الان ان 
ینقسم ؟ 


لماذا طالبنا بالتطهیر ؟ 


.. قبل ان نستأنف رحلتنا في الطریق الطویل بعد انتصارنا الشعبي الکبیر ۰.. دعونا 
نستجم قلیلا لنریح انفاسنا اللاهئة ونزیل من على اجسادنا وارجلنا عبارة العرکة 
ونسح العرق والدموع والدم . ونغسل من عیوننا آثار دخان القنابل والرصاص . 

.. حقق الشعب انتصاره الاکبر وانتخب بالاجماع حكومة قومية انتقالية تحمل العبء 
عنه وهو رقيب علیها وقد استجاب إلى ندائها واستانف اعماله حتی يهيىء لها الهدو ء 


۲۳1 


والاستقرار ولكن هل تستطيع الحكومة ان تمضي بأقدام ثابتة ومن تحتها وحولها 
الالغام ؟ 

هل يمكن للحكومة ان تؤدي اعمالها وهي مطمثنه ومن حولها فساد يحيط بجدرانها 
الاربعة ويقبض على (حلقومها) بالاصابع العشرة ؟ 

ان الهتاف الذي اجتمعت عليه طبقات الشعب هو الطالبة بالتطهیر .. والطالبة 
بالتطهیر لیس هي حماية لکاسب الامة فحسب وانما هي حماية للحکومة التي اوکل لها 
حماية الکاسب فهل یمکن للشعب ان يطمئن وحوله جیوش الفساد في کل میدان ؟ 

ان كلمة (تطهیر ) التي یطالب بها الشعب کلمة عريضة سنحاول ترجمتها كل يوم 
(فالصحافة) التي غسلت بالامس قلمها بالاء الدافیء ونظفت مدادها لن تجامل بعد 
الیوم شقیقا او صدیفا او فریبا وسنظل نسعی جارية لاهنه وهي تحقق مطلب الشعب 
في التطهیر بکل معانیه الخاصة والعامة ... ان الفساد الذي واجهناه في اعوامنا الستة 
الاضية فساد لم یغفل میدانا من الیادین فقد كان فساداً في الاقتصاد ؛ وفسادا في الأمن › 
وفساداً في استغلال النفوذ وفسادا في الاتجار وفي العطاءات والقاولات والاخلاق و ... 
و .. وکل ذلك سنتحدث عنه ولکن انواع الفساد الستعجلة التي تواجه وتهدر مکاسب 
الشعب تنحصر في : 

. فساد الامن‎ )١( 

(۲) فساد في بعض عناصر جیشنا الباسل . 

(۳) فساد الاقتصاد . 

٤ (‏ ) قساد العداله . 

(۵) فساد الخدمة الدنية . 

.. خمسة انواع من الفساد كل منها یستطیم منفردا ان يهز کیان الحكومة » ویهدد 
مکاسب الشعب ... خمسة انواع من الفساد لا تحتمل من الحکومة انصاف الحلول 
والتباطوٌ ‏ ولا يستطيع الشعب وقد منح تأييده الطلق للحكومة الشعبية ان یقبل منها 
انصاف الحلول والتباطؤ ومحاربة الفساد على مراحل فماذا تنتظر حکومة جاءت بارادة 
الشعب کله . ونالت رضاء الشعب كله وهي تستمع إلى مطالبة الشعب بالتطهیر ؟ 

۰ وانفجر برمیل البارود امس فنظف جهاز القضاء . 

.. وانفجر البرمیل بالامس القریب في جهاز الامن فأطاح بالاصابع والارجل وبقیت 
اصابع وارجل ولکنه لم یقتلع الرأس والجسد . 

.. والبرمیل ما زال يغلي دون ان تمتد جبال (الدینامیت) بعد إلى جهاز الخدمة 
المدنية .. إلى فضائح الوزارات ؛ وسفاراتنا في الخارج .. وتوزیع الابعدیات في الضواحي 
واطراف الداین . 

.. والبرمیل ما زال يغلي ولکنه بعید عن الفساد. الاقتصادي الذي يؤثر بطريقة 


۳۳۳ 


مباشرة على كياننا المالي فالبيوتات التجارية (وبنك الكريدي ليونيه) وقصة شراكة 
الحكومة له وقصة السلفیات؛ وقصص معظم الشركات التي قامت في العهد الماضي 
بالاسهم وبعرق المواطنين ودموعهم .. كلها مازالت بعيدة عن برميل البارود ... بعيدة 
جدا على الرغم من ان ما وصل اليه السودان من سوء اقتصادي يستحق اکثر من 
الاسراع في التحقيق . 
۱ والبرميل ما زال يغلي ولكنه خشي ان يمند إلى جيشنا الباسل ليطهر صفوفه فاكتفى 
بانصاف الحلول . 

.. هذه هي انواع الفساد التي تهز الحكومة وتهدد مکاسب السشعب ونجعل (برمیل 
البارود ) يواصل غليانه » وتجعل اقدام الشعب والحكومة تسیر في طريق خطير تحيط به 
انواع كثيرة من الالغام . وعلى الرغم من انني قلت اكثر من مرة ان أقدام الشعب كثيرة 
وقوية تستطيع ان تخنق الالغام » وتسكت الانفاس الا انني مع ذلك لا ارى ما يمنع ان 
تعد الحكومة الان مكنسة كبيرة وتزيل بها هذه الالغام حتى لا تصيب اصبعا واحدا 
ونحن نسير في الشارع الكبير ... من اجل هذا يطالب الشعب بالتطهير . 


منازل الزجاج 


.. التطهیر الذي یطالب به الشعب له جوانب عديدة .. جوانب بعيدة الدی وجوانب 
قريبة الدی . 

.. الجوانب بعيدة الدی هي فساد الحسوبية » وفساد الاخلاق وفساد العطاءات 
والنهب والاراضي والقاولات ... و .. هذا الجانب تستطیم الحکومة ان تولف له لجانا 
خاصة للتحقیق وتتوفر فیها کل معاني العدالة حتی لا يؤاخذ مواطن لمجرد الشبهات 
فهذا ما نحاربه ایضا . 

.. اما الجوانب قريبة الدی فهي فساد الاجهزة الحساسة في الدولة والخدمة الدنية 
التي نطالب الحكومة ان تقضي عليه فورا لان مجرد وجود الشکوك في هذه الاجهزه 
الحساسة كاف لهز الحكومة وزعزعة الثقة وتهديد المكاسب الكبيرة التي حققها الشعب 
بئورته . وفي ذلك نطالب الصحافة ايضا بالتحقيق العادل لان ثورة ۲۱ اكتوبر لن تغمد 
رمحها في صدور الابرياء مهما لاكت سمعتهم الالسن حتى تثبت ادانتهم بالدليل القاطع . 

.. هناك جهاز حساس آخر هو موضوع حديث اليوم وهو جهاز (الصحف) وانا لا 
اريد هنا ان اتحدث عن الافراد في الوقت الحاضر على الاقل ونحن نواجه هذا الظرف 
الدقیق » ولكنني اريد ان اتطرق الى الصحف السودانية بمعناها الكبير (كسلطة رابعة) 
ومدى ما تشکله من خطورة وهي تقود الرأي العام السوداني في لحظاته الحرجة . 


۳۳۳ 


.. انا لا اريد ان اجنح إلى التهاتر والتجني والتشفي » فليس في مجال اليوم مكان 
لحملات الوقيعة والاحقاد والنفاق والتلاعب بالالفاظ ... وليس في عقول اليوم مكان 
لغير المنطق والحجة والصدق والامانة ... وليس في مفهوم اليوم موضع لغير البناء 
والتعمير والتوجیه والتهذيب . 

.. واجهت (الصحافة) السودانية في العهد السابق کبتا وضغطا لم تستطع معه ان 
تؤدي رسالتها كما ينبغي باستنناء قليل من الصحف التي حاولت ان تتمرد على 
الحاكمين في مناسبات مختلفة فأشهر عليها سلاح التعطيل والمحاربة في اعمالها التجارية 
محاربة رخيصة اوشکت ان تنتهي معها الى الابدء ثم استسلم بعضها على مضض 
واستسلم بعضها الاخر في لين ويسر ومبالغة فاصبح يهوديا اكثر من بن غورين وهنا 
موضع الخطر . 

.. ليس هذا على اي حال تبرير لموقف (الصحافة) بالذات فلئن اتخذت جانب 
السلبية في كثير من المواضع مع العهد السابق ۰ فان كثيرا من فئات الشعب باستئناء القلة 
القليلة منه كانت سلبية إلى الدرجة التي تسخر فيها من مواكب الطلبة وهم يهتفون ضد 
الوضع البائد بل إلى الدرجة التي كانت تساعد معها (بوليس قمع المظاهرات) على 
اعتقالهم ... فلكم والله شهدت المتاجر وهي تغلق دونهم عندما يحاولون الاحتماء بها .. 
ولكم والله شاهدت المواطنين في الشارع وهم يحاصرون جموع الفارين من هراوات 
البولیس . ۱ 

.. هذا ایضا لیس تبریرا لوقف (الصحافة) فلئن غفرت لها کل شيء۰. فانني لا 
استطیع ان اغفر لها وهي تصدر صبيحة الاربعاء الشئومة باهنة كثيبة مصفرة لا حلاوة 
فيها ولا طعم حتی اصبحت (الصحافة) على غير عهدها منعزلة عن الناس ... بعيدة 
. عن الیدان وهي ظلت وفية حريصة على ان تكون مع الناس طيلة حیانها القصيرة كانت 
ذلة فرضها عليها الحاكمون وارادت الاقدار ان تضعها في ذلك الموضع لا صاحبها . غير 
ان عزاء صاحبها الوحيد الذي خفف عليه الحزن والالم هو انه استطاع ان يلحق ركب 
الاحرار بعدما تمرد على السلبية ووقف مع خروجها على القانون وتحريضها لفثات 
الشعب ضد الحكم القائم آنذاك ودعوتها للاضراب السياسي . 

.. قلت ان الصحف السودانية استسلم بعضها مرغما وعلى مضض ‏ واستسلم بعضها 
الآخر في لين ويسر وعن رضا وطيب خاطر فكانت تطبع في مطابع الدولة ء وتحرر في 
مكاتب الاستعلامات لتهاجم الاحرار ومواكب الطلبة ورجال الاحزاب المعارضة وتؤذيهم 
في اشخاصهم وعزتهم وكرامتهم كما شنت هجماتها بالامس القريب على موقف الشعب 
حتى في ادق ساعات حرجة ابان ثورة ۲۱ أكتوبر ورددتها الاذاعة لتؤذي بها مشاعر 
الشعب الملتهبة وتعرقل سير الارجل القوية . 

.. الصحف الموسمية التي تظهر لاسباب وتختفي لاسباب أيضاً» وبعض الصحف 


۳۳ 


الاسبوعية التي تسير مع كل ركب وتتابع كل عهد . وتعيش في الاسواق على ابتزاز 
وتهديد الاجانب والمواطنين وتعتمد على سرد الفضائح وفرض الاعلانات في موسم 
الشتاء والصيف ونوفمبر ... والأقلام الكبيرة والصغيرة الاجيرة والمستأجرة والتي تصنع 
للحكم المشاريع والخطط لتدعيمه ف الداخل والخارج فتبتز عن قصد ورضاء وطيب 
خاطر الاموال الحرام . 

هدا النوع من الصحف ... وهدا النوع من الاقلام وهي وهم غارقون حتى اذانهم ف 
الفساد قد انقلبوا بين عشية وضحاها بتحدئون عن الجرائم والفساد ؛ ویطالبون 
بالقصاص والتطهیر بینما هم احق الناس به ولکن الله اعمی قلوبهم وضمائرهم وهم لا 
یعلمون . 

.. ان الخطر يتهدد الواطنین الان من الصحف الوسمية والاقلام الأجورة التي 
تصدر ان ارادوا لها الصدور » وتحتجب ان امسكوا عنها العطاء وهي لا تملك الا ان 
تصدر بما يريدون لا كما تريد هي » ولا كما تمليه مصلحة البلاد وارادة السشعب . 

.. هذا ايضا لا يبرر موقف الصف اليومية مجتمعة خشية منها في ان تساهم بعضها 
مع الاخريات في تقويض مكاسب الشعب وافساد الرأي العام اما بسبب عدم السئولية 
واما لاغراض ابعد ما تكون عن مصلحة البلاد ولا اظن ان الصحف اليومية تخالفني 
الرأي في ان تفتح صدورها وابوابها ومنافذها للتطهير بل وتطالب الحكومة بان تضعها 
جنبا إلى جنب في قائمة الاجهزة الحساسة باعتبارها الغاما تعرقل سير القافلة الشعبية . 


يوم القصاص وساعة الحساب 


.. القرار الذي اتخذته الحكومة بتكوين لجنة التطهير قرار عظيم تستحق عليه الثناء 
والتقدير لانه يحمي الشعب من امتداد الفساد والثراء الحرام الذي کون من عرق الناس . 
ودموع المساكين . 

.. ان المهمة الملقاة على عاتق لجنة التطهير مهمة كبيرة وخطيرة فهي تحتاج اول ما 
تحتاج الى سعة في الصدر ؛ ورجاحة في العقل وعدالة في الحكم حتى لا يؤخذ مواطن 
بري* لمجرد الشبهات . 

..ان ثورة ۲۱ أكتوبر قامت لتوفر العدالة والمساواة لكل مواطن حر نزیه » وهي 
ثورة تحققت بكل الوسائل الشريفة » وليس من بين اسلحتها الغدر والتشفي والاحقاد 
والشائعات والضغائن والظلم ولن تغمد حكومة الشعب خنجرا في صدور الابریاء .. 

..ان لجنة التطهير لا يمكن ان تؤدي أعمالها الخطيرة الكبيرة كما ينبغي الا اذا 
عرف كل مواطن واجبه نحوها فحتى لا نضيع الوقت في مد الاصابع نحو الناس يجب 


۳0 


ان نتأكد اولا مما نقول» ونحدد التهمة ونقيم الدليل فتكتمل كل عناصر الدعوة ثم 
نرفعها . 

..ان النظام يجب ان يسود هده الفترة » فلا احقاد ولا تخريب ولا شائعات سندعم 
ثورتنا الخالدة بل على العكس ستهز اركانها » وتعيد الزعزعة إلى الصدور » وتفقد صفوفنا 
الثقة ولا اظن ان المواطن الشريف الذي اسهم في هذه الثورة يعمل لغير تدعيمها 
وتقويتها .. 

.۰ الفساد الذي خیم على البلاد في الستة أعوام السابقة فساد كبير وعزاؤنا الوحيد 
ان الفترة لم تدم حتى يلف الفساد في جوفه مزيدا من الناس فقد انحصر في اعوامه 
الستة في مجموعة صغيرة يعرفها القاصي والداني وامتدت أيدي هذه الفئة الصغيرة وهي 
تتمتع بنفوذها ففسدت وأفسدت من حولها من التجار والمقاولين ثم امتدت ايدي هذه 
الفئة فأفسدت عددا من رجال الصف الثاني والثالث في الوزارات المختلفة وعلى رأسها 
وزارة التجارة التي سأتحدث عن فضائحها في مناسبة اخرى .. 

تسشابكت أيدي الفساد من داخل أجهزة الدو له وخارجها من التأمرین والتعاولین ۰۰ 
والنفعيين وصارت تنخر كالسوس في كل مرفق حتى اهتز كل شيء واضطرب . 

... قلت ان الشعب السوداني شهد في سنواته الماضية اشياء لم يعرفها من قبل.. 
اشياء ليس بينها وبين تقاليده وعاداته وعراقته وأصالته مجرد العلاقة فقد بدأنا من 
حيث انتهت احقر انواع الحكومات في البلاد الاخرى فعرفنا لأول مرة في تاريخنا الذي 
. اتسم بالعفة والنزاهة والرجولة والکرم» عرفنا الرشوة والمحسوبية والظلم والاستبداد ء 
وادخلت على مجتمعنا معان جديدة شاذة من قواميس الفساد العالمي فأقيمت الندوات 
الفاجرة ؛ وشیدت الصالونات (في الضواحي ... وطرف المدائن)؛ وانحدر منا من بدأ 
يستورد لحوم البشر ويعد مجالس الشيطان ... ويحوم بالكأس والطاس بين الموائد 
الحمراء والخضراء وقد تدلت شفاهه وانمحت من وجهه علامات الرجولة ؛ وماتت في 
قلبه كل معاني الانسانية .. مجرد الانسانية ... 

.. هولاء وامنالهم ومن حولهم يجب الا يفف التطهیر حول ترائهم الحرام › ولكنهم 
وتقالیده واصالته . 

.. هوّلاء وأمثالهم ومن حولهم يجب ان نمتد اليهم أكثر من ید التطهیر لانهم آذوا 
الشعب في رجولته وعزته ؛ وآذوه في خلقه وأصالته وظنوا في النهاية انهم يعيشون في 
جوف غابة یعنمد فیها کل انسان على قوته دون ان یتذکر قدرة الله وقدرة الشعب عليه 
فمنهم من تجبر وظلم ... ومنهم من بعی ودنعم ... ومنهم من استبد وحکم ... ومنهم 
من فسد واجرم . ۱ 


۳۳۹ 


الشعب بالامس ولكنه محال ان يهملهم الیوم لانه يوم الحساب . 
... ويوم القصاص والله أكبر والعزة للشعب والوطن .. 


التجرية الثالئة 


.. مر السودان منذ ان نال استقلاله عام ۱۹٥١‏ بتجربتين مريرتين دفع فيهما 
الشعب ثمنا غاليا قضى على حلاوة الاستقلال ... ثم تضاعفت الرارة فقضت على سمعة 
السودان ... تضاعفت مرة اخرى بشكل امر فهزت الثقة بين النفوس ٠‏ وانعدم التعاون 
بين الناس » وتفشى الظلم والحقد بألوانه المختلفة ... ثم ازدادت المرارة مرارة فأصبح 
القادر يتجنى على السکین ‏ والقوي يظلم الضعيف واللص يتطاول على الشريف . 

.. وتضاعفت الرارة حتى لحقت بالعقول والافعال والتفكير والارادة فمسحتها بجرة 
قلم ۰ واعدمتها بالاوامر وداستها بالاحذية . 


.. وتجسمت الرارة من جدید فاصبح الفسد والرتشي والظالم والطاغية والسارق 
والنافق والدساس والاجیر كلهم ظلوا برجحون كفة الاقدار ویعاندون شريعة السماء .. 
ویقلبون مفاهيم الارض فأصبحوا كلهم عظماء وسادة وأصبح العظماء والسادة تحتهم 
عبیدا وارقاء . 

.. مضت الرارة تزداد وتتجسم فاهتزت العدالة واغلقت منافذ الهواء آمام وجوه 
اللظلومین حتی انحصرت دعواتهم الى العادل الاکبر وظلت أياديهم مرفوعة إلى العلی 
ونظراتهم محدقة إلى السماء ... إلى الله . 

.. وتضاعفت الرارة فانعدمت قیم الانسان امام جيوش الحسوبية فاصبح الجاهل 
منعما والعالم محقرا فلا كفاءة توضع في الیزان ... ولا قيم لها مکان .. حتی سارت 
مواکب الحرومین كلها تدق الابواب تستجدي وتستعطف فتقفل الابواب دونها فتعود 


إلى شارع الضياع وقد فقدت ماء وجهها وكرامة نفسها . > 


.. ووصلت الرارة قمتها ونهاية حافتها فتكورت وتجمدت وتراكمت حتى تدفقت في“ 


شكل خيوط تحز العاصم ... وسلاسل تشد البطون .. وسياط للظهور ... وأحذية 
تدوس الکرامة . 

.. قلت ان الشعب مر بتجربتین قاسیتین منذ ان نال استقلاله عام ۱۹۵۲ - أما 
التجربة الاولی فقد كانت بداية تعرضنا فيها إلى اختبارات عديدة لم نستطع ونحن نسير 
في اول الطريق ان نتفادى الاشواك والمطبات والالغام فقد كانت ارجلنا ضعيفة 


TY 


- 


وخطواتنا متضاربة وصفوفنا مبعثرة لذلك فاننا لم نستطيع ان نقوى على خنق الالغام 
فانفجرت تحتنا وتطايرت اقدامنا واصابعنا وودعنا الحرية والبرلمان بالنظرات 
والحسرات والاحزان .. 

اما التجربة الثانية فقد بدات بالحكم العسكري يوم ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ فواصلنا شراب 
الكؤوس المريرة فكنا سكارى وحيارى نهيم على وجوهنا ونحاول ان ندير الكؤوس من 
افواهنا ولكننا مضينا نشرب الكؤوس ... نشرب » ونشرب ونشرب حتى افقنا تماما 
وتداوينا بالتي كانت هي الداء .. 

والان ... نحن نواجه التجربة الثالثة والاخيرة التي بدأت يوم آلاربعاء ۲۱ أكتوبر. 
وبدأنا السير في رحلة شعب خطواته موحدة وصفوفه متراصة ... وأياديه متشابكة ... 
وقلوبه متحابة واهدافه واضحة وغاياته نظيفة .. واقدامه قوية تخنق الالغام وتسكت 
الانفاس .. وتدوس الرصاص كما تدوس أقدام الاطفال فراش الحرير ولكن . 

.. ان الشعب القوي الكبير الذي انتصر يسير إلى الامام بقوة الصاروخ وهو يسير 
دائما لا إلى الوراء وانا لا اريده ان يعود خطوة إلى الوراء» وانما اريده ان يدير وجهه 
الى الوراء حنی یری من يتعقبه .. حتی یری من يغدر به .. حتى یری من يدس له .. 
حتى يرى من يعطل سيره ... حتى يرى من ينحر كيده .. حتى يرى من يهدد مجده 
حتى يرى من يقوض نصره ... حتى يرى من يعصي أمره.. حتى يرى من يهدد 
مجده . 

.. ان الشعب يسير الان وراء حكومة جاءت بارادته وتسير بارادته فليمنحها كثيرا 
من الثقة .. ومزيدا من المحبة وليهيىء لها جوأ تستطيع معه ان تخدمه » وتحقق هدفه . 
وتصون مجده وتحفظ عهده » وليمضي الشعب من خلفها يحرسها ويحرس نفسه وان 
يدير الوجوه مرة إلى الخلف وهو يسير في طريق الخلود حتى يؤمن ظهره » فيدرك نهاية 
الطريق وبداية الفجر دون ان يخسر اصبعا واحداً . 


۳۳۸ 


ماذا قال الزعيم وليم دینق ؟! 
لولا الثورة .. لتم الانفصال 


نورة اكتوبر مهدت لحوار مفتوح بين الشمال والجنوب 


لعل من اهم انجازات ثورة اکتوبر العمل على اعادة الامن والاستقرار للمدیریات 
الجنوبية ... فالجنوب ایام الحکم العسكري كان مسرحا لاعمال الکبت والارهاب والعنف 
كان العساکر بعتقدون بان مشكلة الجنوب ستحل بقوة السلاح من غير ان یمنح 
الوطنون الجنوبیون حق ابداء الراي وتقدیم الشورة والنفع فیما يختص بمناطقهم ... 
كان الحکم العسكري يرفع السلاح ویخنق الاصوات .. وحملت (الصحافة) اوراقها 
تبحث عن الزعماء الجنوبیین .. تسألهم رأيهم بعد انهیار الحکم العسكري وعودة 
الدیمقراطية . 

في بوفیه الجمعية التأسيسية وخلال فترة الاستراحة التقینا بالسید وليم دینق النائب 
البرلاني ورئیس حزب سانو فقال لنا: 

ان من أهم نتائج ثورة اکتوبر تمهیدها الطریق لحوار مفتوح بين الشمال والجنوب 
فساعد ذلك في انهاء الاضطرابات وایجاد التفاهم ... وکانت اول ثماره (مؤتمر الائدة 
المستديرة ) الذي انعقد في مایو ۱۹۲۵ ۰..وکل هذا لم يكن ممکنا ایام الحکم العسكري . 

والفترة التي سبقت قيام نورة اكتوبر شهدت معارضة الجنوبیین للحکم العسكري .. 
واوضحت ان الجنوبیین کانوا صادقین في الاستمرار في هذه العارضة والتي انتهت بقیام 
اللورة ... وجاءت الحکومات البرلانیة وبالرغم من ان سياسة هذه الحکومات تجاه 
الجنوب لم تكن تخلو من الاخطاء الا ان النظام الديمقراطي ظل يساعد على اصلاح 
هذه الاخطاء في شکل نصائح للحکومة او اقتراحات او حتی عزل الحکومة التي 

.. وحتی الان - وفي ظل النظام الديمقراطي سار الجنوب شوطا بعیدا نحو 
الاستقرار والسلام .. تکونت لجنة الاثني عشر ووضعت نظاما دستوریا للجنوب نم 
قدمت قرارات اللجنة إلى لجنة الدستور القومية لتضمن في الدستور .. 

والان لم يبق غير ان تجیز الجمعية التأسيسية الدستور الدائم بعد ان تنتهي اعمال 
لجنة الدستور القومية ... ویصبح الجنوب یحکم بواسطة حکومات اقليمية ... وکذلك 
مناطق السودان الاخری .. وکان لابد - اساسا - في السودان ان لا يدوم النظام 
العسكري وان تقوم ثورة ديمقراطية ... لأن ظروف السودان لا تقبل وجود نظام 


۲۳۹ 


ديكتاتوري ... فنحن جمیعا سودانيون لكننا مختلفون عنصريا ودينيا وقبليا ... 
بالاضافة إلى ان الاتصالات بين سكان مناطق السودان المختلفة معدومة او قليلة ... نسبة 
لساحة البلاد الشاسعة وصعوبة الواصلات واختلاف اللهجات ... زائدا الخلافات 
السياسية . 

.. هذه العوامل كلها نحتم ان لا يحكم السودان حكم ديكتاتوري بالقوة يصدر 
الاوامر إلى المناطق الاخرى ... وكان لابد ان يعود النظام الديمقراطي ليفسح المجال 
امام حرية الرأي .. التي تساعد على تقليل الخلافات بين سكان السودان ولعل اهم 
خلاف بين السودانيين والذي يجب ان ينتهي بعد ان عادت الحياة الديمقراطية هو 
خلاف العرب والافارقة ... فالسودان ليس فيه افريقيون خالصون الا قلة ... وليس فيه 
عرب خالصون الا قلة .. وعلينا جميعا ان ننبذ هذه التقسيمات ونعلن اننا 
(سودانیون ) . ۱ 

التقينا بالسید فلمون ماجوك في مکتبه الفخم بالطابق الثاني بالقصر 
الجمپوري فقال : 

..ان ثورة اکتوبر ثورة عظيمة وخالدة ... وفیما یختص بالجنوب فانني اعتقد بان 
حکومة سر الختم الخليفة - بالرغم مما اعلنته من انها تريد السلام للجنوب ... الا ان 
احوال الجنوب في عهدها لم تكن تدعو إلى الرضی .. ولعل الفضل الکبیر في عودة الهدوء 
الجنوبي بعود إلى حكومة محمد احمد محجوب الاولى حیث بدا الامن والسلام یعودان 
تدریجیا للجنوب . 

.. وعلينا ان لا ننسى دور الجيش السوداني ... فقد قام بمجهود هائل ف اعادة 
الهدوء وانهاء التمرد وحالة الاضطرابات ... سلاح المهندسين الذي قام باصلاح الكباري 
والطرق .. وبقية وحدات الجيش ... ورجال السكة الحديد الذين ظلوا يعملون في 
اوقات عصيبة وغيرهم من رجال الوحدات الحكومية .. كل هؤلاء يستحقون الاشادة ' 
ولابد ان نذكر انهم لعبوا الدور الكبير في اعادة الهدوء للجنوب .. 

.. ولعل اهم ما حققته الحكومات البرلمانية هو تنفيذ سياسة زيارة الدول الافريقية 
المجاورة للتفاهم مع زعمائها حول مشكلة الجنوب ... ولقد اتضح - بفضل هذه 
الجهود - للزعماء الافارقة المجاورين لنا ... اتضح لهم بان بعض الجنوبيين يبالغون في 
عرض مشكلتهم وان الشماليين هم الذين يودون السلام وانهم لا يضمرون نوايا سيئة 
نحو الجنوب كما بقول بعض الجنوبیین .. 

.. ولا شك ان الهدوء قد عاد الان إلى الجنوب ویسیر العمل نحو وضع انظمة 
اقليمية تحكم بها المديريات الجنوبية وبقية المديريات الاخرى .. والواجب الاساسي - بعد 
فيام النظام الجديد ‏ يعتمد على الاداريين شماليين وجنوبيين وانا لا ادعو إلى سيطرة 
هؤلاء دون اژلتك .. انما اعتقد بان الاداريين الجنوبيين والشماليين يجب ان يتعاونوا 


۲ ۶ ۰ 


.٠‏ وبهذه المناسبة فاني اذكر انني ذكرت في مؤتمر جوبا عام ۱۹:۷ بان السودان 
الاحظ ان ما قلته قبل ٠١‏ سنة قد اصبح الان حقيقة وآمن به الجنوبيون . 


وفي دار الزميلة جريدة (الفيجلانت ) التقينا بالسيد كلمنت امبورو وزير الداخلية 
سابقا : 


قال السيد كلمنت ان الوضع في الجنوب بعد ثورة اكتوبر قد تغير عما كان عليه قبل 
الثورة ... وان الظروف كانت مناسبة للاستفادة الى اقصى حد ممكن في ايجاد حلول 
دائمة لمشكلة الجنوب لكن ذلك لم يحدث ... والان اعتقد بان نفس الظروف المناسبة 
التي كانت موجودة بعد ثورة اكتوبر مباشرة ... قد عادت الان ... وعلينا ان نستغلها 
ونستفيد منها إلى اقصى الحدود ... علينا ان نستفيد من ظروف الامن والسلام الحالية 
حتى لا تفلت منها الفرص .. 

.. ثم تحدث السيد كلمنت امبورو عن زيارته الاخيرة لجنوب السودان وانطباعاته .. 
وقال ان الوضع الان لا يمكن مقارنته باي حال بما كان عليه ايام الحكم العسكري ... 
بل وعما كان عليه خلال الايام التي تلت ثورة اكتوبر الاولى.. لقد بدأ الجنوب في 
العودة إلى حياة الاستقرار الاول .. 

وواجبنا ان نشيد بالاداريين في الجنوب الان ... فهم يبذلون جهدا لا حد له.. 
ويضعون الخطط والمشاريع فيما یختص بعودة اللاجئين واستقرارهم والنهوض 
الاقتصادي واعادة العمران واعمال الانشاء والتعمير ... وعلى الحكومة ان تولی العناية 
لهذه الخطط والتقارير ولا تهملها . 


.. وفي مكتبه بوزارة الري التقينا بالسيد بوث ديو وزير الري وسكرتير حزب 
الاحرار : 
حرار 


فقال : ان ثورة اکتوبر بلا شك قد اعادت للبلاد الوضع الديمقراطي الذي یمکن ان 
یتفاوض فيه الناس ویتحادئوا ویناقشوا مشاکلهم في حرية ... واما فیما یختص بالجنوب 
فانني اعتقد بان الجنوب كان سیفصل ایام الحکم العسكري اذا لم تقم ثورة اکتوبر ... 
بمعنی ان الاحوال كانت قد وصلت إلى اسوأ درجاتها وکانت تتفاقم باستمرار لو لم 
ينته النظام العسكري . 

.. ولا شك ان النظام الحالي - نظام الاحزاب السياسية احسن .. لانه يفسح الطریق 
امام الجو الحر .. وهذا ما حدث بالنسبة لمشكلة الجنوب ... ویبدو ذلك واضحا فیما 
حدث الان بعد قرارات لجنة الائني عشر وموتمر الاحزاب الجنوبية ولجنة الدستور ... 
والتخطیط لنظام حکم اقليمي ... والان یبقی اصدار قانون العفو العام ... والذي يضمن 


۳ ۱ 


للجنوبيين حياة استقرار وهدوء. 

... وعلينا ان لا ننسى ان المشاكل لا يمكن ان تنتهي مرة واحدة .. فبعد وضع 
اساس الحكومة الاقليمية في المديريات ستبقى مشاكل القبلية والاختلافات في نطاق كل 
مديرية ... وهدا یعنمد على الاداریین واخلاصهم وصدق هدفهم . 


۲ ۶ ۳ 


© السودانیون الهاجرون كيف عاشوا انتفاضة السعب؟ 


© عبود یتنازل عن جمیع سلطاته . 
© كيف واجهنا بالقلم مشاکلنا الملحة! 





كيف عاش السودانيون ٤‏ الخارج انتفاضة سعبهم ؟ 


ابناء هذه الارض الطاهرة ترى كيف مرت عليهم ايام المعركة قبل الانتصار الظافر 
وبعده؟ واخواننا في العروبة والدين واللغة هل كانوا یخوضون معنا المعركة ویشارکوننا 
الالم والفرحة ؟ .. لكي تعرف ذلك عن كثب فلتقرأ معي : 

كيف عشنا الاحداث في المانيا 

من المانيا .. 


اخى عبدالرحمن .. 

ان كل واحد منا نحن هنا الذين شاءت الظروف ان لا نكون في وسط المعركة 
الشريفة التي خاضها شعبنا ضد الظلم وضد الفساد وضد الجهل الذي كان يسود 
الوزارات ودواوين الحكومة ان كل واحد منا كان يتمنى ان يكون وسط هذه المعركة 
الجبارة الشريفة التي خاضها شعبنا وخرج منها منتصراً موفور الكرامة . كنا في أثناء 
هذه الظروف بكل أحاسيسنا ومشاعرنا مع شعبنا البطل الذي اوضح للعالم بأسره مدى 
قونه ومدى مقدرته قبل كل شيء مدى نضوجه فقد كانت دلالة هذه المعركة والطريقة 
التي عبر بها عميقة وكبيرة ودلت بكل وضوح عن ذلك الوعي الذي يتحلى به الشعب 
السوداني . فقد كانت فكرة الاضراب المدني فكرة رائعة بطريقة لا يمكن ان يستطيع 
الانسان تصويرها فقد علقت اكثر الصحف العالية والاذاعات العالمية عن رأيها في هذا 
الوضوع ممجدة ذلك الدور المجيد الذي لعبه وعي الشعب السوداني ف توجيه هذه 
الانتفاضة التوجیه السلیم .. ونحن هنا .. كنا خلال العركة هذه الايام التي كان یخوض 
فيها سعبنا معرکنه بشرف وبسالة كانت بالنسبة لنا ايام عصيبة وکنا کالجانین نبحث 
عن الاخبار هنا وهناك ونحصل في كثير من الاحیان على اخبار متضاربة وکان هذا يثير 
في نفوسنا كثيرا من الحزن لعدم تمكننا من معرفة الاخبار الصحيحة ولكن يقيننا 
بانتصار سعبنا وبوحدنه كان بمتابة المطمثن والمهدىء الوحيد إلى ان حملت الينا الاخبار 
ان الشعب انتصر وان ارادته قد غلبت وان الطغمة الباغية » الجاهلة قد تساقطت تحت 
ضرباته الفولاذية . 

۲0 


وأما اسم احمد قرشي ذلك البطل الذي دمه لعنة على هذه الطغمة الفاسدة اصبح 
يردد على كل لسان وكم تمنى كل منا ان يحلي غرفته بصورة هذا البطل الشهید الذي 
كان دمه بمثابة الشرارة لثورة الشعب على الظلم والطغيان وكذلك الشهداء الذين سقطوا 
صرعى في ميدان المعركة مازالوا على كل لسان ولكن من المسئول عن كل هذه 
الضحایا ؟ اننا لا نعرف انصاف الحلول وهذا كلام اصدرته الجبهة الوطنية في احد 
بياناتها ولذلك نتمنى ان يسير هذا العمل حتى النهاية حتى يلقى اعداء الشعب جزاءهم 
العادل ويجب ان لا يرحم كل من تلاعب بمقدرات شعبنا ويجب ان يحاكم كل من 
كانت له يد في ان يقف التطور في السودان لمدة 7 سنوات . 

لقد مضت ست سنوات على ذلك الحكم المشئوم ذلك الحكم الجاهل وفي اثناء هذه 
المدة فقدت بلادنا الكثير من جميع النواحي من مادية واخلاقية وخلاف ذلك . فقد لعبت 
بلادنا في اثناء ذلك الوقت اقذر الادوار في المحيط الافريقي والعالمي . 

ولكن الان لقد ادرك طريقه وادرك وظيفته في المحيط الافريقي والعالمي وما دام 
الامر بيد الشعب فلا خوف على ذلك . 

- اننا مازلنا بعيدين عن الاخبار وعن ما يحدث في بلادنا التي حق لنا اليوم ان 
نفخر بها ونباهي» فقد ضرب شعبنا الثل الاعلى في الوعي والقدرة . لقد حدئت في 
العالم کثیر من الثورات وكثير من الانتفاضات ولكن العمل الذي قام به سعبنا يحتل 
اليوم مكانا خاصا في المحيط الدولي وكم كنت اتمنى لو كنت خارج السودان وسمعت 
رأي القوم عن هذه الانتفاضة التي قام بها سُعبنا اننا نشعر بالزهو وبالفخر ونحن نسمع 
كل هذا وعلى الشعب ان يسير في هذا الطريق وان يوحد كلمته وكم نتمنی من كل 
قلوبنا ان تدخل الجبهة الوطنية المعركة الانتخابية بقائمة موحدة حتى تصون للشعب 
مكاسبه وحتى تربأ به عن الهاترات الحزبية وتقوده إلى بر السلام - وقد علمت بمزيد 
من الغبطة بانه ستوضع لوائح وتشريعات من شأنها ان تقفل الطريق إلى الابد امام 
الجيش من القيام بعمليات ضد ارادة الشعب . 

ولست ادري ما هو مصير هؤلاء الذين كانوا يصدرون الامر للجيش لكي يتصدى 
هذا التصدى الغادر على الشعب . لا شك ان الجيش يحتاج الان إلى تصفية ويجب ان 
تعود العناصر الوطنية مرة اخرى للجيش حتى يصبح مع الشعب وليس ضد السعب . 

- فكل الهرج والمرج والجهل والفساد لا سك انه في طريقه إلى الزوال وقد سمعت 
عن انه ستشكل «محكمة الشعب » وكذلك لجنة لبحث الحالة المالية التي خرج بها 
الوزراء واعادة ما سلبوه إلى الشعب هذا جميل ايضا . ان فرحتنا بانتصار الشعب وعودة 
الحياة الديمقراطية إلى بلادنا بتطهير مرافق الدولة من العناصر التأمرة وهذا ما تبقى 
وقد قمنا بمظاهرات وكذلك ارسلنا برقيات احتجاج وبرقيات تأييد للجبهة الوطنية . ان 
آراعنا هنا متفقة كلها على انه يجب ان تدخل الجبهة الوطنية الموحدة الانتخابات بطريق 


۳1 


موحدة واننا نرى انه لم يعد الوقت مناسبا في ان نخوض المعركة على اساس حزبي 
فهذا سيفرق جهودنا ويعود بنا مرة اخرى إلى الوراء . 

ان تفاصيل المعركة لسنا على معرفة بها وكذلك التطورات السريعة التي تحدث في 
السودان هذه الايام خاصة وان مجلس وزرائنا يعد مفخرة من حيث الكفاءة والخبرة . 

مع امانينا وتحياتنا إلى شعبنا البطل وتحية نابعة من قلوب صادقة إلى أمة كريمة 
اثبتت للعالم بأسره قوتها وارادتها ووعيها فهنيئاً لك يا شعب بانتصارك وسر في رعاية 
الله . 


من امريكا 


يظهر ان ليس ل نصيب في الحوادث الكبيرة المتتابعة التي توالت عليكم دون انقطاع 
والاطمئنان للبلاد وعودة الحياة الديمقراطية التي ارجو ان تقوم على اسس امتن وقواعد 
اقوى من ان تطيح بها الايام وأرجو ان يوفق الجميع لما فيه خير البلاد وتقدمها فان 
التاريخ الذي ظل منذ ان نلنا الاستقلال في عام 07 يشهد ما نصنع بذلك الاستقلال 
والذي غض البصر حاسراً في حسرة واسف ها هو الان يعود في اشراق وامل يشهد مرة 
اخرى ما سنفعل وما سنحقق لسوداننا من حياة ديمقراطية مستقرة دائمة رضاها 
الجميع ويعيس ف ظلها الجميع ويسترك ف ارساء قواعدها الجميع ولا سك ان هذا 
الشعب السوداني شعب يحبه الله ويرعاه فقد ظلت عنايته تعالى دائما وابدا تقف وراءه 
كلما اسود الافق ولاحت ظواهر الانشقاق والتصدع - فان التوفيق الذي ناله شعبنا في 
خروج الانجليز وخدمة الظروف لتحقيق ذلك كان حدثاً فریداً من نوعه وكان حلما 
داميا تحقق دون دماء ‏ كما ان العناية الالهية لم تتخل عن شعبنا حتى بعد ان نالت 
منه الظروف وافقدته ما نال وها هي العناية تعيد إلى شعبنا اوراق امتحانه بجميع 
اخطائها وجمیع الاسئله التي لم نتمكن من الاجابة عليها واني لارجو مخلصا ان يتمكن 
الشعب هذه الرة من الاستقادة بما مضی وان یکون اداة للامنحان كاملا ساملا وان 
يكون رائدنا خير البلاد وتقدمها . 

ولا شك ان استجابة الجیش بقيادة ضباطه الاحرار لرغبة الشعب الاكيدة وهو 
اعزل . لمن الاسیاء التي سيذكرها التاریخ ویسجلها لسعبنا البطل ... والضباط 
الاحرار ... الذين وقفوا متکاتفین في وجه الطغیان اذ ان الظروف التي مرت بها البلاد 
كانت ادعی إلى نشوب حرب اهلية لولا الحکمة والوطنية الراسخة في قرارة جمیع 
السودانیین مهما اختلفت مشاربهم - فالحمد لله على سلامة الجمیع وعلی سلامة الحکم 
ونسأله التوفیق والسداد للتقدم إلى الامام . 

۲۳ ۷ 


كيف عاش السودانيون في السعودية 
الاحداث العظيمة التي صنعها شعبنا ؟ 


كان الوقت في الرياض حوالي منتصف الليل ... وهو ما يقارب العاشرة والنصف 
بتوقيت امدرمان . وطرقت اذني من بعيد نغمات «يقظة شعب » وكانت سرعه الاداء 
يسكن الطابق الثاني من نفس البناية . 

كنت قد اطفأت انوار غرفتي في الطابق الارضي وبدأت انام وكان يختلط مع نغمات 
النشيد صفير حاد مألوف ... هو العلامة التي نميز بها .. نحن السودانيون في 
الرياض ... محطة امدرمان في اي راديو .. على موجنها التوسطه ... ونسبت الصفير 
إلى راديو الاخ ابو الغيث .. الذي یشغل النصف الثاني من الطابق الاعلى امامنا ... 
لا یکره ارضه وبلاده ... ولكن الما ممضا ویأسا قاهرا مما صار اليه . 

كانت الاوضاع قد انقلبت .. والمفاييس قد اختلت ... والقيم فد بهنت حتى اوشك 
المرء ان يفقد ايمانه بكل ما كان يملا نفسه وعقله من صور الحق والفضيلة . كان الباطل 
يبدو وكأنه هو الحق الصراح القوي .. وكان الحق مهيض الجناح كالح الطلعة يتوارى 
تحت ركام الظلام وكأنه هو الذليل الحقير .وكانت الصورة ترتبط في ذهني دائما 
يستطيع الاقتراب منها : 

كم من حدات ... للقمم طارت ونسورا ورخم 

وهي الاكالة للرمم المستسقية من النجس 

وانا الكيس حلو الشکل العف السقيا والاكل 

في الطين اعيش وفي الوحل واراود طيفك في يأس 

كانت الشمس هي حريتنا التي نتعشقهاء وعزتنا التي نهواها » وكرامتنا التي هي 
كياننا كله ... وكان الطاووس هو نحن وكانت الحدات ...هم وزمرتهم . 

وفجأة... ارتفعت اصوات «بركية» وهابي الغيث» تناديني في حماس مجنون 
فخرجت لأسمع منها ان «عبود » قد حل المجلس الاعلى . . ومجلس الوزراء . 

هكدا وبالنسبة لنا هنا في الریاض . بلا مقدمات كافية . كنا نسمع من القادمين ... 
فصه الاوضاع ف الجنوب و قصه الغي ف السمال .. وكيف كان مستمرا كما تركناه . 
وکان الوفد التجاري برئاسة احدهم ... في «جدة ».. ولم يكن هناك ما يشير اقل اشارة 


۳:۸ 


او يدل اية دلالة على ان هناك مرجلا يغلي وبركانا يوشك ان ينفجر ! 

كانوا ثلائتهم يتحدثون .. بركية وابو الغيث من الطابق الاول وحمدي ابني من سطح 
المنزل حيث كان يستمع إلى الاذاعة من هناك .. وانضممت انا اليهم ... وراحت جدران 
العمارة تهتز بصخبنا وصياحنا . 

وصعدت مهرولا الى سطح البناية ... واتينا بمسجل ... وجلست مع حمدي. 
واحضرنا الراديو ... وضبطناه على محطة امدرمان بصفيرها الذي كان يختلط 
بالموسيقى العسكرية ... وبدأنا نسجل كل ما يأتي به الراديو من امدرمان ... الموسيقى 
والصفير والخشخشة والكلام كل شيء يأتي من امدرمان في تلك اللحظات ... كان قد 
اكتسب لمحة من التاريخ وومضة من الخلود .. 

وراحت محطة امدرمان تذيع بیان «عبود » بصوته ... وتتبعه بيقظة الشعب ... ثم 
الوسیقی .. ثم البيان ... ثم النشيد ... وهكذا ... ونحن قابعون بجوار الراديو .. نكاد 
ان ندخل فيه ونود لو نسير عكسا مع موجاته فنحط في العاصمة في تلك اللحظات . 

واذا كان وردي يطربني بصوته وموسیقاه ... واذا كنت اسجل له كل اغنياته ... 
فانني اعترف له ... انه لم يحدث انني سجلت له اية اغنية مرتين.. سوى «الطير 
الهاجر ». أما في تلك الليلة فقد سجلنا بیان «عبود » نحو خمس مرات في شريط 
واحد .. ويخيل إلى انه لو لم تتوقف امدرمان عن الارسال .. لمضينا نسجله عشرات 
الرات في نفس الشريط ... اذ كانت كلماته هي اعذب ما سمعناه منذ سنوات ... وكان 
صوته يثير في صدورنا تلك اللحظات ما لا تستطيع ان تثيره عبقريات مطربينا كلهم 

وفي اليوم التالي .. قبع بعضنا بجوار راديوهاتهم فلم يذهبوا إلى اعمالهم .. بينما حمل 
البعض راديوهاتهم إلى اماكن عملهم ... وحيث ان ارسال امدرمان على الموجات 
القصيرة لا يسمع بالنهار فقد رحنا نطارد نشرات الاخبار في جميع محطات العالم 
الکبری؛ وقد اكتسبنا خلال يومين معرفة تامة بأطوال المؤجات وساعات الارسال 
ومواعيد نشرات الاخبار في كل المحطات الرئيسية . 

وراحت اصالة سُعبنا وعظمته تدفق كالبركان الثائر هادرة كاسحة وفرض السودان 
اسمه فرضا على الصفحات الاولی ... حتى النيويورك تايمز «الامريكية ».. التي تصدر 
صفحتها الاولى في تقتير اليهودي اذا بخل راحت تفسح للسودان مكانا على صفحتها 
الاولى في اربعة اعداد في اسبوع واحد . 

وفي اسبوع واحد ... اجاب الشعب اجابة عملية سطرها بدمائه وخطها بوعيه وادراكه 
ومزجها بشعوده الفياض ...على اسئلة كانت تراودنا منذ سنوات . 

هل يمكن لهذا الشعب ان يصحو؟ هل يستطيع ان يوحد صفوفه المتباينة البادية 
التنافر ؟ هل يستطيع ان يواجه قوة السلاح ؟ ام هل يسلح نفسه اولا؟ هل يجد قائدا 


۳:۹ 


رشيدا يستلهمه ويسير معه إلى الخلاص . 

ماه الاحاناك» رق اه حا ون اف فان الت لمكو 
تحسب :دم كل ت اله ل يكن انها :وا هه ل“ وخ كقوف تحب ويل بدا 
لتمتزج في كتلة واحدة متماسكة واذا به لا يواجه قوة السلاح فحسب. بل ويقهرها 
بوحدته التي ضمت اليه عناصره الحرة الابية من داخل جيشه . واذا به لا يحتاج إلى قائد 
وانما يوجه القادة ويرغمهم على السير في ركابه والانصياع لمشيئته . 

وكانت الرة الاوللى في تاريخ الشعوب . فيما نعلم » التي استرد فيها شعب حريته بيديه 
المجردتين... وكانت المرة الاولى التي تبرز فيها لكل من يعي ويعتبر ... ان الوحدة 
والتماسك هما اقوى الاسلحة اطلاقا . 

ورحنا نتقبل التهاني من الاخوان العرب من جميع الاقطار ... ونحن نحس بزهو 
عمیق بسودانیتنا لاول مرة منذ سنین . شيء واحد ضایقنا هو عدم وجود سفارة لنا 
بالریاض نسير الیها هاتفین معبرین ! أو نحطم فیها صورة او صورتین . 

ولم نقلق على مستقبلنا بعد ان شاهدنا من الشعب ما شاهدنا ... بل رحنا نذیب 
ارهاق السنین في فرحتنا الغامرة ... وسعدنا الجدید . 

وراحت الشاعر تتجمع لتصوغ للشعب نشيدا جدیدا اعددنا مقطعه الاول وارسلناه 
إلى الفنان محمد وردي .. متشاورین معه کعادتنا .. في البنی والهیکل ... آملین ان 
نستطیع تقدیمه للشعب الذي اوحی به ... حوالي مارس القادم .. 

حسرة واحدة تغلبنا علیها بالفرحة الغامرة ... هي اننا لم نسعد بشرف وجودنا 
بالخرطوم او بالسودان خلال الفترة التي تمت فيها العجزة ... فما یجعلنا نحسد في 
سعادة غامرة ... بني وطننا على ما انجزوه ... متغلبین على حس‌تنا باننا منهم على 
البعد ..وانهم منا ... بل وفي قلوبنا . 


۲ ۵ ۰ 


من هنا وهناك 


© اكتمل الوضع الدستوري للبلاد بتشكيل مجلس السيادة الموقر بعد ان ظل تشكيله 
مدار بحث الحكومة والاحزاب والهيئات الوطنية لايام طويلة ولا شك ان انتخاب السادة 
اعضاء مجلس السيادة جاء ممثلا لرغبات الشعب ومكملا لثقة المواطنين في الحكم 
السعبي الجديد بمجلس السيادة والوزراء . 

..ان السادة الاعضاء الخمسة لهم ان يفخروا اليوم بهذه الثقة الشعبية الغالية ولا 
شك عندي ان كلا منهم له تاريخه المشرف في الحقل الاجتماعي والوطني والسياسي مما 
يجعلهم جميعهم موضع ثقتنا وفخرنا واعتزازنا . ولا شك عندي ايضا ان السادة الاعضاء 
يدركون حساسية الوضع الذي يتطلب منهم تضحيات جسام غاليات لن يترددوا في ان 
يهبوها لهذا الشعب الذي وضعهم بالامس على الحياة وفوق الرؤوس . 

.. تهنئة حارة نتقدم بها إلى السادة اعضاء مجلس السيادة سائلين الله ان یشملهم 
برعايته ويوفقهم في كل خطوة ... وفي كل قولة ... وفي كل حركة انه سميع مجيب . 

© تفشت العطالة في الاونة الاخيرة بشکل مخيف. وارتسمت علامات الضياع واليأس 
على وجوه الالوف من مواطنینا » وتهددت اسر عديدة كانت تعيش على الكفاف والدموع 
والاحزان ومضت ندق الابواب كلها ونحن في الصحف نسمع طرقاتها اليائسة ومضينا 
ندق معهم الابواب ونبسط الامهم ونعكس أهاتهم واحزانهم ونصور كل يوم على اعمدة 
صحفنا دموعهم وحرمانهم دون ان يحرك ذلك مجرد الواقفين حول الأبواب . 

.. ومضى عهد الحرمان واشرق عهد جديد انبعث من صفوف هؤلاء المحرومين 
وكان ان صدر قرار الحكومة الثوري فحطم الابواب الصدئة التي ظلت مغلقة لستة اعوام 
عجاف لتفتح على مصراعيها فينبعث منها الضوء والهواء والامل الكبير . 

.. اننا نطلب من اخواننا الباحئین عن لقمة العيش الشريف ان يسلكوا مسلك 
الشرفاء وقد ظلوا لاعوام طويلة هائمين في بحور من الفاقة والضياع وان يساعدوا 
حكومتهم الساهرة على مصالحهم بالنظام والصبر والهدوء حتى توفر لهم في غد قريب 
لقمة العيش الشريف لان الحكومة ما جاءت الا لتمسح دموع الحرومین ؛ وترفع الظلام 
عن المظلومين . وترد لكل مسلوب حقه في العيش النظيف واللقمة الطاهرة . 

© في اول يناير 05 ينتهي بنك الكريدي ليونيه ويحل محله بنك النيلين ونحن إد 
نزجي التهنئة الخالصة للحكومة بهذه الخطوة الطيبة التي تعتبر انتصارا جديدا في 
محيطنا الاقتصادي » نأمل صادقين ان يسهم البنك بوضعه الجديد في تقدم وتطور البلاد 
والمواطنين ولئن كان لنا رأي خاص في ادارة البنك الجديد فاننا ننادي بان تسودن 
جميع الوظائف التي يتبوأها اجانب ولنا في البنك التجاري وما حققه من نجاح مضطرد 


۳ ۱ 


.. مرة اخرى نأمل صادقين ان تعطى كل الفرص للكفاءة السودانية القتدرة حتى 
يشرق علينا صباح اول يناير ونحن نحتفل في مناسبة سعيدة . 
وفق الله الجميع لما فيه خير البلاد واسعاد المواطنين . 


القراء والاحداث 


من الرسائل العديدة التي كتبها المواطنون بعد ان سطرت الاحداث التاريخية انتصار 
ثورة ۲۱ أكتوبر .. نلتقي اليوم اولا برسالة المواطن : 

© محمد محي الين قرجة 
جامعة القاهرة فرع الخرطوم 

يكتب بعنوان إلى اين نتجه بعد اللورة » فيقول : 

هذا السؤال يتبادر إلى ذهن كل مواطن في هذه اللحظات التاريخية ترى هل نعود 
مرة اخرى إلى الوراء» هذا السؤال سؤال مأخوذ من التجارب السابقة التي مرت علينا 
في عهد الاحزاب ولكي لا نرجع إلى الوراء فعلينا اولا التاكد من ان الاحزاب نفسها قد 
وجهت إلى نفسها هذا السؤال وقد قررت اجراء تصفية تامة ووضع اسس قوية تجابه بها 
المشاكل التي قد تؤدي إلى رجوعنا إلى الوراء . 

وانا كمواطن اقترح على احزابنا السياسية ان تتحد جميعا في جبهة موحدة تستوحي 
سياستها من الاراء المشتركة الستقاة من القاعدة السعبیة وفق منهج مدروس ترتضيه 
هذه الجبهة في الداخل وفي الخارج . 

©يوسف محمد يوسف 

نلتقى به في مقاطع من قصيدته « عرس القرشي »: 

في حفل عرسه الزرکش 

على فتاته الصبية 

على فتاته الحرية 

وانت يا حريرة 

في ضجة الضريرة 

استرسلي ووشوشي 

هذا العريس القرشي 

وانت يا اخت العريس زغردي 


۲ ۵ ۳ 


وانت يا ام العريس رددي 

فهذه الحريرة الحمراء في يده 

اود لو سُددتها إلى يدي 

لسار بي ركب الغد 

© فيصل بابكر الصافي 
الصناعية الوسطى كسلا 

نلتفى بجزء من موضوعه «مادا نريد » الذي جاء فيه : 

اننا نريد ان يستمر التحقيق في قضية التفسخ الكبرى التي كان لها دوي مشين جمد 
بياننا وهي تلك القضية التي عزل فيها القاضيان الطيب عباس وعلي محمود ... اننا 
نطالب بمحاكمات عادلة للذين صاغوا القوانين وسخروا الدساتير لمنفعتهم .. اننا نطالب 
بقانون «من اين لك هذا ».. اننا نطالب بتطهير شامل كامل في كل الاجهزة حتى لا 
يكون الوطن عرضة للهزات وحتى لا تتكرر المأساة . 

© الاخ المواطن كمال يوسف محمد علي يرسل لنا كلمة ملتهبة يقول فيها : 

ان السعب السوداني هو وحده الذي حقق النصر » واسترد حريته وکرامنه » وداق 
الوانا من العذاب على يد الرجعية العسكرية وفجأة انفجر کالبرکان وانقض کالاسد 
الهصور ۰ ووقف خلف شبابه الثقف طلبة الجامعة » وقدم کل مرتخص وغال في سبیل 
الحرية فسقط الشهداء: ونزفت الدماء غزيرة تغسل الارض من ادران ومفاسد الطغمة 
الباغية » وبعد ان نظم الشعب صفوفه ووحد کفاحه .. وانفض الطغیان ظهر زعماء 
الاحزاب الذين اختفوا کالخفافیش ؛ ظهروا على مسرح الاحداث لكي یقتسموا الغنائم . 
وحسبوا هذا الشعب من الضعف بحیث ینسی استسلامهم للحکم العسكري . 

کلنا ...وزراء. 

© الاخ الواطن حسن سعید بوزارة الحکومة الحلية .. تحت عنوان« کلنا وزراء» 
کتب یقول : 

یخطیء من یقول ان حکومتنا القومية الانتقالية الحالية قوامها ۱۶ وزیرا وحسب ان 
قوام هذه الحکومة ١١‏ مليوناً من الوزراء! ٠١‏ شخصاً وزراء ذوو اختصاص والبقية 
وزراء بلا اعباء! 

فانت يا اخي الواطن عاملا ومزارعا وموظفا وطالبا اصبحت مسئولا مسئولية كاملة 
منذ اللحظات الاولی التي تم فیها تشکیل حکومتنا هذه - حكومة الشعب . 

انني اذكرك بعظم السئولية التي القیت على كاهلك بل التي سعیت لها بنفسك .. 
وبذلت في سبیلها كل مرتخص وغال .. 

فاریق دمك .. وبددت اموالك ... وحبست انفاسك ... عليك يا اخي الواطن ان 
تراقب وتکشف ما يقع في يدك وما تراه عينيك .. بلا مجاملة وبلا لف ولا دوران ... 


Yor 


ووطنيتك الحقة ويقظتك الدائمة ... لتتمكن قافلتنا من اللحاق بركب العالم المتحرر . 


لجنة التحقيق في انقلاب ۷ نوفمير 


فرغت اللجنة القضائية الخاصه بالتحقيق في مسئولية احداث انقلاب ۱۷ نوفمبر من 
الاستماع لاقوال كل الاشخاص وعددهم ١1‏ الذين رأت اللجنة اهمية الاستماع اليهم قبل 
استجواب الضباط الكبار الذين قاموا بالانقلاب فعلا وذلك في اول مارس ۱۹۱۵ . 

هذا ولم تقرر اللجنة بعد ان كانت ستسافر إلى زالنجي لاستجواب المعتقلين هناك ام 
ستطلب احضارهم للخرطوم لذلك الغرض . وعلمت الوكالة ايضا انه بالتحقيق مع اعضاء 
المجلس الاعلى المنحل ستنتهي المرحلة الاولى في اعمال اللجنة وقد صرح مصدر وزاري 
مسئول للوكالة ان مجلس الوزراء قد ناقش موضوع محاكمة اعضاء المجلس الاعلى 
وأرجأ اتخاذ اي قرار بشأنها لحين فراغ اللجنة القضائية من التحقيق وتقديم تقرير 
بنتائج اعمالها للحكومة . 

هذا وقد تقرر الافراج عن طلعت فريد واحمد رضا والبحاري والقبول . 

- اللجنة تقرر اضافة عبدالله خليل وستة من اعضاء المجلس الاعلى الاول للقائمة . 

ذكرت وكالة الانباء السودانية ان لجنة التحقيق القضائية فرغت من التحقيق في البلاغ 
المقدم من النائب العام ضد اعضاء المجلس الاعلى المنحل تحت مواد الاتفاق الجنائي من 
قانون العقوبات وهو الاتفاق الذي ترتب عليه استيلاء القوات المسلحة على الحكم . 

وتعيد وكالة الانباء إلى الاذهان ان ذلك البلاغ قد فتح ضد الاشخاص الاتية 
اسماؤهم : 

١‏ ابراهيم عبود  "‏ طلعت فريد ۳ - احمد رضا فريد 4 محمد احمد 
عروة 5 احمد مجذوب البحاري 5 - المقبول الامين الحاج . 

وتدل تحريات وكالة الانباء السودانية ان لجنة التحقيق القضائية بعد التحقق 
والاستماع إلى اقوال الشهود والمتهمين قررت: 

أولا : اخلاء سبيل الآتية اسماؤهم وشطب البلاغ ضدهم وذلك لعدم قيام الدليل على 
اشتراكهم في الاتفاق الجنائي موضوع البلاغ . 

١‏ - محمد طلعت فريد "5" احمد رضا فريد ۳ احمد مجذوب البحاری 
 :‏ الفیول الامین الحاج . ۱ 

وقررت لجنه التحفیق القضائیه الابقاء على المتهمين : ابراهیم عبود وحسن بشیر نصر 
ومحمد نصر عنمان ومحمد احمد عروة في قائمة الاتهام . 


۲ ۵ ۶ 


كما قررت اللجنة اضافة عبدالله خليل وزين العابدين صالح إلى قائمة الاتهام . 

هذا وستحيل اللجنة اليوم «الثلاثاء» اجراءات التحقيق إلى النائب العام بناء على طلبه 
وذلك قبل الانتقال إلى المرحلة القادمة وهي مرحلة احالة البلاغ إلى المحاكمة فور وصول 
الاوراق من مكتب النائب العام . 

وذکرت وكالة الانباء السودانية ان قرار لجنة التحقيق القضائية الافراج عن بعض 
اعضاء المجلس الاعلى المنحل لعدم ثبوت اشتراکهم في تدبير انقلاب ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ 
قد لا يؤدي إلى الافراج عنهم فورا وذلك لانهم اصلا لم يعتقلوا بأمر منها ولانهم 
معتقلون بموجب قانون الاعتقال التحفظي . 


خلاف في مجلس الوزراء 


عقد مجلس الوزراء امس ١570/60/١1‏ اجتماعا طارتا لاتخاذ قرار حول محاكمة 
مدبري انقلاب ۱۷ نوفمبر وذلك على ضوء تقرير اللجنة القضائية المتضمن للتحقيق الذي 
اجرته مع العسكريين والمتهمين . وللظروف التي احاطت بوقوع الانقلاب والتهم التي 
وجهت للمتهمين منهم . وعلمت الرأي العام ان مجلس الوزراء لم يتوصل إلى قرار في 
هذا الشأن وذلك لان بعض الوزراء يرون عدم محاكمة مدبري انقلاب ١7‏ نوفمبر نسبة 
للوعد الذي قطع من قبل بعدم تقديمهم للمحاكمة . ولكن اغلب وزراء المجلس يرون ان 
تقديمهم للمحاكمة لا يتعارض مع الوعد . 

فالمحاكمة لن تتعرض إلى ما حدث خلال الست سنوات من الحكم العسكري ولكن 
تتعرض للمؤامرة والتدبير لانقلاب ۱۷ نوفمبر ويرون ان الحكومة ملزمة باتخاذ قرار 
سريع حول المحاكمة باعتبارها مسالة تهم الشعب السوداني باسره والوسيلة العملية 
لجعل الشعب في موقف يلم بصورة واضحة بالظروف التي احاطت بالانقلاب العسكري 
والدوافع التي قادت اليه بالاضافة إلى ان المحاكمة مطلب من المطالب التي نادت بها 
الجماهير بعد نجاح ورتها الشعبية . 

ونتيجة للنقاش الطويل الذي اثير حول المحاكمة ورفض عدد من الوزراء مبدا 
التصويك عل فتاه تفر 

فقد فوض مجلس الوزراء السيد سر الختم الخليفة رئيس الوزراء اجراء اتصالات 
سريعة مع قادة الاحزاب السياسية لمعرفة رايهم حول هذا الامر على ان يستمر المجلس 
في بحث تقرير اللجنة القضائية . 


۲ ۵ 


خبر اليوم 


© قرر مجلس الوزراء ليلة امس ١579/7/١0‏ عدم التدخل في الامر الصادر من 
المحكمة العليا والقاضي باطلاق سراح السيد احمد مجذوب البحاري ووجه النائب العام 
للتقدم باستئناف ضد هذا القرار . كما قرر مجلس الوزراء عرض محاكمة مدبري انقلاب 
۷ نوفمبر على الجمعية التأسيسية لاتخاذ قرار بشأنه على ان يبقى المعتقلون بالحراسة . 
هذا وقد اصدر مجلس الوزراء بيانا ليلة امس جاء فيه ان المجلس وجه النائب العام 
ليعترض على قبول الضمان من بقية المتهمين المعتقلين تحت قانون الثراء الحرام . 

© متى يبدأ التحقيق مع بعض اعضاء المجلس الاعلى السابق . 

تقوم هيئة نيابة التظهير بدراسة الاتهامات الموجهة لبعض اعضاء المجلس الاعلى 
السابق وسيبداً التحقيق في التهم الموجهة اليهم بعد اجازة التعديلات المقترحة في قانون 
الثراء الحرام . 


خلاف حول محاكمة قادة الانقلاب 


.. قامت مشادة عنيفة بين السيدين الترابي ومحمد ابراهيم نقد في البرلمان عند 
طرح النقاش حول محاكمة مدبري الانقلاب يوم ۱۹۱۵/۷/۲ ... قال السيد الترابي 
فيما قال بعد ان استعرض مراحل ثورة ۲۱ اكتوبر اننا قطعنا وعدا لمثلي القوات 
السلحة بعدم محاكمة اعضاء المجلس الاعلى بتهمة خرق الدستور اما الجرائم الاخرى فلا 
التزام لنا بها وقال ان الذين يطالبون بالمحاكمة فشلوا في الامتحان الاخلاقي لانهم كانوا 
شركاء في العهد ومنطق العدالة يقول بأننا يجب ان نحاكم الجيش كله بوصفه مشترکا .. 
كما نحاكم جهات سياسية معينة اشتركت في المؤامرة وثلاثة احزاب اخرى وجهات مدنية 
واقلام مأجورة مجدت العساكر والموظفين المدنيين . 

.. واختتم الترابي حديثه قائلا انني اعرف الثورة منذ الشرارة الاولى والاخلاقيون في 
الجامعة كانوا یشعلون الثورة بينما البعض كان يعمل للرجوع بها الى الوراء... 
والاخلاقيون هم الذين يطالبون بعدم المحاكمة واللا اخلاقيون هم الذين يطالبون الان 
بالمحاكمة .. 


© ورد السيد محمد ابراهيم نقد «الحزب الشيوعي » قائلا : ان السيد المتحدث 


يستحق ان يكون عضواً في الجلس الاعلى المنحل «اعترض السيد الترابي » ومضى 


۲ 1 


السيد نقد يقول ان القضية ليست وعظ في الاخلاق وانما هي قضايا وضعتها ثورة ۲۱ 
اكتوبر ولا داعي انني كنت من قوادها ولكنني كنت احد الملايين الذين اشتركوا فيها 
وقد وقفت القوات المسلحة بجانب الشعب وطالبت بحل المجلس الاعلى وليس هناك 
تنكر للاخلاق ولكن يجب ان نصفي جميع مظاهر الحكم العسكري وضرب كل من 
تسببوا في الانقلاب احتراما للديمقراطية وعبرة لمن تحدثه نفسه للعبث بدستور البلاد 
واستجابة للرغبة الشعبية الطلقة . 
© محمد توفیق : 

وقال السيد محمد توفيق : ليسمح لي الرئيس ان اسأل ان كانت هذه الجمعية امتدادا 
لانقلاب ۱۷ نوفمبر ام وليدة ثورة اكتوبر المضيئة وعندما نحاول الاجابة يجب ان نتذكر 
الست سنوات العجاف ونحن ايضا اخلاقيون واسلاميون وقال ان عبود لم يكن بعيد 
النظر عندما قال: «احكموا علينا بأعمالنا » واننا كرماء نحكم عليهم باعمالهم ومضى 
يعدد مساوىء الحكم العسكري ومن بينها مأساة حلفا التي لم ترد في خطاب رئيس 
الوزراء . 
© عنمان حاد الله : 


عارض السيد عثمان جاد الله المحاكمة وقال ان حزب الامة قد عارض الحكم 
العسكري من اليوم الاول للانقلاب واشار إلى وثيقة الامام الصديق الراحل وقالع ان 
احدى عشرة جنازة قد خرجت في يوم واحد .. 

هذا وقد ايد المحاكمة السيد احمد دهب المحامي «وطني اتحادي » والاب فيليب 
عباس «جبال النوبة ». 


۳۷ 


كلمة الصحافة 
هؤلاء كلهم مسئولون امام التاريخ 


ليس هذه كلمة افتتاحية بالمعنى المتعارف وانما هو حديث طويل يضيق مجاله هنا 
ويحتاج مني فوق ذلك إلى مقدرة وشجاعة تمكنني من خوض هده الامواج المتلاطمة 
التي تحيط بنا دون ان يجرفني تيارها العنيف لذلك لابد من وقفة قصيرة استجمع فيها 
شتات الذكريات حتى استوضح معالم الطريق ثم ابدأ بعد ذلك . 

والان قبل ان ننجرف وراء العاطفة والشعارات التي تأخذ الابصار ؛ وقبل ان نصدر 
احكامنا حول اطلاق سراح حكام نوفمبر من مدنيين وعسكريين وما ترتب عليه من 
اثاره » دعونا نعود قليلا جدا إلى الوراء لنبدأ بالايام الخمسة التي كانت جماهير الشعب 
تملا فيها الشارع الطويل القابع أمام القصر الجمهوري . 

كانت المفاوضات آنذاك في اعنف قمتها بين احزاب الامة والوطني الاتحادي والشعب 
الديمقراطي وجبهة الیناق والحزب الشيوعي وجبهة الهيئات من جهة يقابلها من الجهة 
الاخرى ممئلو القوات السلحه » ويقبل المتفاوضون من الجهة الثالتة جمهور السشعب 
الزاحف وقد طالت وقفته وبح صوته مطالبا بانهاء الوضع العسكري فانهارت دموعه 
ودماؤه وهو لا يعلم الا القليل جدا مما يحدث في قبة المهدي ونادي اساتذة الجامعة 
ورئاسة القوات المسلحة فقد طالت المحادثات التي حضرت جانبا منها في قبة الهدي 
حتى خفت مع الجدل البيزنطي على اصرار الشعب ان يفتر وتنتكس ثورته وان كنت 
هنا لست بصدد تحميل المسئولية الخطيرة لتلك الفترة للمتفاوضين في الوقت الحاضر 
لان الذي امامي الان يأتي في قمة الاحداث التي تواجهنا . 
سيطرة : 

كانت القوات المسلحة في لحظات المفاوضات الاخيرة تسيطر على الموقف وكانت لا 
تزال تخضع لاوامر الضبط والربط الشيء الذي لولا حدث لما انتهت الثورة الى ما انتهت 
اليه بقليل من الضحاياء وهنا لابد ان اشير إلى ان قواتنا المسلحة ساهمت بنصيب كبير 
في القضاء على الحكم العسكري الذي كان ینف د به السبعة الكبار لذلك فهي تستحق اكثر 
من مجرد الاشادة والتقدير . 

كان لابد في مفاوضات خطيرة كالتي جرت بين امدرمان وشارع الجامعة ورئاسة 
القوات ان تحدث فيها خلافات وتقلبات وتغييرات تتطلب اسلوبا خاصا في الحديث كما 


۲0۸ 


تحتاج إلى حذر سديد وذكاء غير محدود ومد وجزر ف المجاملات والمساومات التي 
يسعى إلى تحقيقها الجانبان . 


مساومات خطیره : 


ان لفظة مساومات هذه تستوقف قلمي حتی یتبین الواطنون حقيقة امرها لانها 
ترتبط ارتباطا وثیقا بالوقف الذي نواجهه الان وهو اطلاق سراح حکام نوفمبر من 
العسکریین والدنیین فالحقيقة التي لا اریدها ان تضیع وسط العواطف والتیار الجارف 
والشعارات التي ظل النادون یطلقونها مطالبین بمحاكمة القادة العسکریین والتي 
یطلقونها الان مستنکرین اطلاق سراحهم ... هذه الحقيقة الريرة تقول : 

«اولا »: اصرار ممثلي القوات السلحه على بعض الطالب ومن بينها عدم التعرض 
للحکام ومحاسبتهم على اي عمل ادوه من ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ إلى ۲۱ اکتوبر ۱۹۱۵ 
وادراج ذلك في الميئاق وقد كان . 

«ثانيا »: تدخلهم الواضح في اختيار رئيس واعضاء الحكومة الانتقالية مع استسلام 
الجانب الاخر الا في قليل من التفصيلات . 

«ثالثا »: ان يظل الفريق السابق السيد ابراهيم عبود رئيسا للدولة رغم انف الثورة 
وقد كان ايضا. 

هذه ثلاث نقاط هامة من جانب ممثلي القوات المسلحة يقابلها من جانب ممثلي 
الاحزاب النقاط الاتية : 

«اولا»: رضوخ ممثلي الأحزاب وهم الامة والوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي 
وجبهة الیناق والحزب الشيوعي السوداني وجبهة الهيئات إلى البند الاول الذي ارتضوه 
ووقعوا عليه فاصبح بندا في الیثاق وقيدا حديديا ثقيلا . 

«ثانیا »: الرضوخ إلى البند الثاني وهو قبول مبدأ تدخل ممثلي القوات المسلحة تدخلا 
واضحا في كيفية تشكيل الحكومة الانتقالية التي تعقب الحكم العسكري . 

«ثالثا »: مبدأ الاستسلام للفقرة الثالثة وهي التي تنصب الفريق السابق السيد ابراهيم 
عبود رئيسا . 
ثورة بدأت عرجاء: 

من هنا بدأت الثورة تزحف برجل عرجاء وهي معصوبة العينين مقيدة الساقين ولا 
يستطيع الذين يعارضون الآن ما ترتب على استسلامهم آنذاك من مضاعفات ان يعفوا 
من السئولية أو يخدعوا جماهير الشعب انهم ارتضوا بكل شيء ووقعوا بامضائهم على 
هذه البنود التي اصبحت جز من الیناق الوطني . 

لقد التزم حزب الامة وجبهة الیثاق بهذا العهد الذي اصبح قانونا واعترفوا به علنا 


۲ 


وفي شجاعة على الرغم من انه خطأ من اساسه ولن يعفيهم من المسئولية التاريخية وما 
تواجهه البلاد الان من استنكار واضطراب غير انه من المحزن ان يتعهد حزب السْعب 
والديمقراطي والحزب الشيوعي وجبهة الهيئات ويوقع مندوبوهم على نفس الوثيقة 
التاريخية بخط جاهر العالم نم يحاولوا مواجهة الجماهير باسلوب المستنكرين لموقف 
بقية الاحزاب بعد اطلاق سراح القادة العسكرين من اجل الكسب السياسي المؤقت 
مستغلين بذلك انفعال الجماهير وبحور العواطف التي يغرق فيها المواطن السوداني 
لحساسيته ووطنيته المفرطة . 

كنت اكبر موقف هذه الاحزاب ان هي ابت من البداية اسلوب المساومات على 
حساب الثورة وان هي كذلك رفضت التوقيع على قيود والتزامات هي ادرى بنتائجها 
وما يترتب عليها لكنها قامت بمعارضتها قبل ان تجف اسماء مندوبيها على الیناق 
الوطني ومهما يكن من امر هذه العارضة ‏ ومهما يكن اسلوبها في الشّدة والحرارة فانها 
ايضا لا تعفيهم من المسئولية التاريخية . 


الحكومة الاوك : 


.. نعود إلى الحكومة الانتقالية الاولى التي اولاها الشعب ثقته وتأییدا لم تجده 
حكومة في العهد الحاضر وماذا فعلت هذه الحكومة وكيف واجهت الامور؟ 

.. كانت الحكومة الاولى التي ترأسها السيد سر الختم الخليفة حكومة ديمقراطية 
ايامها الاولى ان تقوم بحملات واسعة في التطهير لكنها ركزت كل اضوائها وقواها في 
اطراف جانبية دون ان تعنى بأخطر وأهم جانب هم قادة الحكم العسكري فماذا 
فعلت؟ 

«اولا »: استطاعت ان تعزل كبار الضباط الذين كانوا طرفا قويا في المفاوضات . 

«ثانياً »: انتقلت إلى الخدمة المدنية وبعض رجال الاعمال وحاولت ان تقوم بعملية 
تغيير كاملة لوجه الحكم ف البلاد . 

كل هذا جميل ولكن كيف يمكن ان تغير وجه الحكم وتستجيب لمطالب الثورة وقادة 
الانقلاب العسكري هناك بعيدا ف زالنجي ؟ الم یکن ف مقدورها مثلا ان تقدمهم 
للمحاكمة بجريمة اقتراف خرق الدستور دون اي اعتبار لالتزام ما دامت تتمتع حتى تلك 
اللحظات ولاشهر اخرى بسلطات تنفيذية وتشريعية ؟ 

والسؤال الاخرء إلى الذين يستنكرون الان اطلاق سراح القادة العسكريين ويقودون 
المظاهرات ضد اطلاق سراحهم وقد كانوا اعضاء في الحكومة الانتقالية ... السؤال هو : 

.. ماذا كان يحدث لو بدأوا اولا بمحاكمة القواد العسكريين وقد كان في قمة 
المطالب الشعبية . 


۲71۰ 


.. ماذا كان يحدث وبيدهم كل شيء وأضع تحت كل شيء هذه خطاً عریضا ؟ 

رب مجيب يقول ان هناك التزاماً او تعهداً او نصا في الميئاق يتعارض مع هذه 
الرغبة وهنا لا بد من سؤال اخر وهو: 

.. هل هذا الالتزام او العهد قد ضاع الان وجف مداده؟ 

تعدیلات كثيرة 


لقد عدلت الحكومة الاولى التي ترأسها السيد سر الختم الخليفة الدستور اكثر من مرة 
فلماذا مثلا وثلثا أعضائها ان لم تخني الذاكرة كانوا من العاطفين على الشيوعيين 
والشيوعيون انفسهم وهم یعنرضون مبدثيا على عدم محاكمة القادة العسكريين ۰ . لماذا لم 
يعدلوا فقرة العهد والیناق هذه ما داموا قد التزموا بها دون ايمان منهم ولاسباب 
يعلمونها وحدهم ناذا لم يستجيبوا لمفهوم الثورة التي طالبت بالفصاص ؟ 

هذا السؤال يحتاج إلى فهم اكثر دقة. 


قيد على القضاء: 


لقد ذهبت الحكومتان الانتقاليتان الاولى والثانية بعدما وضعتا قيدا ثقيلا على القضاء 
فهو لا يستطيع ان يحاكم القادة العسكريين لانه يلتزم بالدستور والقوانین» وف الدستور 
نص صريح والتزام وقعت عليه جميع الاحزاب بلا استثناء يجعل يد القضاء مغلولة 
عاجزة لذلك فان مفهوم القانون المجرد قد قضى باطلاق سراح القادة العسكريين بل 
واعاد اليهم حتى رسوم المحكمة واعتبر الفترة بين ٩‏ نوفمبر حتى اخر لحظات لهم في 
السجن غير قانونية لان حكومة الثورة الاولى تناست وهي تجيز الدستور انه سينطبق 
على جميع افراد الشعب السوداني بما فيهم قادة الانقلاب... بل واتضح ان مجلس 
الوزراء نفسه لم يكن يملك سلطة الحجز التحفظي عليهم وليس من المنطق بالطبع ان 
تستثنی القوانين وبعض المواطنين من المحاسبة » ولكن ذلك ايضا حدث في حكومة سر 
الختم ؟ 


ارتجال وتخبط 


.. کل شيء في الحكومة الانتقالية كان يسير بالتخبط والارتجال ولا ادري ان كان 
هذا التخبط كان ينفذ عن عمد ام عن جهل . 

المهم مهما يكن من سياسة الحكومة الانتقالية الاولى التي اولاها الشعب ثقته فقد 
تنكرت له وورطته وخلقت له كثيرا من المشاكل وعلى رأسها محاكمة القادة العسكريين . 

والان دعوني ان اختم هذا الحديث بتلخيص إلى السادة اعضاء الجمعية التأسيسية : 

«اولا »: لقد حدث انقلاب عسكري في ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ وكان ذلك خرقا صريحا 


51١ 


للدستور وقام هذا الانقلاب بمصادرة الحريات وتعطيل الصحف وكتم انفاس الشعب 
ولذلك فقد اصبح من الضروري ان يحاكم كل من ارتكب او ساعد على ارتكاب خرق 
الدستور حتى لا يكون خرقه في اي زمان سابقة تشجع الاخرین على اقترافها . 

.. اقول هذا دون ان انجرف وراء العاطفة او العلاقات الخاصة التي يجب الا يكون 
لها وضع ان كنا فعلا حريصين على تأمين مستقبل البلاد الديمقراطي . 

«ثانياً»: يجب ان يقدم للمحاكمة كل من تعاون مع الحكم العسكري من موظفين 
وسياسيين سواء كان ذلك بالمشاركة في مؤسسات الحكم البائد أم بالتأييد الظاهر لانه 
ليس من المعقول ان يبقى الحكم .. العسكري ستة اعوام دون ان يكون هناك من ساعد 
على تدعيمه ... اقول هذا ايضا دون ان استسلم إلى العاطفة . 

«ثالثاً»: يجب على السادة اعضاء الجمعية التأسيسية ان يعدلوا الدستور لكي يجيز 
محاكمة كل من يتأمر عليه حتى يتمكن القضاء من اداء واجبه دون ان يكون مقيدا او 
مغلولا . 

وفي هذه العجالة اردت فقط ان يستوضح الشعب والحاكمون معالم الطريق ثم بعد 
ذلك نبداً رحلتنا ونحن في مأمن من عاديات الزمن وغدر الايام . 

والان فان المنطق يقول بان التزام الاحزاب بعدم المحاكمة قد انتهى بانتهاء فترة 
الانتقال وحكومة الانتقال ونحن نواجه الان فترة جديدة من حياتنا نستظل فيها بقبة 
البرلان وبدستور نأمل ابدا الا يتمزق . 


تنازل الرئيس عبود 


انتقال سلطة رئاسة الدولة لمجلس الوزراء ... تعيين الخواص قائدا عاما 
تكوين مجلس دفاع للجيش برئاسة السر وعضوية مخجوب وزروق 
وكلمنت والخواص 


اذاع في منتصف نهار الامس الاحد ١5‏ نوفمبر ۱۹۹۶ الرئيس الفريق ابراهيم عبود 
تنازله عن سلطاته كرئيس للدولة وقائدا اعلى للقوات المسلحة وانتقلت سلطاته الى 
مجلس الوزراء مؤقتاً حتى يتم التشاور على مجلس سيادة وفق دستور ١507‏ . وهذا 
هو نص البيان التاريخي الكبير الهام .. 

مواطني الاعزاء .. 

احييكم اطيب تحية» واشيد بوحدتكم والتفافكم حول حكومتكم الشعبية الانتقالية . 
واحتراما لرغبتکم » وانتم مصدر السلطات في انتهاء الوضع العسكري بكافة صورة ؛ وبعد 
اقتناعي بأن هذه الحكومة القومية تمثل الرأي العام السوداني في كافة قطاعاتهء وانها 
تحرص حرصا اکیدا على صيانة استقلال البلادء وانها اهل للاضطلاع بالمسئوليات 
الخطيرة التاريخية الملقاة على عاتقها في تأمين سير البلاد باجراء انتخابات حرة نزيهة 
تنبثق عنها الجمعية التأسيسية التي ينتخبها الشعب انتخابا حرا لتضع الدستور الدائم 
للبلاد ونظرا لاقتناعي» ايضا بأنها حكومة يطمئن اليها الشعب وتثق فيها القوات 
السلحة ‏ وقوات الأمن الاخرى وترتضيها اجهزة الدولة المختلفة » وافراد الخدمة المدنية . 

.. ومهما اختلف الرأي بين الواطنین » فأرجو ان تثقوا انه كان رائدي خير هذه 
البلاد : وهدفي تحقيق مصلحتها العامة والحفاظ على استقلالها ووحدتها . ولقد كان كل 
ما قمت به طيلة هذه السنوات الست انما هو من وحي هذه الاهداف وبحسن نية» في 
محاولة جادة مخلصة لاصلاح الامور بالصورة التي حددتها ظروف تلك الفترة . 

مواطني الکرام/ 

اني اد استودعکم الله » ادعو لكم بالاستقرار والازدهار » واتمنی دوام وحدنکم » 
وادعو الله من قلبي”ان یشمل هذا البلد الامین برعایته وان بحقق امانیه في حياة حرة 
كريمة . 

والسلام علیکم ورحمة الله تعالی وبرکاته . 

© وکتب رئيس تحریر «الصحافه » في بابه اليومي العروف عزيزي القاریء بقول : 


۳۳ 


٩‏ اعلن الرئيس الفريق ابراهيم عبود يوم الاحد ۱۵ نوفمبر ١914‏ تنازله عن 
سلطاته كرأس للدولة ؛ وقائد أعلى للقوات المسلحة وانتقلت جميع سلطاته لحظة تنازله 
إلى مجلس الوزراء فحقق الشعب بذلك نهاية انتصارانه وبدا رحلة جديدة لتحقيق غاياته 
الاخرى وهي تتركز اساسا في تأييد الحكومة وتهيئة الجو الهادىء المستقر حتى تستطيع 
ان تؤدي مهمتها الكبيرة في مرحلتها القصيرة الخطيرة .. ان الشعب الذي بدأ ثورته 
ودفع من أجلها الدم والدموع والعرق والانين لجدير به الآن ان يتبصر آمره ؛ ویتحسس 
نفسه دون ان يترك مجالا ينساق فيه مع العواطف . او ينحرف عن جادة الطريق» او 
نغرقل عمل اتحكومة .ولق انى ذلك اله اذا انضرف كل هنا إل تاديةا عملة بالخلا 
يدفعه إلى مضاعفة الانتاج؛ واستتباب الامن » ومحاربة الشائعات واحترام الرأى وحرية 
التعبير والتصرف في ميادين الجدل ومعارك الانتخابات . 

ان الحكومة ستتجه منذ اليوم إلى تطهير الاجهزة الحساسة والاعداد للانتخابات حتى 
تتم في ميقاتها المحدود ولن يتسنى لها ذلك اذا مضينا في حصارها ومضايقتها بمشاكل 
جانبية هي أبعد ما تكون عن مصلحته الشعب والوطن . 

.. لقد اجتاز السشعب القوي بالامس اختبارات مريرة قاسية وهو اليوم يواجه 
اختبارات جديدة قاسية » تتعلق بالاخلاق » والتصرف والتعامل والاحنرام » واكرام الضيف 
وتبادل الثقة والامانة ونشر المحبة وجمع الصفوف .. 

..ان السشعب يحتاج اليوم ان يترجم شعارات الامس . ووحدة الامس . واخلاص 
الامس إلى حقائق ومعان تعيش في صفوفه وتحيا ابدا في قلبه ومشاعره . 

.. وتهنئه حارة لسعب اجتاز اختبارات اليوم وغدا وإلى الابد . 


© ادلی السيد الصادق المهدي رئيس حزب الامة بتصريح هام ل (الصحافة) يوم 
۵۷ يدعو إلى اعداد موائيق قومية للشمال والجنوب لتوحيد الصفوف 
الشعبية والحزبية والصحفية .. ونادى بضرورة التفكير في الجمهورية الرئاسية . 

.. قال السيد الصادق المهدي ان الشعب باحزابه وهيئاته اذا ارتضى هذه الوائیق فان 
تسلط الأحزاب سيضعف واختلافاتها ستصبح شكلية وسيتجه الشعب لانتخاب الرجل 
الصالح خاصة للجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور .. 

قال السيد الصادق ان اجماع الشعب السوداني بكل عناصره وفئاته في ثورة ۲۱ 
أكتوبر ينفي اسطورة التفرقة واستحالة الاجماع التي مزقت الشعب في الماضي القريب 
ولابد للاحزاب ان تغير مفاهيمها وتاتي بجديد يتمشى مع مفهوم الشعب الحالي . 

.. ومضى السيد الصادق يقول ان هذه الموائيق القومية لو اعدت بحيث تشمل 


531 


خطوطها العريضة على توحيد برنامج للسياسات الخارجية والاقتصادية والاجتماعية 
ووضع اسس سليمة تحفظ الديمقراطية وتوفر العدالة والمساواة وحرية التعبير والديانة 
والتصرف ‏ فان الاحزاب ستصبح ملغية شکلا لا معنى . 

.. واستطرد السید الصادق يقول ان هذه الوائیق یمکن ان تعدل کل خمسة اعوام 
حنی تتمشى مع التطور الجماهيري مما یجعل الناداة بنظام الجمهوريه الرئاسية منطفا 
سلیما يقوي الاتجاه القومي ویضعف في نفس الوقت النفوذ الحزبي بعد انضمامه تحت 
لواء الیناق مما یجعل الاحزاب كلها ملتزمة بنصوصه مجنمعة عليه فينصرف نشاطها إلى 
التنظیمات الداخلية والشكلية . 

ومضی السید الصادق یقول ان الشعب الواعي يجب ان يدرك اهمية الانتخابات 
وخطورة الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور ومن هنا كانت ضرورة انتخاب 
الصالحین والکفاءات امرا تحتمه الظروف . 

واختتم السید الصادق حدیثه بأن هذه الدعوة الدیمقراطية الصريحة ستحقق معاني 
الاشتراکیه على اساس تقدمي وتحول الصراع الحزبي إلى مشاكل سكلية تنظيمية بحنة . 

وتساءل السید الصادق بعد ذلك : 

«هل یمکن ان نبتدع هذا التخطیط السياسي على اثر الفهوم الجدید والتکتلات 
الشعبية التي حققت نورة ۲۱ اکتوبر ؟ ». 


اک خفیفه واخده بحت ان تواخه نها انفسا بضر احا وة اكه نها اخزاننا 
بصراحه اكثر وهي ان الجماهير الشعبية بمفهومها الثوري الحدیث تنتظر من الاحزاب 
ان تنزل الیها بمفاهیم جديدة نتناسب ومفهوم النورة لانها تعيش في تردد وشبه حيرة . 

.. ان الشعب السوداني یقف الان في مفترق الطریق فلا هو قادر ان يستعيد ثقته 
الاولى كلها في الاحزاب» ولا هو قادر ان يدير لها ظهره . والحقيقة التي لا تحتاج إلى 
دلیل هي ان السعب السوداني یقف الان في قمة عالية وهو بتطاول بعنقه ویحملق 
ببصره نحو فضاء لا نهائي ویتحسس باقدامه الواضع لیختار الطریق الذي يمشى عليه 
ولکنه مع ذلك يحس بالنقة والاطمثنان الى نفسه وإلى عزیمته واصراره وادراکه لما 
يجري حوله فهو لا يمكن بعد الیوم ان يتحرك في اتجاه سياسي يجهل دروبه .. ولا 
يمكن ان يستمع إلى شعارات والفاظ تعوق سيره ... ولا یمکن ان يستجيب إلى نداء 
يحس خطورته ... ولا يمكن ان يتبع سياسة يجهل خباياها وزواياها . 

۰ ان الاحزاب وبين رجالاتها من لهم تاريخ مشرف يجب ان تخرج اليوم من 


۳۵ 


جمودها حتی تزیل الحيرة من الافواه؛ والتعجب والتردد من العقول لتواجه الشعب 
بمفاهيم جديدة وبمنطق جديد وبسياسة جديدة واضحهة ‏ فالشعب الذي حقق ثورة ۲۱ 
اكتوبر لن يعبد بعد اليوم غير الافكار والاتجاهات فقد مضى الوقت الذي يتسلط فيه 
الافراد والهيئات على الوعي الجديد وعلى المفهوم الجديد .. 

.. ساعة كاملة قضيتها امس الاول مع السيد الصادق المهدي ونحن نناقش المفهوم 
الجديد للشعب السوداني وقد اعجبني حديثه وصراحته وايد لي ان الاحزاب لابد لها 
بعد الان ان تخرج من جمودها القديم لتساير الوضع الراهن ‏ وقال ان اجماع الشعب 
العظيم يوم ۲۱ اكتوبر يحطم الاسطورة القديمة التي عاشت فيها العقليات القديمة . 

..ان الدعوة التي وجهها السيد الصادق میثاق قومي خرج فيها بنفسه من المحيط 
الحزبي الضیق. إلى المحيط الجماهيري القومي وهي دعوة مواطن وزعيم فيها من 
الصراحة والوضوح ما يخولها المكان الاسمى من الاعتبار والتقدير والبحث ‏ فان استطاع 
زعماؤنا في الاحزاب والهيئات ان يرتفعوا الى مستوى الشعب ويفكروا بمفهوم الثورة . 
لذللت امامنا العقبات ولمضينا إلى الامام ونحن ندق ابواب المستقبل بنفس القوة ... 
وبنفس الاصرار الذي حققنا به ثورة ۲۱ اكتوبر الخالدة .. 

.. و«الصحافة » تفتح ابوابها لكل ذي رأي سليم وسلام على هذا الشعب الابي 
الكريم . 


متى تلحق الاحزاب بقطار السعب 


.. الاحزاب السودانية .. جميع الاحزاب ساهمت بزعمائها ورجالاتها ومؤيديها من 
الكتل الشعبية في تحقيق الاستقلال الشامل الكامل الذي اعلن في يناير ۱۹۵۰ .. 

.. كانت فترة ما قبل الاستقلال فترة عصيبة شهدت تقلبات الرياح من كل جهة 
وكان الصراع القائم انذاك بين فكرتين اساسيتين تختلفان في كل شيء ... المبدأ 
والمفهوم والاسلوب والمنطق والوسائل غير ان الفكرتين على اختلافهما قد التقتا تحت 
سقف البرلمان فاجمعتا اجماعا موحدا رائعا يوم ١‏ يناير ۱۹۵۲ ووقفنا بجانب 
الاستقلال . 

.. من هنا كانت النهاية لصراع فكري طویل عمیق ... وکانت البداية لحياة جديدة 
تختلف في الاساس والبداً .. وکانت البداية ایضا للصراع نحو الحکم فتجاذبته تیارات 
كثيرة منها الظاهر ومنها الستتر ... ليس هذا على کل حال مجال سرد للتاریخ الحزبي 
القدیم وانما هو استعراض لا نحن فيه وما نواجهه في الغد فکان لابد إلى الاشارة فقط 
لا سرد التاریخ والاحداث . 

.. ان الاحزاب السياسية تجمد نشاطها السافر طيلة الستة اعوام للحکم العسكري 


۳ ۱ 


ومر الشعب خلال السنوات بصنوف عديدة من المحن والتجارب ... وصنوف اخرى من 
الکبت الفكري والاجتماعي ... والوان شتی من الظلم والاضطهاد انتهت كلها إلى ثورة 
۱ اکتوبر . 

.. في فترة الاعوام الستة تغير تفكير الناس ... وتغير مفهوم الناس ... وتطورت 
عقول الناس وثارت مشاعر الناس وتعلم الشعب خلال الفترة التي بدأت من يوم ۱۷ 
نوقمبر ۱۹۵۸ حتى ۲۱ اكتوبر ۱۹۱۶ دروسا جديدة ادخلت على عقولهم مفاهيم 
جديدة ابعد ما تكون عن مفاهیم ما قبل ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ فبينما (تحنطت) العقول 
والمفاهيم وانحصرت انذاك في الجدل البيزنطي. والقطيعة السياسية » وانقلبت الان الى 
جدل ثوري وانطلاقة تحررية لابد ان يقابلها من الجوانب السياسية الاخرى منطق اكثر 
ثورية ان لم يكن في مستوى الثورة نفسها 

.. ان الاحزاب السياسية يجب ان تضع في موازينها ان الدروس التي تعلمها السعب 
خلال الاعوام الستة الماضية بالاضافة إلى الدروس التي تعلمها ابان ايام الثورة العشرة 
جعلته في وعي يتخطى عمره بمئات السنين والذي اهدف اليه من حديثي هذا لا يعني 
انني شخصياً لا أؤمن بوجود الاحزاب ولكنني اريد ان تتخطى الاحزاب مئات السنين 
في التفكير والبرامج حتى تدرك قطار الشعب .. ان وجود الاحزاب ضرورة يحتمها 
الوضع الديمقراطي الذي نعيش فيه وهي ضرورة تقتضيها المفاهيم السياسية والاجتماعيه 
في الحاضر والمستقبل لكنني في نفس الوقت احس بان هناك مبادىء حيرة في الصفوف 
الشعبية قد لا تصل إلى درجة التخوف مما جعلني انبه لمخاطر مجرد الحيرة حتى تعمل 
الاحزاب على ازالتها فمما لاشك فيه ان الاحزاب لم توفق في ماضيها البعيد إلى الدرجة 
التي يرتمي فيها المواطن الثوري اليوم في احضانها دون ان يتردد... ودون ان 
یتبصر .. ودون أن يتحسس نفسه ویتحسس طریقه . ۱ 

..ان وجود الاحزاب في بلد توحدت اهدافه القريبة والبعيدة أصبح شکلیا بالعنی 
العام ولکنه مع ذلك يستطيع ان يلعب دورا تنظیمیا قیادیا یعبیء فيه الشعب إلى تکتل 
ووحدة تنضوي تحت خطوط عريضة صريحة واضحة ومن هنا كان ضروريا ان تتفق 
الاحزاب فيما بينها على هذه الخطوط العريضة وتجمع على موائيق تحدد الاهداف 
بطريقة يطمئن عليها الشعب .. ويقبل عليها الشعب ... وحتى تصل الاحزاب إلى نوع 
من التقارب يتمشى ومفهوم الیوم» فان تردد الجماهير سيظل باقيا على الرغم من 
الحاولات التي تعمل لازالته من النفوس ؟ 


۳۷ 


۸ ۱ 
عزيزي الفاریء 
الناس والاحزاب والانتخابات والعناصر المأجورة 


.. المعركة الانتخابیة التي سنواجهها بعد قليل ستکون تاريخية فاصلة نقرر مصير 
البلاد إلى اجيال واجيال ... ستكون معركة حساسة يصطرع فيها الضمير والعقل والقلب 
واللسان لانها معركة تتجاذبها اطراف مختلفة تستمد بعضها قواها وافكارها وسياستها 
وحركاتها من الطابع السوداني ا محلي النظيف واطراف اخرى تستمد كل شيء حتى 
انفاسها من الخارج وعلى الرغم من الفارق الشاسع بين هذه الاطراف فان الصحافة 
السودانية الحرة عليها واجب ضخم هو التبصير ونشر الحفائق حتى لا يخدع مواطن 
سادج بالبريق المزيف الذي يستمد ايضا شرارته بعيدا من هذه البلاد ... بعيدا عن 
شعبها ... وواقعها بعیدا من ارضها وسمائها ! 

.. لقد ظل الجتمع السوداني بکل فانه وطبقاته يهتز اهتزازات خطيرة بعد ثورة 
۱ اكتوبر الخالدة التي صنعها بيده ودمه واعصابه .. اهتزازات اوشکت ان تعصف 
بمقوماته ومکاسبه نتيجة للفوضی وسياسة التغریر والاستغلال حنی وجد نفسه بين عسية 
وضحاها غریبا عن اللورة نفسها عن میدانها !! 

.. ومضت هذه الاهتزازات إلى درجة اصبح التمییز فیها بين الوطني والتخاذل ‏ 
وبين الخائن والحر ؛ وبين الطاهر والفاسد امرا صعبا فقد اصبح الفرق بين هذا وذاك 
شعرة لا تکاد تری مما جعل الاهتزازة تزداد وتزحف من الشارع إلى مکاتب الحکومة 
إلى طبقات العمال والزارعین وال كل میدان من میادین الحياة التفرقة . 

.. وظل الشعب في حيرة من امره ... ظل یقف فوق ربوة عالية وهو يطل برأسه 
إلى ما تحت اقدامه لیتبین حقيقة امره ولیری اي طریق ینزل اليه فیسلکه » ولم یستطع 
في وقفته تلك بعد ثورة اکتوبر ان يرى معالم الطریق فقد كانت الاحزاب كلها في سبات 
ونوم عمیق وکانت کلها في حاجة إل غربلة ضخمة تطهر صفوفها حتی تعید نقة الناس 
فيها فیمضوا إلى مواکبها ویمنحوها العطف والتاييد ... ولکن سیثا من هذا لم یحدث 
فطالت وقفة الناس على الربوة !! 

.. لم تعلن الجبهة القومية حتی لحظات ما بعد الثورة انها حزب سياسي ولکنها 
كانت جبهة قومية موحدة انضم الناس تحت لوائها ومنحوها العطف والثقة ولکن بعض 
الناس توقف قلیلا لیستجم ویرتاح نم یفکر !! 

.. وانقسمت الجيهة القومية وظلت جبهة الهیئات تعمل بمعزل عنها وسار معها 
بعض الناس لکنهم سرعان ما وققوا ایضا وبدأوا یفکرون عندما سطا الشیوعیون على 
مقاعد الامانة وبدأوا يسرقون انتصارات الجبهة الوطنية نفسها مما احدث انشقاقاً وصل 


۳۸ 


حد تقديم صوت الثقة بسبب تكوينها للجان الاقاليم وبسبب اختلافات كثيرة اخرى!! 

.. كل ذلك والناس في حيرة من امرهم يتطلعون من فوق الربوة العالية ليتبينوا 
معالم الطریق ! 

.. وخیمت على البلاد موجه عارمة من الارهاب والتهديد والخاوف ٠‏ ونزلت علیها 
عدید من الصائب اضطر معها الشعب ان ینزل إلى الشارع من ربوته العالية ليحمي 
مکاسبه وهنا فقط ادرکت الاحزاب الخطر وبدأت بأضعف الايمان . بدأت بسياسة 
الذکرات إلى ان اضطرت الحکومة مع ما تواجه من خطر ان تستعين بها ونتشاور مع 
زعمائها . 

.. حدث كل ذلك والايادي الاجنبية تعمل في الخفاء في شکل ظاهر وف شکل 
مستتر ومضت اشباحها تنخر في الصفوف عن طریق العملاء والأجورین الذین استطاعوا 
ان یوجهوا مخاوف الشعب إلى جانب واحد منه ... إلى العسکر الغربي وان یوهموا 
لسذج والبسطاء بأنه الخطر الوحید الذي يحدق بالبلاد . 

.. ونسي عملاء الشيوعية وقد عرفوا بالذکاء الحدود ان الدول الشیوعية التي 
یستمدون منها كل شيء لا تقل خطرا عن العسکر الغربي الذي ادناه واستنکرنا تدخله 
السافر هنا وفي الكنغو وفي كوبا وف فیتنام وفي کل مکان ... لقد استطاع الوکلاء 
الشیوعیون ان یوهموا هذا الشعب الطیب إلى الحد الذي یستعملون فيه عربات 
السفارات الشرقية في وضح النهار فیصفوا انفسهم بالرجولة والبطولة» او هكذا خیل 
اليهم ! ! 

.. زارني قبل ايام المستر نيكولاي بودز نياكوف مراسل تاس الجديد وسألني عن 
الوقف الحالي ... وعن الانتخابات وعن الاستعمار بمنظاره هو فذهل عندما اجبته 
بصراحة على غير ما ينتظر قلت له: 

ان ثورتنا يتربص بها الاستعمار الاجنبي من كل جانب لانها لا تعجبه ولم تأت 
حسب هواه . فطرب المستر نيكولاي قبل ان يستمع إلى بقية رأيي في المحاولات التي 
تجري لتعطيل الانتخابات . 

قلت له: 

ان الخطر الذي يواجه السودان وئورته من المعسكر الغربي لا يقل عن الخطر الذي 
تواجهه من المعسكر الشرقي «والسوفييتي بشکل خاص » لانه لم يكن هو ولا عملاؤه في 
السودان يحلمون بمثل هذه المقاعد في الحكومة القومية لذلك فان الاستعمار الروسي 
يحارب بكل قواه اجراء الانتخابات ويعمل ما استطاع إلى عرقلتها . هذا من ناحية اما 
الاستعمار الغربي فانه يحارب الوضع كله ولا ینق فيه وما زال یحاربه !! 

.. هذا ما قلته لمراسل تاس وهو يتابع حديني بدهسْهة اذ يبدو انه لم يجد من 
يستطيع ان يسمعه رأيا واضحا صریحا كرأيي .. هذا ما قلته له لأنه روسي وقد احجمت 
ان اقوله لوكلائه وعملائه ! ! 

۳ ٩ 


... تحركت الاحزاب بعد ما ادركت خطورة الموقف ونزلت إلى الميدان تزاول 
نشاطها في وضوح الشمس . 

.. كانت الايام الثلاثة الماضية هي ايام حزب الامة الذي عقد مؤتمره العام واعلن 
دستوره على الناس وبين خطوطه العريضة وقد كان للخطاب القوي الصريح الذي القاه 
السيد الصادق المهدي رئيس حزب الامة وقعا كبيرا في صفوف المؤيدين والمعارضين ... 
وصفوف الاصدقاء والاعداء والمشفقين والمخلصين على السواء لأنه كان خطابا قوميا 
اتسم بالمنطق والموضوعية فوق ان كل سطر فيه قد نبع من حقيقة هذا الشعب ومن 
واقعه وتراثه التليد . 

كان الخطاب جامعا وضح معالم الحكم وحدد مستقبل البلاد وسياستها الخارجية 
ونظامها الاقتصادي الذي نظمه في ثلاثة قطاعات: 

١‏ - قطاع عام وهو الذي تملكه وتديره او تشرف عليه او توجهه الدولة ویشتمل على 
منسات الخدمات العامة والصناعات التقيلة و ... والخ . 

۲ - قطاع تعاوني وهو المشروعات والنشات الزراعية والتجارية و ... الخ . 

۳ - قطاع خاص وهو یشمل المشروعات الزراعية في طور الانشاء والصناعات 
الخفيفة والتجارة الخارجية و ... الخ . 

تعمل هذه القطاعات الثلائة بموجب خطة واضحة تهدف إلى بناء الاسرة والمجتمع 
والبلاد من تعليم وصحة ومطالب مختلف الفئات لرفع المستوى العام . 

.. وجاء دور المزارعين فاعلن السيد عبدالرحمن نقد الله سكرتير عام حزب الامة في 
ثاني ايام المؤتمر بان نصيبهم سيرتفع إلى 7/۷۰ هذا في نفس الوقت الذي اعلن فيه بان 
حزب الامة لن يعتمد بعد الله في حملته الانتخابية الا على سواعد المواطنين وتبرعات 
الشعب . 

.. هنا تحدد موقف حزب الامة من جماهير الشعب السوداني في خطاب رئيسه وفي 
حديث سكرتيره العام ونفس الشعب ينتظر خطوة ممائلة من الاحزاب الاخرى ... ومن 
الاخوان المسلمين ومن السشیوعیین انفسهم ! 

..ان الدستور قد كفل للاحزاب ممارسة نشاطها في النهار ونحن نرحب بالحزب 
الشيوعي الذي ظل طيلة حياته يعتمد على الستر وعلى بطن الليل والنشورات في كفاحه 
السياسي لذلك فاننا ننتظر منه ايضا كما ننتظر من الاحزاب الاخرى ان تعلن برامجها 
للناس وان تعتمد في حملتها على الناس ... وعلى حكم الناس .. وعلى واقع الناس فان 
فعل الحزب الشيوعي ذلك وجاء غدا إلى الحكم وهذا ما استبعده زعماؤه انفسهم فانه 
سيكون شرعيا بمحض ارادة السشعب . 

مرة اخرى اكرر بان الفترة القادمة ستكون فترة فاصلة يتوقف عليها مستقبل البلاد 
من اقصاها إلى اقصاها ولذلك فان المواطن النزيه يجب الا يتأثر بغير ما يمليه عليه قلبه 


۳۷۰ 


وضميره وارادته والا يؤخذ بالبريق والكذب والتهديد والارهاب وحملات التضليل والخداع 
وان يتبين عدوه وصديقه ثم لا تأخذه بعد ذلك غفلة او تردد ف أن يناصر صديقه 
ويسحق عدوه بكل قوته وارادته وبلا تهاون ولا رحمة !! 

ان البلاد في حاجة إلى التطور والبناء ... وفي حاجة إلى رحلة طويلة ساقة تحقق فيها 
كل أمال هذه الامة وغاياتها وامانيها ولن تستطيع ان تفعل ذلك الا في جو يتوفر فيه 
الامن والاستقرار والاطمئنان والعدالة ولا يمكن لهذا الجو ان يتوفر الا على ايد نظيفة 
وطنية خالصة تؤمن بحق هذا البلد وتستوحي سياستها من واقعه وتاريخه ونرائه 
وتخشى عليه وتخاف الله فيه !! 

.. ان المواطن الحر عليه ان يعلم ان الحكومة الحاضرة التي ايدها وناصرها مهما 
طال بها البقاء فانها ستزول مع الانتخابات ونأمل ان تنجز اعمالها بنفس الامانة 
وبنفس الروح التي بدأت بها مهمتها الخطيرة حتى نستطيع ان نكرم اعضاءها بقدر ما 
قدموا لهذا البلد » وبقدر ما قدموا لسعبه يوم ياني الحساب . 

ليس امامي الان الا ان ادعو بالتوفيق والهدى للجميع وبالخير والسعادة لهذا الشعب 
وهذا الوطن الحبيب!! 


۳۷۱ 


© الفصل السادس عشر ¢ 


النوره والصحف العالميه 


© النيوزويك وعاصفة على النیل 

© هيكل يتساءل : ثم ماذا بعد في السودان ؟ ونحن نجیب ! 

© محمود السعدني یتحدث عن موقف الصحف المصرية 

والمرأة السودانية » ورقصة العروسة والکورة ! 

© ماذا قلت لعبد الناصر امام امير الکویت والرئیس العراقي ؟ 





YT 


النورة ۰ وصحافة العالم 


.. صحافة العالم كانت تعيش بعیدا عن الاحداث .. قالت ان الثورة- يسارية كانت 
تهتف ضد الاستعمار الامريكي ... وقالت ... وقالت ... وقالت ...؟ 

النيويورك تایمز - امريكية ‏ مستقلة بتاریخ ۰۶/۱۰/۲۹ في الصفحه الاولی : 

هدد اللواء حسن بشیر نصر نائب القائد العام في الجیش السوداني بان القوات 
الوالية له ستقوم بتدمیر الخرطوم تدمیرا كاملا في حالة صدور اي امر بعزله من منصبه . 
قالت الجريدة انها استقت هذه العلومات من مصادر مصرية وان الحركة التي قام بها 
ما یسمونهم بالضباط الاحرار كانت نتيجة مباشرة لصدور هذا الانذار من اللواء حسن 

وکتبت جريدة النيويورك هرالد تربیون قبل یومین من هذا التاریخ ان الشعب 
السوداني انما ثار احتجاجا على الاجراءات التعسفية التي اتخذتها حکومة الجنرال عبود 
ضد انصار الانفصال من ابناء جنوب السودان الذين هم في الحقيقة زنوج مسیحیون لا 
يرضون بحکم الشمالیین العرب الذين یعملون على نشر الدین الاسلامي في جنوب 
السودان . 

وتناقض الجريدة الحترمة نفسها اذ تمضي فتقول ان الثوار کانوا برددون هتافات 
معادية لامریکا وینادون بادانة الاستعمار الامريكي . وخلصت الجريدة إلى القول بانها 
علمت من الصادر الدبلوماسية الامريكية في الخرطوم ان احدی الفثات الشعبية المشتركة 
في التظاهر تقع تحت النفوذ الشيوعي او هي على الاصح شیوعية خالصة . 
© النيويورك تايمز : 

ورجعت النیویورك تایمز في عددها بتاریخ ۳۰ آکتوبر لتلحس قراراتها السابقة 
وتقول انها علمت من الدوائر البريطانية في الخرطوم ان الثورة موجهة ضد آلحکم 
العسكري ولیس للخلافات التاريخية القائمة بين جنوب السودان وشماله دخل فيها 
وتضیف ان عدم الرضا الذي عم البلاد لم يكن موجها لشخص الرئیس عبود ذاته . 


۳۷6۵ 


© جريدة التايمز : 

اما جريدة التايمز اللندنية فقد كتبت في عددها الصادر في السابع والعشرين من 
اكتوبر بان ثمانين طالبا سودانيا في بيروت قد توجهوا نحو سفارة السودان فحطموا 
صورة الرئيس ابراهيم عبود وتقدموا بمذكرة احتجاج دعوا فيها لانهاء حكم الظلم 
والارهاب كما انهم لبسوا الاسود حدادا على الموتى . 

وقد ذكر القائم بالاعمال السوداني السيد مصطفى مدني لمراسل التايمز انه عرف من 
خبرته الطويلة انه لا جدوى من اعتراض سبيل الطلاب متى اقدموا على مثل تلك 
الخطوة . 

وختمت التايمز حديثها بان الامبراطور هيلاسلاسي الذي كان ينوي زيارة السودان 
ليقوم بدور الوسيط بين الجيش والسّعب قد اجل زيارته لفرصة اخرى . 


© وزير الخارجية يتحدث للاخبار القاهریه : 


جاء في تصريح للسيد محمد احمد محجوب وزير الخارجية ادلى به تلفونيا لمندوب 
صحيفة الاخبار القاهرية بان الحكومة الانتقالية قد حددت سياستها الخارجية المتمثلة في 
الالتزام والعمل على تدعيم التعاون التام الشامل في المحيط الافريقي ومناهضة الاستعمار 
في الم بق التي ما زال الاستعمار مسيطرا عليها بجانب العمل على دعم سياسة عدم 
الانحياز في النطاق الدولي وتدعيم المواثيق والمقررات التي اتخذت في مؤتمر عدم 
الانحياز ومؤتمر القمة الافريقي ومؤتمر القمة العربي . 


© مدير الاسوسیندیرس يتحدث عن فرحة السعب بانتصارة : 


عم الابتهاج سُعب السودان لنهاية الحكم الذي استمر ست سنوات وسارت الجماهير 
في الشوارع والبسمات تعلو الشفاه غير مهتمة بشظايا الزجاج التناثر تحت اقدامها او 
آثار الحرائق في الأندية الليلية » تلك الاثار التي خلفتها ثورة الايام العشرة التي اسفرت 
عن "١‏ قتيلا ومائتي جريح .. 

هكذا بدأ المستر جورج ماك ارثر مدير وكالة الاسوشيتدبرس الامريكية للانباء مقاله 
الذي نشرته له جريدة الاخبار القاهرية ويعد ما كتبه المستر جورج ماك ارثر اول تحقيق 
صحفي يخرج من العاصمة السودانية يوضح الظروف التي مرت بالبلاد منذ انطلاق اول 
رصاصة بحرم جامعة الخرطوم مساء الاربعاء ۲۱ اكتوبر حتى خاطب السيد سر الختم 
الخليفة رئيس وزراء الحكومة الانتقالية جماهير الشعب من راديو امدرمان معلنا نهاية 
الحكم العسكري . 


©اول تقرير صحفي من داخل السودان : 


جاء في جريدة الاهرام المصرية الصادرة بتاريخ ۱ نوفمبر ۱۹۱۶ وتحت عنوان «اول 
تقرير صحفي من داخل السودان » مايلي : 

السودان بدأ يسترد منذ صباح امس مظاهر الحياة التي فقدها خلال عشرة ايام 
عاشها في اضطراب تام ومظاهرات عنيفة وصدامات دامية سقط ضحيتها ما لا يقل عن 
۰ قتيلا و١٠٠‏ جريح وكانت اول مظاهر النشاط السياسي قيام رأس الدولة ورئيس 
الوزراء واعضاء وزارته باداء القسم الذي كانت صيغته «اقسم بالله العظيم ان اناصر 
بكل ما في وسعي دستور السودان الصادر سنة ۱۹١١‏ حسب التعديلات المتفق عليها 
بين مندوبي القوات المسلحة وممثلي الجبهة القومية الموحدة وان اؤدي واجبي بامانة دون 
خشيه او محاباة » . 

وقد شرح رئيس الوزراء الجدید سیاسته من خلال الاذاعة وقال ان الحكومة بدأت 
القيام بمسئولیتها واتخذت الاجراءات التي تکفل نقل السلطة إلى اجهزة الدولة الدنية 
وتحدث عن السياسة الخارجية قائلا ان هذه السياسة تترکز في مناهضة الاحلاف 
العسكرية وجمیع صور الاستعمار ودعم سياسة عدم الانحیاز ودعم التعاون في الحیط 
العربي وخاصة مناهضة الاستعمار في الجنوب العربي ودعم التعاون في الحیط 
الافريقي . 
© الديوزويك 

قالت مجلة النيوزويك الامریکیة في عددها بتاریخ ٩۱‏ نوقمبر » في تحلیل لانتفاضة 
الشعب السوداني - قالت ما معناه: ان الحکومة العسكرية في محاولتها لحل مشكلة 
الجنوب قد فتحت الجال للمواطنین لتقدیم اقتراحاتهم لحل هذه المشكلة» ولکن 
«المثقفين في الخرطوم » قد استغلوا هذا التسامح استغلالا سيئا ووجدوا نغرة بهاجمون. 
منها الحکومة العسکرية . 

وقبل اسبوعین ارسلت الحکومة رجال البولیس لتفریق ندوة اقامها الطلاب في 
الجامعة ! ولکن بعد فوات الاوان! فقد تغلب الطلاب على البولیس وتدفقوا في الطرقات 
یخربون التاجر ! ویحطمون العربات! وفي اصرار مقصود اسعلوا النار في مکتب 
الاستعلامات الامريكي ! وعندما فشل البولیس في قمع الظاهرات تجمع السیاسیون من 
کل الاتجاهات وکونوا الجبهة القومية التحدة . 

وبعد ان نفذ الاضراب العام » طلب الرجل الثاني في الحكومة السابقة ان یسمح 
للجیش باسکات الطلاب ! ولکن عندما كان ذلك الرجل يتكلم كانت الدبابات التي تحمل 
الضباط الوالین للجبهة القومية تحیط بالقصر الجمهوري وعندما تأزم الوقف اعلن 
الرئیس عبود حل الحكومة وتسلم زمام السلطة ! 


VY 


ولكن هذا القرار لم يرض قادة الجبهة الديمقراطية ولذلك استمر الاضراب وقامت 
مظاهرات جديدة ! ونتيجة لاتفاقية بين الجيش والجبهة اعلن بقاء الرئيس في منصبه 
ولكن (بسلطات محدودة جدا!) وقامت حكومة انتقالية مئلت فيها جميع الاتجاهات 
من المسلمين في اقصى اليمين الى الشيوعيين في اقصى اليسار ! 

وعلى رأس الحكومة رجل غامض يدعى سر الحم الخليفة . 

وقد اعلن ان الانتخابات ستتم في غضون خمسة أشهر . 

واختتم الكاتب مقاله قائلا : 

ان المراقبين الذين يعرفون حقيقة الجیش السوداني وانجاهاته السياسية يستبعدون 
قيام تلك الانتخابات ! ؟ 

كان هذا ما اوردته مجلة امريكية ذائعة الصيت يقرأها الملايين في جميع انحاء العالم ! 

وفي اعتقادي انها شوهت الحقائق بطريقة فاضحة : 

أولا: لم تكن مشكلة الجنوب قد شغلت المثقفين في الخرطوم فحسب وانما كانت 
الشغل الشاغل للمواطنين في جميع انحاء السودان: كانوا يتحدثون في همس في 
المقاهي .وني الطرقات » وفي البیوت! وكانوا یشعرون بان في الجنوب حربا تدورء وكانوا 
يستنكرون ان يقتل السوداني اخام وفي الخرطوم تطور هذا الهمس إلى ندوات علنية 
كان المشتركون فيها يحاولون ايجاد حل منطقي وعادل لمشكلة الجنوب ! 

انیا : وكبقية المواطنين فقد ادلی الطلاب في جامعة الخرطوم بدلوهم ونظموا ندوات 
كانت آخرها تلك الندوة التي اشارت الیها (النيوزويك) وقالت ان الطلاب الغاضبین قد 
تغلبوا على البولیس وتدفقوا في الطرقات یخربون ویعبئون فسادا خاصة في (مکتب 
الاستعلامات الامريكي ! ) کلام ملفق !! فاننا لم نتغلب على البولیس ولیس التخریب في 
شرعتنا ! وانما للبناء والتعمیر کرسنا شبابنا! واعمارنا! لم نخرب! بل حملنا شهداعنا 
وجرحانا إلى المستشفى وسهرنا معهم الليالي بين الاهات والدموع ! 

ألم يكن الکاتب على علم بشهدائنا في الجامعة ؟ ألم یعلم ان ارواحهم الطاهرة وارواح 
اخوانهم الشهداء خارج الجامعة هي التي غيرت مجری التاریخ في السودان ؟ ؟ الم يعلم 
ان الطلاب الغاضبین قد حیل بینهم وبين اسعاف جرحاهم؟ لاذا یحاول الکاتب ان 
یظهر تصرف الحکومة السابقة بالبراءة؟ وفي نفس الوقت یحاول ان یظهر للعالم 
الطلاب بمظهر التخریب ؟ وخاصة في ممتلکات امریکا في السودان ؟ فلیعلم الکاتب ان 
الامور لم نکن قد اسنعصت على رجال الامن ولم تخرج من قبضتهم - ولکن لقد كانت 
ارادة الشعب فوق الرصاص وفوق القوة ؟ ؟ 

ثالثا: اورد الکاتب ان الرجل رقم (۲) في الحکومة السابقة كان یطالب بالسماح 
للجیش باسکات الطلاب ؟ ولکن في ذلك الوقت كانت قوات من الجیش موالية للجبهة 
القومية تحیط بالقصر وعندئذ اعلن حل الحكومة السابقة! متی كان ذلك واين ؟ ۴ 


۳۷۸ 


وبماذا يفسر الكاتب «مجزرة القصر » التي استشهد فيها الكثيرون من ابناء الشعب 
انعزل ؟ هل هذه فعلة يمكن أن تقوم بها قوات من الجيش ولاؤها للجبهة ؟ 

رابعا : وتكلم الكاتب عن تكوين حكومة انتقالية على رأسها رجل غامض اين هذا 
الغموض ؟ ؟ الا يدري الكاتب ان هذه الحكومة منذ لحظة تكوينها لم يجد الغموض اليها 
سبيلا ؟ ؟ وقد كانت قراراتها واضحة للملا وقد نصب الشعب نفسه رقيبا عليها .. 

خامسا : وقد اشارت «النيوزويك» في ختام عرضها المزيف «للعاصفة التي اجتاحت 
النيل»: اشارت الى الانتخابات المرتقبة وإلى المراقبين الذين يعرفون حقيقة جيشنا 
واتجاهاته السياسية ولذلك يستبعدون قيام هذه الانتخابات ! 

حديث في غاية الخطورة ؟ ؟ 

ومعانيه عميقة ويجب ان نعتبرها بعين الحذر ... من هم هؤلاء المراقبون؟ وكيف 
تعمقوا في دراسة جیشنا الباسل وعرفوا اتجاهاته السياسية ؟ ! 

فان كان هؤلاء المراقبون من ضعفاء النفوس في شعبنا فليأخذوا حذرهم ؟ فالشعب 
لن يرحم؟ وان كانوا ليسوا بسودانيين فكيف سمح لهم رجال جيشنا بالاندساس 
واللجسس بين صفوفهم حتى درسوا جيشسنا ؟ 

وليعلم هؤلاء واؤلئك ان شعبنا الاعزل الذي حمل اغصان السلام وعرض نفسه 
للرصاص لن تثنيه القوة مرة اخری! وليعلموا ايضا ان دماء الشهداء دائما وابدا تنادينا 
ان نقدم ارواحنا قربانا لحياة حرة ديمقراطية كريمة! لا ديكتاتورية عسكرية تكتم 
انفاسنا ! وقد صمم الشعب ان لن تضيع دماء شهدائه وارواحهم سدى .. 

وارجو ايضا ان یشمل التحقيق في مختلف الوزارات البحث عن هؤلاء المراقبين الذين 
يقض مضاجعهم نيل شعبنا حقه في حياة حرة كريمة ! ! 


۳۷ ۹ 


ثم ماذا بعد في السودان ؟ 


.. والسودان مازال في غمرة افراحه بعد معاناة شديدة ومعارك اشد خرج علينا 
الاستاذ محمد حسنين هيكل في صحيفة «الاهرام » بموضوع اثار الكثيرين ... دعونا معا 
نطالع ما كتبه يوم ۱۹۱۶/۱۱/۸ : 

لا اعرف متى استطيع ان اكتب مقالا دون ان امهد له مقدمة! دائما مع كل بدایه 
لابد عندي من وقفة قبل الموضوع . 

وانا اريد ان اتخلص من هذه العادة التي تبدو لي كلازمة عصبية » ومع ذلك فلو 
استطعت ان استغني عنها في تناول اي موضوع فما اظنني اقدر على ذلك في حديث 
عن السودان وعن التحركات التي كان ميدانا لها في الاسبوعين الاخیرین » وعن معنى 
هذه التحركات ومقاصدها . 

وفي مقدمة للموضوع - لا مفر منها - اريد ان اقول ما يلي : 

«ان موضوع السودان احاطت به . ولا تزال » من وجهه النظر المصرية شحنه من 
الانفعالات العاطفية التشابكة والعقدة ولقد أن الأوان لكي تتبدد هذه الشحنة 
رواسا الاك وان ری غلل العلافات: ن الاين شمش جدیده يغير ضبات: من 
رواسب الاضي وبقایاه ». 

ولقد كان هناك دائما .. في السنوات الاخيرة تحرج في التعرض لاحداث السودان .. 

كان موضوع السودان قد مر بأدوار مختلفة ومتناقضة : 

في مطلع الوعي السياسي لجیلنا » هذا الجیل في مصر . كان الحدیث دائما عن 
اسطورة - او .خراقة - السيادة الصریه على السودان ‏ یمنلها ویرمز لها التاج الملكي 
المصري ! 

ثم تطور الحديث إلى وحدة وادي النيل في الظروف التي تلت الحرب الكبرى الثانية 
والتي كانت فيها الثورة الوطنية العالمية من اجل الاستقلال تدق ابواب القارات بمطارق 
الفولاذ . 

وحيث استقل السودان في جو مليء بالناورات السياسية . وكان اعلان الاستقلال 
بواسطة الذين عاشوا حياتهم على شعار وحدة وادي النيل بدا كما لو ان الشعب الصري 
تلقى في ظهره خنجرا. 

وبدا كما لو كان الهرب وحده هو الطريق المفتوح . 

ولسنوات ظهر وكأن مصر لا تريد ان تتحدث في موضوع السودان ولا ان تسمع 
حديثا عنه مع كل امانيها الطيبة لاشقاء الجنوب . 


۳۸۰ 


ولقد كانت تلك كلها مواقف. وردود فعل عاطفية » نسيت الواقع وتاهت في 
التصورات . 

ولست اريد ان ادعي لنفسي ما ليس حقا لي» ولكنني اسّعر بايمان ‏ ولقد اكون 
مخطئاً - بانني واحد من الذين يستطيعون الكلام في موضوع السودان بغير تحرج . 

لقد كنت منذ اول علاقة مباشرة لي بالسودان - في الاربعينات - من انصار استقلال 
السودان في وقت كان فيه الحديث - في القاهرة - عن استقلال السودان سُبه جريمة 
وطنية » ولم اکن في ذلك انفصاليا ولكنني كنت اعتبر ان استقلال السودان. وليس 
سيادة مصر على السودان. هو المنطلق الصحيح للوحدة خصوصا بعد كل الشباك 
والفخاخ التي احكم الاستعمار البريطاني اعدادها ونصبها في الجنوب . 

ان مصر في عصور الضعف كانت قد تخاذلت عن طريق المقاومة الصلبة » ولجأت إلى 
اسلوب المساومة والتراضي مع الستعمر وكان من المستحيل ان يحدث ذلك بغير 
تائيرات على السودان وهكذا راحت عناصر كثيرة فيه ومؤثرة تبحث المصير مع من 
يملك المصير فعلا لا قولا ... وواقعا لا ادعاء . 

واذكر يوما في الخرطوم كنت اتحدث فيه مع السيد عبدالرحمن الهدي يرحمه الله 
وكان مما قال لي وقتها وبقي في ذاكرتي إلى اليوم : 

- لاذا يغضبون في مصر لاننا نتحدث مع الانجليز في امر مصيرنا ... اليسوا هم ايضا 
یتحدئون مع الانجليز في مصيرهم ومصيرنا ؟ 

واستطرد السيد عبدالرحمن المهدي یقول : 

- ومع ذلك اريد ان اسألك .. كيف جاءنا السيد الانجليزي هنا في الخرطوم ؟ ومضى 
يرد على سؤاله : 

- لقد جاءنا راكبا عربة مصرية تجرها جياد مصرية ... ومع من كنت تريدنا ان 
نتكلم ؟ مع العربة ؟ او مع الجياد التي تجرها ؟ او مع السيد راكب العربة ؟ 

واعترف انني - یومها - احسست بالحرج يغوص في كبريائي ولكن انكار الحقيقة 
لم يكن يجدي . فلقد كان ما قاله المهدي تصويرا صحيحا لعملية اعادة فتح السودان 
تحت قيادة ١كتسنر‏ »! 

ولقد تلقیت اتهامات كثيرة عندما كتبت في ذلك الوقت - وكررت بعده في كل 
وقت - تأييدي لاستقلال السودان ! 

واتهمت بالانفصالية ولم يكن ذلك موقفي ٠‏ بل كان موقفى : «ان الوحدة باعتبارها 
اراک اضرا قررنها :ولا وديا" اله لقاال ا راد الخريةة: 

ومن یومها إلى الان عبرت من تحت جسور النیل میاه كثيرة رمت إلى البحر بطمي 

ولیس معنی ذلك اني ارید الیوم ان اطرح موضوع وحدة وادي النیل . 


۲۸۱ 


لا هو وقته الان ولا هي مناسبته . 

شيء واحد اريد ان اطرحه الان هو انه قد جاء الوقت لكي نتوقف عن الاستمرار في 
طريق الهرب من كل ما يجري في السودان . 

فات الوقت الذي كنا نستطيع فيه ان ندير عيوننا عما يجري في الجنوب ونتظاهر 
بانه لا يعنينا او اننا لا نهتم به . 

هو موضوعنا ايضا من غير حساسية او تحرج .. من غير اقحام او تطفل . 

وهو قدرنا الذي لا نستطيع ان نفر منه حتى بغير رباط سياسي خاص أو دستوري 
يجمع الشمال على الجنوب . 

ان الحياة نفسها في استمرارها الذي لا ينقطع من الازل إلى الابد رباط قبل اي 
رباط »! 

هذه هي المقدمة قلتها ‏ وکان يجب ان اقولها - تمهيدا لحديئي عن السودان 
والتحركات التي كان ميدانا لها في الاسبوعين الاخيرين ومعنى هذه التحركات 
ومقاصدها . 

واول شيء يخطر على با الیوم » وانظاري كلها على السودان » هو ان القصة فيه لم 
تبلغ ختامها بعد وان الرواية ‏ كما يقولونها - لم تتم فصولها . 

والصورة كما اراها في الخرطوم هي ان انتصارا شعبیا هائلا قد تحقق ولكن هذا 
الانتصار ليس حاسما وانما هو معلق بتوازن دقيق وخطير في نفس الوقت ۰اذا ؟ 

نحدد اولا ما حدث في الخرطوم على حقيقته . 

ملخصه بدقة كما يلى : 

لقد حدث صدام 5 الجماهير السودانية .. وبين المجلس الاعلى للقوات المسلحة الذي 
كان يحكم السودان وكانت النتيجة في صالح الجماهیر .. حتى الان ان الجماهير 
السودانية حققت مطالبها الاولية ولكنها حتى الان لم تفرض سلطتها قوق كل سلطة 
غیرها . 

ان الجلس الاعلی للقوات السلحة والجزء الذي يقف معه من الجیش السوداني - 
تردد عند لحظة الصدام الحاسمة وآثر ان یبتعد بغیر ان یدخل الامتحان النهائي » ربما 
لیحنفظ بقواه إلى فرصة مواتية .. اقول ریما .. 

لقد حدث في السودان شيء بستوقف النظر : 

«فجأة وفي لحظة نفسية مواتية » استطاع الشارع السوداني بجماهیره ان یحقق 
وحدته » وی نفس اللحظة بسبب صراع السلطة كان الجیش السوداني بغیر وحدة تواجه 
وحدة الشارع وتقمعها بمزید من الارهاب اذا اقتضی الامر . 

ولقد تحققت وحدة الشارع السوداني تحت ضغوط نقسیه قوية » وبغیر فیادة تتوى 
التنظیم الدقیق وکان حظها السعید ان ذلك حدث في ظروف انقسام السلطة السلحة . 


YAY 


ولم تستطع السلطة المسلحة - بانقسامها -ان تضرب . 

وتقدم الشارع مندفعا ليملا الفراغ الذي احدثه الشلل الذي اصاب السلطة العسكرية 
وقید حركنها واحدث التغيير الكبير الذي حدث في السودان . 

والسؤال الهام الان : 

- ولكن إلى متی ؟ 

والرد عليه يرتبط بسؤالين آخرين : 

(۱) هل يستطيع الشارع السوداني ان يحتفظ بوحدته التلقائية التي وقعت في لحظة 
نفسيه مواتیه وبغير قيادة تتولى التنظيم الدفیق ؟ 

وبصيغة ادق هل يمكن استفادة مما حدث ان تقوم قيادة سعبية سودانية تحول هذه 
التلقائية الشعبية السودانية إلى قوة مستمرة ومنظمة تحميها وتحرص عليها عناصر ثورية 
من الجیش السوداني ؟ 

(۲) هل یبقی هذا الانقسام في السلطة العسكرية . هذا الانقسام الذي فاجأتها اثناءه 
الجماهیر في لحظه غير مناسبة ‏ ولم تستطع ان نستجمع فواها لتضربها فجمعت حطام 
حکمها ونوارت عن الانظار نلعق جراح خیلائها الضروبة وتنتظر ؟ 

وبصيغة ادق هل يستطيع الجلس الاعلی السابق للقوات السلحة او عناصر منه او 
عناصر غير قريبة منه او قريبة من فکره ان یجمع صفوف القوة العسکریه اسنعدادا 
لانفضاض جدید ؟ 

ان الاجابة على هذه الاسئلة عويصة ومحاولة العثور علیها اشبه بالسباحة ضد اندفاع 
الفیضان وقت ارتفاع مناسیب النیل . 

عند تدفق الحوادث دائما ... یکون اصعب شيء هو محاوله الوصول إلى النابع ! ! 


نجرب مهما كان ذلك صعبا .. بلوغ النابع او على الاقل الوصول إلى حيث نستطيع 
ان نراها ولو من بعید ؟ 

ان التغییر الذي وقع في الخرطوم فجر یوم ۱۷ نوفمبر ۱۹۰۸ والذي سقطت به 
حکومه السید عبدالله خلیل وقامت به سلطة الجلس الاعلی للقوات السلحه السودانیه لم 
يكن تورة .. وانما كان انقلابا . 

ولقد لمحت إلى ذلك اکثر من مرة فیما کتبت في معرض التفریق بين الثورة 
والانقلاب . 


ان دور الجیش ‏ کجیش ان يحفظ الامر الواقع ویحمیه لانه اداة القوة في يد الطبقة 
الاحتماعية السيطر عل الدولة والحاكمة بها : 

الجيش » کجیش ‏ رمز للنظام وهو اداة الاجبار عليه حتى وان لم يستعمل ضد اي 
تحد تواجهه الدولة في الخارج او في الداخل . 


YAY 


وفي تجارب من الذخيرة الفنية لحركة الثورة الوطنية العالمية . حدث ان قامت الثورة 
او بدأت داخل الجيش او حدث ان شاركت فيها عناصر من داخل الجيش . 

لكن ذلك شيء ... وان يقوم جيش باکمله ۰ اي جيش وبقياداته الطبيعية التسلسلة - 
بالثورة ...شي آخر .. 

ما الذي حدث في مصر مثلا لكي ندرس نموذجا على الواقع ؟ 

في ۲۳ يوليو سنة ۱۹۵۲ لم يتقدم الجيش كله ابتداء ليكون اداة الثورة . وانما في تلك 

الليلة حدث انقلابان مهد احدهما للاخر . 

الانقلاب الاول: ان مجموعة من شباب الجيش » تمثل فكرا اجتماعيا ثوريا قامت 
بانقلاب في الجيش واستولت عليه واسقطت قیادته التقليدية التي هي بالطبيعة صنيعة 
الطبقة المسيطرة على الدولة . 

الانقلاب الثاني : ان القيادة الثورية الجديدة التي قامت بالانقلاب التمهيدي في الجيش 
قادته باكمله في انقلاب جدید - في نفس الليلة - ضد الدولة القائمة في ذلك الوقت 
والطبقة الاجتماعية المسيطرة عليها . 

انقلابان في نفس الليلة . 

عند منتصف الليل انقلاب للاستيلاء على سلطة الجيش ... سلطة الاجبار في الدولة . 

عند الفجر انقلاب للاستيلاء على سلطة الدولة ... اداة الطبقة الاجتماعية المسيطرة . 

ولو كان الفريق محمد حيدر مثلا - يرحمه الله هو الذي احدث التغيير صباح يوم 
۳ يوليو ۱۹۵۲ لكان ذلك امرا اخر ! 

لکن ذلك لم یحدث ؟ 

ایکا ها یخلت عله مایا 

ما حدث كان تغیبرا مشبعا بالاحتمالات الثورية لانه كان تعبیرا عن تحرك طبقة 
اخری غير الطبقة الحاکمة خرجت من تحت هرم الطبقات الراسخ واحدنت بخروجها 
من القاعدة تصدعاً في بنیان الهرم الاجتماعي كله . 

تصدعا یمهد للتغییر الواسع لو توفرت له الارادة النوریه القادرة . 

یخنلف ذلك کل الاختلاف عن تغيير عند قمة الهرم يلون طرفها بلون اخر لکنه لا 
يقدم امکانیه لاعادة البناء من جدید . 

يضاف إلى ذلك شيء هام هو من اي طلائع تخرج من الجیش - اي جيش في 
العالم - لتشارك في ثورة شعبیه يتعين علیها ان تواصل دورها من مواقع الثورة السُعبية 
ولیس من تکنات الجیش ومواقعه . 

والا فانها تعاني ردة تعود بها إلى مجرد وضع الانقلاب حتی وان كانت لها بداية 
الامکانیه الثورية . ومثل هذا حدث في العراق لثورة سنة ۱۹۵۸ . 

ذلك الوقت في العراق تحرکت عناصر من الجیش العراقي اقرب إلى القاعدة منها 


YA 


إلى القمة » واستولت على الجيش وخرجت به لاسقاط النظام القديم كله بامل اقامة نظام 
جديد . 

لكن عبد الكريم قاسم بجنون السلطة المجرد عن اي هدف اجتماعي قبع في وزارة 
الدفاع يحكم بالقوة المسلحة . 

وهكذا فان ثورة ۱۶ يوليو التي بدأت كمشاركة في ثورة شعبية تراجعت الى الوراء 
لتمسخ نفسها ردة إلى سكل الانقلاب العسكري متخلية عن كل الجموع التي وقفت 
وسطها في شوارع بغداد متنكرة لهذه الجموع مهددة لها . 

واذن فهناك ظاهرتان للتأكد من سلامة اي مشاركة في الثورة الشعبية من جانب 
عناصر عسكرية . 

الظاهرة الاولى: انه لا يمكن ان يكون التغيير من القمة ... ضد الطبيعة ذلك من 
الستحیل حدوثه ...والا فهو انقلاب . 

الظاهرة الثانية : ان اية عناصر من الجیش تخرج للنورة لابد ان نمارس عملها مع 
الجموع الشعبية وان تذوب في حياة مدنية اکبر منها واوسع .. والا فهي ترند إلى مواقع 
الانقلاب . 

ماذا حدث في السودان یوم ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ ؟ 

کل ما حدث كان ضد الظاهرتین الاساسیتین لاية امكانية ثورية . 

١‏ كان التغيير من قيادة الجيش التقليدية ... واذن فهو انقلاب ف حدود نفس 
الطبقة الاجتماعية المسيطرة على سلطة الدولة . 

۲ - بقيت هذه القيادة التقليدية في مواقعها في الجيش باسم المجلس الاعلى للقوات 
المسلحة واذن فهو تأكيد آخر لمعنى الانقلاب على القمة لا يلمس القواعد العريضة 
للجماهير بتغيير ... بل ولا يلمس هذه الجماهير بصلة ... وانما يبقى دائما منفصلا 

وی يوم ۱۷ نوفمبر ۱۹۵۸ نفسه لم تكن الحقيقة في حاجة الى قياس بالظواهر 
يحدد هويتها الصحيحة وانما كانت هناك ملابسات تثير السّكوك حتى من قبل قياس 
الظواهر » وكان هناك من يقول صراحة ان السيد عبدالله خليل سلم الحكم تسليما 
للجيش وان هناك جهات کنيرة كانت وراء هذه الصفقة .. بل وكان هناك من حدد 
بالاسم وبالذات ادارة المخابرات المركزية الامريكية . 

كان هدف الجهات التي التقت على صفقة تسليم الحكم إلى القيادة - التقليدية للجيش 
السوداني وقتها كما يلي : 

۱ - كانت حكومة السيد عبدالله خليل قد دخلت في مشكلات عنيفة بغير مبرر مع 
مصر وبالتالي فقد اضعفت نفسها امام جماهير سودانية غفيرة لديها ايمانها الثابت 
واعتقادها بصلات الحياة الابدية والازلية مع مصر . 


TAO 


۲ كان السودان في عزلة عن التيارات القومية والاجتماعية المتدافعة في المنطقة 
العربية » وكان مستحيلا ان تستمر هذه العزلة طويلة وكان يمكن لهذه التيارات المتدافعة 
ان تكسر اسوار العزلة في اي وقت . 

۳ - كان التغيير هو طابع تلك الايام » خصوصا بعد ١5‏ يوليو ف العراق وسقوط 
حلف بغداد بهذا اليوم العظيم ... وكان ۲۶ يوليو يومها ما زال احتمالا ثوريا لم يرتد 
بعد إلى منحدرات الانقلابات العارية من اي مضمون اجتماعي . 

هكذا كان في السودان اغراء باجراء تغيير في الشكل .. يبدو وكأنه يجاري وهو في 

ومع ذلك ففي اعقاب الانقلاب في السودان كان هناك کنیرون يتصورون انه برغم 
الملابسات - وحتى ضد الظواهر الاساسية اللازمة لتوفر امكانية الثورة الأصيلة فان 
انقلاب السودان قد يستطيع تصوير نفسه وتغيير هوينه » والتمرد على الشّخصية المحددة 
له سلقا ! ! 

وفيما يتعلق بي فانني اعترف بأنني فقدت الامل تماما في امكان حدوث مثل هذا 
الاحتمال بعد زيارة للسودان في شستاء سنة ۱۹۱۰ .. 

يومها على الطبيعة كانت صورة الحقيقة امامي مفزعة . 


جيش في ناحية » بالسلطة العسكرية يحكم من اعلى . وشعب .. على الناحية الاخرى 
اعزل من السلاح لكنه ليس اعزل من الايمان وشجاعة ابداء الرأي . 

وصحيح ان اعلى الاصوات بالمعارضة ضد الحكم (الجيش في ذلك الوقت) كان 
صوت القوى التقليدية في السودان من الختمية والانصار ومن حزب الشعب (التعبير 
السياسي عن الطائفة الختمية ) ومن حزب الامة (التعبير السياسي عن الطائفة المهدية ) . 

الا ان الجماهير العريضة للشعب السوداني» وبعيدا عن القوى التقليدية لم تكن 
تحبس صوتها . 

واذكر مرة حدینا دار بين اللواء طلعت فريد وبيني ونحن على ضفه النيل امام 
شلالات «مارشیزون » الهادرة . 

يومها سألت اللواء - وکان نائبا لرئیس الوزراء ووزیرا للاعلام - اذا كان ممکنا ان 
اتحدث اليه في الاحوال السياسية ورد بالایجاب وقلت له : 

- واتحدث بصراحة ؟ 

© وقال بحدة : 

- ما نخشی الصر احة . 

وعلی كثرة ما قابلت من الساسة في حياتي وعلی کثرة ما سمعت من العجب ‏ فاني 
اشهد ان ذلك الحدیث مع نائب رئيس الوزراء السوداني كان تجربة مدهشة ! 


۲۸7٦ 


قلت له : 
-لقد علمت ان المعارضة تعد عريضة سوف توجهها إلى حكومتكم تطالبها بالتنحي ؟ 


قال : ۱ 

- ما هي العريضة ... اليست قطعة ورق .. اليست كل قطعة ورق قابلة للتمزيق ؟ ! 
قلت : 

- لكن العريضة سوف يحملها لكم بشر ... ووراءهم بشر آخرون . 

قال : 


- هل سمعت عن قدمي الشمال؟ 

وادهشني السؤال وحقيقة لم اکن قد سمعت شيئا عن القدم الشمال للواء طلعت 
فريد وبدا لي سؤاله لاول وهلة قفزة خارج الناقشة ... 

واستطرد على اي حال يقول : 

- كنت لاعب كرة قدم مشهورا في أيامي في انجلترا .. وكان المتفرجون يعرفون ان 
وقوع الكرة في قدمي الشمال يعني اصابة محققة .. 

ولقد احسست بعدم جدوى الناقشة على هذا النحو ومن ثم واجهت المشكلة التي 
كانت تشغلني مباشرة وقلت للواء طلعت فريد : 

- ارید ان استأذنك في سؤال : 

اذا تسمون ما قمتم به في السودان ثورة ... الثورة في تقديري تعني تغييرا اجتماعيا 
شاملا ... وانا لا اشعر ان ذلك قد حدث في السودان ... وهناك تغيير بلا شك في شكل 
الحکم ... ولكنه اقرب إلى تأثير الانقلاب منه إلى تأثير الثورة ... ومع ذلك تصرون على 
استعمال كلمة الثورة .. . لماذا ؟ 

واشهد مرة اخرى انني توقعت كل رد من اللواء طلعت فريد الا الرد الذي تلقيته 
فعلا .. 

سألني بعد ان فرغت من سؤالي : 

- ما هو اسمك الشخصي ؟ 

قلت مترددا وانا لا افهم قصده : 

- محمد .. اذا لم تخني الذاكرة فهذا هو اسمي ؟ ! 

فال : 

من اطلقه عليك ؟ 

قلت : 

- اذا لم اکن مخطئا فاظنه ابي هو الذي اختار لي اسمي ! 

قال : 

حسنا .. نحن آباء ذلك الشيء الذي حدث في السودان يوم ۱۷ نوفمبر ونحن احرار 


YAY 


نطلق عليه اي اسم نشاء .. وقد اخترنا له اسم الثورة . 

ولم اواصل المناقشة بعدها ... مقتنعا بان تأمل شلالات مارشيزون الهادرة في صمت 
اجمل من الناقشة وبالتأكيد انفع ! 

واحب ان اضيف انني لم اظلم اللواء طلعت فريد » ولا ظلمت غيره ممن اتيح لي 
التحدث اليهم من اعضاء المجلس الاعلى للقوات المسلحة .. 

لقد کانوا ینکلمون بمنطفهم وبمفهوم للاشیاء في حدود هذا المنطق . 

وکان کل خطأ في الوضوع خطئي انني حاولت افتراض ما لم يكن موجودا ورحت 
اتفلسف بغیر طائل . 

وبعد شتاء سنة ۰۱۹7۰ آخر تجربة لي في السودان » فان تحرك الحوادث لم یتوقف . 

اللجلس الاعلی مضی يتحرك في اتجاهه الرسوم والقدر ... للنظام .. 

والشعب السوداني مضی يتحرك في اتجاهه الرسوم والقدر ... للحرية .. 

واصبحت العزلة شاسعة وضاعفت من خطورتها اعتبارات كثيرة : 

الحکم في السودان یجاهد قدر استطاعته ان یبتعد عن الجری التاريخي الذي يتدافع 
عليه الد الثوري الاجتماعي والسياسي في النطقة كلها ... والشعب السوداني يريد ان 
یقترب .. 

الحکم في السودان يمكن للاستغلال الاجنبي بغیر حساب حتی عتاة الغامرین 
الاجانب الذين طردوا من مصر لم یجدوا ملجأ لضارباتهم خصوصا في القطن الا في 
السودان .. والشعب السوداني یبحث عن قيم اجتماعية جديدة تقیم الكفاية والعدل . 

الحکم في السودان يعالج مشكلة الجنوب - كما یعالج تململ الشمال - بالقمع 
والضرب لکن القمع والضرب في الجنوب خير دعوة إلى الانفصال والقمع والضرب في 
السمال خير دعوة إلى الثورة . 

وهكذا كان 

بغير تقدير من احد ومن غير تخطيط ... وبلا عيادة حدث كل شيء .. 

التقدیر واللخطیط والقيادة لحقت بالحوادث فيما بعد ولم تسبقها . ۱ 

بدأ التمرد من جامعة الخرطوم في رغبة لناقشة مشكلة الجنوب ومنعت السلطة 
العسكرية اجتماع الناقشة بالقوة وسقط احد الشهداء واضربت الجامعة وسری نداء 
الاضراب کالنار تندلم فجأة في الحطب الجاف . 

وکان صراع السلطة داخل الجلس الاعلی للقوات السلحة قد اوقف الواجهة الحازمة 
التي طلبها رجل کاللواء حسن بشیر من انصار الانقضاض السریع . 

وف مهلة التردد كان الشارع السوداني قد حقق وحدة تلقائية مذهلة في وجه مقاومة 
من الجيش لم تستجمع بعد طاقتها الكاملة على القهر وان كانت في صدام واحد امام 
القصر الجمهوري قد صرعت اکثر من ثلائين شهیدا .. اكثر من عدد الضحايا الذين 


۳۸۸ 


قدمهم السودان ليحصل على الاستقلال .. 

اي ان الشعب السوداني دفع من ضريبة الدم ليتخلص من الحكم العسكري بأكثر ما 
دفع من ضريبة الدم ليخلص من الانجلیز . 

ومع ذلك فان التردد في الجلس الاعلى للقوات المسلحة عن توجيه ضربة القهر 
الكاملة إلى الشارع السوداني قد حقن دما غزيرا . 

لكن لون الدم كان يظلل الافق كله انتظارا للقرار الاخير . 

وعندما كان المجلس الاعلى للقوات المسلحة قد تغلب على تردده وقرر مساء يوم 
الائنین الاسبق - والحاسم ‏ ان يضرب بيد من حديد» لم تكن الوحدة في الجيش 
متماسكة وجاءت مجموعة من الضباط إلى الفريق ابراهيم عبود ينقلون اليه رسالة من 
بضع مئات من ضباط الجيش تجمعوا في نادي الطيران في الخرطوم . 

وقال حملة الرسالة وبينهم الاميرالاي ادريس عبدالله : 

- ان قسما كبيرا من ضباط الجيش ليسوا على استعداد لضرب الجماهير ! 

وتطورت الحوادث إلى صيغة التوازن الدقيق والخطير الذي يحكم السودان الان : 

© جيش لا تريد الاغلبية منه ان تضرب السّعب . لكن العناصر المؤئرة منه لم نقتنع 
بمبدا عودة الجیش إلى تكناته بمعناها الحقيقي . 

© شارع حقق وحدة تلقائية في لحظة نفسية ملائمة ازاء انقسام في الجيش ومن ثم 
استطاع ان يتقدم في شلل السلاح إلى الوزارة يضع فيها القيادات التي ظهرت بعد 
المواجهة الحاسمة وليس قبلها » في خليط من القوى التقليدية والقوى الجديدة . 

لكن السؤال الحاسم يبقى يباشر الحاحه : 

- ثم ماذا بعد ؟ ! 5 


۳۸۹ 


ثم ماذا قبل في السودان ؟ ! 


وماذا قبل! 
وبعد يومين من ظهور مقال الاستاذ هيكل كان لابد لي وانا امثل وجهات نظر كثيفة 
من قرائي ان اجيب عليه فكتبت قائلا : 

.. وانا كذلك يا سيد هيكل لا استطيع ان اكتب مقالا دون ان امهد له بمقدمة .. 
ومع كل بداية لابد عندي من وقفة ! 

.. ما كنت وانا اطالع مقال صديقي الاستاذ هيكل الذي جمعتني به فترة دراسية في 
كلية الصحافة بجامعة كولومبيا بنيويورك عام ...١47٠‏ ما كنت احسبه يتيه هكذا في 
اجواء بعيدة شاهقة من التخيلات والتأملات وهو في قمة «الاهرام» العالية ... في قمة 
تتعذر معها الرؤية ؛ ويصعب معها السمع ! ! 

. نقلت «الصحافة » كلمة الاستاذ هيكل كما كتبها وكما تصورها حتى يستطيع 
المواطن السوداني ان يرى من خلالها ما هو ظاهر ء وما هو باطن ... وما هو واضح › 
وما هو مستتر . ولثن قصد السيد هيكل من تصويره الحشو بالبارود لما حدث بعيدا 
عنه ... وان قصد ان يفلسف احداث السودان بمنظار لم ير من خلاله احداث السودان 
ظنا منه ان اهل السودان سيسبحون معه في بحور التيه والتخيلات والضباب وقد صنعوا 
احداث السودان بانفسهم » فهذا قصد جانبه التوفيق! ! 

.. حاول الاستاذ هيكل في تحليلاته ان يفلسف بمفهومه معنى الثورات» وان يضع 
لهذه المعاني ابعادا مختلفة تضيق في زاوية » وتنفرج في زاوية اخری » ولكنه جعل في 
نهاية ابعاده الهندسية لثورة السودان دائرة متعرجة ضيقة خنق فيها انتصار امة كاملة ... 
وثورة شعب بطل! ! 

... ومضى الاستاذ هيكل وهو ف قمة «الاهرام» محاولا ان يزيح بيديه الضباب 
ليرى السودان ولكنه لم ير غير الضباب الاسود القاتم يعود إلى وجهه من جديد فيحجب 
عنه الرؤية فراح يتخيل حتى انتهى من تحايله دون ان يرى ايضا لان الضباب الذي 
يحجب عنه ما يجري في السودان لا يستطيع ان يزيحه بيديه ! ! 

.. ومضى الاستاذ هيكل وهو في قمة الادرام يحلل مجرد تحليل ثورة شعب منتصر 
لم ير العالم مثلها من قبل... ثورة شعب ابتدأت من الشارع ومشى فيها القانوني 
والطالب والطبيب والعاهل والزارع والتاجر والعاطل والشيخ والطفل والمرأة ... ثورة 
خرجت من الشارع الكبير... وسارت في الشارع الكبير... وانتصرت في الشارع 


» ۵ ؟ 


الكبير ...انها ثورة شارع (على حد تعبير هيكل) لانها خرجت من الشارع ! ! 

کت خسف اذ ف ال اي لاساد هكل :وهو يكنب كن اجذات السودان من هة 
الاهرام انه يعتمد على مجرد الذاكرة والتخيلات والتصوير لان الشقيقه مصر كانت 
منعزلة تماما عما يجري في السودان ... كانت منعزلة عن الدماء التي سالت في شوارع 
الخرطوم ... كانت منعزلة عن الاضراب السياسي .. كانت منعزلة عن وحدة الاهداف 
والتقاء القلوب ومواكب الامة المتراصة التي جمعت بين الشيوعي والاخ المسلم وبين 
وهي تواصل العيش في هذه العزلة بعد ان رفعت الحواجز وفتحت الابواب والنوافذ ! ؟ 

كنت اعذر السيد هيكل ان كانت العزلة ما زالت باقية كما عذرت بالامس السيد 
موسى صبري كبير محرري «اخبار اليوم » عندما هاجمته هجوما واضحا سافرا ولمت 
احمد محجوب وزير الخارجية ظهر اول نوفمبر . 

.. قلت للسيد موسى ان موقف الاذاعة والصحافة المصرية ووسائل اعلامها لم يكن 
سلبيا فحسب. وانما كان بعيدا عن واقع الاحداث لان الحكومة السابقة لم يطحها 
الشعب بسبب موقفها من قضية فلسطين ... ولم يطحها بسبب عدم تقاعلها مع القومية 
العربية . وانما اطاح بها وشاركه في ذلك الجيش نفسه لانه يريد ان يتنفس حتى 
يستطيع ان يتحدث ويكتب ويختار طريقه بوضوح في دروب المستقبل! ! 

ويومها قال لي السيد موسى صبري يا استاذ ان مصر منعزلة تماما عن السودان ولم 
تعرف ماذا كان يجري فيه! ؟ 

قلت له : 

.. ومن اين لكم اذن بما کتبتم وصورتم ! ؟ فسكت ولكنني مع ذلك عذرته .. فهل 
يمكنني اليوم وقد زالت الحواجز وانفتحت النوافذ ان اعذر صديقي الاستاذ الكبير محمد 

ثم ماذا بعد ! ؟ 

.. ان تحليل الاستاذ هيكل اثار الشعب كله بمختلف طبقاته لانه اراد ان يشككه في 
نتائج ثورته » وحاول كذلك ان يشكك الجيش في نفسه وفي شعبه ؛ ليس ذلك فحسب : 
وانما هناك دعوة تحريض مستترة غلفها الاستاذ هيكل دون ان يعلم ان مجهود جيشنا 
القوي الباسل غير مذكور في هذا الانتصار ودون ان يعلم ان الجيش لا يريد ان يدعي 
انه صنع الانتصار لانه جعل من نفسه وحدة لا تتجزأ من الشعب ولا يستطيع احد ان 
يفرق بینها مهما تصور وتخيل! ! 

نم ماذا بعد ؟ ! 

۰ آن حزن الشعب السوداني على حديث هيكل مرده علم السودانيين بمكانته وقربه 


۳ ۱ 


من السلطة الحاكمة في مصر مما جعل كثيرا من المواطنين السودانيين الذين تهمهم 
علاقات السودان الابدية مع الشقيقهة مصر يتحسرون ويتخوفون ... ویشفقون 
ويقلقون ! ! 

.. لقد حاول هيكل في تحليلاته ان يسند ثورة ۲۱ اكتوبر إلى فئات ومعسكرات 
وهيئات خططها بأبعاده هو ... وبمفهومه هو مهملا بعضها عن عمد واصرار يشتم فيه 
القارىء المتبصر انها اقرب ما تكون إلى حملات القطيعة والانتقام .. 

ثم ماذا بعد ! ؟ 

اننا ان تغاضينا عن كل شيء في حديث هيكل. فاننا لا نستطيع ان نتغاضى عن 
تحليله لاحداث السودان وهو يقول: 

«لقد جاء الوقت لكي نتوقف عن الاستمرار في طريق الهرب من كل ما يجري في 
السودان فان الوقت الذي كنا نستطيع فيه ان ندير عيوننا عما يجري في الجنوب 
(السودان) ونتظاهر بانه لا يعنينا او اننا لا نهتم به هو موضوعنا ايضا من غير 
حساسية او تحرج ... من غير اقحام او تطقل وهو قدرنا الذي لا نستطيع ان نفر منه 
حتى بغير رباط سياسي خاص او دسنوري يجمع الشمال على الجنوب » 

.. هذا هو جزء من القدمة التي قالها وكان يجب ان يقولها الاستاذ هيكل ‏ على 
حد تعبیره - نمهیدا لحدینه عن السودان والتحركات الني كان ميدانا لها ف الاسبوعين 
الاخیرین تحت عنوان : 

ثم ماذا بعد في السودان ! ؟ 

وليت الاستاد هیکل قد كتب تحليله الطویل تحت عنوان : 

ثم ماذا قبل في السودان!؟ اذن لاختلف مفهومنا لما کتبه وهو في قمة الاهرام 
ولعرفنا اين كان یقف قبل ان يتابع الرؤية إلى احداث السودان بمنظار یحیط به الضباب 
وهو يحاول ان يطرده بيديه ! ! 

ثم ماذا قبل ... وماذا بعد في السودان ! 

...ان مصر عزيزة على كل قلب وروح ف السودان ... وان دورها الكبير الذي 
لعبته وشارکت به اسقاها حتی تحقق الاستقلال دور لا نكر ولا یغالط ... وان 
اقضالها الخيرة وایادیها البیضاء .. دائما ممدودة لا للسودان وحده» ولکن لقضایا 
الشعوب الحرة في العالم اجمع وفي الحیط العربي بشکل خاص » لکننا نحن في السودان 
نريد دائما من مصر العزيزة ان تبقى سْقيقه لنا » وان تحنو علینا وتحافظ على وحدتنا 
وتساعد في جمع کلمتنا حتى نصبح قوة متکاملة وفي ذلك قوة لها وللعروبة في كل مکان 
وزمان . 

وتحیات شعب حر شقيق إلى اشقائه في الشمال مع آماله العريضة بان تظل سماؤنا 
ابدا صافية » وقلوبنا دائما متحابة وايادينا متشابكة حتى يحقق الله لنا النصر دائما وابدا 
انه نعم الولی ونعم النصير . 


۳۹۲ 


.. يذكرني كل الذي رويته بأول مؤتمر للصحفيين العرب الذي عقد في القاهرة عام 
۷ والذي دعا اليه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد حرب الايام الستة وحضره 
صباح الجابر امير الكويت الراحل وعبدالسلام عارف الرئيس العراقي الذي رحل ايضا 
وقد مثل صحافة السودان في هذا المؤتمر الاستاذ بشير محمد سعيد نقيب الصحفيين 
وعبدالرحمن مختار نائبه والمرحوم الاستاذ محمد ميرغني سكرتير الانحاد واذكر فيما 
سمعت ورأيت ان الصحفيين المصريين كانوا قد قاموا بحملة عنيفة ضد الاستاذ 
مصطفى امین صاحب اخبار اليوم والذي حكم عليه بالسجن انني عشر عاما بتهمة 
التجسس على بلاده وقد كانوا يطالبون قي اصرار شدید بضرورة اسقاط اسمه واسم 
اخيه التوام علي كمؤسسين للاخبار واخبار اليوم لكن الرئيس جمال عبدالناصر رفض 
هذا الاقتراح ووصفه بالغباء والجهل فقال: « .. علي امین ما ذنبه؟ يمكن نسجن 
مصطفی امین او يحكم عليه بالاعدام ان نطرده من البلد كله ؛ ويمكن كذلك ان نصقي 
ممتلكاته ونصادر مؤسساته اما ان نمحو حقه وتاريخه فهذا لن يحدث لان التاريخ هو 
الشيء الوحيد الذي يجب ان يبقى مع الانسان سواء كان لصالحه او ضده واما كونه 
كان صحفيا بارعا واسس دار اخبار اليوم فهذه حقيقة تحسب له ». وهكذا قضى الراحل 
العظيم بحكمته ولباقته واتزانه وعدالته .. قضى على حملات الزور والتجنى والجنائية 
والاحفاد ! ۱ 

.. ارید بهذه الناسبة التي جاعت عرضا ان اترکها تمر دون ان اشير الى صحافة 
واعلام مصر وصحافه واعلام السودان كيف تتعاملان وکیف تسلکان وکیف نودیان 
واجبهما القدس نحو الشعبين الشقیقین وهل هناك فارق بين صحافة مصر منذ عهد 
الزعیم الراحل جمال حتی عهد الرئیس الحالي حسني مبارك ؟ ! 

.. عندما اتیحت لي فرصة الکلام تحدنت عن موضوع الونمر الذي لاداعي لذکره في 
هذه العجالة وانما رکزت على تقصير الصحافة الصرية في نقل ما يجري في السودان 
وقلت فیما قلت للرئیس الراحل ان صحافتنا في السودان تتابع عن کنب کل ما يجري 
في الشقيقة مصر وتنشر اخبار حکومتها والسئولین فیها وعلی رأسهم سيادة الرئیس 
باهتمام بالغ ومتابعة متواصلة حتی ان الشعب السوداني بوعیه وحرصه ومتابعته لما 
يجري في مصر بکل ابعادها وتقاصیلها بینما نری من الجانب الاخر - اي من جانب 
اعلام وصحف مصر اهمالا تاما وجهلا واضحا فاضحا ومخجلا بما يجري في السودان 
وقد لاحظنا مع مزید الاسف ان صحافة مصر واذاعة مصر وکل اعلام مصر یخطئون 


۳۹۳ 


حتى في كتابة ونطق اسماء زعمائنا ومدننا وقرانا ولا يحفلون كثيرا بما يجري في 
السودان الشقيق ولا يتابعون انباءه وسألت الرئيس هل هذا الذي يجري هو سياسة 
الدولة ام شيء مقصود في وسائل الاعلام المصرية ؟ 

تململ الرئيس الراحل وصمت كثيرا ليستجمع ويرتب آراءه فقال : 

سأجيب عليك يا استاذ مختار باختصار شدید فانا اعرف السودان والسودانيين 
معرفة لصيقة وقوية وقد عرفت فيهم وفي صحفهم وزعمائهم وقادتهم الحساسية المفرطة 
والزائدة ولقد وجهت بالفعل صحافتنا الا تخوض في مشاكل السودان بالذات حتى لا 
يؤول حديثها او يفسر. تعليقها من منطلق العواطف والحساسيات فيخلق لنا ازمات نحن 
في غنى عنها اما الجانب الاخر من سؤالك وهو الجانب الاجتماعي والتعريفي للسعبین 
الشقیقین بعضهما ببعض فقد لاحظت فعلا ان هناك تقصيراً من الصحافة المصرية 
ارجو ان يزول قريبا وعلى كل حال ارجو الا تؤاخذوننا في هذه الظروف الصعبة التي 
نواجهها والتي أمل ان يتكاتف جميع الاخوة من الصحفيين العرب للعمل على ازالة 
اسبابها . فهل حدث تغيير في موقف الصحف والاعلام المصري وقي مسيرته الطويلة منذ 
عهد عبدالناصر حتى عهد الرئيس مبارك مرورا بالسادات! ! ؟ 

لقد عرفت الرئيس الراحل معرفة شخصية واجتمعت به في لقاءات عامة وخاصة في 
الخرطوم والدار البيضاء ونيويورك «وبنزرت تونس » واكثرها في القاهرة . اما بصحبة 
رؤسائنا وقادتنا الرئيس الازهري او عبد الله خليل او محمد احمد محجوب او بمفردي 
وکان الصق واقرب هذه اللقاءات في الدار البيضاء حيث انعقد احد مؤتمرات القمة 
العربي وبرز فيه الخلاف العنیف المؤسف بين الرحومین الازهري والحجوب وسأتعرض 
e‏ 

.. لعل الكثيرين من شباب اليوم لا يعرفون ان الرئيس جمال عبدالناصر كان في 
فجر شبابه ضابطا في القوات المصرية بالسودان التي كانت تقيم في «قشلاقات عباس » 
المطافىء حاليا وقد ظل وقتا طويلا مقيما في الخرطوم فالتصق بأهلها وعرفهم عن 
قرب وكانت رياضته المفضلة ان يقطع «شارع فكتوريا » «القصر حاليا » مرتين في اليوم 
مشيا على الاقدام . 

ارجو الا يتعجل القراء فيعتبروا ما كتبته خروجا عن الدائرة التي رسمتها لوضوعاتي 
فالحقيقة ان خيوط الاحداث كثيرة ومعقدة ومتشابكة بدرجة تفرض علي احيانا الخروج 
قليلا لكني لست بعيدا عن الدائرة فخطوطها تضيق هنا وتنفرج هناك لكن المهم ان 
نصل في النهاية إلى الغاية المنشودة . 


ماذا قال السعدني ؟ ! 


بتاريخ ۱۹۱۶/۱۱/۱۸ كتب الاستاذ محمود السعدني الصحفي الصري المعروف 
يقول : 

خبطات خفيفة على باب الغرفة )١١(‏ باللوكندة الکبری انفتح على اثرها الباب وبداً 
في فرجته «الولد الشقي ».. شاب وسط نحيف الجسم .. شعرات متطاولة تقف عند 
مقدمة راس عاموفیان مه وید تفر راسة-من 'الخلف:..'وفيل: از :يتين من تكن 
انسحب بحركة رسيقة وقفز إلى سريره واندس تحت الغطاء ... وهو يتمتم .. معذرة 
... اصلي كنت امبارح سهران وانا لسه نائم .. خذوا راحتكم .. اتفضلوا اهلا بيكم .. هذا 
اذن هو محمود السعدني يندس بلسانه الطويل اللاذع في وداعة تحت الغطاء وهو 
ببجامته .. بسيطا دونما كلفة ودونما تصنع وكأنه ليس الصحفي الشهير الذي دوخ (هذا 
الرجل) وصال وجال مع لعيبة الكرة ولعيبة الفن ... ترى ما هو وجهه السياسي وما هو 
لون نظرته وهو يقلبها في اوجه نشاط المجتمع السوداني .. واي لعاب سيحرك لسانه 
اللاذع الطويل .. وهو يتصدى لأحداث السودان وللحياة الاجتماعية في بلادنا .. تساؤلات 
كثيرة كانت تحاصرنا انا والزميل الرسام فاضل الاسمر عندما دلفنا حجرة رقم )1١(‏ 
دونما اخطار دونما استئذان فكيف كانت «اجوبة هذا الرجل ؟ » . 

نحن قادمان من النادي العربي حيث مازال حشد كبير ينتظر المحاضرة التي الغيت . 

- ياه .. لكن اعمل ايه ... السلطات لغت المحاضرة . 

اي سلطات ... ادارة النادي ...ام ... 

- الحكومة ... الحكومة هي التي اتصلت بالنادي وطلبت منه الغاءها نسبة للظروف 
الحالية فربما بخدت ما یعکر ضفو الامن . 

- ما یعکر صفو الامن ؟ وما الذي يدعو الى ذلك هل هو موضوع الحاضرة ؟ 

اه .. كنت حاتکلم عن موقف الصحافة المصرية عن تورة ۲۱ اکتوبر . 


- وهل كانت محضرة ومكتوبة ؟ 
لا.. كنت حادردش مع اخواني السودانيين واناقشهم » اذن لندردش دردسّة مكتوبة 
بدل الدردشة المسموعة . 


آه ما في مانع ... الحقيقة انا اتناقشت كثيرا مع بعض اخواننا السودانيين وقد سألني 
عديد منهم عن موقف الصحافة المصرية من ثورة السودان ۲۱ اكتوبر - وشعرت في 


۲ ۵ 


وتحميل بعض الصحفيين المصريين واعتبارهم ناطقين باتجاه معين . واحببت ان اوضح 
هذه النقاط كصحفي مصري يعمل بالصحافة المصرية ١7‏ سنة وكثيرا ما أخطأت ونادرا 
ما اصبت وفي كلتا الحالتين كنت انا المسئول الوحيد فيما اصنع - وانت كصحفي 
واخوانك الصحفيين السودانيين يدركون تمام الادراك ان الصحفي معرض للخطأ كما 
هو معرض للصواب فاذا اخطاً صحفي سوداني في حق (العبد لله ) فليس معنى هذا 
ان الشعب السوداني كله قد اخطأ في حقه وانا ف هذه الحالة اعتبره رايا شحصيا 
للصحافة السودانية وليس رأي المسئولين في السودان . 

- هذا اعتراف بخطأ موس صبري وبخطأ هیکل ... فهل يعني خطأهما هذا انه 
رأي الصحافة المصرية كما تقول . 

- الشيء الدي احب ان اقو له لاخواني السودانیین انه عندما يخطىء محمد حسین 
هيكل فان محمد حسنين هيكل وحده هو المسثول . 

حتى وان انغرس ذلك الخطأ كطعنات نجلاء في كبرياء شعب شقيق لكم كالشعب 
السوداني . 
خاص منزلة في نفسي - انني اذا اخطأت يوما في حق الشعب السوداني ان تحاسبوني 
انا شخصيا وان تضربوني (بالصرمة) لان الخطأ صادر مني وحدي ولا يتحمله اي 
ان اقول الحقيقة وان اقف إلى جانب هذا الشعب العظیم في نضاله وفي ثورته لانه شعب 
شقیق وشعب عربي . 

- ليس مهما ان یضرب الشعب السعدني (بالصرمة) اذا اخطأ في التعبیر لكن الهم 

انت تريد ان تشير إلى الاعتقاد بان محمد حسنين هيكل يعبر في مقالاته عن رأي 
جمال عبدالناصر هذا الاعتقاد اعتقاد خاطىء من اساسه وغير صحيح .. والاعتقاد بأن 
الصحافة المصرية تحت رقابة اعتقاد خاطىء من اساسه وغير صحيح كل صحفي يكتب 
ما يريده واذا كتب غير الحقيقة يبقى (ابن احبا ) لا اكثر . . 

الا يتدخل السئولون ادا نال بقلمه من حق سعب شقیق واذا انحرف بحقيقة ثورته ؟ 

صمت السعدني وحدق طويلا ثم اعتمد رأسه بيده اليمنى وتحرك سبابته تعرك 
خده ... بالرغم من انني (قرصته) بقولي وأنا اشير للفاضل انظر ( حيرة هذا 
الرجل) .. بالرغم من هذا لم يغير من وضعه ولم بهداً اصبعه قبل ان يقول . . 

المسئولون في الاتحاد الاشتراكي العربي هم وحدهم المسئولون عن الصحافة المصرية 
فان انا ارتكبت جريمة بقلمي ضد شعب او فرد تكون للمسئولين مواقف معي .. اما 
عندما اخطیء بحسن نية فهذا من باب الاجتهاد وانا لا اعدو ان اکون مجتهدا مخطناً 


۳ 1 


مغفورا لي خطئي ومثابا على اجتهادي . 

وعندما اكتب شيئًاً بسوء نية وعندما اخطىء عن عمد وعن تدبير فالموقف يتغير 
طبعا ولا اظن ان هناك احدا في القاهرة من الصحفيين يخطىء ضد الشعب السوداني 
بنية سيئة وينبغي ان يكون هذا هو الاعتقاد حتى اذا حدئت اخطاء فهى بحسن نية لا 
اكثر ولا اقل . | 

ونحن كصحفيين كنا نعتقد ان حضوركم إلى السودان في هذا الظرف لا يمكن ان 
يكون دافعه هو التغطية الاخبارية فقط وانما لتصوير ورصد ثورته بمجاهر الحقيقة 
والواقع . 

- من اجل هذا حضرنا نحن عندما حضرنا للسودان في وسط الاحداث كنا مستعدين 
ان نموت وسط الشعب السوداني ومعه فنحن لم نحضر كصحفيين من كوريا الجنوبية 
او كصحفيين انجلیز ... نحن تربطنا صلات اكبر واقوى تجعلنا لا نحضر للاخبار 

- اذن ما هو رأيك كصحفي مصرى عاصر الاحداث في ثورة ۲۱ أكتوبر ؟ . 

انا كنت اود ان التقي باخواني السودانيين في المحاضرة لأحيي فيهم ثورة ۲۱ اكتوبر 
العظيمة وان اقرر كشاهد عيان ان الشعب السوداني كان خلال الثورة على درجة 
عظيمة من الوعي والسيطرة على النفس ربما فاق غيره من ارقى شعوب العالم . 

وان الهفوات البسيطة التي حدئت هنا أو هناك لم تكن الا اعمالا فردية لا تنال من 
روعة وعظمة الموقف كله وهناك حقيقة ان الشعب المصري وجمال عبدالناصر الذين 
ساندوا كل الانتصارات الشعبية لا يمكن ان يقفوا ضدها وينحرفوا بها . 

لا هيكل ولا موسى صبري ولا غيره يستطيع ذلك ... وأحب ان اقرر ان ثورة 
السودان ثورة شُعبية فريدة من نوعها استطاعت ان تضرب بشدة جميع اعدائها وان 
تسيطر وان تنتصر والشعب السوداني خلال اليومين ... ائناء التعبثة ... كان على 
مستوى عال جدا من الوعي والتنظيم وادراك الامور لانه لو حدئت هذه التعبئة في العالم 
لحدئت اشياء خطيرة ... وما حدث هنا عندكم دلالة عظيمة وهو يعني ان الشعب بلغ 
من النضج والوعي درجة عالية جدا وهي شهادة لا يمكن ان ينكرها احد .. 

.. اما ما حدث خلال هذين اليومين من هفوات وانا اسميها هفوات ... اشياء 
بسيطة وفردية لا ترقى وتنال من متانة العلاقة بين الشعبین .. 

كان السعدني يتحدث بانفعال صادق وكأنه على منصة النادي العربي يخاطب 
جماهير السعب السوداني ليؤكد لهم مشاعر الشعب المصري تجاههم . 

الحقيقة ان الصدق الذي لمسته من كلماته فجر في داخلي المشاعر الحقيقية التي 
تربطنا باخوتنا المصريين واحسست ان هده المشاعر يجب ان تغرق وتجرف کل ما علق 
بالنفوس من هنات بسيطة تسبب ومن اجل هذا صمت وحدقت في وجه (الولد الشقي) 


۲ ۷ 


استقرىء انطباعاته وانطباعات (لسانك الساخر ) عن الحياة الاجتماعية .. والمرأة .. 
والفن ... والکورة . 

السعدني والمرأة السودانية : 

كيف وجدت المرأة السودانية في الجال الوطني ... وفي الجال الاجتماعي ...؟ 

التماع غريب في لون عينيه بما يشبه الانهیار شان الشخص الاخوذ الذي يتطلع إلى 
عالم رائع ومدهش قبل ان یقول : 

المرأة السودانية ادهشتني جدا والحركة النسائية عندکم ينبغي تشجیعها والوقوف إلى 
جانبها خصوصا من القسم الثاني من الجتمع وهم الرجال ... وانه رغم العقبات 
الوجودة امامها الا انني وانق من نجاح حرکنها للاصرار للحصول على حقوقها واعنقد 
ان الوقت مناسب جدا للحصول علیها لان الرجل لم یخرج إلى الشارع وحده في ثورة 
۱ اکتوبر خرجت معه الست ... والرجل لم (یتعور ) وحده وتعورت معه الست ... 
فينبغي اذن ان نوزع الکاسب لهما على السواء والمرأة السودانية ليست اقل مستوی من 
شقیقتها في الجزاثر وتونس والعراق ومصر وبقية البلاد العربية والمرأة في كل هذه البلاد 
حصلت على حقوفها . 

وما هو رأيك في وضع المرأة في الجتمع وفي البیت ؟ 

- في السودان كما في البلاد العربية هناك انقسام في البيت نفسه ... قسم الرجال ... 
وقسم الحریم .. بالرغم من ان الأصل في كلمة «مجتمع» ان يجتمع الجنسان في 
المدارس ... في المؤسسات ... في الشوارع ... في اي حاجة ... فاذا حصل انفصال لا 
يصح «منفصل » . 

وماذا عن جمالها ؟ 

مرة اخرى عاد الالتماع الغريب يفيض بنظرة عينيه وبدا كأنه يتحدث عن كائن 
يلمحه بعين خياله ..ونسي نفسه تماما . 

- آوه .. نسبة الجمال في الشعب السوداني عالية جدا ... وفیما اعنقد من استقرائي 
ومن خبرتي البسيطة ولقاءاتي ان الراة السودانیه جمیلة جدا ورقيقة وتتمتع بانونة 
ناضجة وست بيت ممتازة وتتمتع بحیاء محبب تفرضه طبيعة الجتمع نفسه ..و .. 

.. وعندما كان السعدني یتحدث بهذا الحماس كانت ابتسامة خبيئة تمسح وجهه 
وقهقهة مكتومة یخنقها فاضل .. فنحن نعرف انه متزوج واب ... لاحظ السعدني ذلك 
فانتشل نفسه وقال مستدرکا . ضاحکا : 

- وصدقوني انه لولا انني متزوج في القاهرة وعندي خمسة اطفال كنت اعمق 
العلاقات الوطيدة بين السعب السوداني والصري بزواج جدید .. 

هل یخاف السعدني من الزوجة التي تنتظره بالقاهرة ؟ 

آه .. فانا أسد في الصحافة ولكني في الزواج نعامة . 


۳۹۸ 


قلت ان المرأة السودانية ست بيت ممتازة فمن اين جاء حكمكم ؟ 

- انا دخلت بيوت سودانية كثيرة وأكلت الكسرة والملاح والويكة حتى ملاح الشرموط 
اکلته .. وحقيقة ان المائدة السودانية لا تختلف كثيرا عن المائدة المصرية . 

وما هي اعظم اكلة اعجبتك ؟ 

ان اعظم ما اكلته مع اخواني السودانية العيش والملح .. 

وهممت بالنهوض فوضع يده على كتفي وهو يقول : 

لن اكتب كلمة وداع واحدة لانني سأعود مرات ومرات والحقيقة انني احس انني 
مخطىء لانني لم اجىء واعيش مع هذا الشعب الاصيل فمشاعر الحب التي لمستها من 
الجميع تجعلني اشعر انني سأنتقل من الخرطوم إلى القاهرة وكأنني انتقل من الجيزة 
إلى الاسكندرية . 

وما هي انطباعاتك عن الخرطوم وعن الحياة الاجتماعية وعن العرس السوداني ؟ 

الخرطوم كنت اتخيلها اكبر من ذلك ومزدحمة اكثر لكنها نظيفة وجميلة والشعب 
السوداني شعب ودود تعاملت معه في المجتمعات وهو شعب أصيل له حضارة وله 
تقاليد ... شعب «طیب » ولكنه غير متهاون في حقه لانه شعب واع . 

اما الفرح السوداني فانا اعترف بانه مدهش ومثير وغريب وانا حضرت أفراحاً في 
كثير من بلدان العالم العربي ولم اشاهد فرحا له مثل هذه الهيلمان غير السوداني ... 
لكنه اعجبني شيئًا واحداً لم يعجبني هو كمية الذهب التي كانت تلبسها العروس .. 
اموال مجمدة يمكن الاستفادة منها . 

انطباعاتك عن الرقصة نفسها من الزاوية الفنية ؟ 

- الرقصة قطعا لها اصل ولا اعرف ان كان عربيا او زنجيا ام خلیطا من الاثنين ... 
والغريب فيها حقا.. انه العروس معروف عنها انها في تلك الليلة بتكون متوترة 
الاعصاب ومضطربة ولا يمكن ان يكون عندها الاستعداد لترقص .. اما العروس 
السودانية فانها ترقص لمدة طويلة ودا دليل على قوة اعصابها وعلى حسن صحتها . 

والاغنيات . . . هل أعجبتك ؟ 

انا لم اسمع اغنيات سودانية ... استمعت لاناشيد واعجبني نشيد (اقبل الصبح) فهو 
جميل جدا في كلماته وفي لحنه ... 


السعدني والكورة : 


قبل ان اسأله عن رأيه في مستوى الكرة عندنا ترددت واشفقت على اعصاب لاعبينا 
عن سؤالي عن الكرة .. 
وسألته فاعتدل في جلسته وعلق على شفتیه بسمة انزلقت على جانب فمه ... في 


۳۹۹ 


- انا حضرت ماتش بين المريخ وابو حشیش .. في الملعب بدا ان جماعة ابو حشيش 
بيلعبوا الكورة بالنيات ... ويبدو ان نيتهم كانت وحشة عشان كدا لعبوا وحش .. المباراة 
الوحيدة التي اجادوها دقة تصويب الكورة على المتفرجين ولو أنهم لعبوا كرة بتيم جديد 
بحيث يصبح التوصيب والانتصار باحراز الاهداف وانما بتصويب الكورة نحو رؤوس 
المتفرجين كان ابو حشيش يغلب ما في ذلك شك . 

... المريخ .. فيه مهارات فردية .. اعجبني جقدول وراجل اسمه مصطفى لكن يعيبه 
انه «حركلتي » ويبدو ان هدفه من لعب الكورة .. اضحاك المتفرجين .. واعجبني بسكل 
خاص ولد صغير اسمه برعي اتنبأ له بمستقبل كبير . 

وماذا عن الجمهور الرياضي ؟ 

- مثل الجمهور المصري . جمهور نوادي وليس جمهور كرة متعصب للنوادي وليس 
متعصباً لفن الكرة ... نفس هذه الظاهرة عندنا وكنت قد اقترحت للمسئولين انهم بدل 
ان يستوردوا مدربين يستوردوا مشجعین . وأنا هنا أكرر هذا الاقتراح لاتحاد الكرة 
السوداني . جمهورکم جمهور نوادي لان جمهور الکرة هو الذي یشجع اللعبة الجميله 
بغض النظر عن النادي .. حقيقة ان الكرة في مصر والسودان يتيمة في حاجة 

.. عند هذا الحد احسست ان الوقت الطويل الذي قضيته معه يأكل من اعصاب 
جمهرة كثيرة تشتت على المقاعد الوثيرة باللوكندة في انتظار ان تحظى بتحيته والحديث 
معه ... بعضهم شباب وبعضهم سيدات ... فلملمت اوراقي وقبل ان نخرج شد على يد 
الاستاذ فاضل الاسمر مهنئاً له على لوحة الشهيد القرشي التي رسمها ... ثم التفت نحوي 
وقال في سخرية حادة : 

اخبرني الفاضل انك اعتقلت في مظاهرات ۲۲ اكتوبر وانك امضيت خمسة ايام في 
المعتقل .. احب ان اهنيك فالسجن للصحفي شرف وضرورة بس كان حقهم يدوك كام 
شهر كدة عشان تتشرف اكثر . 

ثم ابتعد عنا ضاحكا ليندس بين مجموعة كانت تنتظره ويغيب في احضان شخص 
بدين وبدا لي مثل صورة «الولد الشقي » في مذكراته وهو بين فكري الحلو .. وخرجنا 
لطريق العودة للجريدة - 


التاريخ في “/١1١/19714م‏ 


ولكنه عن هذا السعب الذي ما عاد يحكمه العساكر 


شهورا وشهورا... ونحن نتحدث - في هذه الصفحة - عن نضالات وكفاحات 
الشعوب المختلفة في انحاء العالم بأکمله ... تحدثنا ‏ کثیرا - عن الحكومات 
الديكتاتورية العسكرية في الخارج التي استلمت السلطة بالليل ووسط الظلام ... ثم بدات 
تحكم شعوبها - والدبابات في الشوارع والمدافع فوق الرؤوس والاغلال على الايدي . 

وتحدثنا - كثيرا عن دور الطلاب في الخارج في محاربة تلك الحكومات الديكتاتورية 
العسكرية والعرائض التي رفعوها والمظاهرات التي سيروها والتضحيات التي 
وهبوها ... شهورا ونحن نتحدث عن كل ذلك في الخارج . والان جاء الوقت عن هذا 
البلد .. عن حكومتنا العسكرية وطلابنا الذين ضحوا وشعبنا الذي نار .. 

.. وما أروع وامتع ان يتحدث الشخص عن بلده - بحرية واخلاص - خاصة اذا 
كان قد منع وقهر لسنوات عديدة من ان يتحدث - بحرية واخلاص .. وما اروع وامتع 
ان يرى الشخص ما كان يحدث في بلاد العالم الاخری من ثورات وكفاحات وقد حدث 
في بلده - وهو يراه بعينه ويعيش في وسطه .. وما اروع وأمتع ان یری الشخص بلده 
وقد قفزت إلى مقدمة الامم واصبحت حديث العالم كله بنضالها وكفاحها .. بعد ان كانت 
ذيلا بين الامم ونسيا منسيا .. 

.. وقبل ان نبدأ الحديث عن ايام البعث الخالدة التي عاشها هذا البلد .. نقوم بجولة 
سريعة لنستعرض كفاحات بلاد العالم الاخری - في محاولة لربط نضال هذا الشعب مع 
نضالات الشعوب في الخارج .. ولربط دور الطلاب في هذا النضال مع ادوارهم في تلك 
النضالات . 

ضحى الطلاب وناضل الشعب في اليابان ... ففي يوليو ۱۹۰۰ ثار الطلاب في 
طوكيو ضد حكم الجنرال (كيشي ) الذي كان مكروها عند الشعب ومحبوبا عند 
امريكا ... وتكاتف الشعب والطلاب مظاهرات وتضحيات حتى اجبروا (كيشي ) لاعلان 
استقالته ... وکانت (جامعة طوكيو ) هي قاعدة هذا الكفاح . 

ضحى الطلاب وناضل الشعب في كوريا الجنوبية .. في اكتوبر ۱۹۲۰ نار الطلاب في 
سيول ضد حكم الجنرال (ري) الذي ظل يحكم كوريا الجنوبية حكما ديكتاتوريا مدة 
۳ عاما .. وتكاتف الشعب والطلاب وتضحيات حتى سمعوا ذات صباح ان (ري) قد 
فر إلى جزائر هاواي وهناك اعلن استقالته ... وكانت (جامعة سيول) هي قاعدة هذا 
الكفاح . 


ضحى الطلاب وناضل السشعب ف فیننام الجنوبية ... ف شهر سبتمبر الماضي سير 
الطلاب ف سايجون مظاهرات ضخمة قدموا بعدها عريضة للجنرال (خانة ) يطالبونه 
بحقن دماء الشعب الفيتنامي وانهاء الحكم العسكري ۰ وقبل ايام قدم الجنرال (خانة) 
استقالنه وتولت السلطه حکومه انتقالیه مهد لانتخابات حرة ... وطوال ایام هدا الکقاح 
الطلابي الشعبي المسترك كانت (جامعة سايجون ) هي قاعدة هذا الكفاح 5 


© الامدلة كثيرة 


.. والامثلة كثيرة ومتعددة في ايران ثار الطلاب والشعب - ومازالوا - ضد حكم 
محمد رضا بهلوي (شاه ايران ) الديكتاتوري الرجعي . 

في تركيا ثار الطلاب والشعب وما زالوا ضد حكومة الانقلاب العسكري الذي قام به 
الجنرال (جمال جورسيل) . 

في فنزويلا ثار الطلاب والشعب ضد حكومة الرئيس (ليوني) الرجعية الموالية 
لامريكا . 

في كوريا الجنوبية يثور الطلاب والشعب ‏ مرة اخرى ضد حكومة الجنرال (بارك) 
التي جاءت الى الحكم بعد انقلاب عسكري قبل عامين . 

.. وفي الاسبوع الماضي بدأت اذاعات وصحف العالم تتحدث عن الانتفاضة الكبرى 
والتضحية الغالية التي قام بها طلاب جامعة الخرطوم في معركتهم الطويلة ضد الحكم 
العسكري الديكتاتوري الذي ظل يخنق السودان طوال ۷۲ شهرا ... ثم بدأ العالم 
يتحدث عن تجاوب الشعب السوداني بكل قطاعاته مع هذه التضحيات .. والتفافه رجلا 
واحدا ومبدأ واحدا وضربة واحدة ضد الحكم العسكري ... في مظاهراته واضراباته 
وتضحياته ... حتى استسلم حكامه - والجيش إلى ثكناته عاد ليواصل مهمته الاساسية في 
حماية البلاد والذود عنها ... والشعب إلى الحكم عاد ليواصل مهمته الاساسية في ان 
يحكم نفسه بنفسه ويقر دستور الشعب من اجل الشعب . 

... وهكذا ‏ فجاة ‏ اصبح السودان حديث العالم ... غير ان النضال الذي قام به 
شعب هذا البلد لا يشابه النضالات التي قامت بها شعوب بلاد اخرى فى العالم 
وحسب - بل يفوقها بطولة ويزيد عليها قوة . 

© ماذا فعلنا ؟ 

شعبنا مسالم 

لقد عرف عن اهل هذا البلد بأنهم أكثر سُعوب العالم مسالمة وأقلهم استعمالا 
للعنف ‏ حتى في حل مشاكلهم التي تنشب حول الممتلكات والافراد ... وفي الوقت الذي 
نجد فيه ان حمل الاسلحة يكاد يكون عاديا عند كثير من شعوب العالم - وخاصة في 
المدن... نجد بان ذلك ليس عاديا عند هذا الشعب - وخاصة في الدن ... بل ان 


۳۰۲ 


قانون الطوارىء الذي ظل يحكم هذا البلد اكثر من ست سنوات كان يمنع حتى حمل 
العصي وان تلتهب نار الكفاح وسط شعب هذا حاله فذاك ما زاد نضالنا نضالا وبطولتنا 
بطولة . 
© كفاحنا سلمي 
عندما نار الشعب اللبناني ضد الرئيس كميل شمعون عام ۱۹۵۸ ... اقام المتاريس 
في الشوارع وتسلح بالبنادق والمسدسات ... وشهدت البلاد اغتيالات وحوادث عنف لا 
.. ونفس الامر - او مشابه له ما حدث عند ثورات الشعبين العراقي والسوري . وفي 
النضالات التي تشهدها فنزويلا وبوليفيا والبرازيل هذه الايام ضد عمليات الاغتيالات 
وتفجيرات حكوماتها الديكتاتورية تحتل القنابل والالغام - ونسف المنشات المكان الاول 
في حركات الثورة الشعبية . ولأن سُعبنا استطاع ان ينهى الحكم العسكري عليه من غير 
استعماله لهذه الوسائل فذاك ما زاد نضالنا نضالا وبطولتنا بطولة . 


© اضرابنا السياسي 


لم تشهد بلد ثار شعبها ضد حكم بغيض اضرابا سياسيا كالذي شهده هذا البلد خلال 
الاسبوع الفائت .. لقد نجح الاضراب السياسي الذي نادت به الجبهة القومية يوم السبت 
٤‏ اكتوبر نجاحا منقطع النظير ... وعقدت الدهشة ألسن اذاعات العالم وصحفه عندما 
اعلنت اذاعة (هنا امدرمان) بانها ستنهي ارسالها مشاركة للشعب في اضرابه العام 
وقد كانت تلك الاذاعات والصحف تعتمد على (هنا امدرمان) كمصدر لانباء الثورة 
الشعبية بعد ان انقطعت اتصالات السودان بالخارج - كلها وبأنواعها - نتيجة الاضراب 
السياسي العام سیظل مفخرة لشعبنا الثاثر امام شعوب العالم الثاثرة ... ولانه كان 
سلميا ۰.. ولانه كان ناجحا .. ولانه اجبر الحکم العسكري على التنازل - فذاك ما زاد 
نضالنا نضالا وبطولتنا بطولة . 

.. ست سنوات - من نوفمبر ۱۹۵۸ إلى اکتوبر ۱۹۱۶ - عشناها في ظلام 
دامس .. لا اعادها ولا اعاده الله كنا خلالها - غرباء وبالرغم من اننا في الدیار التي 
ولدنا فیها -وکنا خلالها مستعمرین بالرغم من ان الاستعمار قد رحل عنا وترك لنا 
حریتنا ... وکنا خلالها صما وبکما وعمیا بالرغم من ان الله قد وهبنا آذانا وأفواها 
واعینا . 


© افواهنا قیدوها 
نقد كان الشخفن ما يتحدك وهو تتلفت نميا .ونضارا + وشنمعهه يتلقنون 2 


۳۰۳ 


ايضا يمينا ويسارا وكم اقتيد العشرات إلى السجون لا لسبب الا لانهم كانوا یتحدنون - 
ولا اكثر من انهم كانوا يتحدثون . 
© آذاننا قيدوها 


انعدم الكلام المخلص الصریح ... ولم يعد الشخص منا يسمع سوى النفاق والإفك 
والملق ... حتى مل الناس الاستماع واصبحوا لا يئقون حتى في اقرب المقربين اليهم ... 
وکنرت الاشاعات والدعايات والجاملات . 


© اقلامنا قيدوها 


وهذه ما احس بها ناس مثل الذين ارادوا او حاولوا ان يكتبوا في الصحف باخلاص 
وفي صراحة ... كنا نكتب عن الديكتاتورية العسكرية في كوريا الجنوبية مثلا ونضع 
علامات استفهام وتعجب ‏ ونحن نعني اكثر من شيء ... وكنا نكتب عن ثورة الطلاب 
ضد الحكم الديكتاتوري في بنما مثلا ونضع علامات استفهام وتعجب - ونحن نعني اكثر 
من شيء . 

ا SRE‏ سنو ف رظني EEG‏ م‌عانی كلانيا ها الشف ينا 
عانی ... واستبد خلالها الحکم العسكري ما استبد .. 

انتهی كل شي ء وبقیت الدروس والعظات . 


۶ الفصل السابع عشر 4 


© كيف جرت مفاوضات ۲٩‏ اکتویر ۱۹۱۶ ؟ 
© تشکیل حكومة الثورة . 

© اعتقال اعضاء المجلس الأعلى 

© الشعب يطالب بفتح القضايا «المختنقة » 





17م . 
كيف جرت مفاوضات 59 أكتوبر ۱۹۹۶ 


ظلت جماهير الشعب السوداني طيلة الايام الثلائة الماضية تعيش على اعصابها 
وتتحرق في انتظار المفاوضات الجارية بين الجبهة القومية المتحدة ورجال القوات المسلحة 
التي ما زالت مستمرة في جو يسوده الهدوء والتفاؤل وحسن المقاصد وكانت جميع 
الاطراف المجتمعة حريصة إلى الوصول إلى نهاية طيبة تحقق للشُعب السوداني العظيم 
أهدافه العليا التي قامت من اجلهاء واكد المجتمعون بانهم يقدرون الحالة العصيبة التي 
یعیشها الشعب غير انهم ياملون ان يتذرع بالصبر ويتحلى بالاخلاق السودانية الكريمة 
مقدرا دقة واهمية المفاوضات حتى تخرج سليمة نظيفة من كل خطر . 

عقد اول اجتماع بين وفد الجبهة القومية المتحدة والقوات المسلحة من الساعة الثانية 
ظهرا حتى السادسة مساء يوم ۲٩‏ أكتوبر ثم تفرق المتفاوضون للاجتماع بهيئاتهم 
لاستعراض الموقف معهم . 

زال الخلاف الکبیر بين الجبهة القومیة وممثلي رئاسة الجیش حول السلطة الدستورية 
فقد اقترح في بداية الامر ان یکون مجلس سيادة مشترك ولکن بعد نقاش مستفیض 
توصل الطرفان إلى حل يحقق اهداف الشعب العلیا ویحفظ للبلاد وحدنها وکرامتها وهو 
ان یقتصر رأس الدولة على شخص واحد هو السید الفریق ابراهیم عبود على ان یمارس 
سلطاته من دستور عام ۱۹۵۲ العدل الذي یوافق بموجبه رأس الدولة على اي قرار 
يجيزه مجلس الوزراء بثلثي الاصوات . ۱ 

© صرح «للصحافة » مصدران کبیران في الجبهة الوطنية للهیئات بانهم قبلوا براس 
الدولة السید الرئیس الفریق ابراهیم عبود ما دام یستمد سلطاته من دستور ۱۹۵۲ 
العدل الذي یحقق اهداف الشعب العلیا . 

© .. واصل وقد الجبهة القومية اجتماعاته مع جبهته لاختیار مرشحیهم من الوزارة 
وبعد نقاش طویل توصلوا إلى اختيار السادة الاتیة اسماؤهم : 

الانصار : محمد احمد محجوب . 

الختمية : الدکتور احمد السید حمد 

الوطني الاتحادي : مبارك زروق . 


الاخوان المسلمون : الرشید الطاهر المحامي . 

الشیوعیون : احمد سلیمان . 

© وفي الساعة الحادية عشرة اجتمعت الجبهة الوطنية للهیئات بمباني الجامعة 
واستمعت إلى تقرير واف من مندوبیها ثم اجتمعت بها مرة انية من الساعة السادسة 
والنصف حنی الساعة الثامنة حیث تمت الترشیحات الاتية : 

المحامون: عابدين اسماعيل . 

الاطباء: طه بعشر . 

المزارعون : الشيخ الامين محمد الأمين . 

العمال: الشفيع احمد الشيخ . 

المهندسون : عبدالرحمن احمد العاقب . 

السادة : الدكتور حسن الترابي وسر الختم الخليفة وعبدالكريم ميرغني . 

هذا كما وضع کشف احتياطي للجبهة القومية المتحدة لاختيار من تريد في حالة عدم 
قبول أحد من الثمانية الرشحین الاوائل والكشف الاحتياطي هم : 

الدكتور سيد احمد عبدالهادي . 

مهدي شريف المحامي .. 

مبارك سداد . 


۱۹۱۶ دیسمیر‎ ١ 
اسرار تشکیل الحكومة القومية‎ 


© كيف سوي الخلاف في مشكلة رأس الدولة!؟ 
© من هو رئيس الوزراء الذي انتخب في الثالثة صباحا ورفض .. بالتلفون ؟ 
© حسن فحل یحضر سر الختم من منزله للرئاسة في الرابعة صباحا 

.. هذه اسرار نذیعها لاول مرة علها تبتعد بالقاریء الکریم قلیلا من جو التوتر الذي 
تعيشه الاعصاب هذه الایام .. ولعلها من الامانة الا نترك التاريخ يمر دون ان نسجل 
الاحداث التي شهدتها اللحظات الرهيبة ونحن في الشارع نعيش على اعصابنا في انتظار 
تشکیل الحكومة القومية بعدما انتصر الشعب في نورته الباركة التي اشتعلت یوم ۲۱ 
اکتوبر ۱۹۹۶ ... نحن الان في امسية یوم الجمعة ۳۰ اکتوبر ۱۹۰۶ نواجه اطول 
لحظات في حیاتنا طيلة الليالي الاربع الاضية التي قضتها الجبهة القومية الوحدة في 
مقاوضات طويلة بینها وبين نفسها ... وبینها وبين مندوبي القوات السلحه . السماء 
تغطیها السحب . واللیل صامت .. والهواء قد توقف الا من انفاس الواطنین في العاصمة 
واقالیم السودان وهم یتابعون الاذاعة ویتطاولون باعناقهم كلما اعلن الذیم هنا 
امدرمان ! ! 

.. الاعصاب كلها مرهقة ؛ والناس اصابهم الاعیاء وقد بدأت اللحظات الثقيلة تمزقهم 
وتملا رژوسهم بالقلق والخاوف .. کل شيء كان اثرا ولکن في صمت . العیون كانت 
ثاثرة ... والاتفاس كانت ثاثرة .. وانطفأت في الوجوه کل معاني الابتسامة وکانت 
العیون .. کل العیون ترسل بریقا لامعا محمرا كله تساول» وتحفز وترقب وانتظار 
وامل ! ! 

.. وانتصف اللیل ووفد الجبهة القومية الوحدة یتفاوض في جلسته الاخيرة في مبنی 
القوات السلحة بالخرطوم .. 

.. كانت جلسة حاسمة ارتفعت فیها الاصوات ‏ وثار فیها من ار واحتدم النقاش في 
مواضع » وهدأ في مواضع اخری لکن الروح والهدف والامال والغایات التي يسعى الیها 
الجانبان ف تلك اللحظات كانت موحده . 

.. لم يكن ممثلو القوات السلحة بأقل رغبة من ممثلي الجبهة القومية في انهاء الازمة 
وتشکیل الحکومة ولکن كانت هناك عقبات لابد ان تظهر وقد ظهرت وارتفعت 
الاصوات ولکنها سرعان ما تهدأ ویتفق الجانبان . 

.. الوضوعان الکبیران اللذان اثارا جدلا کانا موضوعي رأس الدولة ورئیس 
الوزراء . 


.. كان السيد بابكر عوض الله اكثر الناس اصرارا على الا يبقى عبود رأسا للدولة 
مهما كانت النتائج وارتفعت الاصوات من الجانبين وتبودلت الاراء حتى اعطيت الكلمة 
للسيد الصادق المهدي الذي قال: 

.. ليس مهما ان نبحث الآن من سيكون رأس الدولة ولكن المهم ان نبحث ما هي 
سلطات رأس الدولة وما دمنا قد اجمعنا على اعادة دستور ١507‏ المعدل فمعنى ذلك 
لا سلطات لرأس الدولة فلا مانع عندنا من ان يكون عبود رئيسا حتى نحفظ لجيشنا 
كرامته ونصون عزته . 

... وسكت الجميع لأن الجميع قد اعتادوا ان يسكتوا لوجهات النظر ان كانت 
منطفية ومحترمة لان الجدل كان مستواه رفيعا لم يراع فيه غير المصلحة العامة . 

.. عرض منصب رئيس الوزراء على السيد بابكر عوض الله بالاجماع ولكنه رفض 
ان يذكر مجرد اسمه لاي ترشیح وزاري ... كان ذلك قبل الجلسة الحاسمة فاستجابوا 
لرغبته الملحة!! 

.. ثم جاء بعد ذلك دور الترشيحات وكان الاساس في اختيار رئيس الوزراء ان 
يكون مستقلا متزنا له صفات ترتفع إلى مستوى الاحداث . 

۰ رشح السادة محمد احمد محجوب وعابدين اسماعيل وطه بعشر ولكن حدنت 
بعض الاعتراضات نسبة لما يقال عنهم بان لهم اتجاهات سياسية خاصة فوافق الجميع 
وتقبل المرشحون الاعتراض بروح عالية .. الم اقل ان مستوى النقاش كان رفيعا لم 
يراع فيه غير المصلحة العامة!! 

.. وجاء اسم الدكتور مبارك شداد فوافق عليه الجميع وتناول السيد عوض 
عبدالرحمن صغير سماعة التليفون وكانت الساعة آنذاك تقترب من الثالثة صباحا واتصل 
بشداد وابلغه الخبر .. 

قال سداد : 

من هو رأس الدولة ؟ 

عوض : 

اتفق الحاضرون على ان يكون رأس الدولة هو الفريق ابراهيم عبود . 


03 


شداد : 

.. يؤسفني جدا ان ارفض المنصب ولكن لا مانع عندي ان اقبل منصب رئاسة 
الوزراء ان اتفق الجميع على ان يكون راس الدولة مجلس السيادة .. 

.. وذهبت كل المحاولات لاقناعه ادراج الرياح ووضع عوض واخوانه الذين اشترکوا 
في الحديث سماعة التليفون وعادوا من جديد يبحثون عن رئيس وزراء اخر !! 

.. نسيت ان اذكر ان خلافا نشب فيما يختص باعلان حالة الطوارىء وكان الاستاذ 
حسن الترابي هو الذي اثار النقطة . 


۳۱۰ 


.. من هو الذي يعلن حالة الطوارىء وكيف ومتى ؟ ! 

اتفقوا على ان من حق رأس الدولة ان يعلن حالة الطوارىء لمدة ۲۶ ساعة فقط في 
حالات الحرب او حدوث مخاطر على ان يبحث الموضوع مجلس الوزراء لاستمرارها 
وبالعدم فتنتهي تلقائيا ف ٤‏ ساعة. 

.. خرج مزمل سليمان غندور ومعه الاستاذ حسن الترابي من القاعة وعادا ليعلن 
الترابي بانهما قد اتفقا حول هذه النقطة . 

.. انتهت الحادنات مع الدكتور سداد وعاد المتفاوضون من جديد یبحنون عن 
رئيس وزراء أخر واتفقوا على سر الختم الخليفة وشارفت الساعة آنذاك على الرابعة 
صباحا . 

.. ذهب حسن فحل بعربته إلى منزل السيد سر الختم الخليفة وعاد به إلى القوات 
المسلحة ف حجرة قريبة من صالة الاجنماعات فدخل اليه اللواء عوض عبد الرحمن 
صغير والطاهر عبدالرحمن وابلغاه بالنبأ فوافق في الحال واقبل عليه الاعضاء بهنئونه .. 

.. كان رأي وفد القوات المسلحة ان يكون منصب وزير الدفاع العسكري حتى يكون 
حلقة الاتصال بين الحكومة والقوات المسلحة للاستفادة بخبرته وعلاقته الفنية ولكن لم 
يؤخذ بهذا الاقتراح . 

.. في تلك اللحظات كانت امام السيد سر الختم الخليفة مهمة صعبة في تحديد 
الوزارات لكشف الوزراء الجاهز الذي اعطي له وعلى الرغم من انه كان هناك شبه اتفاق 
على تحديد الوزارات الحساسة لاعضاء معينين فان السيد سر الختم الخليفة هو الذي 
شكل الوزارة واعلنها للمجلس دون ان يعلم احد اعضاء الوزارة اي وزارة ستعطى 
اليه . . 

.. ومع اشراقة الصباح هدأت الصالة التي شهدت اضخم مفاوضات في تاريخ السودان 
في مبنى القوات المسلحة وذابت علائم الحزم والثورة والاصرار لتحل محلها الابتسامة 
التي تشبه في اشراقتها اشراقة ذلك الصباح واعلن النباً فأقبل الناس بعضهم على بعض 
يتعانقون وتشكل مجلس الوزراء وادى القسم وبدأ يوجه اعسر مهمة... في اخطر 
مرحلة واجهها السودان في تاريخه الحدیث!! 


نص البيان التاريخي الذي اذاعه معالي السيد سر الختم الخليفة رئيس الوزراء 
للحكومة الانتقالية الجديدة يوم ۳۰ أكتوبر ۱۹۹۶ 

مواطني الكرام : 

اليكم اطيب تحية : 

لقد خط الشعب السوداني في الاسبوع الماضي صفحة ناصعة البياض في تاريخه وخطا 
خطوات نحو النضوج والكمال يشهد بها الجميع في داخل البلاد وخارجها .. وليس ادل 


۳ ۱ 


على هذا النضوج السياسي والعاطفي والاجتماعي الذي بلغه الشعب السوداني الابي . 
من ان يلتقى ابناژه من القوات المسلحة وممثلي الجبهة القومية الموحدة تحدوهم مصلحة 
الوطن وارادة ابنائه في نقطة سياسية رئيسية واحدة هي العمل المخلص الجاد على 
تحقيق تلك المصلحة وتلبية تلك الارادة الشعبية التي تفوق كل شيء. 

لذلك يسرني ان اعلن والغبطة تملا جوانحي انه قد تم بحمد الله وتوفیقه ‏ الاتفاق 
الشامل الكامل بين مندوبي القوات الوطنية المسلحة وممثلي الجبهة القومية الموحدة من 
ابناء هذا الشعب الابرار بعد سلسلة من الاجتماعات دامت طوال النهار والليل منذ يوم 
الاربعاء الوافق ۲۸ اكتوبر سنة ١9514‏ حتى فجر هذا اليوم ۳۰ اكتوبر . 

ويسرني ويسعدني اکثر من هذا انه قد ساد المفاوضات التي جرت ف تلك الايام 
التاريخية الفريدة جو من المحبة والاحترام المتبادل والثقة الحسنة لم يسبق لها مثيل في 
بلد لم ينقض على الحكم الاجنبي فيه سوى سنوات لقد تم كل هذا ايها السادة بفضل 
وعي الشعب وكفاحه وبفضل اخواننا الابرار في القوات المسلحة وقوات الامن الذين 
تجاوبوامع رغبات الشعب وامانيه لذلك فاننا نسجل لهم هذا الجميل لما ابدوه من 
تجاوب مع بني وطنهم ومن ادراك لقداسة الشعب وحقه في الحياة الكريمة التي تقوم 
على اساس الديمقراطية العملية النزيهة .. 

ايها المواطنون الابرار : 

لقد تم الاتفاق بين ابنائكم واخوانكم في القوات المسلحة وممثلي الجبهة القومية 
الموحدة على ان تقوم حكومة انتقالية تتولى الحكم وفقا لاحكام الدستور المؤقت لسنة 
17 وسيكون السيد الفريق ابراهيم عبود راسا للدولة وسيباشر السلطات المنصوص 
عليها في ذلك الدستور والتي كان يباشرها مجلس السيادة من قبل على ان تكون 
مباشرته لتلك السلطات بمشورة مجلس الوزراء وسيتولى رأس الدولة بالاضافة إلى ذلك 
تصريف كل الامور المتعلقة بالقوات المسلحة . 

ايها المواطنون الاعزاء: 

كل هذا وضع انتقالي مؤقت ينتهي باجراء انتخابات حرة عامة تشرف عليها لجنة 
مستقلة في تاريخ لا يتعدى شهر مارس ١510‏ لقيام جمعية تاسيسية يقع على عاتقها 
وضع الدستور الدائم واقراره وقيام حكومة يختارها الشعب ۰ وحتى يتم وضع الدستور 
الدائم ستقوم الجمعية التأسيسية بمهمة التشريع وفقا لاحكام الدستور المؤقت وفي خلال 
فترة الانتقال ستقوم الوزارة الانتقالية بالاضافة إلى سلطاتها التنفيذية بمهمة التشريع على 
ان يخول لرئيس الدولة اعادة اي امر لم يجزه مجلس الوزراء باغلبية ثلي الاعضاء الا 
ان اي تشريع يجيزه مجلس الوزراء بأغلبية ثلثي الاعضاء يصير قانونا . 

ايها المواطنون: 

لقد اجمعت الجبهة القومية الموحدة ووافق السيد الفريق ابراهيم عبود على تشکیل 


۳1۲ 


الحكومة الانتقالية على الوجه التایی : 

سر الختم الخليقة 

مبارك زروق 

محمد احمد محجوب 

احمد السید حمد 

محمد صالح عمر 

احمد سليمان 

عابدين اسماعيل 

الامين محمد الامين 

عبدالرحمن احمد العاقب 

خلف الله بابكر 

عبدالكريم ميرغني 

رحمه الله عبدالله 

امبروز وول 

كلمنت امبورو 

الشفيع احمد الشيخ 

كما تم الاتفاق التام بين مواطنيكم ممثلي الجبهة والقوات المسلحة على المبادىء الاتية : 

أولاً: تصفية الحكم العسكري الحالي . 

انیا : اطلاق الحريات العامة كحرية الصحافة والتعبير والتنظيم والتجمع . 

ثالئاً: رفع حالة الطوارىء والغاء جميع القوانين المقيدة للحريات في المناطق التي لا 
يخشى فيها من اضطراب الامن . 

رابعا : تأمين استقلال القضاة . 

كامسا : نامين, استقلال الحافعة : 

سادسا : اطلاق المعتقلين السياسيين والمسجونين من المدنيين في قضايا سياسية . 

سابعا : ان ترتبط الحكومة الانتقالية بانتهاج سياسة خارجية ضد الاستعمار 
والاحلاف . 

امنا : تكوين محكمة استئناف من عدد من القضاة لا يقل عن خمسة تؤول اليها 
السلطات رئيس القضاة » القضائية منها والادارية . 

تاسعا: ان تكون لجنة لوضع قوانين جديدة تتمشى مع تقاليدنا . 

مواطني الاعزاء : 

هذه لحظة تاريخية فريدة رائعة » وكلي ثقة في انكم سترقون إلى مستواها والله 
وام والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته 


TI 


2 س دم 
2 





ولد في عام ۱٩۱۷‏ في الدويم تخرج من كلية غردون مدرسا في عام ۱٩۳۷‏ . 

عمل فترة في كلية غردون ثم نقل إلى بخت الرضا فكان من المشرفين على شعبة 
التربية الوطنية . 

ذهب إلى المملكة المتحدة عدة مرات لتلقي كورسات في التربية وعلم النفس كما 
اشترك في مؤتمرات تربوية في جامعة اكسفورد في الاربعينيات وعدة جامعات بريطانية 
في الخمسينيات وكان من الاعضاء البارزين في المؤتمرات التربوية . 

ذهب في عام ١51١‏ إلى امريكا للتعرف على البرامج الفنية . 

يجيد اللغتين العربية والانجليزية .. يهتم بقراءة العلوم السياسية والاجتماعية كما انه 
يواصل سير التيارات الفكرية في العالم فهو لا ينام الا بعد ان يقرأ ساعتين كل ليلة .. 
اشترك في الهيئة الانتخابية في عام 37 وني عام ۱۹۲۰ أصبح عميداً للمعهد الفني ثم 
تم اختياره نائبا لوكيل وزارة التربية والتعليم في عام ٠۹٦١‏ . 

هوايته المطالعة وميزاته الدبلوماسية واجماع الناس على حبه واحترامه . 

من اكثر السودانيين معرفة بالجنوب وصداقة مع ابنائه المتعلمين خاصة انه كان مديرا 
للتعليم هناك خمس سنوات . 

وطني غيور يعتبر اصغر من تولى رئاسة وزارة في السودان . 





مبارك زروق: 


احد خريجي الدفعة الثانية من مدرسة الحقوق» اشتغل بالحاماة . 
اشترك في النشاط السياسي وهو احد اقطاب الحزب الوطني الاتحادي . 


۳۶ 


0 في اول حكومة وطنية وزيرا للمواصلات ثم وزيرا للخارجية . 
عتقل في الجنوب اثناء الحكم العسكري . 
7 من العمر حوالي ۶۷ سنة. 


منزوج . 


محمد احمد محجوب : 


اول خريجي الدفعة من مدرسه الحقوق بالسودان . 

عمل قاضیا وتدرج في سلك القضاة حتی اصبح قاضیا للمحكمة العلیا . 

استقال من منصبه لیتفرغ للنشاط السياسي » واشتغل بالحاماة وکان من اقطاب 
حزب الامه . 

كان وزیرا للخارجية في الوزارة القومية ... احد الذين اعتقلوا في الجنوب خلال 
الحکم العسكري.من رجال الفکر والادب والشعر ... متزوج وأب . 
خلف الله بابکر 

خریج كلية غردون القديمة عام ۱٩۳۲‏ امضی عامین في مدرسة کنشنر الطبیه ‏ 
اشتغل بعدها ضابطا للصحة في وزارة الصحة تدرج في مناصبها حتی وصل إلى وظيفة 
کبیر مفتشي وزارة الصحه . 


اديب وشاعر مرموق كان من اقطاب حزب الاتحادین . 
نجاوز الخمسین متزوج واب . 


عبدالكريم ميرغني : 


ولد في عام ۱۹۲۳ وتلقی تعلیمه في مدرسة امدرمان الوسطی وکان يشترك مع 
زملائه بابکر احمد موسی ومكاوي مصطفی فى اصدار مجلة خطية بشرف عليها الاستاذ 
الهادي . ۱ 

التحق بکلیه غردون في عام ۱۹۳۹ وبعد تخرجه من القسم الثانوي التحق بقسم 
الادارة وعین عقب تخرجه نائب مأمور ولکنه استقال من منصبه وعمل مدرسا بالدر سه 
الاهلية وکان یدرس علم التاریخ ... تم اختیاره في عام ۱۹۵۰ في السلك الدبلوماسي 
حتی ترقی سفیرا . 
محمد صالح عمر : 

تخرج من كلية الشريعة بجامعة الخرطوم . 

امضی عامین في لندن حیث نال درجة الاجستیر في الشريعة الاسلامية . 


عضو ى كماع الاخوان شین 
عمر ه ۳ سئه مزوج واب . 


ولد ف عام ۱٩۳۶‏ وتخرج من مدرسة امدرمان الثانوية وعمل مدرسا لعام واحد ف 
مدرسه بورنسودان الاهلیه نم عاد عام 5 إلى المدارس العليا والتحق بمدرسة 
الاداب . 

نزح إلى القاهرة وتم التحاقه بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وعاد إلى السودان والتحق 
واشترك في كل الحركات الوطنية وكان من طلائع الكفاح في صفوف الطلبة في القاهرة 
ووقف ضد كل المواقف الانتهازية » تعرض لكثير من الاعتقالات کما, سجن عدة مرات 
ونفي الى ناقشوط مع انه كان يعاني من المرض ... ونقل بعد ذلك إلى مستشفى 
الخرطوم . 

ميزاته وطنية صادقة وعدم مساومة وكرم اصيل وخلق سوداني عال له صداقات في 
كل قطاعات الشعب السوداني . 


الدكتور احمد السيد حمد: 


ولد بالكوة عام ۱٩۱۸‏ وتلقى تعليمه الاوسط بمدينة بورتسودان . 

هاجر إلى القاهرة في عام ۱۹۳۶ والتحق بمدرسة حلوان الثانوية وكان رئيسا لرابطة 
الطلبه السودانيين . اشترك ف فك الحصار على النادي السوداني ف عام ۱۹۶۱ وهدده 
وكيل حكومة السودان المستر هازالدين في ذلك الوقت بالطرد من مصر . 

تخرج من كلية الحقوق بجامعه القاهرة عام ۱۹۶۶ ثم اختير ف بعئة الى جامعة 
السربون فنال دبلوما في القانون العام كما انه نال دكتوراه الجامعة في القانون . 

عمل بالصحافة بعد تخرجه من كلية الحقوق القاهرية وكان رئيسا لتحرير صوت 
السودان هاجم الاستعمار وشن حربا شنعاء على الجمعية التأسيسية التشريعية رجع إلى 
السودان عام ۱۹۵۶ وعمل في الصحافة رئيسا لتحرير جريدة العلم فترة من الزمن . في 
القترة الاخيرة كان رئيسا لجريدة صوت السودان حتى تخلى عن الصحافة وتفرع 
للمحاماة .. متزوج وليس له اطفال . 
عابدين اسماعيل : 

ولد في عام ۱٩۹۱۵‏ والتحق بكلية غردون بقسم المهندسين ولكنه فصل في اضرابات 
الكلية فنزح إلى القاهرة وجلس لامتحان الكفاءة وتم قبوله بمدرسة حلوان الثانوية ونال 
شهادة البكالوريا بامتیاز . تخرج من كلية الحقوق في عام ۱۹۶۱ وكان من الاوائل 


51١1 


فعرض عليه ان يكون معيدا بالجامعة المصرية ففضل الرجوع االى السودان واجتاز 
امتحان المعادلة . 

افتتح مكتبا للمحاماة بمدينة بورتسودان ف عام ١54“‏ وانتقل في اوائل الخمسينات 
إلى الخرطوم اشترك في کل الحرکات الوطنية منذ ایام الدراسة كما انه اشترك في لجنة 
الکقاحم وخطب في الجماهیر ودافع عن الحقوق الوطنية والسياسية . 

یرس نقابة المحامين ... متزوج وأب . 
کلیمنت امیورو : 


تخرج من مدرسه الادارة . اول جنوبي ندرج ف الناصب الاداریه حنی وصل الى 
وظيفة سكرتير مجلس مديرية دارفور . زار المملكة المتحدة والولايات المتحدة . 
متزوج واب . 


الشيخ الامين محمد الامین : 


اول مزارع سوداني ینوی منصب الوزارة . 

من مزارعي الجزيرة وقد لعب دورا هاما في تكوين وبناء اتحاد المزارعين الذي تولى 
رئاسته اكثر من مرة . من قرية معيجنة بالجزيرة وهو من الحلاوين . 

اشترك في النضال السياسي قبل الاستقلال وبعده بنشاط وافر وكان عضوا في اللجنة 
التنفيذية للجبهة المعادية للاستعمار اول مزارع ينتخب ممثلا للمزارعين في مجلس ادارة 
القؤيوة «وذلك يعد اتفخابات: اتحاف الؤادعين الأحيرة: 


رحمة الله عبدالله : 


ولد في عام ۱٩۲۱‏ وتخرج من كلية غردون كما انه درس في مدرسة الاداب بجامعة 
الخرطوم وعمل مدرس فترة في المدارس الوسطى وف بخت الرضا حتى بعث الى 
جامعة كمبريدج حيث نال درجة البكالوريوس في التاريخ وعاد ليعمل مدرسا في مدرسة 
حنتوب الثانوية . 

تم اختياره بعد الاستقلال سفيرا للسودان في الهند ويعمل الان سفيرا في باريس . 

هوايته قراءة الاداب والتاريخ ومشاهدة المسرحيات العالمية والاستماع إلى الموسيقى . 

متزوج واب . 


عبدالرحمن احمد العاقب : 


۳ ۷ 


هناك ولما عاد والده الى السودان عين ناظرا للمدرسة الاهلية الوسطى فلم يطلب مرتبا 
غير ان يضمن له ما يقيم اوده ويحفظ طعام ابنائه . 

تعرض عبدالرحمن احمد العاقب الى الموت اذ سقطت به الطائرة التي كان يستقلها 
في ايطاليا فانقذه من الموت الجوال سعيد محمد نور وسبح به حتى شاطىء النجاة . 

يمتاز بالهدوء والتامل البعيد والعقلية العلمية الحايدة . 

اخر منصب كان يقوم به هو كبير مهندسي بلدية الخرطوم . 


الصادى الهدي: 


۰ عقد السید الصادق الهدي موْتمرا صحفیا یوم ۳۰ اکتوبر ۱۹۶ بامدرمان تحدث 
فيه عن الجبهة الوطنية التحدة منذ تكوينها في نوقمبر ۱۹۲۰۰ ونضالها ووقوفها في وجه 
الحکم العسكري؛ وقال اننا نؤيد الحکومة القومية الانتقالية بکل قوانا حتی تنجز الیاق؛ 
ونناشدها ان تراعي الحیاد التام بين الاحزاب والاتجاهات الفكرية الختلفة . كما ناشد 
الحکومة ان تطلب من اخواننا الجنوبیین ان یضعوا السلاح فورا ویعدوا انفسهم للوصول 
لحل سياسي مع اخوانهم في السشمال» وان تعين لجنة الانتخابات فورا لتمارس اعباءها 
وفق قانون الانتخابات لسنه ۱۹۵۲ وتوجهت الجبهة للشعب بنداء تطلب فيه الصفح عما 
سلف حنی تقوم الدیمقراطیه في جو خال من الاحقاد وان يكون مرد الاضي للقانون 
وحده یحکم فيه بالعدل » وان تقيد الحریة بمقاییس خلقیه فلا نفسح سبیلا للمهاترات 
والشتائم والاستعداد لعاونة اولیاء من آدوا عنا واجب الفداء بدمائهم وارواحهم . 

ان الجبهة تری ان العمل السياسي في النظام الديمقراطي لا بستقیم الا اذا ارتفع 
التنظیم الشعبي إلى مستوی السئولية في البلاد » ولدا فانها سوف تعلن عن تنظیمها الذي 
کون نها کل هی نکن موان يريك ان هاه ق تهر آلشودان وها الوظن 
وفق برنامج وطني محدد العالم .. 


الازهري : 


وأصدر السید اسماعیل الازهري بیانا یهنیء فيه الشعب السوداني بانتصاره الرائع .. 
ویعبر فيه عن فرحته بعودة الحياة الدیمقراطیه وتصفية الاوضاع السابقة ... ویدعو فيه 
إلى نکران الذات والتمسك بحرية البلاد ... ویناشد البیان جماهیر الوطني الاتحادي 
بتنظیم صفوفهم لخوض العركة الانتخابية القبلة . 

© اما رئيس تحریر «الصحافة » فقد کتب تحت بابه العروف عزيزي القاریء یقول 
بهده الناسیه بتاریخ ۲۳ 4 ۱ : 

.. كان بیان الحكومة الذي صدر امس الاول بیانا قویا یتمشی مع ارادة الشعب. 
ویتجاوب مع مصالح البلاد وقد حوی کل ما جاء في الیثاق القومي الذي تعاهد الشعب 


۳۱۸ 


على تنفيذه وبدأ به انطلاقته ومسيرته الشعبية الضخمة التي انتهت بالنصر المبين .. 

.. ان الستقبل الذي يواجهنا في غدنا المشرق يحتاج منا ان نرتفع ونسموء إلى 
مستوى الاحداث وان نوفر للحكومة الهدوء والاستقرارء وان ننکر ذواتنا ونخلص في 
اقوالنا وافعالنا ونضاعف انتاجنا» ونغسل من نفوسنا وقلوبنا كل حقد وكره واثاره. 
ونحارب الدسائس والشائعات ونزيل من نفوسنا الخصومات وليكن لنا في الدماء 
والدموع والعرق والانين والتوجع والالم وتمزيق الاعصاب ابان ايام المنحة ... فليكن لنا 
في كل ذلك عظات وعبر ترتفع بنا إلى مستوى الشهداء. وتدفعنا ابدا إلى مزيد من 
الاخلاص والحب والوفاء والامانة والتضحية .. 

.. ان حكومة الشعب هي اول حكومة تشرف الصحافة السودانية فتذكرها وتذكرها 
في بيانها التاريخي بواجبها المقدس .. ونحن اذ نشكر حكومتنا لهذه اللفتة المقدرة » نعلن 
في صدق وفي اخلاص ... وفي شجاعة وايمان باننا سنقف إلى جانب الشعب ونعمل على 
تدعيم الميثاق القومي ‏ وصيانة الدستورء وتحقيق العدالة والمساواة والطمأنينة 
والاستقرار .. 

.. ستكون «الصحافة » منبرا حرا لكل رأي حر بناء سليم دون ان تسمح بالهاترات 
والتخريب والهدم .. ودون ان تضعف او تجامل او تلين .. ودون ان تحقر او تخدس 
مشاعر الفرد او هيئة او حزب او جماعة . 

ستكون «الصحافة» في خدمة الشعب والوطن » فما صدرت الا له ولن تبقى الا 
به... وفقنا الله على اداء مهمتنا العسيرة ‏ وامدنا بنور الهداية والحكمة والرشاد والله 
اكبر والعزة للشعب والوطن . 


۵ 7 
عزيزي الفاریء 
الشعب یطالب بفتح القضایا التي اختنفت !۱ 


.. ناصر الشعب صحافته الحرة فنصرته وناصرته فتجاوبت الحکومة الوطنية مع 
رغبات الشعب واصدرت قرارها امس بایقاف مدير البولیس ونائبه ومساعده بغرض 
اجراء تحقیق فیما وجه الیهم من اتهامات . ونحن نأمل صادقین ان تتاح لكل مواطن 
اتهم في قضية من القضایا الفرصة التامة للدفاع عن نفسه في جو تتوفر فيه کل معاني 
العدالة . 

.. اننا لا نهدف إلى ايذاء الناس . واخذهم بخطایا غیرهم ولکنا فقط نسعی للحقائق 
في جو بعيد عن الاحقاد والکراهية حتی تعود الطمانينة إلى النفوس بعد ان فارقتها 
ردحا من الزمن . 

.. والحديث عن الفساد كثير لا ینقطع .. فساد ف استغلال السلطة ... وفساد ف 
الاخلاق ... وفساد في التحقيق وتجبر وتسلط لا حدود له.. 

لم تكن بلادنا من قبل تعرف الرشوة .. ولم تكن تعرف المحسوبية .. ولم تكن تعرف 
الاستبداد لكنها اندحرت في سنواتها القليلة الماضية بسرعة الصاروخ إلى الهاوية .. إلى 
اعمق اعماق الفساد وكأنها لم تعرف في ماضيها البعيد والقريب اي معنى للفضيلة 
والرجولة والشهامة والعدل والکرم .. ۱ 

.. لقد بدأت بلادنا في سنینها القريبة الزائلة ما انتهت اليه اسوأ بلاد العالم من 
الفوضی والفساد والاضطرابات وکنت وانا اتابع الاحداث واستمع إلى الماسي التي تحدث 
کل لحظة في دواوین الحکومه .. وقي الاسواق .. كنت اتمنى الزید من الفساد والفوضي 
والعبث حتی يكتوي الشعب في رجولته وعزته وکرامته فینتفض کالارد ليحمي نقسه من 
نهاية الأساة .. من نهاية السرحية التي اوشك ان يروح ضحیتها بعدما داست الاقدام 
على مقوماته فکان ان انفعل وانتفض فتحرر وبدأ یوما جدیدا من عمره الطویل الزاهر 
بادن الله . 

.. لقد عم الفساد جمیع اجهزة الدولة وانعکس على شُخصيتها العالية بعد ان 
«تحنطت » جمیع سفاراتنا وفیها طاقات وکفاءات كانت كلها تعيش في اجواء من الفیظ 
والحرقة ؛ وبحورا من الدموع والتحسر والالم . 

.. هناك قضايا عديدة . قضایا الاخلاق .. وقضایا الفساد .. وقضایا الرشوة .. وقضایا 
الحسوبية .. وقضایا الاختلاسات وعلی رأسها اختلاسات النویلة! قضایا جديدة امتدت 
اليها الايدي القوية فخنقتها في مهدها لدرجة انطمست معها معالم العدالة واوشکت ان 


۳۲ ۰ 


تضيع خيوطها وسط الرياح السامة العاتية . 

ان الشعب الذي سلب بالامس كرامته وعزته وحقوقه ودفع في سبيل استعادتها 
الدموع والدم ... هذا الشعب يطالب كذلك باسترداد حقوقه المغتصبة ... كل حقوقه بلا 
مجاملة © وبلا مساومة . 

.. الشعب یطالب بفتح جميع القضایا التي اختنقت في العهد الاضي قضایا 

الرشوة ... وقضایا الاختلاسات .. وقضایا القتل!! الشعب یطالب باستعادة کرامته 
وحقوقه التي سلبت في کل میدان وسیظل كله عیون ترقب الخطوات ‏ وتعد الانفاس ‏ 
وتحصي الحرکات حتی یحقق اهدافه ویتوج انتصاره الذي بدأ بالامس القریب فیسیر في 
طریق الجد والخلود دون ان تعترض سبیله الاشواك والاحقاد ومواکب النافقین 
والرنشین والفسدین وانا لننظرون . 


الصحافة تتابع اعتقفالات اعضاء الجلس الاعای والدنیین 
من البداية إلى النهاية ب ۱۹۲۶/۱۱/۱۰ 


علامات استفهام كبيرة ظلت معلقة في سماء الخرطوم في الاسبوع الاخير بعد انتصار 
ثورة الشعب بعضها تخرج من نکنات الجيش وترسم في الاذهان اسئلة حائرة ... هل 
الوضع “سيكب اكل الح 5 وما هى مصيد لاط الكخران اين عا رة 
الشعب ::؟ واعضاء الجلس الاعلی «النحل » هل حملوا ادانة الشعب لهم وابتعدوا من 
مرخ الحوادك رده ام انیم هات :وراه ااي 9 

اسئلة حاثرة كانت تضرج بها بعض علامات الاستفهام من داخل الثكنات .. 
وعلامات استفهام اخری كانت تخرج من داخل مجلس الوزراء ... ما هو صدی اجماع 
الف وفطالنه التق .مغ منز دلوا الأساة؟* وان أى مى ت سلطات بوزیر 
الدفاع داخل رئاسة الجيش ؟ 

كانت هذه العلاماك مها تتشر جرا من الشنات: والفموظن كم تاه السودان. 

حتى كان امس الاول وبداً الغموض ينقشع قلیلا ... وانطلقت اشاعات تقول ان 
بعض العناصر في الجيش قد قامت باعتقال بعض الضباط الاحرار كما ان حركة 
اعتقالات وانبهد. تخل .تتن لزنب ارم مهم وغل اند هذى الاعات 
اجتمعت الجبهة القومية برئيس الوزراء وابلغته بأمر هذه الاعتقالات ومن جانب اخر 
فق اتخفعك نفب المخامين ‏ ورفخت مذكرة هافة اثارت فيه الى اخطان كييزة تیوه 
ثورة الشعب ما لم تتخذ الحكومة خطوات حاسمة منها اعتقال اعضاء المجلس الاعلى 
السابق وجميع المشبوهين في جهازي الجيش والبوليس . 


5١ 


مجلس الوزراء يجتمع : 


في السادسة من مساء امس الاول اجتمع المجلس بكامل هيئته وانتدب رئيس الوزراء 
ومعه نلائة وزراء للاجتماع بالرئيس عبود وقال لهم الرئيس عبود بانه يعتبر توقيف 
الضباط امرا داخليا للجيش وانه اجراء عادي.ورد الوزراء بان هذا الاجراء موجه ضد 
الضباط الاحرار الذين ساندوا الحركة الوطنية وانه بادرة لافساد انتصارات الشعب وان 
هناك تحركات ونشاطا يقوم به اعضاء المجلس الاعلى السابق وبعض الوزراء السابقين 
ونفى عبود هذه المعلومات ورد عليه الوزراء بان الحفاظ على الوحدة القومية يقتضي 
اجراء اعتقالات عاجلة . 


مظاهرات عاصفة : 


وفي الثامنة مساء خرج طلبة جامعة القاهرة فرع الخرطوم في مظاهرة ضخمة اتجهت 
إلى مجلس الوزراء حيث رفعت عريضة للسيد رئيس الوزراء تعبر عن تأييدها التام 
للمجلس وتطالبه بالحفاظ على المكاسب باعتقال بعض الشخصيات ... ثم اتجهت 
المظاهرات إلى دار الرياضة فخرجت معها الجماهير الحاشدة وتدفقت بها الشوارع من 
جديد وانتظمت جماهير الشعب وعادت إلى مجلس الوزراء الذي اجتمع منذ الحادية 
عشرة حتى الثالثة صباحا وظلت جماهير الشعب ترابط بشارع النيل وهي تهتف وتنتظر 
فرارات المجلس . 


صدور القرارات 
الشعب وهي اعتقال اعضاء المجلس الاعلى اعتقالا تحفظيا مع احمد خير وزير 
الخارجية السابق وعباس فضل وأبارو . 


كيف نفذ الاعتقال : 


كانت وزارة الداخلية منذ انعقاد مجلس الوزراء تراقب الموقف وفي حالة استعداد تام 
للحفاظ على الامن والقيام بواجبها وظل جميع الضباط من كل الرتب في مكاتبهم حتى 
صدور اوامر الاعتقال ... في الثالثة صباحا كان قد تسلم قمندان وتسعة حكمدارات أمر 
الاعتقال التحفظي الصادر من السيد وزير الداخلية باعتقال اعضاء المجلس الاعلى 
السابق ووزير الخارجية وكبار رجال البوليس وحددت الثالثة والنصف موعدا لساعة 
الصفر ليكون كل ضابط امام منازل المعتقلين . 


TEY 


صاعة الصفر 

في حوالي الثالثة والربع صباحا انطلقت العربات من رئاسة وزارة الداخلية تحمل 
المعتقلون من نومهم مذعورين على طرقات قوية تدق ابوابهم . 

۰ فکیف فابل العتقلون الامر ... هاكم وصفا تفصيليا لما حدث فجر امس . 
حسن بشير: 

في الثالته والنصف صباحا كانت ید الحکمدار یحیی حسین تطرق باب منزل حسن 
بسير بشارع علي عبداللطيف بمنزله الحكومي الكبير واسنیقظ منزعجا فسلمه الامر 
الصادر باعتقاله فدهش ثم غاب لحظات ارتدى فيها زيه الرسمي وحمل (جلابية) 
وركب في العربة في طريقه إلى المطار مستسلما . 


طلعت فرید : 


توجه إلى منزله بالقسم الشرقي الحکمدار عبدالعزیز محمد عنمان حيث سلمه الامر 


رضا فرید : 

اعتقله الحکمدار فتحي حسن والي بمنزله الحكومي بالقسم الشرقي حیث سلمه أمر 
الاعتقال فارتدی ملابسه اللكية وتوجه نحو العرية وهو يحمل بعض الأدوية . 
مقبول الامین : 

انجهت عربة تحمل القمندان احمد کرار بشارع الجامعة وتوقف عند منزله فخرج 
الیها بعد ان تسلم امر الاعتقال وهو يحمل معه (جلابیة) . 

انعطفت عربة البولیس التي تحمل الحکمدار عصمت معنی بشارع السید عبدالرحمن 
جلابية وعادت العرية به إلى مطار الخرطوم . 
محمد أحمد عروة: 

وبضاحية الصافية التي كانت تغفو عند اطراف الخرطوم بحري توجه الحكمدار 


YY >ˆ 


فخرج عروة واستلم امر الاعتقال وركب العربة وهو يرتدي ملابسه الملكية ويحمل 
الجلابية وبعض الادوية . 


احمد مجذوب البحاري : 
وبالقسم الشرقي كانت عربة البوليس التي تحمل الحکمدار حسن صديق عيسى تقف 


امام منزل البحاري الذي خرج منزعجا حيث سلمه الحكمدار امر اعتقاله فارتدى ملابسه 
الملكية وحمل الجلابية وعادت به العربة . 


إل كوبر: 

وانطلقت ثلاث عربات اخرى من رناسة الداخلية تحمل اوامر الاعتقال لاحمد خير 
وعباس فضل وأبارو وعادت بهم لتدخل سجن كوبر وقد اعتقلوا على الوجه التالي : 
احمد خير : 

اعتقله الحکمدار محيي الدين حامد بمنزله ببري الشريف وقد قابل الامر ف دهول نم 
رکب العربة التي اتجهت به الى کوبر . 


عباس فضل : 


اعنقله الحکمدار نکولا ایویا بمنزله الحكومي بالخرطوم وارسل إلى سجن کوبر مع 
خیوط الفجر الاو . 


ابارو : 
وبمنزله خلف وزارة الزراعة بالقرب من وزارة الداخلية اتجه اليه الحکمدار سلیمان 
ابو داود حیث سلمه امر اعتقاله ... وغاب لحظات خرج بعدها إلى سجن کوبر . 


طائرة العتقلین : 

وفى السادسة والدقيقة الثالثة والعشرین وبعد ان اکتمل عدد العتقلین من اعضاء 
لاش الاعلی بقاعة مطار الخرطوم صدرت اليهم الاوامر بالاتجاه نحو الطائرة ومرت 
لحظات دارت فيها محرکات الطاثرة ثم حلقت متجهة بهم إلى الفاشر ... يرافقهم حرس 
خاص على رأسه حكمدار البوليس علي يسين واللاحظ القاضي بلبل وعدد من ضباط 
الصف ورجال البوليس . 


۳۳ ۶ 


في سطور: 


كان امر الاعتقال مفاجأة لكل واحد من المعتقلين ولم يعتقدوا ان اعضاء المجلس قد 
اعتقلوا جميعا حتى اجتمعوا في المطار . 

لم يسمح لهم بحمل حقائب وحاجيات خاصة ما عدا جلبابا. لكل واحد .. 

حمل عروة ورضا معهم بعض الادوية . 

كان حسن بشير الوحيد الذي ارتدى زيه العسكري وخرج يحمل معه جلابية .. 

لم يبد اي واحد منهم مقاومة او اعتراضا وانصاعوا للاوامر في صمت .. وبهدوء . 

سأل كل منهم الضابط الرافق له عن المكان الذي سيرسل اليه ... وكانت الاوامر الا 
يتحدث الضباط بذلك .. 

حسن بشير وطلعت ورضا ومحمد نصر والبحاري والمقبول اتجهت بهم الطائرة إلى 
الفاشر . 

اما احمد خير وعباس وأبارو فقد حملتهم العربات إلى سجن كوبر. 


۳۳۵ 


الفصل الثامن عشر 


| ۲ .اي لبي ف : 3 
لد ; 3 NE‏ %5 م 0 
۱ : ااا كوم 
Raa‏ +« 
١‏ 3 


.جد عل “اننا 4 
4 





3 / 
3 
7 5 ۱ 
8 ۳ 2 e ار“ چ و3‎ 
NI N ۳ r 


الخطيب الاول .. والمناضل الاول ٠‏ وعدو النميري الأول والأسطورة 
الخارقة التي لم تعرفها الروايات ولم تقدمها المسارح والشاشات . 

© خرج من السودان يوم انقلاب نميري وبعد خمسة عشر عاما 

من الكفاح عاد في صندوق الموت . 





.. جمعتنا قرية صغيرة في شرق الخرطوم تسمى (بری) كان والده الشريف يوسف 
الهندي زعيم الطائفة الهندية وهي الطائفة الثالثة في السودان بعد الانصار والختمية عرف 
بذكائه الخارق الذي انتقل الى ابنه حسين أضعافا مضاعفة لم يكن والده ميالا لتعليمه 
تعليماً عاليا مما جعل الشاب الصغير المتطلع الى الحياة يلجأ شاكيا مستجيرا بعمه 
الامام عبدالرحمن المهدي الذي تولى رعايته وعنايته وأشرف على تعليمه حتى وصل كلية 

و كان الشريف قد ولد وق فمه ملاعق عديدة » لا معلقة واحدة من دهب ‏ وكان 
بالطبع لا يعبأ في اجازاته أو في حياته اليومية ان يخرج ليشتري جلبابا او حذاء او 
عندما أزوره في غرفته الخاصة أجده سابحا في بحور وأمواج من الكتب والجلات 
والقصاصات ولكنها لم تكن كلها في الأدب والشعر والثقافة » ولكن معظمها و«بالقفة » 
كان قصصا لارسين لوبين وشارلوك هولز العريقين في حوادث الأساطير الخرافية 
ويبدو ان ذلك قد أثر تأثیرا مباشرا في تكوين الشاب الصغير الشريف حسين فقد اصبح 
وفيا وان كان مهملا في حياته لا يعبأ كثيرا بزيه أو بأكله أو شرابه أو مكان نومه . كان 
أديبا وبليغا وخطيبا وساخرا لأبعد الحدود وما أعتلى منصة الا وكان سيدها وفارسها 
وبطلها » فقد كان يعرف كيف يتصيد آذان وعيون الناس ويلعب بمشاعرهم وأحاسيسهم 
ويؤثر على عواطفهم تأثيرا يأخذ الألباب . نمت علاقاتنا منذ فجر الصبا ثم كان الشيخ 
محمد احمد المرضى قاسما مشترکا بيننا ثم مبارك زروق والدكتور حسن عبداللطيف 
فشکلنا خماسيا منسجما ملتصقا لا يستغني واحد منا عن الاخر مهما ادلهمت الخطوب 
وللشريف حسين حياة عريضة مليئة بالمغامرات تفوق حسب اعتقادي كل ما قدمه 
المسرحيون والخرجون والمنلون ولو كتب لحياة الشريف ان ترى النور بتقاصيلها » 
فانني أكاد اجزم بانها ستحدث دويا هائلا في نفوس الناس .. كل الناس على مختلف 
أجناسهم ولغاتهم بل وسينال كل الممثلين فيها جميع جوائز الأوسكار والتلفزيون بلا 


۳۲۹ 


منازع كما حدث تماما في فيلم «غاندي » والفك المفترس وتي آي . سأحاول قدر جهدي 
أن أروي قصة أو قصتين عشتهما معه معايشة كاملة وقريبة ولصيقة . 

۰ في حوالي عام ١51١‏ وبعد مقتل لوممبا مباشرة كانت للشريف حسين علاقات 
وطيدة وغريبة بزعماء الكنغو وعلى رأسهم قائدهم باتريس لوممبا وكانت له ايام 
الأحداث والتطورات في تلك المنطقة صولات وجولات انتهت برحلته في طائرة خاصة 
هبط بها في مطار بيروت ثم استولت عليها السلطات اللبنانية آنذاك لأنه لم يستطع دفع 
مصروفاتها أو لأنه لم يرد ذلك وقيل ساعتها ان الطائرة كانت بها كميات من الذهب 
واللؤلؤ والمجوهرات الذي كانت تخص صديقه لوممبا زعيم الكنغو الذي قتل في تلك 
الأيام وبعدها عرج الشريف الى القاهرة وذهب للاسكندرية ليتسلم عدداً من 
اللاندروفرات واللواري واشياء كثيرة أخرى كان قد استوردها باسمه خصيصا لصديقه 
لوممبا وكانت القاهرة وهي محطة قديمة له اذ كان يصدر لها الجمال فاشترى في (حي 
امبابة ) قطعة ارض فسيحة بحوالي المائة وعشرين الف جنيه (ايام زمان) وكان حسابه 
في بنك مصر يتراوح بين المائة والمائة وخمسين الف جنيه . لم يتمكن الشريف من استلام 
العربات التي دخلت ميناء الاسكندرية ويبدو أن المخابرات المصرية قد شکت في أمرها 
فاستولت قهرا على جميع ممتلکاته » العربات» قطعة الارض حتى أمواله في البنوك فقد 
جرى التحفظ عليها ويومها جاءتني منه رسالة خاصة يطلب الي فيها الحضور الى 
القاهرة لأمر جلل وكانت رسالاته دائما مقتضبة واحيانا يكتبها على ظهر ورقة علبة 
السجائر فركبت الطائرة على الفور ونزلت معه في فندق سميراميس قبل ان يحترق 
وأبلغني بالظروف الصعبة التي يواجهها لنتدبر الأمر معا وقمت فورا باتصالات مع 
أصدقائي كبار الصحافيين المصريين علني أجد مخرجا سهلا لأساة الشريف فلم نفلح 
لأن الأمر كما يبدو صدر من جهات عليا ويومها حاول الشريف مرة ان يسحب 
خمسمائة جنيه من حسابه فابلغه مدير البنك وبلهجة قاطعة بأن التعليمات صدرت 
بالسماح له بصرف مائتي جنيه فقط لا غير في الشهر الواحدء وقمنا بمحاولة أخرى 
وأخيرة اذ اعطاني عربته «البونتياك» فسافرت بها الى الاسكندرية واجريت اتصالات 
خاصة مع بعض كبار رجال الميناء والجمارك في محاولة يائسة لاستلام العربات ولكنني 
ايضا لم افلح خصوصا عندما علمت ان التعليمات بوقف أجراءات التسليم كانت قد 
صدرت من وزير الداخلية نفسه وهنا صمت الشريف وصبر وكأن شیثا لم يكن واعتبر 
الامر منتهيا حتى يهيىء الله له فرصة انقضاض كبيرة يعيد بها أمواله وممتلكاته 
المسلوبة . ومضت الأيام والشهور والسنون حتى جاءت الفرصة .. وكانت بحق ذهبية بل 
(بلاتينية ) استرد بعدها جميع حقوقه بالعملة الحرة .. بالدولار وبأرباحها كاملة وفي بنك 
سويسري ! 

في عام ۱۹۱۵ اي بعد أربع سنوات كاملات من قرار مصر بمصادرة أمواله وارضه 


۳۳۰ 


وعرباته أصبح الشريف وزيرا لالية السودان وغادر الخرطوم الى القاهرة لتوقيع اتفاقية 
خاصة بمقايضة منتوجات مصرية للسمسم السوداني الذي يدر على خزائن مصر ما يقرب 
من العشرة الى خمسة عشر مليونا استرلينيا - ومصر كانت وقتها في أمس الحاجة الى 
العملات الحرة مهما كانت قليلة وضئيلة . 

جاءني صديقي الشريف قبل يومين من سفره وكان معي مولانا شيخ المرضى الذي 
يبدو كان على علم مسبق بكل جوانب المؤامرة الغريبة التي دبرها الشريف .. قال لي 
الشریف » جهز نفسك لتقوم معي الى القاهرة فقد أصدرت أوامري بحجز غرفة لك 
تجاورني فيها اثناء اقامتي في فندق شبرد في القاهرة . قلت له وماذا هنالك؟ ماذا يا 
سيدنا الشريف .. فقال لي : 

اريد ان أضع خاتمة سعيدة جدا لمأساة مفجعة جدا جداء وارجوك لا تلح علي 
بالأسئلة فقط جهز نفسك للسفر معي وفعلا سافرنا معا وصدقوني انني نسيت كل 
شيء. وبدأ أعضاء الوفدين المصري والسوداني في المباحثات حتى أعدوا بعد يومين 
بروتكول الاتفاقية واصبحت جاهزة ليوقع عليها في الغد وزيرا المالية السوداني 
والمصري . 


جاء الموعد المحدد وكان الساعة الحادية عشرة صباحا واستعد كل اعضاء الوفد 
السوداني لفادرة الفندق وهم في أتم هندامهم في انتظار وزيرهم الا أنه أمرهم بالتوجه 
الى الوزارة وانه سيلحق بهم فيما بعد وكان ساعتها مسترخيا كعادته في جلبابه 
الفضفاض وانا انظر اليه بعينين حائرتين وقلب واجف وف منتصف النهار دق جرس 
التليفون وكان المتحدث وزير المالية المصري الذي استفسر عن أسباب تأخيره متمنيا الا 
تكون قد ألمت به وعكة او مكروه فما كان من الشريف الا ان قال له في لهجة آمرة 
حازمة : انا عايزك فورا يا سعادة الوزير ارجو ان تضع السماعة وتحضر لي الان ثم 
اغلق الشريف حسين سماعة التليفون في عصبية دون ان يمنح الوزير المصري فرصة 
للاستفسار عن السبب وبعد ربع ساعة دخل الوزير المصري حجرة الشريف حسين 
فانسحبت على الفور وتركتهما معا ولم تمض اكثر من خمس دقائق حتى رن جرس 
تليفوني وكان المتحدث الشريف حسين وهو يضحك ویضحك : قوم تعال الوزير الصري 
«غار في ستين الف داهیة!! » وفعلا جريت على عجل وانا ما زلت بجلبابي حتى نسيت 
«الشبشب » ودخلت حافيا على غرفة الشريف الذي كان لا يزال يضحك ويضحك رافعا 
يده الى أعلى كأنه عثر على لؤلؤة في فضاء الحجرة ثم بادرني في لهجة خطابية قائلا : 
أنا يا أبو عوف الشريف حسين ولد الشريف يوسف الهندي رضي الله عنه وعني ‏ لا 
يستطيع احد في هذه الدنيا العريضة مهما كبر » ومهما تجبر ان يستكردني او يغشني او 
يلعب على ذقني » اذا حدث هذا فلا يمكن الا ان يكون لحين من الدهر قد يقصر وقد 


۳1 


یطول ۰ ولكنني لا بد ان أثأر وبعنف وبلا رحمة مهما طال أو قصر هذا الحين .. 
واستطرد الشريف يذكرني بأمواله المصادرة وعرباته و.. و.. وفاجأني عندما ابتدرني 
سائلا » تعرف أنا عملت ايه مع الوزير الصري!؟ مضى يجيب على سؤاله قائلا : 

«جهزت مطالبي للوزير المصري ليسلمها لعبدالناصر وهي تحتوي على كل مليم لي 
في ارض مصر الحبيبة الغالية زائدا الفوائد الرسمية بما في ذلك سعر أرض امبابة التي 
زادت ثلاث او اربع مرات . المهم اصبح جملة ما أطلبه بالفوائد الكاملة تسعمائة وخمسين 
الف جنيه يعني «مليون قافل » استطرد الشريف يقول: «قلت شفاهة لا كتابة للوزير ان 
يبلغ الرئيس بانني ضحية كبيرة لاصحاب مناطق النفوذ والقوى ممن يسيئون الى حكمه 
النظيف الطاهر وقد جردوني ف غفلة من الزمن وبلا سبب او مبرر وبلا محاكم 
جردوني من كل شيء حتى العافية والابتسامة رغم انني لم اکن مصريا وانما ضيفا على 
مصر العزيزة والصديقة والتي عرفت بأياديها البيضاء وحنانها وضيافتها للاجئين 
السياسيين كانوا ام صعاليك!! استمر الشريف يقول لي بطريقته الخطابية البليغة وقد 
انشدت أعصابي وتوترت احاسيسي الى درجة كنت اسمعها وهي «تتطقطق وتنتفض 
وترتعش ». استمر يعيد ما أبلغه للوزير المصري قائلا: اذا لم تحول حقوقي المسلوبة 
النهوبة قسرا الان الى حسابي بعدما اتأكد من تنفيذ ذلك بنفسي في محادثة تليفونية 
عاجلة يتكرم بها علي وزير المواصلات او حتى مراقب التليفونات فانني ووفدي سنشد 
الرحال الان عائدين الى الخرطوم دون ان نوقع حرفا واحدا في اتفاقية السمسم لا اليوم 
يا اخي دي خطة خطيرة جدا وكلام التهديد أخطر لا يمكن ان تعرف نتائجه . تفتكر ايه 
رأيك وانطباعك الشخصي يا سيدنا الشريف .. هل ستنجح خطتك! ؟ . 

قال لي : (بالتأكيد والتأكيد المؤكد فمصر لا تستطيع في ظروفها الصعبة الراهنة ان 
للسيد/ الوزير المصري ان «ركبه سابت» ووجهه احمر كالخفاش وأعصابه توترت 
واصبح يهذي کالجنون ربما من ابلاغ عبدالناصر برسالتي ؛ لكنه في النهاية توكل على 
الحي الذي لا يموت وخرج مهرولا كأنما لدغه ثعبان من جبال كسلا ومضينا نتحدث 
ظهرا طلبنا الغداء في الحجرة . ثمة ملاحظة عجيبة وغريبة اوشكت ان أنساها وهي ان 
الشريف عندما كان يتحدث الي كان يتلاعب دائما بجريدة الأخبار امام فمه وتحدث 
صوتا مشوشا يصعب معه فهم الحديث واعطاني الأهرام وطلب مني ان احاكية وهنا 
جن جنوني لكن ما لبث ان قال لي ان جميع حجراتنا بالطبع ملغمة بالات التسجيل 
والتصنت وحركة «الخربشة والكركبة والوشوشة» التي تحدثها الجريدة تفسد أي 
تسجیل . هذا ما قرأته يوما في احد الروايات البوليسية!! هكذا كان الشريف حسين 


TY 


حذرا وسکوکا ویصع الف حساب قبل ان يخطو خطوة واحدة . 

ما ان بدأنا معركة الغداء حتی قطع علینا التلفون «اللقمة من الفم » فقال لي 
الشریف : اراهنك بان التحدث هو وزير الالية وقد كان فلقد آبلغه بان الوضوع خلاص 
والحمد لله .. وان قدرك ومکانتك يا سیدنا الشريف عندنا کبيرة أوي .. آوي .. لکن 
الشريف عاجله قائلا : والحادثة التليفونية اللي قلت لك علیها ؟ فرد عليه الجانب الاخر 
بانها حالا وفي السكة ان شاء الله لمهم کل شيء انتهی في مساء الیوم نفسه يفي العاشرة 
من صباح الغد وقعت الاتفاقية بين البلدین وتعانق الوزیران امام الصحافیین 
والکرفونات وآلات التصویر من حولهما وعدنا الى الخرطوم في الیوم الثالث تودعنا 
كثير من هینات الكبار ف القاهرة . من الغريب المدهس ان عبدالناصر ف لقائه مره 
بالسيد اسماعيل ازهري بعد هذه الواقعة وقد سمعت هذا القول من الشريف حسين 
فيما بعد قال ناصر للازهري : 

«انتم ما عندكوش حد غير الشريف يمسك وزارة المالية بتاعتكم .. هو السودان يا 
أخي عاقر ما فيهوش رجالة غیره ؟ » ولست ادري ولم ابلغ فيما بعد عما اذا كان 
عبدالناصر قد حکی للازهري بتفاصیل هذه الواقعة او اکتفی باشاراته تلك الا انني 
موقن بان الازهري قد علم بکل تفاصیلها من الشریف نفسه واطلق ضحكته القهقهية 
العروفة لأن الشریف كان يضع دائما حسابا للمستقبل ولا یمکن ان يترك نفسه 
«مکشوفا وبلا ساتر !». 

.. اما القصة الخرافية الثانية - وانا لا أروي عادة الا ما آراه بعيني رأسي وما 
أسمعه باذني - وقعت أحداثها في بیروت فکما هو معروف فان الشریف قد هرب من 
البلاد يوم قيام نورة مایو ۹ وبداً يقاوم من الخارج وکان سر سا في مقاومته نشطا 
ف دعاياته ومنسوراته واتصالاته . كانت بيروت ف العام الاول لثورة مايو مركزا لنساطه 
ولقاءاته وكان حوله عدد كبير من المعارضين كلهم او معظمهم الان قد دخلوا في جوف 
المصالحة الوطنية فعادوا الى الخرطوم وزاولوا حياتهم الطبيعية . 

اذكر انني في ذلك الوقت قمت بزيارة لبيروت والتقيت في فندق «الكمودور» حيث 
تطيب لي الاقامة بعدد من أصدقاء الطرفين من بينهم عمر نور الدائم وزير سابق في 
جناح الصادق ومحمد عثمان صالح تاجر وعثمان خالد أخ مسلم بالنائب العام سابقا 
ورجل اعمال بارز الآن بين السودان ولندن وسألتهم بالطبع عن الشريف وأخباره وان 
كان في بيروت فقالوا انه كذلك وقد سمع بحضورك وقد يتصل بك في اية لحظة وفعلا 
في اليوم الثاني اتصل بي وحياني ثم قال لي سيأتيك «يا أبو عوف» في المساء من 
يحضرك الي . وفي المساء زارني فعلا فلسطينيان عرفت فيما بعد انهما من بين حراسه 
المخلصين اذ كان یخشی على نفسه من الاغتيال او هكذا خيل اليه وخرجت معهما 
لأستقل عربتهما المارسيدس التي بدأت تنهب الأرض ثم توقفت بي في مقهى صغير في 


۳۳۳ 


اطراف الحمراء وهناك توقفت امام عربة التاكسي وقان!لل تسمح سيدنا المختار تركب 
التاكسي وهو حيأخذك لسيدنا الشريف وركبت عربة التاكسي وصدقوني او لا تصدقوني 
بعد مسيرة ربع ساعة توقفت العربة امام عربة ثانية كانت فلوكسواجن صغيرة غير ان 
المفاجأة كانت أكبر عندما وجدت فيها صديقي الأولين اللذين زاراني في الفندق بعربتهما 
المارسيدس فضحكت وضحكا ولكن ضحكنا اكثر عندما حدئت مشكلة صغيرة في كيف 
أدخل عربة الفلوكسواجن ذات الباب الضيق وقد اعطاني الله بسطا في الجسد ولكن 
معليش كما كانا يقولان فادخلت رأسي وكتفي اولا ثم حشرت بقية أمعائي وجسدي 
فملات المكان تماما ولم يعد هناك مجال لهواء او نسيم او تنفس .. المهم في النهاية 
وصلت الى حيث يقيم سيدنا الشريف وبالاحضان والقبلات ولا تخلو العيون من بعض 
دموع السوق . 

كان الشريف قد سبق عهده بسنوات عديدة فقد كان يخطط ويعد شباکه بحساب 
دقيق ومتصل ويبدو ان كثرة قراءته للروايات البوليسية منذ ان كان صغيرا يافعا قد 
آثرت فيه وتأثر بها كثيرا وكان لا يعرف التسامح ولا وجود له في قاموس حياته ان مسه 
شر رغم انه يبدو وديعا كالحمل فان اساء اليه احد او ظلمه . انتظر حتى تواتيه الفرصة 
فيأخذ بثأره أضعافا مضاعفة وبعنف لا يعرف الهوادة وقد ظهرت له حالات كثيرة 
أخرى بجانب واقعة مصرء فعندما بادره الصادق المهدي بالعداء واستطاع في فورة 
حماسه وعنفوان قوته عندما شكل حکومته بائتلاف مع الازهري ان يقصي الشريف من 
وزارة المالية ويمنحه وزارة الحكم المحلي رغم اعتراض حزب الأزهري الشدید انحنى 
الأزهري والشريف معا لعاصفة الصادق العنيفة باعتبار انها نزوة وفورة مرحلية لن تعمر 
طويلا وفعلا لم تعمر طويلا فقد دب الخلاف بين الفريقين المؤتلفين تماما كما تنباً 
الشيخ المرضي - وتمكن الأزهري ومن ورائه الشريف حسين وبطانته من النواب من 
اقصاء الصادق المهدي لا من رئاسة الحكومة بل من الجمعية التأسيسية ذاتها عندما حلها 
الأزهري كليا بقرار صغير اتكأ فيه على الدستور المسكين وحاول الصادق أن يقاوم قرار 
الحل فنصب خيمة كبيرة امام داره اسماها البرلمان السوداني جمع في داخلها نوابه وعين 
لها رئيسا هو السيد احمد ابراهيم دريج ودعا الصحفيين لحضور جلسانها و.. و.. 
ولكن الخيمة قد انهارت خلال اسبوع واحد لجا الصادق بعدها للمحاكم ف قضايا 
دستورية لا أول لها ولا نهاية ! 

وهناك قصة ثالثة وقعت أحدائها يوم ان كان الشريف وزيراً للمالية حين اقترض 
خمسة ملايين من الجنيهات من دولة عربية صديقة تأخر كثيرا وصولها للخرطوم مما 
جعل المعارضة في البرلمان والصحافة المحلية يوجهون حملاتهم الثقيلة المسعورة المشككة 
في ذمة الشريف والشريف صامت كأن الأمر لا يعنيه مما شجع المعارضة والصحف في 
مضاعفة الهجوم عليه والاتهام له بدرجة عنيفة وشديدة لفتت اليها أنظار الشارع 


r 


السوداني بأسره والشريف ماض في صمتهء وما ان مضت شهور ستة على بداية الحملة 
حتى أصدر الشريف بيانا فى الضحف والاذاعة والتلفزیون بانه سيرد في جلسة الغد في 
البرلان على كل حملات التشكيك والاتهام » مما لفت الأنظار إليه . ويومها امتلاً البرلان 
عن آخره بالنواب والسفراء وكبار الضيوف والصحفيين وأوعز الشريف كذلك الى جميع 
وسائل الاعلام وجميع الموجات العاملة في الاذاعة ان تركز عيونها وآذانها ومكرفوناتها 
وكمراتها على تلك الجلسة الخطيرة . وقف الشريف لحظات حتى تاكد من ان جميع 
العيون والاذان والقلوب قد اصبحت ملكه وبين اصابعه وبدأ خطابه في صوت حزين 
ونبرات مؤلمة «تقطع الحشا» والقلوب وهو يقول وببراعته المشهودة : 

«سيدي الرئيس لقد التزمت الصمت والصبر وأنا اشهد الله على كل حملات الاتهام 
وللشكوك التي ثارت ضد شخصي الضعيف دونما سبب الا القصد السيء المركز 
والمخطط لتحطيمي واشافة سمعتي وانا بريء والله مما يقولون فان يدي لو حدثها 
الشيطان او حاول تحريك أطرافها لتمتد الى أموال هذا الشعب الفقير الجائع الذي 
ظللت العمر كله اجاهد واكافح لاسعاده لما ترددت والله في بترها باليد الاخری وعلى 
مشهد من آهلي وعشيرتي ». 

لعل اخواني في الجانب الاخر وزملائي في الجانب العلوي (الصحفیین ) الحریصین 
اکثر مني على مصالح (أهلنا الغبش) اندفعوا وهم محقون في سيل اتهاماتهم لي 
وتشکیکهم في مسلكي لكنهم والله لو علموا الاجراءات العقيمة العقدة الطويلة العريضة 
المستطيلة عند اتمام مثل هذه القروض لا اندفعوا وثاروا وهاجموا واتهموا غفر الله لهم 
ولکم ولي . ۲ ۱ 

سيدي الرئيس : « اود ان اعلن ف هذه الجلسه التاریخیه ان وزارة المالية قد تسلمت 
بالأمس الملايين الخمسة وهي مودعة في بنك السودان غفر الله لكم وسامح كل من 
حاول اهانتي والسلام و ... وتصفيق .. تصفيق حاد .. استمر دقيقتين وفي الغد اعتذرت 
جميع الصحف للسيد/ الشريف كما اعتذرت المعارضة ولكن لم تمض ساعات على 
خطاب الشريف المؤثر الذي سحب فيه البساط لمصلحته وحده حتى اطلق بعض الخبثاء 
اشاعة بان الملايين ظلت قابعة في بنك سويسري كل تلك المدة وان جميع أرباحها ذهبت 
الى خزينة الحزب والله اعلم . 

.. كنا يوم «الجمعة » نتناول طعام الغداء عادة في منزل الشيخ المرضى وكان اخانا 
الدکتور حسن عبداللطيف قد قرر ان يسافر في الغد الى بيروت وشکا من انه لم يتمكن 
من تحويل مصروفانه فما كان من الشريف وكان وزيرا للمالية الا ان قطع صندوق 
سجائر (الروثمان) وكتب عليه بالقلم حروف غريبة بالانجليزية (اكس اتش هللو 
خمسمايه ) وناولها لحسن عبداللطيف بعد ان طلب منه كتابة عنوان الشخص الذي 
سيسلمه الورقة فيعطيه خمسماية جنيه استرليني فما كان من حسن الا ان قال له 


۳۳۵ 


ساخرا: سيدنا الشريف استهبالك كله عرفناه كمان عايز تجوطني بعد العمر داء قال له 
الشریف انت حر .. وانت المحتاج على كل حال لو ما عندك ثقة في الورقة قطعها .. 
والغريب ان الدكتور عندما عاد بعد خمسة ايام ضحك وقال انه صرف البلغ وبأوراق 
جديدة لنج خشي ان تكون مزورة ولكنه المهم انه صرفها والسلام . 

اما القصة الأخيرة اذ لا يسمح المجال بمزيد من القصص .. وقصص الشريف كثيرة 
ومتعددة ومتنوعة تملا كتبا بحالها لا صحيفة يومية .. القصة الأخيرة ان الشريف اختلف 
يوما مع زميل له مكر عليه واستولى على بعض أموال الحزب واخيرا انفصل هذا الزميل 
عنه وظن انه بذلك سيكون في مأمن خاصة وقد عاد الى الخرطوم فما كان من الشريف 
حسين الا ان كلف بعض جيوبه في طرابلس - وطرابلس كما تعلمون (الشحمة والنار ) 
مع السودان .. كلفه بشحن ثلاجة كهربائية باسم زميله اودع في جوفها كمية من السموم 
والمنشورات والأشرطة المعادية للوضع في السودان فعثرت عليها سلطات الأمن واعتقل 
صاحبنا واودع الحراسة لفترة طويلة من الزمن .. وفيما بعد بعث الشريف الى زميله 
برسالة يقول له فيها (دقة بدقة ولو زدتم لزاد السقا). 

مات الشريف حسين الهندي ميتة تشبة اسطورة حياته الحافلة بكل شيء في العام 
الأسبق في اثينا عندما وصلها ليترأس اجتماعا كبيرا للمعارضة . وصل الفندق وطلب من 
سكرتيره ان ينزل ويحضر له (بغاشة بالجبنة) فهو يحبها كثيرا وعندما عاد السكرتير 
ودق باب الشريف مرة ومرتين وثلاث ولم يرد عليه احد هرول المسكين الى مكتب 
الاستقبال الذي اكد له بان السيد/ الشريف لم يبرح الفندق مطلقا وأنه لا بد ان يكون 
قد نام فهو قد وصل لتوه من رحلة طويلة من السعودية والاردن وامام إلحاح السكرتير 
قام معه موظفو الاستقبال وكانت المفاجأة كبيرة ومذهلة ومؤلمة عندما فتح الباب 
ووجدوا الشريف راقدا على بطنه بعد ان فارق الحياة بكل ما فيها من الام واحزان 
وغربة ووحشة وشوق وتطلع .. حياة حافلة لم يكن فيها مجال للأفراح والمسرات فقد 
ودعها الشريف دون ان يكمل زواجه فقد ظل طيلة حياته يعيش عيسّة الفلاسفة 
والزاهدين ولا يهتم بقشورونعیم الحياة بقصورها وذهبها وكنوزها وأفراحها فقد كان كل 
جهاده لغيره من مواطنيه وأهله كما كان كريما وصامتا وأصيلا ومقاتلا من الدرجة 
الأول . 

ترك وراءه ثروة من المال تقدر بالملايين لم يستطع ورثئته ان يعثروا إلا على جانب 
صغير منها في لندن في العام الماضي حوالي المليون ونصف المليون جنيه كما جاء في 
جريدة «التايمز » اللندنية فالشريف كانت له جوازات سفر كثيرة وبأسماء مستعارة لا 
حصر لهاء ولا بد ان تكون له حسابات مخفية على ما اعتقد امتدت وانتشرت في عديد. 
في بنوك العالم حتى وصلت البرازيل وشيلي ! 

وبالمناسبة مازلت أحتفظ بعدد من «قمصان» الصديق الراحل لأنه كان يتركها في 


۳۳۱ 





الشريف حسين ومحجوب ف اليسار 


بيتي متسخة ویلبس فمصاني فتجمعت مع مرور الزمن وكثرة الزيارات حتى وصلت ما 
يقرب من الدستة ترحمت بها بعد وفاته على الفقراء والمساكين . 

لم ينسه الناس وأهل طائفته ومريدو والده فقد ووري جثمانه بنفس الطريقة التي 
يودع بها السودانيون كبارهم وقادتهم .. دقت الطبول ودوى النحاس ونكست السيوف 
وبكى الرجال .. وودعته النسوة (بالحى ووبات التي تقطع الاكباد وتفتت القلوب) . 

اسم الشريف حسين الهندي سيظل معلما بارزا في حاضر السودان ومستقبله فقد 
منح السودان كل شيء ولم يأخذ منه شيئا على الاطلاق . فقد اعطاه كل حبه وقلبه 
وكيانه ووجدانه وضحى في سبيل اسعاد الاخرین اكثر مما ضحى في سبيل اسعاد نفسه 
وقد مضى الى ربه نداء وقربانا لكل معاني الانسانية والتضحية والوفاء .. كان الشريف 
انسانا وكفى . 


۳۳۷ 


۶ الفصل التاسع عشر ¢ ۱ 


© ساسة وقادة تحت دائرة الضو ء 
© بين السشیخ محمد احمد الرضي والصادی الهدي 





وجوفه وحواسه ذكريات تبلغ الاطنان في وزنها ومئات الاميال في طولها وعرضها 
وتسلخ من الزمن ثلاثين عاما واكثر ثم يسير صاحبها بعد ذلك وهو يرويها او يكتبها في 
الاحداث والزمان في خفة النمر او بطء السلحفاة لكن المهم انه في النهاية لا بد ان يعود 
إلى الخط المستقيم فيستقيم كل شيء ويدرك النهاية المرجوة . 

.. نعود من جديد لنکمل تاريخ زعمائنا الذين ودعوا هذه الحياة بعد ان تركوا 
وراءهم بصمات واضحة وظاهرة ف تاريخ البلاد تختلف من سخص إلى سخص حسب 
الدور الذي اداه في حياته السياسية وسأحاول الاختصار كما سأحاول ان اكتب عن 
الجوانب والسير التي لم تذكر عنهم والتي قد لا يعرفها الكثيرون حتى لا اكرر 
الاخرین .. سأكتب عن عدد قليل جدا من قادتنا ممن عرفتهم وعايشتهم عن قرب 


اسماعیل الازهري : 


تخرج من جامعة بيروت الامريكية وكان استاذا في علوم الرياضيات قبل ان يصبح 
زعيما سياسيا كان له نشاط كبير في نادي ام درمان «للخريجين » وكان معروفا بعربته 
الصغيرة جدا «ام بابین » والتي كانت تحدث شخيرا شديدا وتخلف وراءها سحبا غزيرة 
من الدخان فيعرف المارة بان القادم هو اسماعيل الازهري . عندما بدأ نشاطه السياسي 
كان استاذا في مدرسة حنتوب الثانوية وكانت له جملة خالدة يرددها الشارع عندما 
حققت معه السلطات المدرسية لول مرة حول نشاطه السياسي وطلبوا منه أن «يتوب» 
ققال : «حنتوب ولا مش حنتوب » مش حنتوب! ! » لم تكن علاقتي به وطيدة ومع ذلك 
فالذي عرفته عنه من علاقتي الصحفية الوثيقة به انه كان ذكيا ومرحا «ومقلبا » وغامضا 
فوق انه كان يصبر على الشدائد حتى اذا ما وجد فرصة للرد اغتنمها للنهاية . كانت 


۳ ۱ 


علاقاته الشخصية واسعة كان مثابرا ودؤوباً وأمينا عفيف اليد واللسان ويكفي انه مات 
ومنزله مرهون وحساباته في البنوك خاوية تماما . 

له ابن صغير كان يحبه ويصطحبه معه حتى في المناسبات الرسمية وبعد مماته كرمته 
حكومة مايو فعينت ابنه «محمد » عضوا في برلمان وادي النيل رغم انه ليس سياسيا 
وانما له ميول موسيقية . 


احمد السيد حمد : 


الدكتور احمد السيد حمد من خريجي الجامعات المصرية وهو محام رغم انه لم يجد 
فرصة من مشاغل السياسة حتى يتفرغ للمحاماة . عرف بحبه وولائه وبميوله الشديدة 
لمصر وقضى فيها زهرة شبابه وحيويته حتى تأثرت لهجته فاصبحت شبه «المصرية» في 
مقاطع ومخارج كثيرة . عمل صحفيا ورئيسا لتحرير «صوت السودان » وكان يقود 
حملات شرسة وعنيفة ضد الاستعمار حتى لفظ اخر انفاسه وقد ساعدت احادیثه كثيرا 
على الصحوة الوطنية والوعي السياسي التزاید . ۱ 

قدم للمحاكمة عدیدا من الرات بتهمة اثارة الكراهية ضد الحكومة الاستعمارية آنذاك . 
كان ولا زال قریبا من البیت اليرغني . عندما قامت نورة مایو ۱۹۱٩‏ قدم للمحاکمة 
بتهم الفساد والثراء الحرام ولکن اتضح في كثير من التهم انه بریء وسجن بتهم الفساد 
السياسي . لم یمکث طویلا في القاومة «وظل الضحی » فدخل في الصالحة الوطنية 
واصبح وزیرا للمواصلات في حكومة الرئیس نميري نم رئیسا لهيئة التضامن والسلام . 
عرف طيلة عهده السياسي بالثل والاخلاق الطيبة الفاضلة وعفة اليد والنزاهة والامانة . 


احمد عبدالرحمن المهدي : 


© نجل الامام عبد الرحمن المهدي وعم الصادق ومنافسه ف خلاقه وامامه طانفه 
الانصار التي لم يعلن عن انتخابها منذ مقتل الامام الهادي المهدي . 

اصبح وزيرا للداخليه ف حكومة السيد محمد احمد محجوب الني يدعمها اخوه الامام 
الهادي وذلك رغم قلة تجاربه وصغر سنه مما انار الکنیرین خاصه من تصر یحانه العنیفه 
المتطرفة التي كانت تظهر في الصحف بسبب وبلا سبب كان اكثرها اثارة التصريح الذي 
هدد به اعداءه السياسيين والشيوعيين بانه « سيجز الرژوس اذا ما دعا الامر »؟ 

ف عام ۱۹۵۶ قبل حركة تمرد الجنوب الشهيرة بقليل اوفقده والده الامام عبدالرحمن 
المهدي إلى الجنوب مع السيد بوث ديو الزعيم الجنوبي المرموق ورئيس حزب الاحرار 
الجنوبي وكان ايامها ما زال طالبا . وقد رافقتهما ووقتها كنت سكرتيرا صحفيا لوالده 
الامام ف تلك الرحله المثيرة الني قمنا بها بطواف شامل على المديريات الجنوبية الثلاث 
وكان السيد احمد يعقد الندوات السياسية ويثير فيها المواطنين الجنوبيين اثارة شديدة 


EY 


حتى اننا نجونا باعجوبة في «توريت» من كمين محقق يهدف الى اغتياله واغتيالنا 
جميعا . كانت حكومة الازهري الوطنية الاولى تراقب تحركاته مع الزعيم الجنوبي بوث 
ديو وترددت كثيرا في اصدار امر باعتقاله وعندما عدنا إلى مطار الخرطوم قابلنا شقيقه 
الاكبر السيد يحيى المهدي الذي مات في حادث تصادم بجنيف وبلغني رسالة من الامام 
الهدي بان احضر فورا وقبل الذهاب إلى منز لمقابلته مع ابنه احمد وقد طلب منا ان 
تتحمل مسئولياتنا وما بدر منا في الجنوب بثبات ورجولة ولكن تشاء الظروف الا تتخذ 
حكومة الازهري اية اجراء ضد السيد احمد المهدي فانتهى بذلك كل شيء .. 
عمر الحاج موسى : 

كان قائدا لسلاح الاشارة وهو كثير الانتشار كثير المعارف والاصدقاء كثير المعرفة 
والثقافة يعرف كيف يقوي ويمد حبال الود والثقة مع مجموعات متنافرة متباعدة في 
المزاج والافكار والسياسة والاسلوب . كان صديقا للختمية والانصار والشيوعيين في أن 
واحد . كانت علاقته وطيدة ووثيقة باللواء حسن بشير الرجل الثاني في انقلاب نوفمبر 
وباللواء طلعت فريد المنافس والناویء والمضاد له في كل شيء . اصبح وزيرا للثقافة 
والارشاد في حكومة نميري . مات بعد ساعة من القاء خطاب سُعبي «فولكوري » رائع 
في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي السوداني في فبراير ١979‏ ترك المرحوم عمر 
بصمات عديدة مختلفة الوانها في المسرح السياسي السوداني . 


من قادة الاخوان المسلمين ظهر بوضوح في المسرح في انقلاب اكتوبر ٤١۱۹م‏ عندما 
اشعل نار الثورة بخطاباته الملتهبة في جامعة الخرطوم التي كانت قلب الثورة النابض 
بعد تسشییع جثمان فقيد الجامعة الطالب القرشي وقد تعرض لاعتقالات متعددة ف بداية 
نورة مایو ۱۹۱٩‏ ولکنه دخل في المصالحة الوطنية واصبح النائب العام ففقد شریحه من 
جماعته بالرغم من انه حاول ویحاول في کثیر من الناسبات والاجتماعات «الايوية » ان 
«یفرفر » ولکنها «فرفرة » محدودة لا تصل إلى حد العداء الباشر اذ ان الحریات 
الكلامية مسموح بها ما دامت داخل اطار الاتحاد الاشتراكي . 

ترشح الدکتور الترابي یوم ۱۹۱۱/۷/۲۵ لرئاسة الحکومة منافسا للسید الصادق 
الهدي فنال ۷ اصوات فصفت له الشرفات . 


الرسید الطاهر بكر : 
من قادة الاخوان السلمین لکنه فقد موقعه المیز قبل قيام ثورة مایو ولم یقف 
طویلا خارج الاضواء والسلطة اذ عين سفیرا في ليبيا ثم قفز عمودیا حتی اصبح رئیسا 


۳۰:۳ 





إلى اليمين مع صديقه مبارك زروق كانا يتناقشان في كل شيء تى الاناقة 
والفطور والابتسامات 

للوزراء ووزيرا للخارجية ثم بدأ في العد التنازلي والهبوط عموديا ايضا تمشيا مع مبادىء 
الثورة بان المناصب ما هي الا اشياء مرحلية وظرفية وانها مهما كبرت او صغرت فهي 
في سبيل خدمة الثورة والشعب . 
مبارك زروق : 

كان من انجح المحامين السودانيين ذكي خطيب وبرلماني يتنافس على القمة دائما 
وابدا مع السيد محمد احمد محجوب المحامي . كان وسيما جميلا وحلوا ينتقي بدله 
وكرفتاته واحذیته » حتى مناديله من أشهر المحلات في لندن وباريس محلات (كرستيان 
دیور واوستن ريد وهردز) كان ارستقراطياً لا يميل إلى تعدد الاصدقاء والشللية 
والمعارف لدرجة تصل حد الانطوائية وكان اقرب الاصدقاء الى نفسه مولانا الشيخ 
المرضى والشريف حسين والدكتور حسن عبد اللطيف وشخصي . ولكنه في دائرة صداقاته 
الضيقة الحدودة ‏ فانه يتفانى في وفائه ومودته إلى درجة اسطورية . كان الاكلشيه الثابت 
الذي وضعته له صحف العارضة في وصفه هو «الشاب الانيق العطر » لانه كان انيقا 
ومعطرا فعلا لكن ذلك في قاموس حياتنا غير مألوف ولا معروف في محيط رجالنا 
لذلك فهم يعيبون عليه حتى الوسامة . كان خطيبا ساخرا يعرف كيف ينزل الهلع والوجع 
باعدائه السياسيين . 


جمد المحجوب 


۳ ۶ 


زروق وحرية الصحافة : 


عندما تعطلت «جريدة الصحافة » للمرة الثالثة في عهد الحكم «العسكري النوفمبري » 
خلال الثلاث سنوات الاخيرة من عمره في نهاية عام ۱۹۱۳ وكان قد مضى على 
التعطيل سبعة اشهر كاملة واجهت في نهايتها ضائقة مالية لا قدرة لي بها مما اضطرني 
الى فصل ما يقرب من المائة والعشرين من موظفي الدار على دفعات بعدما عجزت عن 
الوفاء بالتزاماتي وبديوني المتراكمة لاصحاب المطابع في انجلترا الشيء الذي انتهى وبعد 
انذارات عديدة لاخطار بنك باركليز وكيلهم في الخرطوم ليقوم نيابة عنهم باستلام جميع 
المطابع وبيعها بالمزاد العلني او شحنها الى عدن وقد فوضت امری إلى الله واسلمت 
اليه همومي واودعته الامي وظللت ادعوه دعاء المسلم المظلوم الضعيف المنكسر القلب 
والخاطر ان يهيىء لي مخرجا وفي امسية لا أنساها ذهبت إلى منزل زروق فعلمت من 
خادمه انه سافر الى غرب السودان ليترافع في قضية هامة وسيعود خلال ايام . ومضت 
الايام وعاد زروق وكانت مفاجأة لي ما بعدها من مفاجاة عندما اجتمعنا في داره شيخ 
المرغى ودكتور حسن عبداللطيف وقد كان طبيبا للاسنان لكنه كان من زهرات المجتمع 
اليانعات في ميادين الادب والسياسة والشعر والفولكلور والسخرية والزهد والترفع 
والكرامة وقد رشحه الحزب الوطني الاتحادي يوما إلى عضوية مجلس السيادة فرفض 
كما رشحه وزيرا للثروة الحيوانية فرفض ايضا . 

.. كانت المفاجأة في اجتماعنا ذاك ان اتفاقا قد تم وراء ظهري بان يسافر زروق إلى 
لندن وهو الحامي والمتحدث اللبق ومن أبرز ان لم يكن في قمة من یتحدئون ويجيدون 
اللغة الانجليزية حتى يقوم باتصالات مباشرة مع رئيس مجلس ادارة الشركة صاحبة 
المطابع يتحدث اليه بشأني وعاد وهو يحمل خطابا رقيقا يمنحني فسحة طويلة من 
الزمن لسداد الديون وبالارباح وقد علمت ان الاستاذ مبارك قد استطاع ان يثير 
عواطف الانجليز الباردة بانهم وهم سادة الديمقراطية في العالم لا ينبغي ان يساهموا في 
قتل صحيفة حرة خنقها حكم عسكري جائر .. وكانت المفاجأة الثانية التي اوقفناها في 
حينها ان الدكتور حسن عبداللطيف قد عرض منزله الوحيد بالحي الارستقراطي في 
الخرطوم وكان على وشك الاکتمال ... عرضه للرهن او البيع كيما يقوم بسداد التزاماتي 
المالية وحتى يقضي الله امره . ولم تمض على ذلك ايام قليلة حتى عاودت الصحافة 
الصدور وقامت ولله الحمد بتسديد جميع التزاماتها القديمة في آشهر معدودات وذلك 
بفضل عطف واقبال القراء عليها اقبالا يتناسب مع مواقفها الوطنية مما جعلها عرضة 
للتعطيل المتواصل . 

مات زروق قبل صديقه وحبيبه الشيخ المرضى بحوالي العام وبالرغم من ارستقراطيته 
لكن الشعب السوداني كرمه وودعه وداعا يليق بتاريخه السياسي النظيف كما مات 
الدكتور حسن عبداللطيف في نهاية عام ١559‏ في نيجيريا وهو في بلاد الغربه وجيء 


۳ ۶ 0۵ 


بجثمانه الطاهر إلى الخرطوم حيث ووري وودع ايضا وداعا كريما يليق بتاريخه الناصع . 
كان زروق ومحجوب يتنافسان في كل شيء حتى ربطة العنق والعطور والوسامة . 


محمد احمد المرضي : 


© أما صديق العمر والدرب .. نفس الدرب الذي مشى فيه من قبلنا والدانا رحمهما 
الله فقد عرف بالذكاء الخارق وحبك المقالب والصرامة السياسية وعفة اليد والقلب 
واللسان كما عرف بالصدق والوفاء .كان سکرتیرا للحزب الوطني الاتحادي لفترة طويلة 
بعد ان طلق القضاء الشرعي بسبب تطرفه الوطني عرف المرضي بعلاقاته الطيبة مع 
كل خصومه السياسيين وكان له موضعا ومكانة خاصة عند الرئيس جمال عبدالناصر . 
كان من اقوى احبائه وأصدقائه مبارك زروق والشريف حسين الهندي والدكتور حسن 
عبداللطيف وان كان الكثيرون يجدون في قلب المرضى متسعا لهم ولاصدقائهم معا . 


المرضى والصادق المهدي : 


من قصص الوفاء الغريبة التي قطعا لا يعرفها غيري انه مرة وعندما احتدم الخصام 
وباعدت الفرقة بين الصادق المهدي وعمه الامام الهادي واوشك الصادق في ذلك المنحنى 
الخطير من عمره السياسي ان يمد يده للازهري ويتعاون مع حزبه بعدما يسقط حكومة 
الائتلاف التي كانت قائمة تحت رعاية عمه الامام الهادي ويرأسها السيد محمد أحمد 
محجوب مقابل ان يصبح هو رئيس الوزارة التي يدعمها ويباركها الازهري ... في ذلك 
الجو السياسي المرتجف والمرغى كان سکرتیرا للوطني الاتحادي جاءني يوما يطلب اي 
ان احدد له موعدا عاجلا وخاصا مع الصادق المهدي على ان يكون بعد الواحدة صباحا 
وفي مكان أمين لا تصل اليه اذن ولا تدركه عين وفعلا ابلغت الصادق فاندهش جدا لهذا 
الطلب وهو لا يكاد يعرف المرضي لكن دهشته ودهشتي ازدادتا معا عندما تم اللقاء في 
منزل السيد اسحق محمد الخليفة شريف وهو من اسرة المهدي «بالعباسية » وكان في 
تمام الواحدة والنصف من صباح ۱۸ يوليو ۱۹۱۰ والصراع انذاك بين الصادق وعمه 
آلامام قد وصل طریقا مسدودا . 

قال الشيخ الرضي وقد كان قلقا ومستعجلا کعادته : 

«اسمغ يا سيد صادق .. الذي اقوم به قد یعتبر نكسة وخيانة ما بعدها خيانة لحياتي 
السياسية وقد یصدفه ولا يصدقه الناس ۰ لكنني بعد جهاد ومشاورات مع النفس رايت 
غير ذلك واقتنعت بيني وبين نفسي انني لست خائنا وانما اقوم برد جميل كبير طوقني 
به (ابوك الصدیق) في حياته دون ان استطيع رده اليه وهو حي» فرأيت ان أرده اليه 
وهو ميت في شخصك انت وانت ابنه ۰ وابنه الاكبر ووريثه الشرعي ومن حقك ان تاخذ 
ارت ابيك حنى يرتاح ضميري . 


TE 


مضى السيد المرضى يحكي ونحن نسمع الذي يقوله وعلى رأسينا طيور الدنيا كلها 
رغم انه لم يشر ولم يفصل من قريب او بعيد (نوعية الجميل) الذي طوقه به الامام 
الصديق المهدي والد الصادق ولم أسأله بعد ذلك اطلاقا عن سر هذا الجميل 
وتفاصيله ... مضى المرضى يقول وق كلمات موجزة : 

(اسمع يا ابني اراك قد خالفت عملك «وكسرت معه القحف».. يعني كسروا 
الفخارة التي لن يعاد اصلاحها .. واراك قد اوشکت ان تدخل في حلف وتآلف مع حزبنا 
وانا ... انا سكرتير ذلك الحزب أنصحك بالابتعاد عن الازهري فهو خبير ومحنك 
ومجرب وعنيف في أن واحد ‏ وانت صغير وبلا تجارب ولا اي شيء ... والله يا ولدي 
(اللي حيعملوا فيك الازهري سيكون له جلاجل وسيتفرج عليه القاصي والداني 
وسيمرمط بك الارض في أول لحظة تتاح له فانصحك للمرة الاخيرة بالابتعاد عنه 
والرجوع إلى عمك واهلك وطائفتك ولا داعي لخلق المشاكل والخلافات فهذا اضمن 
وابقى وابرك لك «الا هل بلغت اللهم فاشهد ! » 

انتهى اللقاء المثير وخرجنا الشيخ المرضى وانا في حوالي الثانية والنصف من ذلك 
الصباح نفسه ولم يفتح احدنا فمه للآخر بكلمة حتى ادركنا الخرطوم وأنزلت شيخ 
المرضى في بيته وذهبت لبيتي وكانت تلك الليلة من أطول ليالي عمري ! 

المدهش حقا ان الصادق رغم احترامه واعجابه بمسلك المرضي لم يستمع للنصيحة 
الغالية التي كسر بها شيخ المرضي طوقه وفك اسره وبعد ايام من ذلك اللقاء الفريد تم 
الائتلاف بين الصادق والازهري وشکل الصادق حكومته المؤتلفة بعدما اسقط حكومة عمه 
ومحجوب . ۱ 

.. رسم الصادق لمسيرته السياسية خطا واحدا بلا تعاریج ومنذ فجر صباه ظل يسير 
في خطه الرسوم الذي آمن به دون ان یسمح او بستسلم لاي قوة او ضغط مهما كان 
نفوذه ومكانة صاحبه ولقد دفع الصادق ثمنا غالیا وباهظا في سبیل ما یمن به ولقد 
ضحى باقرب الاقربين اليه ممن لم یستطیعوا ان یفهموه او يدركوا مقاصده رغم انه 
حاول وحاول لكنه احس في نهاية الامر ان القوم في واد غير وادیه » وديار غير دياره 
وعالم غير عالمه فتركهم لحالهم ومضى ومضى ومضى . 

.. في يوم ۲۶ يوليو ١517‏ كنا أنذاك الشيخ المرضي وانا في لندن نقيم معا في شقة 
واحدة بعدما هربنا سويا من حرارة الطقس وعنف السياسة وفي مساء يوم جاعنا السفير 
السوداني جمال محمد احمد مهرولا ليبلخ السيخ المرضي بانه عين وزيرا للتجارة ف 
حكومة الصادق المهدي الجديدة فكان تعليقه الساخر بأنها ستكون حكومة سياحية للنزهة 
لن تزيد على الأشهر وأذكر انني قلت للصادق فيما قلت قبيل سفري اننى اكره جدا 
ان اراه يبدأ من القمة! وقد كان أن حدث وبمرارة شديدة وبالحرف الواحد كل الذي 
توقعه الشيخ الرضي في حدیثه ونصائحه للصادق لانها كانت من رجل عاشر الازهري 


۳۰۷ 


طول عمره وعايشه سياسيا وحزبيا واجتماعيا واخلاقيا معايسّة تجعله في موضع القوي 
الوائق والعارف عندما يقدم مثل تلك النصائح الغالية ليفك بها قيده ويحل بها دينه . لم 
يكن المرضي عند حديثه للصادق يستكشف الغيب وانما كان حديث العارف بكل شيء . 

مات الشيخ المرضي في اليوم الثاني لانعقاد مؤتمر القمة الافريقي باديس ابابا يوم 6 
نوقمبر ۱۹۱۲ ويوم جاء النبا المفجع للرئيس الازهري اقبل عليه اعضاء وفد السودان 
والسفارة والاصدقاء والسودانيون المقيمون يعزونه في فقده الغالي وما ان دخلت حتى 
قام الازهري ليضمني اليه معزيا والتفت نحو جميع الاخوان قائلا لهم: ارجوكم ان 
تقدموا تعازیکم للاستاذ عبدالرحمن ففقده كذلك عظيم لان الشيخ المرضي كان اخلص 
اصدقائه وأحب احبائه وما ان تفرق الجمع حتى طلبت من الازهري ان يسمح لي بقطع 
الرحلة والعودة للخرطوم في مساء نفس اليوم لانوح مع النائحين وابكي صديق عمري 
وانيس وحشتي ورفيق هنائي وهمومي واوجاعي الذي رحل عني فجأة (بالذبحة 
الصدرية ) دون ان يمكنني من وداعه الاخير . لكن الازهري قال ل وقد اغرورقت عيناه 
الجامدتان بالدموع ان عودتي للخرطوم تحرجه جدا ويستحسن ان نكمل مهمتنا في 
المؤتمر الافريقي من أجل وطننا ومن أجل الشيخ المرضي نفسه الذي لن يرضى علينا ان 
نحن قاطعنا جلسات المؤتمر . 


كيف نبكي زعماننا ؟ 


في السودان عندما يموت عزيز قوم او قائد او زعيم فان العادة قد جرت بان تدق 
الطبول (النحاس ) دقات عنيفة تهز الكيان فيتجمع حوله الرجال وهم ينكسون سيوفهم 
ويحزمون بطونهم وينوحون ويبكون ومن حولهم يلتف الناس في دوائر وحلقات وهم 
يقفزون بسيوفهم معددين مأثر الفقید » اما النساء فيدقن (الدنقر) ‏ بشد وكسر الدال 
وکسر القاف - وهو عبارة عن (قرع) فخار مجوف نصف دائري يضعنه على 
«الاطشاط ‏ او طشاطه » مليئة بالماء ويضربنها بالعصي في عنف شدید یمشین في حلقات 
دائرية متعددة ومتفرقة وقد حزمن بطونهن بالتياب بعد ان يكلن على رؤوسهن الرماد 
او التراب ثم يبدأن مسيرة النواح في سجع ونغم وبكاء حزين يختمنه بين الفينة والاخری 
بصراخ عال كصهيل الجياد وانين النوق ب(حي ووب) .. حي ووب (الليلة انكسر الرق 
واتشتت الرصاص) والرق هو الكتلة الرئيسية في سقف المنزل التي تحمل بقية الكتل 
الخشبية الصغيرة والأصغر واسمها عندنا «الرصاص » ويتناوب النسوة خاصة الطاعنات 
في السن في تعدد مأثر الفقيد وتستمر مواكب النواح والبكاء والصراخ والتشنج حتى 
يشيع الجثمان إلى مثواه الاخير وقد يستغرق هذا النواح الساعات الطوال بل قد يمتد 
إلى الليل كله حسب مكانة الفقيد في اهله وذويه وما ان يوارى الجثمان حتى تبدا ايام 


۳۸ 


العزاء التي كثيرا ما تمتد في مثل هذه الحالات إلى عشرة ايام وذلك حتى يتمكن الذين 
يسكنون في اقالیم السودان المختلفة من القدوم لاداء العزاء وكثيرا ما تقال الخطب 
والمرائي والاشعار عن الفقيد خاصة في المساء وبعد صلاة المغرب . 

هذا كله حدث في وفاة مولانا الشيخ المرضي ومبارك زروق والشريف حسين الهندي 
كما حدث بصورة اكبر وأعظم عند وفاة الامام المهدي ونجله الصديق من بعده ثم مولانا 
اليرغني وفي الحالات الاخيرة امتدت ايام العزاء الى الشهر والاربعين يوما بالتمام 
والكمال وذلك حتى يتمكن المريدون والمحبون المشتتون في جميع ارجاء السودان والذين 
قد يبلغون مئات الالاف من تقديم عزائهم وولائهم ومبايعتهم للخليفة الجديد وفي مثل 
هذه الاحداث تنتعش المطاعم والمتاجر بدرجة تغلق معها في مساء مبكر على غير العادة 
وتزدحم المواصلات والجوامع والشوارع والاسواق . 

سردت كل هذه التفاصيل حتى يلم القارىء العربي الكريم بعاداتنا وطبائعنا ٤‏ مئل 
هذه الحوادث والکوارث؛ وحتى تكتمل الصورة انقل فيما يلي فقرات من الرثاء الذي 
نشرته يوم ۱۹۱۳/۱۱/۱۹ ف صفحة كاملة من جريدة الصحافة التي ايضا افتقدت في 
الشيخ المرضي الصديق الوفي والممول الاخباري الثر لصفحاتها الرئيسية والداخلية فكان لا 
يبخل عليها بالخبر والتعليق مهما تاخر به الليل لذلك فقد بكته المحابر والة الطباعة 
وافران الرصاص وتراقصت كل احرفها وسطورها تنعيه وتبكيه وتودعه وداع الابدية . 
وافجيعتي فيك يامولانا الشيخ ! ! 

«رتبت نفسي وانا اغادر الخرطوم إلى اديس ابابا لحضور مؤتمر القمة ان اسافر بعد 
نهايته رأسا إلى لندن لاكون بجانب صديقي واخي الشيخ المرضي اقاسمه آلام المرض 
بقدر ما قاسمني الخبر والدموع والافراح» ولأدعو قدرة الله في خشوع واصرار ان تحنو 
عليه » وتترفق به فتمسح الدموع والالم عن وجهه الصبوح وصدره الحنون وقامته 
السمهرية الملائكية . 

مضيت أتحسس ما حولي بحثا عن الطائر الذي هاجر وانا اتطاول بعنقي وارهف 
الاذنين علهما تسمعان لحنا جديدا من الحانه الشجية لكن الصمم قد اصاب الاذنین ‏ فلم 
اعد اسمع الا وسّوسّة اغصان ذابلة وصفير هواء بارد يردد الحان فاترة خافتة حزينة 
فوق هضاب انیوبیا وجبالها العاليات وتملكني الرعب ‏ واحتوتني رعشة باردة خوفا من 
ان يكون طائري الهاجر قد أصابه مکروه » أو زلت قدماه من أعلى الغصن فمسه الاذى . 
لكنني ما حسبت قط انه اذى يصل إلى الصمت الابدي المطبق . 

وجاءني صديق في الفندق الائيوبي ونحن في جمع من رجال الصحافة والقلم ؛ كانوا 
يموجون في حركة وحيوية لا تعرف للراحة طعما ... جاءني صديقي هذا ليقول لي في 


۳:۹ 


صوت حزين خافت ان الطائر قد وقع وهو يعزف آخر الحان الصفاء والوفاء . 

لقد مات اذن ... مات الشيخ المرضي . 
ووهب حياته في سبيل المبدأ والعقيدة والمثل والوفاء وكرامة الانسان .. 

لم استطع ان اتمالك نفسي فخرجت إلى بلكونة الحجرة واجهشت بالبكاء واحسست 
بان الحاجز الذي فصل بيني وبين مولانا يفوق الجبال التي اواجهها طولا وعرضا وقوة 
ولا سبيل لاسير کسیر حزين مفجوع مثلي ان يقوى على مصارعة الحواجز خاصة ان 
كانت من صنع الله القوي الجبار وازددت ضعفا وانا اواجه الحقيقة المفجعة فأحسست 
بحاجتي إلى مزيد من البكاء فبكيت .. وبكيت .. وبكيت ... ثم رفعت وجههي وتطلعت 
إلى الفضاء فاذا بقمم الجبال تغطيها سحب سوداء داكنة تتلوى تحتها كأنها ترقص 
رقصات الموت: 

ديا ايتها السحب السوداء .. يا مياه الله التي تعوم فوق قمم الجبال الشاهقات .. ايتها 
الارض المخضرة ... أيتها النسمات الحلوة ... يا أصواتا لا تكف عن الضحكء. عن 
الغناء.. يا رجالاً في كل مکان ‏ يا حسناوات اثيوبياء يا كؤوسا مترعات فارغة تتعانق 
في وسط الليل .. ايتها الطبول التي تئن وترن ... يا راقصات السامبا ... يا أفاعي 
تتلوى يا اوتارا تنتحب في غير ما توقف . 

«قفوا أرجوكم وكفوا عن الضجيج . وودعوا عوالم المسرة ولو للحظة صغيرة قصيرة › 
فقد وقع الطاثر الذي جاعکم في العام الماضي وهو يصدح ف قصور سبط يهوذا داعيا 
كان کل يء حولي يصرخ ويتلوى ویبکی ویولول حتی العمارات والقاعد والشوارع 
ووجوه الناس والعریات . دقنت رأسي ف يدي وحجبت وجهي عن الكون والحياة وبدأت 
صور مولانا تتحرك امامي في شریط سریم فرأیته وهو يدخل علي کعادته في مكتبي 
ویجلس على الاريكة ویضع عمامته على الائدة ثم يخلع نعلیه ویرقد دون ان بحدئني 
حتی اذا ما اکملت عملي ذهبنا سویا الى داره او داري . 

كان ذلك بعد ان خرج من معتقل جوبا الضیق الحصور لیواجه معتقلا کبیرا عریضا 
كله حرب ومطاردة » قال لي بوما : «بصراحة يا عبدالرحمن هل تخشى زيارتي لك في 
الدار ؟ » قلت له لاذا یامولانا ؟ قال : 

«والله ما عارف لکن بعض الاصدقاء بدأوا یتضایقون من زياراتي خوفا من 
(العساکر ) . وبعد ایام من حديثه هذا عطلت الصحافة لاجل غير مسمی فجاعني في 
منتصف النهار وهو يضحك فدهشت لامره ‏ لکنه سرعان ما قال : 

«اوعك يا سجم تکون زعلان من التعطیل ؟ دا شرف کبیر ليك ...ما هو اذا ما کل 


۳6 ۰ 


واحد دقع ضريبة » الجماعة ديل (حيستمرأوا ) السألة » وضحك مولانا ؛ وضحكت معه 
فبادرني سائلا : انا عارف بضحك ليه » انت البضحكك شنو ؟ قلت له : بضحك عشانك . 
قال: «لكن تعرف انا بضحك عشان سنو ؟ عشان بعد دا ما في خوف عليك مني . لاننا 
خلاص ركبنا في سرج واحد فاضل بس اخونا حسن عبداللطيف حنتحول عليه لغاية ما 
يعطلوا عيادته ! ! ومضى مولانا يضحك وقد انطفأت النار في داره قبل يومين ! 

مضى يضحك وهو محارب في رزقه ومطارد في خطواته يحصون أنفاسه ويتابعون 
حركاته فلم يلن ولم يجبن ولم يستسلم فقد كان بينه وبين الرضا والنعيم خطوة او 
خطوتين ولكن مولانا آثر حياة التضحية وواجه خصومه في عناد واصرار ووقف من أجل 
الديمقراطية وكرامة الانسان كالطود الشامخ ومضى في طريقه الطويل الشاق المليء 
بالأشواك. والصخور والعقبات ... مضى يسير باصرار وعزيمة دون ان يتأثر بجروح 
قدمیه ... مضى في دربه يغشى المنتديات والاصدقاء ليوقظ في نفوسهم الثورة ويبعث في 
صفوفهم الامل الکبیر» مضى وهو يحمل راية العناد والايمان والدعوة السافرة لمحاربة 
الحكم العسكري الجبار . 

مضى وهو يقسم لكل عدو وصديق في المنتديات .. في حفلات الأفراح في بيوت الأتم 
الا مكان لحكم العساكر ان نحن وحدنا الصفوف وشددنا الخناصر وعقدنا العزائم » مضى 
يقول ويردد في كل لحظة : 

«الجماعة رايحين رايحين ! » 

ومضى يمشي في دربه الطويل رغم كل الصعاب حتى استجابت السماء لدعوته 
وامانيه ورأى بعينيه نور الله وهو ينبعث دافئا من شمس ثورة اكتوبر ليبدد بها الظلام 
الذي خیم على سمائنا ونفوسنا لستة اعوام عجاف طوال «وراح العساکر »! ! 

.. قبل تشكيل الحكومة الحاضرة احس مولانا ببعض الضيق فصحبته إلى القاهرة . 
ثم إلى لندن ونصحه الاطباء بصراحة ان يستريح ويعتزل السياسة وتحدئت معه طويلا 
فكان يرد بسخرية علي وعلى نصائح الاطباء وفي ابتسامته المعهودة قائلا : «انتو قايلين 
انا ماشي أموت ليكم بي هين ... دي طرطشة ساكت منكم! » 

.. سافر مولانا في رحلة طويلة بلا عودة ومضى إلى ربه راضيا مرضيا وان اختطفته 
منا يدر القدر فان عزاعنا فيه انه ترك من ورائه ذخيرة ضخمة من الأصدقاء والاخوان 
والاحباب الذين سيحملون راية كفاحة وجهاده واخلاصه ووفائه ويمضون في نفس 
الطريق وهم يرددون اغانيه واناشيده » فكم هي كثيرة وكم هي شجیه » وكم هي حلوة 
وعدبه . 

.. وداعا ايها الطائر الذي هاجر إلى السماء ... وداعا ايها الصديق الحبيب البعيد 
القريب إلى كل نفس . . يامولانا : 

«وافجيعتي فيك ... وواحسرتي عنيك فعلى الرغم من انك هجرتني بلا وداع : فانك 


۳ ۱ 


ستظل ابدا اقرب إلي من كل قریب ‏ واحب الي من كل عزيز فستظل روحك ابدا 
مشعلا للطريق تبدد لنا ظلام النفوس والعقول . 

وداعا يامولانا .. 

يا أخلص الاصدقاء واوفى الاوفياء . 

وداعا وعما قريب سنلتقي !! » 


السیح محمد احمد المرضي يروي 
لمحات من ناریح الکفاح السوداني 


تحدث الاستاذ محمد احمد الرضي عن اللامح الرئيسية للتاریخ السوداني وقصة 
کفاحه من اجل الاستقلال: وشخصية الاستاذ الرضي تبعث على حب واحترام کل من 
حوله ... فهو رجل غاية في التواضع یضیق بالدعاية لشخصه ولا يحب الظاهر .. في 
حدینه عذوبة تنم عن کنیر من التقة بالنفس وکل من افترب منه وینحدث اليه . يحس 
بحيوية الرجل الذي ناهز الستین عاما وصفاء ذهنه . وکثیرا ما يشترك في احادیث 
متعددة مع الجالسين معه ... والاستاذ محمد احمد المرضي يسشغل منصب سکرنیر عام 
الحزب الوطني الاتحادي .. وهو وزير التجارة والصناعة والتموين والتعاون في الوزارة 
السودانية . 

ليس من السهل ان اتحدث عن الحركة الوطنية في السودان حديثا تاريخيا وافيا في 
مقال... انما سأحاول ان اضع بين يدي القارىء موجزا قد يمكنه من معرفة المعالم 
البارزة في تاريخ هذه الحركة . 

يعتبر عام ۸ عندما انتصر اللورد كتسّنر في معركة كرري بامدرمان على القوات 
السودانية بقيادة الخليفة عبدالله » بداية العهد الاستعماري في السودان » وبالرغم من ان 
ذلك الحكم كان يسمى بالحكم الثنائي ‏ الانجليزي المصري - الا انه كان في واقعه 
انجليزيا صميما ولم تكن مصر الا مجرد رمز يمثله بصفة موظفين مصريين يمثلون 
مناصب صغيرة ليست بذات اثر في الحكم وكان حاكم السودان العام وسردار الجيش 
المصري ‏ وهدا لقبه الرسمي - انجليزيا ترشحه انجلترا ويعينه خديو مصر! كما كان 
كل معاونيه الكبار من الانجليز » كما كان كل حكام المديريات والمراكز من الانجليز . 

ولا كانت الناحية الدينية هي الطاغية على مشاعر وتفكير السودانيين آنذاك» فقد 
كانت مقاومة هذا الاستعمار الوافد تلبس مسوح الدين ولهذا ظهر اكثر من شخص في 


"oY 


مختلف انحاء البلاد يقودون ثورات محلية باسم الدين ومحاربة الحكام «الكفرة» ولا 
كان الصراع غير متكافىء لان هؤلاء الثوار ليست لديهم اسلحة حديثة فقد كانت قوات 
الحكام تدمر هذه الثورات في عنف وتنصب الشانق في الميادين العامة تسنق قادتها 
والمشتركين فيها امعانا في ارهاب المواطنين . 

وعندما انشأ الانجليز كلية غردون التذكارية في الخرطوم بهدف مد مكاتب الحكومة 
بالوظفین الذين توكل اليهم صغائر الاعمال المكتبية اخذ جيل جديد من المتعلمين يبرز 
من المجتمع السوداني يحمل بعض معالم الحضارة الحديثة ويتحدث اللغة الانجليزية 
بجانب لغته العربية» ويتصل عن طريق هذه اللغة الجديدة بمصادر غير العربية لتفهم 
الحياة من حوله في العالم الخارجي واخذ هذا الجيل يعنى بتثقيف نفسه » وبداً يحس 
شيئًا فشيئًا بمسئوليته الوطنية رغم قلة عدده . 


سعد زغلول واثره على السودان 


وعندما نشبت الثورة المصرية في اعقاب الحرب العالمية الاولی عام ١9١94‏ وخرجت 
جموع المصريين تدافع عن زعيمها سعد زغلول التقت هذه الفئة المتعلمة في السودان 
بكل مشاعرها مع الثورة المصرية وتتبعت سعدا وصحبه قي السجن والنفی وبهرتها ثورة 
الشعب المصري على الاستعمار البريطاني في تلك الفترة » وكانت صيحة الشعب المصري 
في ثورته الابيه تلك تنادي بطرد المستعمرين من وادي النيل كله » مصر والسودان وكان 
هذا النداء يجد تجاوبا صادقا مع مشاعر السودانيين آنذاك وخاصة الفئة الواعية المتعلمة . 

وتجاوبا مع هذه المشاعر الوطنية التي كانت تغلي في مصر ظهرت الجمعية السرية 
لاول مرة في تاريخ السودان» تعد العدة في الخفاء وتهيىء الاذهان لثورة ممائلة تتفاعل 
مع ثورة الشعب المصري لطرد الاستعمار الانجليزي من وادي النيل . 

نشات اولا جمعية الاتحاد السوداني السرية بالعاصمة السودانية » وامتدت إلى بعض 
الاقالیم» وكان من ابرز اعمالها ان قامت بتهريب بعض الطلبة السودانيين إلى القاهرة 
لینالوا الزید من التعلیم في معاهدها وکان الانجلیز بحرمون على السودانیین تلقي العلم 
في مصر » ومن یفعل ذلك یمنع من العودة للسودان مرة اخری ولا یسمح لاي من افراد 
اسرته ان يرسل له اي قدر من العون الادي . 

وفي عام ۰۱٩۳۶‏ عندما اشتد الصراع بين الشعب الصري بقيادة سعد زغلول وبين 
الانجلیز ۰ اخذ الانجليز يدبرون لفصل السودان عن مصر والانفراد بحكمه كاوصياء عليه 
حتى يبلغ رشده واستغلوا بعض السودانيين الموالين لهم لكي يوقعوا على عرائض 
تطالب بانفراد الانجليز بالوصاية على السودان» وفي هذا الجو نشات «جمعية اللواء 
الابيض » السرية برئاسة الضابط السوداني على عبداللطیف » وكان قد سبق ان حوكم 


ror 


بالسجن والتجريد من وظيفته في الجيش لقيامه باعمال ضد الحكم الانجليزي . 

ولما رأت هذه الجمعية ان الحركة الانجليزية الرامية للانفراد بحكم السودان تسير في 
قوة تحت رعاية الانجليزء ولا سمع اعضاء الجمعية تصريح السيد مكونالد رئيس 
الوزارة البريطانية في مجلس العموم البريطاني والذي قال فيه: «ان /5٠‏ من 
السودانيين ينادون بالوصاية البريطانية وحدها عليهم » ثارت ثائرتهم وقرروا الخروج في 
سلسلة من المظاهرات الصاخبة ضد الوصاية البريطانية وتضامنا مع شعب مصر في ثورته 
لطرد الاستعمار عن وادي النيل . 

وخرجت الظاهرات هادرة تجوب شوارع الخرطوم والعواصم الاخرى وامتلات 
السجون حتى فاضت - وقتل السير لي ستاك حاكم السودان وسردار الجيش المصري 
في القاهرة - وانتهزت بريطانيا الفرصة لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية في السودان 
فامرت بطرد الجيش المصري في السودان في مدى اربع وعشرين ساعة وكذلك طرد 
سائر الموظفين المصريين وضاعف هذا من حدة الثورة في السودان حتى شملت 
قطاعات من الجنود والضباط السودانيين فثاروا ضد القرار» وحدئت تلك الملحمة 
المشهورة في سُوارع الخرطوم بين قوة من الجنود السودانيين بقيادة خمسة من الضباط 
الشجعان ابادوا فيها عددا ضخما من الجنود والضباط الانجليز عندما تصدوا لهم 
ليحولوا بينهم وبين الاتصال بالقوات المصرية التي كانت تتأهب للتحرك صوب القاهرة 
واعدم الضباط الخمسة رميا بالرصاص فيما بعد وكان من بينهم الضابط علي البنا الذي 
استبدل الحكم عليه في اللحظات الاخيرة إلى السجن والنفي لجنوب السودان . 


نار الثورة ل١‏ تخمد 


ولم تستطع انجلترا عقب ثورة الشعب السوداني عام ۱۹۲۶ ان تردد القول بان 
من السودانيين يريدون انفرادها بالوصاية عليهم فقد كانت كل الصحف العالمية 
الكبرى قد نشرت انباء ثورة السودان على الحكم الانجليزي بما في ذلك الصحف 
الانجليزية نفسها . 

واستطاع الانجلیز عن طریق الکبت والارهاب والتنکیل بالاحرار ان یخمدوا النورة 
الى حين . وصبوا جام سخطهم على التعلمین . ووضعوهم تحت الرقابه الشديدة وصاروا 
يأخذون اکثرهم بالشبهات والظنون ویحاکمونهم في قسوة حتی یخیفوهم .. وظل هؤلاء 
یعملون في الخفاء لتنظیم صفوفیم وتهيئة انفسهم للمعركة التالية واستطاعوا في عام 
6 ان یخرجوا بقکرة مؤتمر تنظیمیه جديدة باسم «موّتمر الخریجین العام » مهتدین 
بتجربة الهند في «حزب الوّتمر ». 


۳۵ ۶ 


وكانت عضويه مؤدمر الخريجين بادىء دي بدء مقصورة على المنعلمين وحدهم 
وسمع الانجليز بقيام المؤتمر بامل ان يكون اداة طيعة في ايديهم ولايجاد مجال لتنفس 
فيه الحركة الوطنية خوفا من انفجار عام ۶ ۱۹۲ . 

وسار المؤتمر وئیدا » يجمع الشعب حوله» ويتحسس طريقه ف حذر » واوشکت 
الحرب العالية الثانية ان تضع اوزارها ۰ وتهيأت الشعوب الغلوبة على امرها لكي تسترد 
حريتها وكرامتها» وتدارس اعضاء مؤتمر الخريجين امر بلادهم على ضوء الاحداث 
العالمية » وكان ان قدموا مذكرة لحاكم السودان العام يطالبون فيها بحق تقرير المصير 
وبقيام مجلس تمثيلي في الحال . وجن جنون الانجليز وردوا مذكرة المؤتمر على اعقابها 
ومن هنا بدأت المعركة السافرة بين المؤتمر ومن خلفه الشعب السوداني وبين الانجليز . 
وظهر الصراع في صور شتی حتى قضي على الاستعمار . بدأ الصراع عندما اراد الانجليز 
مجلس استساري لسمال السودان وحده دون الجنوب وكان هذا اعلانا وتأكيدا واضحا 
لسياستهم التي ترمي لفصل الجنوب عن الشمال - وهي السياسة التي ما زلنا نعاني 
منها حتى الان - واعلن المؤتمر بدوره مقاطعة الجلس الاستشاري وقرر فصل اي 
شخص من عضویته يشترك في هذا الجلس الاستشاري» وکان من اثر هذا القرار ان 
استقال من عضوية الجلس کل اعضاء المؤتمر الذين اختارتهم له الحكومة » فکانت ضربة 


نشاة الاحزاب السياسية 


وکان لابد تحت تأثیر اصطراع الاراء والاتجاهات السياسية في السودان ان تنشأ بینها 
احزاب سياسية تمئل فیها هذه الاتجاهات» ومن داخل الوتمر خرجت الاحزاب 
السياسية الجديدة » تدعو لبادئها وتعمل وفق مخططاتها . كان هناك حزبان رئیسیان - 
حزب الاشقاء الذي يرأسه السید اسماعیل الازهري - وکان بری وجوب الاتحاد مع 
مصر لتوحید کفاح الشعبین ضد الاستعمار الانجليزي - وقد حمل هذا الحزب اعباء 
الکقاح الثوري ضد الانجلیز في السودان . وحزب الامة الذي كان ينادي باستقلال 
السودان ویتخذ من مهادنة الانجلیز وسيلة للحصول على هذا الاستقلال شیناً فشيئاً . 

ولهذا عندما اراد الانجلیز انشاء مجلس تشريعي في السودان على انقاض الجلس 
الاستشاري الفاشل » تقدم حزب الامة للتعاون مع الحكومة على قيام هذا الجلس بهدف 
تطویره حتی يبلغ السودان مرحلة الحکم الذاتي . 

ووقف حزب الاشقاء ومعه الاحزاب الاخری التي كانت تقف في صلابة ضد 
الاستعمار الانجليزي - ضد هذه الجمعية منادین بتحریر البلاد من الانجلیز ؛ وهبت 


۳۵ 


معهم جماهير الشعب من المؤيدين لهم يعقدون السياسية لنشر الوعي الوطني › 
ويخرجون المظاهرات الصاخبة المنادية بسقوط الاستعمار » وامتلات السجون حتى 
فاضت وعلى رأسهم السيد اسماعيل الازهري وعدد كبير من القادة الوطنيين والمثقفين 
ومن عامة الشعب . ولم تبق مدينة او قرية في السودان لم تسُترك في تلك الثورة العارمة . 
وفقد المستعمرون وعیهم ‏ فامروا باطلاق الرصاص على المتظاهرين بعد ان فشلت 
الوسائل العادية من الهراوات والقنابل المسيلة للدموع في تفريقها واستشهد عدد من 
المواطنين في المعركة الوطنية الحتدمة » فكان استشهادهم حافزا قويا آخر لكي يشتد 
السخط على الانجليز ويندفع الشعب اكثر في محاربتهم تحت قيادة حزب الاشقاء . 

ولم تضع المعركة اوزارهاء بل اخذت تزداد حدة وضرامة وانتقلت من داخل السودان 
إلى النطاق العالمي اذ خرج قادة المعركة إلى الميادين العالمية ينددون بالاستعمار 
البريطاني في السودان ويصدرون النشرات والكتب ضده ؛ وينشرون الاحاديث التي 
تکشف عن سيئاته واخطاره في الصحف ووكالات الانباء واينما وجدوا الفرصة ووقف 
الشعبان السوداني والصري: في هذه المعركة موقفا موحدا صلبا ضد هذا الاستعمار 
البريطاني . 


وقي عام ۱۹۵۲ حدث ذلك الانفجار الثوري الذي هز العالم كله عندما هب جيش 
مصر بقيادة ابنائه البررة يزيل عهد الطغيان والفساد » ويقيم عهدا جديدا يرد إلى الشعب 

وكان الانجليز » قبل هذه النورة ٠»‏ يجدون منطقهم ف المحاقل الدولية مقبولا » عندما 
یقولون اننا نريد لشعب السودان ان یقرر مصیره وحده ویمحص رغبنه - انحادا مع 

ودخلت الحركة الوطنية السودانية عهدا جدیدا بعد ثورة مصرء اذ قرر قادة الثورة 
ان یقارعوا الستعمرین بنقس حجنهم ویقطعوا علیهم الطریق الذي عبدوه بمنطق 
مقبول لاطالة عهد بقائهم في السودان فاعلنوا انهم یقبلون هذه الحجة » ویوافقون على 
ان یقرر السودان مصيره وحده بعد ان یخرج منه الانجلیز والمصريون في فترة معينة › 
وكان ان تم الاتفاق المعروف الذي قرر فيه الانجليز والمصريون الخروج من السودان 
بعد ثلاث سنوات من توقيع الاتفاقية وبعد قيام انتخابات عامة تقوم على اثرها حكومة 
سودانية تتولى تنفيذ الاتفاقية وتعمل لاستفتاء عام يعلن فيه السودان قراره بشأن 
مستقبله » في نهاية السنوات الثلاث وانضمت الاحزاب الاتحادية المختلفة وعلى رأسها 


50 


حزب الاشقاء - تحت لواء حزب واحد وهو الحزب الوطني الاتحادي - واختير 
لرئاسته السيد اسماعيل الازهري الذي قاد المعركة ضد الاستعمار بصلابة وقوة سجن 
خلالها اكثر من مرة . 

وبالرغم من ان الانتخابات الاولی جرت في ظل العهد الانجليزي وانهم كانوا 
يسيطرون على كل اجهزة الحكم الا ان القوى الوطنية استطاعت ان تنتصر عليه اذ 
اعطى الشعب ثقته للحزب الوطني الاتحادي فجاء باغلبية برلمانية مكنته من الحكم 
منفردا » وتولى رئاسة اول حكومة وطنية السيد اسماعيل الازهري وكان لي شرف 
الاشتراك فيها وزيرا للحكومات المحلية . وبدأنا معركة اخرى لاتقل عنفا وضراوة عن 
سابقتيها » معركة تصفية الحكم في السودان من كل الموظفين الانجليز والنفوذ 
الانجليزي» وبالرغم من انه بحكم الاتفاقية - كان مقررا ان يتم اجلاء القوات 
والموظفين الاجانب في مدى ثلاث سنوات الا ان حكومة الوطني الاتحادي استطاعت 
ان تنجز هذه المهمة القاسية ف مدى عامين فقط رغم الصعوبات العديدة التي وضعها 
الانجليز محاولين بها الابقاء على ادارتهم ونفوذهم إلى اطول مدى يستطيعونه .. 

لقد قلت في مستهل هذه الكلمة انه من العسير جدا ان اتحدث حدینا وافيا عن تاريخ 
الحركة الوطنية في السودان لان المجال لا يتسع لذلك وارجو ان اكون قد وفقت في 
اعطاء فكرة عامة لهذه المرحلة من تاريخ السودان . 


مات عبدالله خليل 


مات عبدالله خليل أحد ابطال ثورة ٠۹١١‏ وسكرتير عام حزب الامة ورئيس الوزراء 
السوداني الاسبق .. مات فقیرا ومعدما “كغيره من عظمائنا بيته مرهون وحساباته في 
البنوك ثلاثة أرقام «حمراء». 

من الاشياء التي لفتت نظري واستوقفتني كثيرا وانا اقلب واراجع في آخر عدد في 
الصحافة قبل التأميم والذي صدر صباح الاربعاء 7؟ اغسطس ۱۹۷۰ رثائي السيد 
عبدالله خليل الذي لاقى ربه يوم الاحد ۲۶ اغسطس ۱۹۷۰ والذي كان لي نعم الاب 
والمربي والموجه والمرشد كيف لا وقد حضر يوم مولدي وظل يرعاني ويحنو علي حتى 
وفاته . 

كان مولدي بامدرمان في حوش جدي لامي (علي ودسالة ) المعروف (بحوش البقر) 
والذي يقع في منتصف السافة بين منزلي عمي الشيخ الطاهر الشبلي رحمه الله وعبدالله 
خليل من الجهة الشمالية وعمي محجوب عثمان رحمه الله والد عثمان وعبدالخالق 
واخوانهما من الجهة الجنوبية.كان جدي ذاك من رفقاء المهدي وامام جامعة في الجزيرة 
أبا حتى لقي ربه وهو شقيق (يمه بت حاج) زوجة المهدي الاولى التي خلفت السيدة ام 


۳۷ 





إهداء إلى ابني الوفي عبدالرحمن مختار 
عبدالله خلیل ۱۹۵۷/۵/۲۳ 

کلئوم فعائشة زین العابدین حسین شريف واخوانه واخوته وبینهم احدی زوجات الامام 
خالتي وباع بالنيابة عن الجمیع متره بملیمین للسید محمد الخليفة شریف نم الى 
الجبلابي وکانت مساحته حوالي الثلائة آلاف متر . كنت انذاك في السادسة عشرة من 
عمري ولا سمع الامام عبدالرحمن الهدي الذي اطلق علي اسمه یوم مولدي بهذه الواقعة 
لام علیها السید محمد وأخذ وعدا حرا منه بان يبقي احفاد (علی ودسالة) ويعني امي 
وخالاتي وأبناء‌هما وبناتهما في هذا النزل حتی يقضي الله امره وفعلا استمر بنا القام 
في منزلنا الباع دون اجر ولا مقابل حتی هدته الامطار فوق رؤوسنا وبدأت بعد ذلك 
رحلة جديدة في عمري ... انتقلت بعدها لبري الحس مع اخواني لابي . 

انطلاقا من هذا التاريخ الثر البعید لعلاقاتي بالرحوم العظیم والدي عبدالله خلیل 
الذي اعطی لبلده کل شيء ولم يأخذ منها شيئاً على الاطلاق كان رنائي له في آخر عدد 
بجريدة الصحافة صباح یوم الاربعاء ۲۰ أغسطس ۱۹۷۰ كأنما ارادت روحه لي ان 
اودع كذلك صحيفتي إلى الابد فماتت بمونه وخنقها النميري بقرار التأمیم يوم ۲۷ 
اعسطس . 

© عزيزي الفاریء 

عاش عبدالله خلیل حياته كلها للناس ۰ كانت رحلته عامرة بالاخاء والوقاء والحنان 
كان جندیا داخل الجیش وخارج الجیش فتطبع به وبنظمه وشرب من تعالیمه السامية 


۳۸ 


ومفاهيمه العظيمة كل معاني الصبر والنظام والشجاعة والامانة والوفاء . كان رحمة الله 
نظيفا في صداقاته وخصوماته يحترم الجميع ویثق بالجميع ويحب الجميع . 

امتلا قلبه الكبير بالعطف والحنان والكرم فكان يقتطع اللقمة من اقواه صغاره ليطعم 
بها المحتاجين والجائعين وكانت داره العامرة ابدا ملاذا لاصحاب الحاجة وملجاً 
للمساکین » ومنتدی لا یفرغ ولا ينفض للاصدفاء والاعداء معا . 

وامس مات عبدالله خلیل فقيرا لا يملك قوت یومه .. بیته مرهون لدعم الاصدفاء 
والاحباب » ورصیده كله ذهب للناس وفوق ذمته دیون ودیون ومع ذلك فقد ترك وراءه 
ثروة من التعالیم والمثل والاخلاق وهي وحدها الباقية الخالدة . 

رحم الله عبدالله خلیل الجندي العظیم الذي راح شهیدا للاخاء والوفاء والکرم . 


إلى متی یظل مقعدك خالیا 


رحم الله مبارك زروق : 

.. من حقك علي والصحافة تعاود الصدور الیوم ان اکتب عنك کلمة بعدما ذرقت 
عليك بالامس دموع اللوعه والحرقه والفراق . 

.. ومن حقك الیوم على قلمي ان يرثيك ويبكيك هو الاخر بقطرات یعتصر‌ها من 
جوقه واطرافه بعد ان لانت الیوم من جفاف طویل . 

.. ومن حقك على (الصحافة) وهي تطالع الیوم الالاف العديدة من اصدقائك 
واخوانك ومواطنيك ان نشارکهم مشاعر الحزن بفقدك الالیم وتسوق اليهم الذکریات » 
وتعيد علیهم ماثر مهما ظهرت جوانب منهاء فان ما اخفیته في صدرك وبين ضلوعك 
اکثر واکبر مما ذكر ... آولیس من حقك على صاحب الصحافة الیوم ان يفي دینا في 
عنقه فيستميحك العذرة وهو يفضي بسر من ماثرك لا ينبغي ان يظل دفینا » ولا يليق 
ان يمضي في بطون الارض لتنهال عليه حبات الحصا وذرات التراب فیصبح نسیا 
مت 

.. ان الأثر الكريمة مهما اراد لها صاحبها ان تظل حبيسة في صدره قابعة بين 
جدران قبره فلا بد لها یوما من ان تثور على الستر ۰ وتتمرد على الکتمان وتمل الصمت 
اللوحش فتنبت على سطح الارض زهرات جمیلات یفوح اریجها العطر لیداعب الجفون 
الحزينة ویریح الانفاس اللاهثة الباكية . 

.لا اريد بهذا ان اعيد سيرتك فهي غنية تفیض بالخیر والنعم وقد ظهرت آارها 
ومعانیها في الصحف وف الطبیعة الزمجرة » وقي صفير الریاح وقي دموع الرجال ونواح 


۳۵ ٩ 


الصبية وصيحات النسوة التي تشق السماء لما مضيت في يوم عاصف وهن يلطمن الخدود 
ويهلن فوق رؤوسهن الرماد ويولون رائحات غاديات وهن ينحن «بحى ووبات » تفتت 
الاكباد وتهز المشاعر حزنا عميقا على فراق عزيز لا لقاء بعده ! ؟ 

.. لا اريد شيئاً من هذاء وانما اردت فقط ان افي دينا في عنقي طوقني به 
مبارك - هذا الصديق الوفي الذي ظل يزن معاني الوفاء والصداقة بمعاييره الذهبية 
الخالصة وفلسفته المعروفة فيترجم هذه المعاني في صمت وهدوء وابتسامة دون ان يثير 
من حولها وحول نفسه ضجيج التبجح والافتعال فتظل أثاره تحمل من هذه المعاني 
والقيم ما يبقى راسخا في القلوب والعقول معا . 

... في يوم مرير وما أكثر ايامنا المريرة آنذاك وفي اثناء تعطيل الصحافة الثاني 
تسلمت خطابا من مدير شركة المطابع ينهي فيه إلي عزم الشركة على استرداد المطابع 
بعدما صدر الامر إلى بنك الباركليز ليبداً الاجراءات . 

.. كنا انذاك في منتصف المحنة العسكرية التي عانى منها مبارك واخوان مبارك 
وامثال مبارك ... عانوا منها في صمت وبلا ضجة ولا شکوی .. لم اجد مناصا من ان 
اسلك الطريق إلى «مبارك » عله يوقف الكارثة فظل يقرأ الخطاب وهو يردد قوله : 

دي مصيبة دي ... ديل مجرمين يا اخي «وکان يقصد العساكر »! 

.. وتركت امرى اليه كما طلب ؛ ووليت وجهي إلى صديق عزيز آخر هو السيد 
محمد احمد محجوب الذي سخر مكتبه في خدمتي وساهم في ايقاف الكارثة . 

.. وسافر مبارك إلى اثينا في عمل من اعماله ثم توجه إلى لندن دون علمي لا لشيء 
الا ليقابل مديري الشركة هناك لانه رأى وقد تحرج موقف صديق له الا سبيل الا 
لاقناعهم بالعدول عن فكرة الاستيلاء او البيع واستطاع مبارك بذلك ان يوقف بيديه 
سقف دار الصحافة قبل ان ينهد على رؤوسنا . 

.. وعاد مبارك بعدما انجح مهمته وهو يحمل حلا نهائيا بان اقوم بدفع الف وستین 
جنيها عبارة عن ارباح للمبالغ المعطلة خلال السبعة اشهر التي عجزت عن سدادها .. 

.. ولم يكتف مبارك بهذا وهو العليم بحالي آنذاك ولكنه بدأ محاولة لجمع هذا 
المبلغ .. كان يفعل ذلك في صمت ععادته وبلا مشورة ولكنه قبل ان يكمل محاولته 
علمت بامرها من صديق فرجوته ان يوقفها فقبل في صمت ايضا . . 

قال لي مبارك رحمه الله قبل عشرة ايام من تعطيل الصحافة الاخير «انهم يتعقبونك 
بعنف ويحصون انفاسك على الرغم مما رواه عنك محجوب داخل مجلس الوزراء .. 
وعلى الرغم من شهادتنا في لجنة التطهير والجلس بما عانته «الصحافة » من ظلم 
واجحاف وتعطيل وتشريد ابان الحكم العسكري » . 

ومضى مبارك یقول : 

.. انهم جميعا يعلمون بقصة «الصحافة » في العهد العسكري والدور الكبير الذي لعبته 


۳۹۰ 


في ثورة ۲۱ اكتوبر ... ولكن كل هذا لم يغفر لك فهم مازالوا يبيتون لك امرا ! 

وقال لي بدعابته الحلوة ولعله اراد ان يخفف علي وقع ما قال : 

ياخوي احسن تبل راسك! ! 

وكان مبارك رحمه الله يردد بين كل عبارة واخرى عندما كنا نتحدث ف مجالسنا 
الخاصة آنذاك في السياسة . . كان یقول : 

والله الحالة صعبة خلاص ...بس ربك يستر !! 

قلت له مرة : 

وكيف تطيقها يا مبارك ! ؟ 

قال: 

اهو . . لكن والله حالة تقصف عمر الواحد ! ! 

ولم يمض على قوله هذا سوى اسابيع حتى خر مبارك شهیدا في ميدان المعركة 
وانطفات ابتسامته الحلوة وغابت عن اعيننا قامته السمهرية » وانقطعت عن حلقاتنا 
احادينه العذبه وجاور ربه تاركا مقاعده بیننا ابدا خالية . 

... لقد بارح مبارك دنيانا الضيقة الفانية في رحلة طويلة بعيدة بلا عودة ولكن 

مقاعده العديدة ستظل خالية من جسده ء ممتلئة بروحه وابتسامته .. وستظل مانره 
العديدة الظاهر منها والمستتر ابدا مضيئة » ابدا حية » قان المائر مهما اراد لها صاحبها ان 
تظل مطوية في صدرهء قابعة بين جدران قبره فلا بد لها يوما من ان تمزق الستر. 
وتتمرد على الكتمان فتنبت على ظهر الارض زهرات جميلات تداعبها نسائم الذكريات 
الحلوة فتفوح ابدا بالمسك والعطر . 

عطر الله قبر مبارك مثلما كان عطرا في حياته وعطرا على اصدقائه ومواطنيه وانزل 
عليه السكينة والسلوى والرحمة والغفرة . 


51١ 


* الفصل العشرون ¢ 


© بين تمرد جنوب السودان وانفصال بيافرا نيجيريا 
© ابن السمكري الذي أصبح رئيسا للجمهورية ثم أله نفسه فهوى . 





.. دعونا نهرب بعيدا إلى غرب القارة الافريقية لنحط الرحال في نيجيريا مقتفين 
آثار الداهية السياسي السير جيمس روبرتسون نائب حاكم عام السودان والقابض على 
زمام اموره والذي قضى أكثر من نصف عمره وزهرة شبابه وهو يعربد ويصول ويجول 
في اراضي السودان الشاسعة الواسعة منذ ان كان مفتشا للمركز حتى اصبح السكرتير 
الاداري وهو النصب الذي يلي الحاكم العام مباشرة والذي يقبض عادة على مفاتيح 
وخزائن البلاد والعباد ... دعونا نتابع خطى هذا الرجل الكبير الخطير الذي نقل الى 
لاغوس «نيجيريا » مترقیا هذه المرة إلى حاكم عام عموم نيجيريا والذي شهد فترة الحكم 
الذاتي ومرحلة الانتقال حتى اعلن استقلالها . 

.. قلت مرارا ان التعاريج والتضاريس التي تعترض سبيلي وانا اسجل مذكرات 
ثلائین عاما مضت قد تجرفني لبعض الوقت عن الخط المستقيم فاضطر إلى القفز ولو 
إلى حين من حاطرة إلى خاطرة ومن ذكرى إلى اخرى ومن حدث إلى حدث ؛ لكني 
دائما اعود راجعا لالتقي من جديد بخط السير الذي رسمته . 

.. الحديث عن السير جيمس روبرتسون متصل ببداية ونهاية الاستعمار البريطاني 
في السودان وبنهايته في نيجيرياء لذلك فلا اعتقد بان ذلك سيخرجني مرة واحدة عن 
دائرة الاحداث والذكريات فتاريخ السودان مرتبط إلى حد كبير بهذا الداهية البريطاني 
العريق الذي كان يخطط وينفذ سياسة امبراطوريته العجوز التي لم تكن تغرب الشمس 
عنها ففي عهده تمكنت الادارة البريطانية من احكام اغلاقها تماما للجنوب وفصله عن 
شمال السودان» وفي عهده كانت سياسة فرق تسد المعروفة هي السائدة والنافذة في 
البلاد فاشتدت معها النعرة الطائفية والقبلية والدينية وزرع كميات كبيرة من القنابل 
الموقوته ظلت تتفجر بعنف وتدوي بعنف ونحن على مشارف الاستقلال فوقع التمرد 
الشهير في جنوب السودان ثم جاءت أحداث مارس التي غيرت مسار البلاد ثم ظهرت 
الفتن والاصطدامات القبلية في غرب وجنوب السودان والتي لا تزال آثارها عائشة بیننا 
خنی. الان::: 

.. في السادس من ینایر عام ۱۹۵۸ توجهت الى زیارة نیجیریا تلبیة لدعوة من 


۳۹6۵ 


مكتب الاعلام الخارجي وذلك قبل الاستقلال واثناء فترة الانتقال وقد مكثت فيها اربعة 
عشر يوما تمكنت خلالها من الطواف على معظم مقاطعاتها الشاسعة الواسعة الغنية 
والتي تشبه في كثير من جوانبها السودان ويومها كان الرجل الثاني الذي يلي السير 
جيمس روبرتسون الحاكم العام هو المواطن النيجيري الدكتور ناماد ازيكوي والذي 
اصبح فيما بعد أول حاكم عام نيجيري والدكتور ازيكوي هو دكتور بشري بجانب انه 
دكتور في الاقتصاد السياسي وهو من خيرة شباب نيجيريا ثقافة وعمقاً وعلما ووطنية 
مما أهله لتسلم جميع مقاليد الحكم والسلطة من السير جيمس روبرتسون الذي رحل من 
افريقيا كليا وأصبح فيما بعد - واظن حتى الان - عضوا في مجلس ادارة بنك باركليز 
البريطاني في لندن . 

.. وجه لي الدكتور ازيكوي عديدا من الدعوات واللقاءات حيث تمكنا معا من بحث 
كل الظروف والجوانب السياسية التي عشناها في السودان والتي بعیشونها في نيجيريا 
وقد التقيت كذلك بالسير جيمس روبرتسون في مكتبه في قصر الحكومة المنيف (القصر 
الجمهوري الان) وتبادلنا عبارات التحية والمجاملة وعندما لاحظ التصاقي الشدید بنائبه 
قال وهو يودعني ویشد على يدي : 
»D0 Not Spoil My Boys»‏ لا تفسد علي ابنائي ! ! 

.. وكانت هذه الجملة التي لا تتعدى كلماتها أصابع اليد الواحدة قد أثارت في نفس 
الدكتور أزيكوي كثيرا من عوامل الرغبة والالحاح وحب الاستطلاع لتقصي الحقائق 
ومعرفة الكثير عن السير جيمس روبرتسون ودوره وسياسته في السودان وقد قابلت 
رغبته هذه بترحيب حار فمضيت اروي له التاريخ والمكائد وتمرد الجنوب وكل ما يتعلق 
بسياسة فرق تسد ولم أترك شاردة ولا واردة الا وقصصتها عليه حتى يستفيد من كل 
تجاربنا وبلاده الشقيقة العزيزة مقبلة على مشارف الاستقلال وفترة الانتقال وكان اهتمام 
الدكتور ازيكوي واضحا لدرجة انه كان يسجل كتابة بجانب ألة التسجيل كل حرف وكل 
كلمة قلتها الشيء الذي شجعني على الاسترسال ثم اشعرني في النهاية براحة نفس عميقة 
وانا أضع بين يدي شقیق عزيز كل تجاربي حتى يتحسس مواقع اقدامه جيدا وهو 
ينتقل ببلاده العزيزة إلى مرحلة الاستقلال الصعبة . 

.. ثمة سؤال كبير بعد كل هذا اللقاء ظل يلوح في خاطري كل ما نقل إلى المذياع 
أنباء ذلك القطر العزیز ... هل استطاع الدكتور ازيكوي وزملاؤه في المعارضة الدكتور 
والمعلم تفاوا بليوا الذي اغتيل فيما بعد في انقلاب غادر مشؤوم ... هل استطاعوا ان 
يستفيدوا من تجارب السودان!! 

الاجابة مع الاسف وبالبنط العريض لا !!! ولكن لماذا وقد قدمت لهم المخزون من 
كل تجاربنا ومشاكلنا في طبق من الذهب! 

.. هل كانت الفترة قصيرة وضيقة!؟ هل كانت الالغام والمتفجرات قد بثت بليل 


۳ 


دون ان يتمكن المواطنون النيجيريون من معرفة مواقيتها وكمياتها ووجهاتها ! ؟ 

اعتقد انه لكل هذه الاسباب مجتمعة او متفرقة ‏ «لان الاساليب الاستعمارية 
وخبراتها وتمرسها في هذه الجالات كانت أقوى وأقدم وأعرق» - فان النيجيريين لم 
يستطيعوا تبيانها وتلافيها فوقعوا في نفس الماسي التي مررنا بها بل وتكاد تكون حرفيا 
ونسخة طبق الاصل! 

.. بدأت نفس الخلافات القبلية والطائفية والدينية وتطلعات زعماء القبائل والمندسين 
في الصفوف من الانهزاميين وأذناب الاستعمار والمستفيدين من الشقاق والخلاف وبحور 
العرق والدم . وتطورت الخلافات إلى اصطدامات مسلحة ثم انتهت بالانقلاب المأساوي 
العنيف الذي كان أول ضحاياه ذلك الرجل العلامة والمتحدث الذي هز منابر الامم 
التحدة والذي وصفه تشرشل يوماً ما في جملته المملوءة بالغرور والعزة بالنفس عندما 
قال: «اربعة في هذا العالم یتحدئون اللغة الانجليزية بطلاقة . انا وبرنارد شو ونهرو 
وتفاوا بليوا من نيجيريا »! 

.. أخذت الأحداث المأساوية تتطور في نيجيريا بشکل خطير هز ضمير العالم كله 
عندما اعلن اجوكو الانفصال عن الحكومة المركزية التي واجهته بحزم وعنف لتوقف 
صلفه وتحديه » ولكن المواجهة انتهت إلى حرب شرسة لثيمة نصب قائد التمرد اجوكو من 
خلال دخانها ودمائها وجثئها المحترقة نفسه حاكماً على «بيافرا » التي تربعت أخبارها 
على صدارة صحف العالم ووسائل اعلامه من إذاعة وتلفزيون . 

.. كانت مأساة نيجيريا التي خطط لها الاستعمار منذ قديم اخطر وأعمق من تلك 
التي نفذها في السودان وقد ساعدته في ذلك عوامل كثيرة على رأسها تفرق القبائل 
وتعدد اللهجات وكثرة النعرات الدينية المسلمة التشددة منها في الشمال والمسيحية 
المتسلطة في الجنوب والغرب . 

بهذه المناسبة أذكر انني في اليوم الثامن والتاسع والعاشر من يناير ۱۹۵۸ حضرت 
المؤتمر الكنسي العام لافريقيا الذي عقد في لاغوس وحضره مندوبون من جميع كنائس 
الدول الافريقية بما فيها السودان . واستمعت في الايام الثلائة دون انقطاع وباهتمام بالغ 
إلى خطب وكلمات رؤساء الوفود الكنسية فكانت لهجتهم لا تسر › وايحاءاتهم لا تعجب ‏ 
وتعليقاتهم تخيف وترفع علامات استفهام وتعجب كثيرة لا تنقطع ولا تكف والغريب ان 
احدا لم يتدخل ليوقف هذا الذي يجري فقد كان المتربع آنذاك على قمة السلطة 
التشريعية والتنفيذية هو السير جيمس روبرتسون حاكم عام نيجيريا ونائب حاكم عام 
السودان السابق ! 

مع كل الماسي التي وقعت في دولة نيجيريا الشقيقة وبكل القنابل الزمنية التي ظلت 
تتفجر الواحدة تلو الاخرى فقد نالت نيجيريا الجارة السْقيقة استقلالها ورفرف علمها 
الحبيب في نفس السارية وفي قصر السير جيمس روبرتسون بعد ان انزل العلم 


۳۷ 


البريطاني ورحل الحاكم عن البلاد ... نالت الاستقلال ولكنها دفعت الثمن غاليا جدا 
وهي الان وبعد ان اكتملت الصحوة الشعبية وتوحدت البلاد وعرف اهلها كيف فرق 
الاستعمار بينهم وفرق وحدتهم وشتت صفوفهم ۰ عرفوا بعد ذلك كله اسالیبه » وكشفوا 
الاعيبه » وخبروا حيله وتأمره فوجدوا اخيرا انفسهم ومضوا يشقون طريقهم في طليعة 
الموكب الافريقي وهم عصبة » وهم قوة يعمل لها الف حساب وحساب . 


اللؤلؤة الجميلة 


.. قبل ان اقفل عائدا لا إلى تونس وانما إلى الخرطوم اود ان اعرج قليلا إلى غرب 
نيجيريا سعيا إلى غانا تلك اللؤلؤة الجميلة التي كانت تسمى فيما مضى «ساحل الذهب» 
وظن البسطاء من اهلنا آنذاك ان ساحلها ملىء بالذهب مما دفع الكثيرين لشد الرحال 
اليها ليملأ الواحد منهم ولو قدحا صغيرا من ذهبها ولؤلؤها ويرجع إلى اهله سالماً غانما 
وثريا يسار اليه بالبنان . لم تكن زيارتي إلى اكرا لغرض سياسي او سياحي . وانما كانت 
تلبية لدعوة كريمة وجهها إلي الزعيم الافريقي الكبير المناضل كوامي نكروما لحضور 
حفل زواجه من فتحية المصرية . قد يتبادر إلى بعض الاذهان غرابة هذه الدعوة » رئيس 
جمهورية كبير يدعو صحفیا عاديا لحضور مراسم زواجه . والحقيقة انها لم تكن كذلك 
بالمعنى السطحي او الحرفي فقد جمعتني مجرد الصدفة الحلوة بالدكتور نكروما عندما 
كان يعمل ويكافح في لندن من اجل قضية بلاده وقد كان أنذاك يصول ويجول في 
حدائق (هايد بارك كورنر) حيث الحديث مستباح لكل من يريده ويهواه وهذا الركن 
الذي ظل ومازال يستقبل العديدين من عشاقه وخطبائه صباح الأحاد كل يعزف ما 
يشتهي من الالحان شريطة ان لا تكون مشروخة او جارحة. التقيت في حديقة الخطباء 
هذه بنكروما وزميل كفاحه ودربه الدكتور بوسيا الذي اصبح فيما بعد زعيما للمعارضة 
ونمت بيننا علاقات وطيدة استمرت حتى اقصائه من الحكم . 

وقصة الدكتور نكروما كما عرفتها وشاهدتها عن قرب كانت ولا تزال بالنسبة إلي 
مصدر حيرة وبحث وتقص وتساؤل ... فنكروما العالم والخطيب والرجل الكادح 
الطيب الذي يتدفق عطفا وشعورا قبل ان يعتلي منصة الحكم في بلاده » اصبح شكوكا 
وشرسا وحذراء وماتت في قلبه الكبير كل قطرات الحب والعطف ولذلك قصة أعود 
اليها بعد ان نكمل معا مراسيم الزواج التي غنت ورقصت لها غانا كلها بعد مظاهرة 
معادية لم تستغرق اكثر من ساعة واحدة حتى انضمت هي نفسها إلى حلبات الرقص 
والغناء والفرح والزينات . 

قبل ان تتم مراسيم الزواج وكان نكروما آنذاك ما زال بين قديمه وحديثه واشعاعات 
الوفاء في قلبه ووجدانه كانت لا تزال متقدة ‏ أقبلت عليه مظاهرة كبيرة معظمها من 


۳۸ 





2 £ 2 03 ر 5 ۳ 7 
3 2 5 0 3 3 7 2 ۲ ج 7 < 2 7 
ع LS ES‏ ير ب خی 7 0 5 3 
. 2 1 کر ° ر رم 3 ”لزان 1 4 
hb 7 5 7 8 .‏ ده حرا ای > کی م ¢ وت ۰ 
م !7 مود ا یت 2 ی 
کک 2 O‏ 27 9 4 2 
EE 2 0 E‏ مک 
2 ر 3 3 < کر 7 
KEI E RE E EET ۳‏ 
ا SANS ST‏ که ۳ a ١‏ و کی e‏ سر 
هت و 3 
۳ 


799 E es 
نكروما وفتحية في طريقهما إلى افتتاح البرلان‎ 


طالبات المدارس والجامعات تدين زواجه من أجنبية وتهتف له بأن كل فتاة في غانا 
تتمناك زوجا لها فلماذا اذن اجنبية ... لماذا؟ كانت الظاهرات صاخبة لدرجة انها 
غطت على كل شيء فلم ینر نكروماء ولم يغضب ولم يستدع قوات الشرطة او المدفعية 
او المطافي » لتفريق الجمعء وانما قابل اخواته المتظاهرات بابتسامة عذبة وهو يتطلع الى 
الموكب ثم طلب من حراسه الذين كانوا يستخدمون مكبرات الصوت منذرين الموكب 
بالتفرق والا ..! طلب منهم جميعا ان يحضروا كل مكبرات الصوت إلى المنصة الرئيسية 
حيث يجلس ثم نهض وفي صوت متهدج نبراته صادقة وواضحة ومعبرة قال: 

«اخوتي وأهلي لقد استمعت اليكم وعلمت ماذا تريدون فارجوكم ان تمنحوني فرصة 
اتحدث فيها اليكم حديث الاخ المؤمن الصريح الصادق! » فصمت الجميع كأنما نزلت على 
رؤوسهم جبال الهملايا وبدأ نكروما وهو الخطيب المفوه البارع الذي يعرف كيف يتصيد 
مستمعيه ويلعب بعواطفهم ومشاعرهم بدأ يتطلع إلى الوجوه هنا وهناك كنوع من 
التشویق وهو يقع ضمن فنون الخطابة حتى لا حت له فرصته فبدد ذلك السكون 
الغريب مستطردا حديثه قائلا في نبرات حزينة تحرك الصخر .. قال: 

«لقد منحتكم قلبي وشبابي وأحلى ايام عمري وناضلت معكم وبكم حتى توجنا 
كفاحنا المرير بنيل الاستقلال والان جاء دوري فارجوكم يا احبائي ان تمنحوا قلبي 
حريته » ولا تقسو عليه . وان تساعدوا حبي ان ينمو فبالحب استطيع ان اسعد ونستطيع 
جميعا ان نحيا حياة كلها ورود وابتسامات ثم جلس ». ولم يمض الصمت لبضع ثوان 


۳۹ 


حتى دخلت المظاهرات كلها إلى حلبات الرقص وموكب الكرنفال وسهرت شوارع اكرا 
وغانا كلها حتى الصباح وكانوا كلهم شهرزاد وشهریار فادركهم النعاس واستسلموا لنوم 
طويل طويل! ! 

.. اعود إلى حيرتي وتساؤلي لا عن حياة نكروماء وانما عن هذا القعد السحري 
الغريب الذي يسمى بكرسي الحكم او آفة السلطة ماذا يمكن ان يكون فيه حتى ينسى 
الانسان تاريخه ورحله كفاحة ورفقاء دربه «والسندوتش » الهمبيرقر والبيزا والبيرة 
والمكرونة . 

.. كنت حتى انتهاء مراسيم الزواج أجلس في الجانب المخصص لاسرة نكروما ولم 
اشعر بفارق كبير بين نكروما هايد بارك ونكروما رئيس الجمهورية اللهم الا اذا استثنيت 
ابهة الحكم وبهرج الرئاسة والعربة والعلم والدراجات البخارية بصفافيرها وسحر 
بريقها ! ! 


لم تمض على نكروما الوديع فترة زمنية طويلة وهو يراقب الشياطين ف رقصاتهم 
المحمومة مكتفيا بالتفرج عليها من خارج الحلبة وهو يهز قدميه واحيانا رأسه وكتفه. 
لكنه لم يستطع ان يقاوم ذلك طويلا خاصة عندما أفرغ كأسه الممتلئة في جوفه الملتهب . 
فمال رأسه قليلا ثم كثيرا وشعر بالنشوة ثم بالانتفاضة وبرغبته الحارة في الرقص بعد ما 
لعبت الايقاعات الجنونة بكل عواطفة وحواسه » فدخل الحلبة الصاخبة وظل يرقص 
ويرقص وينتفض حتى أصابته الحمى اللاریا أو «الحمي ام برد» - كما يسميها 
اهلونا - وقد لازمته هذه السكرة طويلا طويلا ولم يستطع ان يصحو من اغماءاتها الا 
على أصوات المدافع والرصاص وهنا اكراء واعلان حظر التجول واغلاق المطارات 
والارشات العسكرية ثم سقوطه من القعد الرئاسي !! . 

قال لي مرة نفر من الاقربین اليه ممن جمعتنا سویا ظروف لندن وبردها القاتل : 

«الحق صاحبك مستر مختار ... صاحبك خلاص حیروح في ستين داهية ونروح نحن 
معاه في ستين الف داهية!!» 

.. جاءتني هذه الرسالة قبل وصول نكروما إلى السودان باسبوع في نهاية عام ۱۹۵۷ 
ابان تولي عبدالله خليل رئاسة الحكومة كأنما اراد اصحابها او مرسلوها ان يستغلوا 
زيارته الرسمية ولكنني شعرت بالتغيير الكبير المفاجىء لنکروما الذي وضح على ملامح 
وجهه وطريقة حدیثه حتى مشيته وعصاه الابنوسية كانت دخيلة عليه . لم أتمكن بالطبع 
من مفاتحته في امر كهذا حتى لا افسد عليه جو الزيارة الودية ولكننى وانا اودعه على 
سلم الطائرة قلت له: ۱ 

ديا سيادة الرئیس ارید ان ازورك في اکرا خلال اسبوع فأجابني مهللا: 

«بالطبع فأنت تعرف بأنني ارحب بك دائما وسأنتظرك!». 


۳۷۰ 





E. يميه‎ 


نكروما في مكتبه عند توليه رئاسة الجمهورية عام ۱۹۰۰ 

بعد عشرة ايام كنت في اكرا وقوبلت في المطار كالعادة مقابلة كريمة اذ رحب بي 
نيابة عن الرئيس نكروما وزير الاعلام وصحبني حتى الفندق حيث التقيت بالعديد من 
اصدقاء هايد بارك ومن حديثهم ومرارتهم شعرت بأن الموقف أصبح صعباً ومعقداً لا 





يجدي معه تدخلي خاصة وانا مجرد صديق قديم وضيف عابر لا ينبغي ان يحشر انفه 
اكثر مما يجب في اشياء حساسة وخطيرة كهذه وفعلا مكثت اسبوعا كرمني خلاله 
الرجل نكروما في داره فلم افتح معه فمي بكلمة » ولكنني في رحلة العودة وانا أرقب من 
نافذة الطائرة لؤلؤة البحر وساحل الذهب بدأت استعيد صدى احاديث اصدقاء نكروما 
المريرة وما حصدته من معلومات خطيرة ومغلقة ستقود حتما الى كارثة او نهاية 
مأساوية رغم الضباب الذي يحجب رؤياها وتبيانها آنذاك! ! 

.. قصة نكروما هي قصة غانا وشعب غانا الذي كافح طويلا للتخلص من الثلائي 
اللئيم الفقر والجهل والذل الاستعماري البغيض .. نكروما ابن الحداد «السمكري » الفقير 
الذي ضحى من اجل ابنه بالعرق والدموع عندما لاحظ منه بوارق الذكاء والامل والرجاء 
فادخله مدارس القساوسة التبشيرية لكن الشاب الطموح صدمه ابناء البيض باحتقارهم له 
ولرفقائه السود وما ان انهى الفتى دراسته الثانوية حتی هاجر إلى اميركا بعد ان 
استدان عشر جنيهات استرلينية سافر بها في قوارب العبيد وعمل على ظهرها كناسا وما 
ان اشرفت المركب على ابواب نيويورك وشهد الفتى تمثال الحرية حتى اكلت عيناه 


۳۷۱ 


العبارة المنقوشة عند قاعدة التمثال: 

«اعطوني جماهيركم المتعبة الفقيرة التواقة إلى تنفس الحريةء ابعئوا إلي بنفاية 
شواطئكم المزدحمة اولئك الذين لا وطن لهم ولا مأوى فها انا ذا أرفع مشعلي قرب 
الباب الذهبي لينير لكم دروب الحیاة ! ! » . 

.. بالرغم من حلاوة هذه الکلمات فان الشاب نکروما اصطدم بالحقيقة الريرة منذ 
ان وطئت قدماه آرض الحرية ودخل الطاعم لا ليأكل وانما ليغسل الاطباق وکان 
یکنس الشوارع » والارة تقذفه بالقانورات وعاش اقسی سنین حياته ثم ما لبث ان شد 
رحاله إلى لندن حیث درس الاقتصاد السياسي وقرأ لارکس وآدم اسمیث وروبرت اوین 
وعاصر العارك السياسية في لندن وخبر الحافظین والعمال والشيوعيين والاحرار 
وغیرهم ودخل كل مدارس الحياة بما في ذلك ركن الخطباء في هاید بارك! 

كان أول موّتمر افريقي اشترك فيه الشاب نکروما في لندن هو الذي اقيم بدعوة من 
الزعیم دیبوا وساهم فيه بقدر کبیر جومو کنیاتا بطل الاوماو ودکتور نامادي ازيكوي 
حاکم عام نیجیریا ورئیس جمهوریتها فیما بعد . عاد نکروما الى بلاده وبدأً نشاطه ولمع 
بسرعة البرق كما انخطف بسرعة البرق ایضا وبعد فترة من النضال والکفاح اصبح 
واجهة لغانا وتجاوب مع الشعب بأسره وبسبب نشاطه اللحوظ أصدر الحاکم العام 
البريطاني امرا باعتقاله ومصادرة ممتلکاته وحل حزبه . 

وی عام ۱۹۲۰ اجریت في غانا انتخابات رئاسة الجمهورية ففاز ابن الحداد 
السمكري البائس کوامي نکروما بمنصب اول رئيس لجمهورية غانا الستقلة واصبحوا 
یطلقون عليه «اوساجیبفو » نکروما ومعناها بلغة الاشانتي «القائد الذي لا يقهر ابدا ؛ 
وکان شبهه الشدید للاعب البرازيلي بيليه کنیرا مما سبب له بعض الشاکل 
والضایقات ... ثم ماذا بعد کل هذا!؟ 

نکروما الطیب الودود اصبح دکتاتورا لا یجاری ففقد کل احبائه وزملاء کقاحه 
ورفقاء دربه . مل بهم العتقلات والسجون وعلى رأسهم الدکتور بوسیا ثم لازمه الهوس 
الديني فأصبح راعیا للكنيسة ثم كبير الاساقفة ثم راعي الجامعة وراعي اي شيء وزعیم 
اي شيء وکبیر اي شيء! امن بالتعاوید ونصب لنفسه التمائيل وبدا الناس بعد ذلك 
ینقضون من حوله . والحب الکبیر التبادل بين الشعب وابنه حطمه البولیس السياسي 
وزوار الفجر فذبلت کل آوراقه. واصفرت عروقه ؛ وجفت من العطش وخریفه اصبح 
غاضبا ورعوده مزمجرة وبروقه تخطف الابصار لکن السماء لا تمطر ابدا ؛ وظل نکروما 
يدور ویدور مع الشياطين في حلبة الرقص الجنونة » وایقاعاتها الحمومة حتی اذا ما 
ارتفع یوما آذان الفجر زمجر الرصاص » وحوصر القصر ‏ واعلنت حالة الطواریء وسطا 
الجیش على السلطة وأذيع البیان رقم واحد وانتهی کل شيء» ولم يبق شيء!! 

زالت حمی نکروما «وراحت السکرة وجاعت الفكرة » ولکنها جاعت متأخرة جدا جدا 


YY 


حيث هرب الى غينيا لاجئا سياسيا حتى ودع الحياة ودخلت سيرته بطون التاريخ 


فأصبحت مجرد ذكريات!! 


ترى فبماذا » وكيف كان يفكر نکروما وهو في طريق الهرب الى غينيا .. في رحلته 


الاخيرة رحلة النسيان! ؟ 


لقد مات نكروما وماتت معه كل اسراره لكنه ليته يصحو للحظات ليروي لنا مشاعره 
واحاسيسه وهو يبتعد رويدا رويدا في بطن الليل عن لؤلؤته الحلوة ساحل الذهب » وعن 
اهله وخلانه واحبانه وكل ذكريات جهاده وكفاحه وحلاوة انتصاراته ! 


بقي شيء اخیر لابد من دکره وهو 
نتاج طبيعي لحالات عدم الاستقرار 
التي ظلت تعیشها غانا منذ وقت طویل 
فقد انبعثت من الاحداث والاسي ذکری 


نکروما من جدید وكاني بشعبه یقول : 


«الجن الذي تعرفه خير من الجن 
الذي لا تعرفه ! » تحسروا على ایامه 
رغم مرارتها والامها واکتسحت دکراه 
كل شيء فأعيد رفات الزعیم الهاجر 
الغترب إلى اکرا لیواری في ارضه وترابه 
وكأني باهله یقولون وهم یوارون 


ویودعون رفانه : 
«كان نکروما بالنسبة لنا قدرا ولکنه 





تمثال نکروما في میدان النجمة الزرقاء 


YT 


0 الفصل الحادي والعشرون 


© نايريري القدیس ينتسشل امنه من الفاع 
چ كرومي ذیح عرب زنزبار ثم قتلوه «ب ۱۵ مدفعا «شاشا ( 
© بابو يذل الاجانب شك قبیح 





كم انا تواق ومشتاق للعودة إلى الخرطوم باعتبارها المنبع المصب ومصدر الوحي 
والالهام لشحنة الذكريات التي عايشتها والتي احاول الان تسطيرها علها تفيد غيري 
لكن الطواف يحلو على بعض الدول الافريقية الصديقة والشقيقة التي ترتبط بالسودان 
بين ما جرى في السودان في تلك الحقبة من التاريخ وما كان يجري في بعض الدول 
الافريقية قبل وبعد استقلالها » فان الضرورة تستلزم التوقف ولو بشکل قصير وعابر 
حتی نستبین هذه اللامح . فالذي كان يجري في السودان ابان عهد الاستعمار البريطاني 
التخطیط ونفس الاحداث ونفس التأمر بل ونفس النتائج . وغانا التي عاشت وعایشت 
للجمهور یه واصبح واجهه صادفه نطیفه لبلاده » انتكس عندما استجاب للسشیطان فجعل 
من نقسه الها لكل شيء وزعیما لكل شيء حنی سقط نم مات وفقد کل شيء! 

.. هذه الرة اريد ان اعرج إلى تنزانیا وجولیوس نايريري ذلك العلم القتدر والزعیم 
النقي الذي یختلف كلياً في حاضره لا بدايته عن زمیله وصدیقه نکروما بل وهناك 
تناقض ظاهر وبارز في سلوك کل منهما فنايريري رغم انه عرف بتعصبه الديني 
والکنسي » الا انه ظل قائدا نفيا نظیفا طاهرا امینا ومخلصا لدرجه تضعه بحق وبجدارة 
في مصاف القدیسین والانقیاء فكرسي الحکم والسلطان والصولجان الذي لعب برأس 
نکروما حنی سکر وغاب عن نفسه وحقيقته » لم يله یوما نايريري او یسکره او يؤئر على 
بساطة بل قد يجهل الکثیرون فلسفة هذا الرجل الذي یقول دائما نحن لا نملك الکثیر 
ولکن بعقولنا واخلاصنا وتجردنا نستطیع ان نفعل الکثیر فهل فعل نايريري سيا مما 
بقول ! ؟ 

قدلا يعلم الكثيرون ان نايريري ف نطاق التفكير المتجرد هو الذي ابندع الزي 
الافريقي «او البدلة الافريقية» ذات الاكمام القصيرة في الصيف والاكمام الطويلة في 


VY 





الرئيس الضاحك نيريري 
الشتاء فالغى القميص والكرافتة والجاكته العقدة التي لا تتناسب والطقس الافريقي 
فوفر بذلك على شعبه وبلاده الملايين من العملات الصعبة التي كانت تستنزفها البدل 
الاسموکنج الكاملة والقمصان الحرير والزرائر والكرافتات والياقات البيضاء والزرقاء؛ 
كان ذلك في نهاية الخمسينات وسرعان ما اصبح زي نايريري موضة افريقية ظلت تنتقل 
من بلد إلى اخر حتى وصلت السودان مع نورة اكتوبر ۱۹۱۶ وتعمقت بعد مايو ١9319‏ 
ثم لم يمض عليها زمان طويل حتى انتقلت إلى مصر والخليج وعدد كبير من دول اسيا 
وأوروبا وأميركا اللاتينية . ولابد ان الكثيرين قد لاحظوا في مؤتمرات القمة والزيارات 
الرسمية تمسك نايريري واصراره على البدلة الافريقية والمدهش ان العاصمة السودانية 
التي كانت تتباهى قديما بالبدل الاسموكنج والساتان والحرير والجبردين في الحفلات 
والمكاتب لم تعد تعرف هذا الزي الذي اختفى كليا ومرة واحدة من الشارع السوداني 
فوفر بطريقة مباشرة الملايين من العملات الصعبة كما اثر صحيا وانتاجيا على الفرد 
السوداني . 

.. عرف جوليوس نايريري بحبه للنكتة كما عرف بضحكه الكثير المتواصل من النكتة 
التي يسمعها والنكتة التي يرويها . ونايريري عندما تواتيه النكتة لا يستطيع مطلقا ان 
يحبسها او يخفيها حتى ولو كان في حضرة الملكة اليزابيث او عرش الطاووس او امام 
ماوتسي تونج او حتى في اروقة الامم المتحدة ومؤتمر عدم الانحیاز . قال لي مرة في 
قصره المتواضع في دار السلام : 

« لو حسبت اللحظات التي ضحكتها في حياتي وبصوت مرتفع لكانت ثلثي عمري ‏ 
فالضحكة بالنسبة لي فلسفة تطيل العمر وتبدد الأحزان وتضاعف الانتاج وتساعد على 


۳۷۸ 


التفكير المستقيم وتعلم الحب والصفاء والمرونة وتكسب فوق كل ذلك الاصدقاء»! 

.. اما عن نزاهة هذا الرجل التي تشبه الاساطير فقد حدث في منتصف نوفمبر 
۸ ان فاجأ المرض احد اصدقائه من كبار رجالات السودان فأخذ على عجل الى 
لندن حيث ظل اياما في غرفة الانعاش وهو بين الحياة والموت واستغل بعض افراد 
اسرته هذه المأساة فبدأوا الاتصالات بعدد من الملوك والرؤساء العرب والافارقة عن 
طريق سفاراتهم في لندن طالبين العون والساعدة ؛ واستجاب الكثيرون منهم وعلى 
رأسهم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والملك الحسن والحسين وامير الكويت وامراء 
سعوديون كان بعضهم بالصدفة في لندن في طريقهم إلى أميركا ولما جاء دور نايريري 
بعث لهم برسالة رقيقة وغريبة عن طريق سفارته بلندن هارتفورد ستریت مكنني صديق 
فيها من الاطلاع عليها . قال نايريري في رسالته التي تروي قصة الطهر والنقاء في اسمى 
واروع معانیها ... قال بالحرف : ۱ 

«المتني کثیرا انباء الوعكة التي المت بصديقي العزیز وسأصلي حتی یمنحه الرب 
العافية لیتمکن من مواصلة کفاحه واتمام رسالته . 

اما بخصوص طلب الاعانة فانا بالطبع لا استطیع ولا قدرة لي على اعتمادها من 
مال الدولة والشعب لأن هذا ليس من حقي ولا من سلطاتي» اما مالي الخاص فقد 
اقتطعت منه «رغم بؤسي » عشر جنیهات بعثت بها لسفيري في لندن ليشتري بها باقة 
من الزهور لیقدمها نيابة عني لصديقي العزیز » واختنم نايريري رسالته قائلا : 

«اسف جدا فهذا اقصی ما استطیع ولو كان لدي الزید لا ترددت في تقدیمه » انتهت 
الرسالة ! 

صدقوني انني قرأت هذه الرسالة اکثر من مرة .. قرأت فیها معاني قد لا یستطیع 
تبیانها من بقرژها على عجل ودون توقف وبلا روية وکلما قرأتها كلما احسست 
بحاجتي إلى فراعتها من جدید وف کل مرة تتضح لي فیها رؤية جديدة وتبرز امامي 
صورا متحرکة ناطقة تختلف عن سابقتها في الوجه والعنی حتى شبهتها انذاك بقوس 
قزح بالوانه الجميلة الزاهية الاخاذة التي تبهج النفس والروح معا . 

.. من منا یمکن ان یصدق ان رئيس جمهورية في هذا العصر التردي وف يده 
السلطه ومفاتیح الخزائن یعجز عن تقدیم بضعة الاف من الجنیهات لصدیق عزیز وهو 
على فراش الوت .. من منا یمکن ان یصدق بان رئیسا في عصرنا هذا یفکر في الشعب 
ویکون حفیظا امینا على ماله بهذه الصورة الاسطورية؟! 

.. ما كان لي ان اروي الذي رویته لولا ان الامانة تقتضي ان اعطي کل ذي حق 
حقه » وعلی الرغم من انني قد استنکرت آنذاك وانا في لندن هذا السلوك المؤسف الا 
انني وجدت نفسي مضطرا ان أتعرض لهذه الحادئة رغم ما فیها من أوجاع وأحزان 
حتی اقدم الدلیل القاطع على نزاهة ونظافة شريك آخر هو جولیوس نايريري عل في 


۳۷۹ 


ذلك ما ينفعنا وينفع الآخرين ممن في شأنه ومقامه . 

كان اسم تنزانيا في الماضي هو تنجانيقا واحدة من المستعمرات البريطانية التي عبث 
فيها وشتتها ومزقها بالخلافات كعادته ثم تركها في النهاية خالية من كل شيء الا من 
ايمان بنيها وتطلعهم لحياة افضل ومستقبل أكرم» وفي اليوم الذي اعتلى فيه العلم 
جوليوس نايريري مقعد الحكم بدأ يواجه مشاكله ومشاكل اهله بعقلية صافية وقلب 
نظيف وجهاد متواصل واخلاص لا تحده حدود وكانت اكبر مشاكله هي الثالوت الخبيث 
الجهل والفقر والمرض ثم جيوش الاسيويين ممن كانوا يمثلون في عهد الانجليز الطبقة 
الثانية المفضلة تماما كما كانت الجالية اليونانية في السودان . 

كان الاسيويون في تنجانيقا يتمتعون بكل خيراتها وفي يدهم مفاتيح التجارة 
والاقتصاد وبناتهم وأولادهم يحتلون جميع مناصب الدولة من الالة الكاتبة حتى المدير . 
لم يتركوا للوطنيين شيئا سوى كنس الشوارع والاعمال اليدوية البسيطة وشرب الخمور 
والقات ومداعبة الذباب والحشرات ووحوش الغابة والفراغ القاتل والفاقة المقيتة التي 
تذيب في الانسان كل طموح وتطلع . 


ادرك المعلم نايريري انه يحمل عبئا تنوء به الجبال فشمر عن ساعده ودخل الغابة 
ونظف ظلال اشجارها وبدأ هو شخصياً موكب النور وظل يتنقل من قرية إلى قرية يعلم 
الجهلاء ويحكي لهم قصة الكفاح وقصة تنجانيقا كيف كانت وكيف اصبحت وماذا تريد 
ف العد واحس نايريري و عدد من زملاء دربه المخلصين بضخامه المسؤوليه وخطورة 
الواجب وشراسة المعركة فاطلق نايريري النفير واستدعى كل شباب تنجانيقا ممن كانوا 
یتلقون العلم ف الخارج فاستجابوا لندائه وقطعوا دراساتهم ودخلوا معه معركة الجهاد 
في الغابة ولم تمض فترة طويلة حتى تولی حربه السوولية کاملة . كان نايريري یعنقد بل 
ویومن بان التعلیم بمراحله النقلیدیه یحناج الى زمن طویل ومال کنیر وجهد لا طاقة 
لهم به وحتی لا یضیع عمر الشعب مع دوامة البيروقراطية ‏ انتشرت حملات التوعية 
ودخلت الغابات والفری ونزل الطلبة والجامعیون والوظفون برصفون الشوارع ویبنون 
بسواعدهم وسواعد آهلهم القری؛ وانتشرت الجمعیات التعاونية واصبح نايريري ناظرا 
لدرسة كبيرة اکثر منه رئیسا للجمهورية فراح يجوب بنفسه الشوارع والقری والاریاف 
ویدخل الغابات وهو یسوق عربته اللاندروفر . كان اخر شيء یفکر فيه نايريري وهو 
يقود حملة البعث الجدید هي الدراجات البخارية والصفافیر والحراسة الشددة وهیلمان 
ومواضع الفرح فنذر نفسه لقضية الکفاح الاکبر وبدأ الواطنون قلیلا قلیلا یحتلون بعض 
المراكز لکنها لم تكن كافية فالاستعمار لم يكلف خاطره لیعد حتی کتاب الالة الكاتبة 
فسلم کل شيء عند خروجه للاسیویین الذین استولوا على کل شيء الاقتصاد والتجارة 
والوظاثف الكبيرة والعربات الفارهة والقصور الشاهقة ومفاتیح كل الخزائن لدرجة بدأت 


TA ۰ 


تظهر معها ف الواطنین روح الحقد والتشقي ضد هذه العناصر الدخيلة » لكن نايريري 
القدیس حتى يجنب بلاده ويلات مثل هذه الروح الشريرة استطاع ان يقتلها في مهدها 
بتعاليمه » كان يقول لاهله دائما وفي کل لقاءاته : 

«لا تضیعوا وقتكم في الاحقاد وتجنبوا الفتن واتركوا هذا الطريق لأنه وعر وخطير 
فقط جاهدوا وصابروا واعملوا وانتجوا وغدا ستجدوا انفسكم احسن منهم » ولكن حتى 
تحققوا ذلك فلا تضيعوا الوقت حتى لا يقطعنا ويمزقنا .» 

في سنوات قليلة وبالفكر المتجدد والخلق والابداع لا بالارقام والميزانيات والمدفوعات 
والمنصرفات استطاع نايريري ان ينتشل اهله رغم فقرهم وبؤسهم وشح مواردهم. 
واستطاع ان ينتشلهم من مرتبة الحيوان إلى مرتبة الانسان فادخل في نفوسهم معنى 
الوطن وحب الوطن والتضحية والاخلاص ونكران الذات» وفي هذا كل الكفاية للبداية 
المطمئنة وهم يستعدون لرحلة السفر الطويلة لتدعيم الاستقلال وتحقيق الوفرة والعزة 
والكرامة . 

فوجئت تنجانيقا التي تنبع منها بحيرة البرت نيانزا في عام ١511‏ بثورة جارتها 
الصغيرة جزيرة زنزبار او جزيرة القرنفل بقيادة عبيد كرومي شيخ الحمالين في الميناء .. 
تلك الثورة المأساوية التي ذبح فيها العرب ونساؤهم واطفالهم على قارعة الطريق وفي 
بيوتهم وفي سُواطىء الجزيرة مما كان له دوي هائل في العالم لانها ثورة كانت تمئل 
الوحشية في اقبح وابشع صورها مما هز الانسان في كل بقعة من بقاع العالم . 

في عصر ۳۱ اغسطس ۱۹۱۰۵ وصلت دار السلام مع وفد سوداني رسمي وقمت على 
الفور بزيارة الجزيرة المنكوبة وكانت رائحة الجثث والدماء مازالت عالقة باجوائها 
وشوارعها وحيطانها وارصفتها لدرجة افسدت معها رائحة القرنفل المعتق الذي يهب مع 
كل نسمة ومن كل اتجاه . كانت زنزبار الصغيرة الجميلة الوديعة اشبه ما تكون بمقبرة 
كبيرة دفن فيها الشيخ والمرأة والطفل مع القطط والاعز والكلاب ومخلفات الاسماك 
وقاذورات الميناء! انضمت الجزيرة بعد الثورة في وحدة مع تنجانيقا واطلق عليها منذ 
ذلك اليوم اسم جمهورية تنزانيا واصبح عبيد كرومي نائبا لنايريري . 


السفاح كرومي 


كان مرافقي وهو من رجال اعلام زنزبار لا يقوى على كل اجابة خاصة ونحن 
نجوب حجرات بعض قصور العرب ومتاجرهم التي لطخت حيطانها وابوابها بدمائهم 
ودماء اسرهم وكل ما سألت عن شيء يقول لي بأن الشيخ عبيد كرومي سيجيبك على 
كل تساؤل . ربما كان مرافقي خائفا او ربما كان حانقا مثلي من كل ما رأى ويرى 
وتركته لحاله لكنني مضيت أطوف بنظري وعقلي وانا اشاهد بعض البصمات الدامية 


۳۸1 


الصغيرة منها والكبيرة عالقة على الابواب واطراف الحيطان والستائر وهي تحكي 
مأساتها مما افقدني القدرة على متابعة مسيرة الموت فقفلت إلى مجلس البلدية حيث 
كنت على موعد مع الشيخ عبيد كرومي زعيم المأساة ونائب رئيس جمهورية تنزانيا . 

لم يعجبني منظره من الوهلة الاولى فقد كانت ملامحه فعلا هي ملامح حمال متعب 
انقلت ظهره جوالات الميناء واكياس الاسمنت وامتلات روحه بكل معاني الكراهية 
والحقد . وحتى اصبح نائبا لرئيس الجمهورية كان لا يعرف القراءة والكتابة وقد علمت 
انه كان يتلقى بحكم منصبه الجديد «۱. ب . ت . ث» والقراءة الرشيدية لكنه أصر على 
مدرسيه ان يعلموه اولا كيف يوقع اسمه ! مازلت اذكر زيه المضحك عندما قابلته . كان 
یلبس جاکنه بني وکرافته بمبي وقمیص مقلم احمر واسود وبنطلون بیج ومرکوب 
کخف الجمل » وقف لیستفبلنی وضفط على يدي بيده الضخمه کانها «مرزبه » فقد كانت 
خشنة للغاية والرجل كما تعلمون ضخم الکرادیس منتفخ له عضلات مفتولة اشبه 
بعضلات شمشون الجبار الذي هدم العبد عليه وعلى اعدائه . 

الرجل كما قلت لم يقرأ ولم يكتب حرفا واحدا لذلك فان مقابلتي له لم تستغرق اکثر 
من خمس دقائق احسست بعدها بالغثیان والدوران لأن لغة التفاهم بیننا كانت مفقودة 


ومعدومه . 

قلت له : 

كيف حالکم ... وکیف حال ثورتكم .. وکیف بدأت ولاذا انتهت بشکل مأساوي هز 
العالم ؟ ! 


اجابني باختصار وبصوت فيه حشرجة غريبة ... اجابني فائلا : 

العالم ضعیف بهزه اي شيء.. نحن لم نفعل اکثر من غیرنا فقد فجرنا ثورتنا 
الشعبية العظيمة وقتلنا العرب الکلاب وخلصنا منهم ومن غطرسنهم إلى الابد . 

قلت له : 

والاطفال والنساء والشیوخ .. لاذا ذبحتوهم !؟ 

قال : «کلهم كلاب وقطط »!! 

وخرجت من مقر عبید كرومي على عجل واصداء کلماته السامة القبيحة نتردد في 
اذني وجوارحي مدی العمر ؛ قلت في نفسي اليس هناك من عاقل یمکن ان اتحدث اليه 
فالعرب في زنزبار قد انتهوا عن آخرهم وعندما عدت إلى دار السلام لمقابلة الرئیس 
نايريري شاهدت معه شخصا آلفت منظره وبدأت اتطلع اليه في شراهة وما أن قدموه لي 
حتی تذکرت لقائي الوحید به في لندن تم في طائرة عابرة . 


۳۸۲ 


بابو الثائر 


الشيخ عبدالرحمن بابو وزير التجارة وهو من أهالي زنزبار مسلم وعمره آنذاك ۳۶ 
عاما وبالاحضان تعانقنا وكنا نردد معا عبارة واحدة وهي كيف اصبحت الدنيا صغيرة 
ومن يعيش یری ... وفعلا عشت ورأيت ياهول ما رأيت!! 

قيل قديما اذا دقت الطبول في زنجبار تلك الجزيرة الخضراء رقصت على أنغامها 
افريقيا الشرقية » وفي منتصف يناير ١5714‏ دقت الطبول ولكن هذه المرة كانت المدافع 
الرشاشه ورائحة البارود هي التي رقصت فقد قام انقلاب عسكري دموي في الجزيرة 
الصغيرة الحلوة الوادعة . 

.. كان العرب اول من اکتشف جزيرة القرنفل فقبل ۲۷ قرنا عندما كانت افريقيا 
سرا غامضا .. كانت السنابيك العربية تبحر من جنوب الجزيرة العربية بمساعدة رياح 
«النسون » الشمالية الشرقية حتى زنزبار تجلب الجلود والصوف وتعود بالقرنفل 
والروائح العطرية وقليلا قليلا بدأ العرب يهاجرون اليها حتى اصبحت مركزا اسلاميا 
هاما ... كان ذلك قبل اكثر من عشرة قرون من مجيىء «فاسكو داجاما » اول مکتشف 
اوروبي . 

قبل ان تنال زنزبار استقلالها كان للعرب القدح العلی في اشعال الحماس والشعور 
الوطني ضد الاستعمار وکانت (الرابطة العربية) آول تنظیم سياسي يدعو للاستقلال في 
الجزيرة . كان الاستعمار البريطاني یخاف أكثر ما یخاف من العنصر العربي خاصة 
السلم لانه اکثر ثقافة ووعياء واقدر تنظیما من العناصر الافريقية والاسيوية التي بدأت 
تحاكي العرب في مقاومة الاستعمار وعندما نالت زنزبار استقلالها في دیسمبر ۱۹5۳ 
كنا نتوقع الکثیر من عرب زنزبار وذلك بان یستفیدوا من بقایا التراث العربي ویبنوا 
دولة عربیه اسلامیة تعيد للعرب مجدهم وللاسلام ازدهاره وان یجعلوا من جزيرتهم 
قاعدة انطلاق کبيرة للثقافة والوعي والحضارة العربية وان یتوسعوا في ورتهم حنی 
ترتبط بالئورة والوعي في سمال الصحراء الکبری ثم بالعالم العربي كله ولکن ذلك لن 
يتم . فقد قامت الثورة الدموية وطرد السلطان واسرته تحت تهدید «السنوكي » 
فغادروها الى الابد ثم بدأ التقتیل والذبح في بقية العرب حتی آخرهم . ان الذي حدث 
في زنزبار كان نتيجة متوقعة للتنافس العنصري والثقافي والحضاري في البلاد ذات 
العناصر العربية الافريقية بالاضافة إلى موّامرات الستعمرین . 

من المؤسف جدا ان هذه الثورة الدموية قامت في الوقت الذي بدأت تذوب فيه 
الخلاقات العربية وف نفس الیوم الذي تجمع فيه اللوك والروساء العرب في القاهرة . 

قالت صحيقة الانشستر جاردیان یومها «لفد اصبحت زنزبار قاعدة للنظریه 
الشيوعية » وقالت الديلي تلغراف : «لقد تسلم اکلوا لحوم البشر مقالید الحکم في 
زنزبار ! » وقالت التایمز : «لن نعترف بجمهوریه بلا دستور». 


TAY 


مسلك الوزير عريب 


اعود من جديد الى صديق الصدفة الشیخ عبدالرحمن بابو احد زعماء ثورة زنزبار 
واليد الثانية لعبيد كرومي » عمره انذاك ۳۳ عاماء وقد كان وزيرا لداخلية زنزبار نم 
وزيرا للتجارة في الحكومة المركزية وهو الذي قام بتوزيع الاراضي والمزارع في زنزبار وله 
مدرسة معروفة في الاشتراكية ورئيس حزب الامة اليساري الذي اسسه عندما استقال من 
الحزب الوظني العربي بعد ان كان سکرتیرا له وهو ايضا شيوعي المبادىء والافكار 
وقرأ في موسكو وبكين وكان مراسلا صحفيا لوكالة الانباء الصينية في زنزبار . 

قال لي في زيارتي تلك : 

«ان الاستعمار الخبيث قد ورط اقتصاد الاقطار الافريقية إلى درجة تحتاج إلى 
مجهود كبير لتداركه ولقد واجهنا هذه الورطة فجأة عندما اکتشفنا ان الاقطار الافريقية 
يشترك معظمها في انتاج محصولات متشابهة كالقطن والكاكاو والسايسيل والبن والصمغ 
حتى يشتد بينها التنافس ويصعب عليها التبادل التجاري فتلجأ إلى الاسواق الخارجية 
مكرهة وقال لقد جاء الوقت الذي يجب ان تصحو فيه القارة الافريقية فتنسق سياستها 
الاقتصادية وتنوع في انتاجها حتى يسهل التبادل التجاري فنغلق وبعنف شدید الابواب في 
وجه الغرب والاستعمار ! » انتهی حديث بابو . 

ترى هل فعلت القارة ذلك بالرغم من انه مضى على حديث بابو حوالي عشرين سنة 
بالتمام والكمال! ؟ 

ألح علي الشيخ بابو الذي كان يعانقني بشوق بان أكون ضيفه في نفس الامسية 
فدعاني إلى ناد ليلي كان يؤمه الانجليز والاسيويون ومحرما على الوطنيين تماما 
«كسودان كلوب في الخرطوم »! 

.. النادي لا زلت اذكر ملامحه فهو على بعد مسيرة نصف ساعة من العاصمة دار 
السلام اسمه «نادي الرمال الفضية » انيق يمتاز بحدائقه الواسعة الغناء ويديره بعض 
الاجانب . وما ان دخلنا حتى فارت الارض ووقف كل رواد النادي صغيرهم وكبيرهم 
«زنهار» وجاء المدير يجري لاهنا كأنما ثعبان قد لدغه وهو يصرخ في هستيريا 
محمومه : 

«السيد بابو.. معالي الوزير اتفضل نحن تشرفنا كثيرا وسرعان ما حمل المدير 
ومساعدوه أفخم وأطول طاولة ووضعوها في مقدمة النادي والكل بما فيهم من حسان 
وجمال مازال واقفا حتى اقعدني بابو وجلس وبحركة من يديه كمدرس الفصل اذن 
للرواد ان يجلسوا فجلسوا!! 

لم تمض ثوان حتى جيىء بجميع انواع الخمور واصنافها ثم المشهيات المختلفة 
واصبحت مائدتنا تكفي لعشرين ضيفا . ومع كل هذا الود والاحترام والهيلمان فاجأني 


TAL 


الوزير الثائر بان رجع بمقعده نصف منر إلى الوراء ثم رفع قدميه وقذف بهما المائدة بكل 
ما فيها وما عليها فاحدئت ضجة وفرقعة وقف لها من جديد جميع الرواد . وجاء 
المديرون على عجل وهم يعتذرون للوزير الخطير عما حدث «تصوروا» اعتذروا هم 
وبدأوا في اعداد مائدة جديدة بنفس السرعة ونفس المستوى . اقبل بعدها الوزير بابو 
على الشراب بشراهة ثم امر الموسيقى ان تعزف الحانا وطنية بعد ذلك فاجأني بطلب 
غريب هو.ان اختار من الحسان اي واحدة تعجبني لأراقصها .. اي واحدة زوجة كانت 
ام طفلة ... كان المدير واقفا ليلبي طلبه فورا وفي الحال؛ ولكنني اوشکت ان اروح في 
اغماءة طويلة من هول ما أرى واسمع فالمفاجأة بالنسبة لي كانت اكبر من ان اتحملها 
وسلوك الوزير كان لا يمكن ان تحتمله اعصاب بشر خاصة ان كانت لا تؤمن بالعنف 
والأذى والاعتداء على الغير !! 


بدأت ارجو صديقي الوزير لاجل خاطري ان يعدل عن اقتراحه وطلبه وان اراد ان 
يحترمني فليغير ايضا من سلوكه وشراسته » لكنه صرخ في وجهي بعنف وبالانجليزية 
سمعها كل الرواد . صرخ قائلا : 

«الا تهينوا هؤلاء الكلاب في بلادكم كما نفعل!؟ الا تضربوهم في رؤوسهم ورؤوس 
نسائهم بالاحذية القديمة ؟! لقد استعمرونا مع الانجليز وأحالونا إلى حطام بشري .“ثم 
بدا الوزير يقذف بالزجاج الفارغ كل ما تقع عليه عيناه وبدا الرواد ونساؤهم وبناتهم 
ينسلون جزعين خائفين إلى ان اوقفهم بصرخه مرعبه فائلا : 

«ستوب كل يرجع إلى مكانه! » وعاد الجميع إلى امكنتهم ولكنني بعد جهد جهيد 
استطعت ان اهدىء صديقي الثائر واحاول استدرار عطفه وقد ساعدني في ذلك انه بدأ 
يفقد توازنه إلى ان سكر وفقد كل شيء ونام في مقعده ؛ ثم جاء سائقه يساعده مديرو 
النادي وحملناه جميعاً إلى عربته وعدنا إلى دار السلام. وفي الصباح جاعني سائقه 
واخذني إلى وزارة التجارة حيث قضيت لحظات مع الوزير الخطير الثائر ولا طلب مني 
ان انتظره في المساء لنذهب إلى نادي الرمال الذهبية صرخت في وجهه: 

ثاني یابابو ؟! فقال لماذا ؟ ثاني وثالث ورابع!! 

الهم لم يمض عام ونصف العام على زيارتي تلك حتى هبت نورة اخرى مزقوا فيها 
جسد عبيد كرومي سیخ الحمالين ونائب رئيس الجمهورية بالمدافع الرشاشة وقيل ان 
خمسة عشر مدفعا قد اطلقت عليه في ان واحد حتى اصبح كومة من اللحم جمعوا 
بقاياه في «قفة» ثم حمروه.. وشووه!! 

أما الشيخ عبدالرحمن بابو فقد ألقي عليه القبض في محاولة انقلاب ودخل السجن 
وانقطعت اخباره عني مرة واحدة وإلى الابد وقد علمت فيما بعد انه قتل او انتحر بعد 
ان فقد عقله وكان لابد لهما معا من ان يذبحا فالله يمهل ولا يهمل . 


"AO 


کانت الصین الشعبية قد احکمت قبضتها آنذاك علی جزيرة القرنفل بشکل جعل 
الشفقین یخشون على العلم نايريري وعلی جمهوریته الفتية ولکن اتضح فیما بعد ان 
المعلم نايريري كان بعيد النظر .. كان ينحني للعواصف مهما كانت قوية حتی تهدأ ثم 
يتحسس مواضع أقدامه ويبحث عن طريق السلامة .. احتمل كل الذي كان يجري 
واستطاع في النهاية ان يأخذ من الصينيين اكثر مما اخذوا منه . 

قلت في البداية ان الرئيس جوليوس نايريري من الطف وأظرف الرؤساء ولا يعرف 
ان يتحدث الا سبق او توسط او انتهى حديثه بنكتة مجنونة ثم يطلق ضحكة تسمع من 
بعيد دون ان يهتم اذا ضحك الاخرون او لم يضحكوا ولكن غالبا ما يضحكون وبشدة . 

المعلم نايريري له علاقات مختلفة بالزعماء السودانيين فهو يحب عبدالله خليل «حبا 
سياسياً » لأن عبدالله خليل كان متطرفا في علاقاته الافريقية الودودة بقدر ما كان 
متحفظاً في علاقاته العربية وكان يعتقد بأن السودان قطر افريقي وان عروبته مشكوك 
فيها لان العرب يعاملونه معاملة من الدرجة الثانية» اما الافارقة فيعتبرون السودان 
مفخرة لهم وقدوة حسنة . 


السودان وافريقيا 


كانت صلة السيد عبدالله خليل وحزب الامة وزعيم وطائفة الانصار والامام المهدي 
بزعماء العالم الافريقي قوية ومتطورة ولا اريد ان ابالغ بان فكرة مؤتمر الدول الافريقية 
نبعت اساسا من الخرطوم كرد فعل طبيعي وعاجل للجامعة العربية وحركات الوحدة 
وظلت الاتصالات السرية والعلنية بين عبدالله خليل وزعماء حزب الأمة وبين المعلم 
نايريري ونكروما والامبراطور هيلاسلاسي وجومو كنيانا واحمدو بيللو مستمرة وكلها 
كانت تهدف إلى اقامة تجمع افريقي ولما كان طبيعيا ان تظهر الدعوة للعلن فقد 
تطورت واستولى على دعوتها وقيادتها الامبراطور هيلاسلاسي ثم ظهر الرئيس 
عبدالناصر ف مسرح الاحداث وقوى علاقاته بالزعماء الافارقة وبعث لهم برسله ف 
ميادين الهندسة والمعمار والصناعة والتعليم وكان عبدالله خليل يعتقد بان البساط قد 
سحب من تحت قدميه باعتبار ان السودان هو الداعي الاول بفكرة المؤتمر الافريقي . لم 
يستسلم عبدالله خليل ولكنه بدأ اتصالات جانبية مع نايريري وابوتي وهيلاسلاسي وكنيات 
ليقيم تجمعا إقليميا آخر وكان عبد الله يهدف اولا وأخيرا لوقف النشاط الوحدوي 
ومخاوفه من عبدالناصر الذي اصبح زعيماً عربياً واسیویا وافريقياً . 

لقد كان السودان اول من بعث بابنائه المتخصصين لجمهورية تنزانيا خاصة في 
مضمار الهندسة حتى ان سكك حديد تنزانيا اصبحت ولا تزال تعتمد لدرجة كبيرة على 
المهندسين السودانيين . 


۳/۸۹ 


ف اعسطس ۵ عندما كان محمد احمد محجوب رئيسا للوزراء وصلت احداث 
الجنوب إلى قمتها وبداً المتمردون يقودون حملات حربية منتظمة وعندما غزا الجيش 
وعددا من الدول الاسكندنافية لتدخلهم السافر ومساعدتهم غير المحدودة للمتمردين وقد 
كانت تنزانيا ضمن الدول التي آوت عددا كبيرا من المتمردين وقادتهم لكن مع ذلك ظل 
نايريري يويد السودان بلا تحفظ ویدین الندخل الاجنبي ف سؤونه › وقد لعبت علاقات 
المحجوب الشخصية بنايريري دورا اساسيا وهاما في موقفه وتأييده للسودان . 

2 آما علافه المعلم نايريري بالسيد محمد احمد محجوب فقد كانت علاقة حب 
«اكاديمي » او فلسفي فكلاهما يتحدث بلغة الاخر ويفهم ابعادها ومراميها وبقدر ما 
كان المحجوب فارس مجالس بقدر ما كان ولا يزال نايريري زهرة مجالس . 

كنا مرة ضيوفا على مائدة الرئيس. المعلم نايريري وكنت تواقا باجراء تحقيق صحفي 
معه عن جزيرة زنزبار ونفوذ الصينيين فيها وعلى غير ما اتوقع كان الرئيس نايريري 
على وشك الخروج لرحلة انتخابية بعيدة واللاندروفر جاهز وهنا استعنت بالحجوب 
وضغطت على يده ليهيأ لي فرصة فما كان من محجوب الا ان قال بصوت مرتفع: 

يا اخي ما تجنني وتضغط ايدي اهو نايريري قدامك كان عايزه كلمه والعجيب 
المحرج ان محجوب كان يتحدث بالانجليزية ومضى موجها حدينه لنايريري قائلا : 

«يا سيادة الرئيس عبدالرحمن السمين ده مجنني وقال عايز يدردش معاك شوية 
بالله ممكن تاخذوا دقيقتين ؟ ! 

بدأ نايريري يضحك ويضحك وبشدة وانفعال وينظر إلى محجوب ثم إلي يصفق يديه 
ويضرب بهما احيانا ركبته دون ان يتكلم وظل يضحك ويضحك مما اثارنا اجمعين ولا 
اصر محجوب على معرفة سبب الضحك قال نايريري وهو لا يزال يضحك قال: 

ديا صاحب السيادة انا ما قادر آخذ نفسي أقوم آخذ مائة وعشرين كيلو! ؟ » وظل 
صغيرة بالقصر حيث يحلو السمر والحديث . وهكذا فان فلسفة نايريري تؤمن بالضحك 
والنكت وباستعمال العقل والتجرد من الانانية يقول دائما : 
الضحك يطيل العمر ويبدد الاحزان ويضاعف الانتاج ويساعد على التفكير المستقيم ويعلم 
فوق كل ذلك الحب والصفاء والمرونة ! » 


TAY 


ال ¢ 
لفصل الداني والعشر 
ون 


تؤتمرات القمة 
العربية 


3 

صعود د 

و نم هبوط الى الفا 

7 مؤسف بين ۰ 
اول رد و 

رئيس 0 
امت مع بمحاوله به ا و 2 2 
ب العراو 0۳3 
لحافظ 





مؤتمرات القمة العربية 


© صعود إلى القمة وهبوط إلى الحضيض 


في بطون کل مخلوقات الله حتى النمل والصراصير والشجر والحيوان «خزانات » 
تحفظ اسرارهم وحياتهم الخاصة لكن الانسان وهو أكرم وأعظم المخلوقات يتمتع 
بخاصية تخزين وتفريغ اسراره متى اراد ومتی ما اتيحت له الفرص ٠»‏ والصحفي ورجل 
الاعمال وصاحب الصناعة هم أكثر الناس معرفة واختزانا للاسرار . لكن الصحفي هو 
أكثر هؤلاء إنتشارا بحكم عمله وممارسته اليومية لانه يلاقي تحت كل حجر ؛ ووراء كل 
صالون او صالة او زقاق او حارة او شبح او انسان خبرا او سرا يتفاوت نوعه وكمه 
وحجمه وتائيره حسب مكانة الصحفي . والصحفي هو اکنر مخلوقات الله اختزانا 
ومعرفة للاخبار وما وراء الاخبار لكن مع ذلك وتحت ظروف خاصة قد تكون خارجة 
عن ارادته وقدرته » قد لا يتمكن من نشر بعض الاسرار التي تدخل في دائرة الخطر 
الحمراء اما خوفا عليها او خوفا منها لكنه مع ذلك يلجأ دائما إلى يومياته ومذكراته حتى 
يودعها اسراره بايجاز بينما يختزن تفاصيلها في صدره حتى اذا ما واتته الظروف 
المناسبة نشر تفاصيلها اما اذا واتته المنية ماتت في صدره ودفنت معه إلى الابد .. 

منذ ان عرفنا وسمعنا بمؤتمرات القمة العربية» ما عرفنا وما سمعنا غير المشاكل 
والخلافات والنكبات حتى أصبح مجرد التهيء لانعقاد مؤتمر عنوانا او خلفية للتمزق 
والشتات والتفرق ثم لا نلبث ان نستمع إلى البيانات الختامية وتصافح الايادي بعضها 
البعض ويفرح الشعب العربي بالوفاق» لكن فرحتنا بها سرعان ما ينطفىء بريقها فبعد 
شهر » شهرین » عشرة وفجأة وبلا مقدمات تبدأ سحب الصيف الداكنة الملتوية كالثعابين 
تتجمع في سماء العالم العربي بلا سبب او لاي سبب » سحب تتجمع من النوع الثقيل 
الداكن ليس من النوع الذي لا يلبث ان يزول او عما قريب ینقشع» وانما من النوع 
الكثيف الذي تصحبه عواصف رعدية واتربة وزوابع تحجب الرؤية وتصم الاذان وتفور 
الدم . 

بعدما يطل الخلاف برأسه او بقدمه سرعان ما تبدأ الناورات الاعلامية ولکن 
بطريقة خفية (مطاعنة ومحامرا ومشاحنة ) ثم يقرع من هنا » وبیان من هناء وادانة من 
هناك وخذ وهات من اليمين وعن الیسار (فیصفر الحکم) دون ان يستمع اليه او یعباً 


۳۱ 


به احد وتبدأ بسم الله وباسم الشعب الاذاعات والتلفزيونات في (الفاولات) وتبادل 
الاتهامات ثم التجريح والشتائم والمهاترات والاناشيد والاشعار ... ثم اعلان سحب 
السفراء وقطع العلاقات و.. و .. وما ان تصيبنا كارثة من جديد كحرب الايام الستة 
حتى يحس الرؤساء والملوك بحاجتهم الماسة للتضامن والوئام فتدور (ساقية جحا) 
وتبدأ وفود الوساطات - كما فعل محجوب - ثم حملات التمهيد لاجتماعات وزراء 
الخارجية العرب نم تحديد موعد لانعقاد مؤتمر الملوك والرؤساء وتبدا ساقية جحا تدور 
وتدور من جديد لتحرث في البحر على انغام موسيقى حسب الله الشهيرة ونبدأ نطالع 
الابتسامات المصطنعة الصفراء والاخذ بالاحضان من خلال شاشات التلفزيون لوجوه 
الملوك والرؤساء العرب . 


صورة خلاف 


.. دعوني ابدأ بصورة محلية مضغوطة توضح مدى الخلافات والمشاكل في الحكومة 
الوطنية الواحدة ۰ ففي اوائل سبتمبر ۱۹۱۵ عاد وفد السودان برئاسة السيد اسماعيل 
الازهري ومحمد احمد محجوب من مؤتمر القمة الافريقي الذي عقد في اكرا عاصمة 
غانا بعد خلاف بين الازهري والمحجوب بدأ بالسرية والتكتم ثم مالبث ان اصبح عاريا 
في الصحافة والشارع السوداني . ذلك ان رئيس مجلس السيادة آنذاك الازهري أصر 
على رئاسة الوفد السوداني والحديث باسمه في المؤتمر بينما كان المحجوب رئيس الوزراء 
يرى انه أحق بالرئاسة لان الدستور يمنحه الصلاحيات في الوقت الذي لم تحدد مثل هذه 
الصلاحيات بالنسبة للازهري . 

عاد الوفد من اكرا ليبدأ بمواجهة خلاف جديد وكبير وخطير وممائل لما حدث في 
مؤتمر اكرا هو من سيقود وفد السودان إلى مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء وقد 
وصل النزاع بين الزعيمين حدا هدد فيه بفض الائتلاف القائم بين حزبيهما وسقوط 
الحكومة الا ان الوساطات وهي كثيرة في السودان استطاعت في اللحظات الاخيرة 
والحرجة والحاسمة ان تجد حلا تحفظ للطرفين مكانتهما . فتم الاتفاق على ان ترأس 
السيد اسماعيل الازهري وفد السودان إلى الدار البيضاء ويلقي خطاب السودان في 
الجلسة الافتتاحية ثم ينتهي بذلك دور الازهري ليبداً السيد محجوب رئيس الوزراء دوره 
كرئيس للوفد اليوم الثاني . 

.. مضى اليوم الاول وكان الاثنين الثالث عشر من سبتمبر ١510‏ بسلام وامان 
حيث ترأس المؤتمر الملك الحسن الثاني والقى السيد الازهري خطاب السودان شأنه في 
ذلك شأن بقية رؤساء وملوك الدول ورفعت الجلسة على ان تعقد في اليوم التالي . 

.. في صبيحة يوم الثلائاء بينما كنت خارجا من حجرتي في طريقي للسيد محمد 


۳۹۳۲ 


احمد محجوب لتحية الصباح » عقدت المفاجأة لساني وأوشكت انفاسي ان تتوقف بعدما 
توقفت خطاي تلقائيا وانا ارى السيد اسماعيل الازهري يمتطي العربة الرئيسية ويغادر 
الفندق وحوله الدراجات البخارية وهو في طريقه الى قاعة المؤتمر الشيء الذي لم يكن 
متوقعا ولا محسوبا . 

دخلت على صديقي الحجوب في اللحظات التي كان بهیاً فيها «ربطة العنق » وأبلغته 
في حيرة بما رأيت وأنا لا أكاد أصدق ما رأيت فما كان من المحجوب الا ان خلع ربطة 
العنق في عصبية حادة واتجه فورا إلى التليفون ليلقي أوامر حازمة وجازمة ومؤسفة على 
وزير خارجيته السيد محمد ابراهيم خليل» بل ويشفع اوامره الشفوية كتابة بمنع جميع 
اعضاء الوفد السوداني بما فيهم وزير الخارجية نفسه من حضور الجلسات . حاولت في 
تلك اللحظات الحرجة ان اتدخل لاوقف الفضيحة المرتقبة المجلجلة لكن حال السيد 
محجوب لم يكن يسمح بمجرد المناقشة والحديث ناهيك عن التدخل في امر يحسبه هو 
خطير وجلل . 

كان لابد لي ان اسعى جديا لاشاهد المسرحية الخطيرة قبل ان يرفع الستار وتدق 
الاجراس في قاعة المؤتمر وما ان اعتدلت الوفود العربية برؤسائها وملوكها حتى بدات 
الرؤوس والنظرات كلها تدور نحو مقاعد وفد السودان التي خلت تماما الا من الرئيس 
الازهري ووزير التجارة الشيخ محمد احمد المرضي سکرتیر حزبه وانتظر رئيس الجلسة 
الملك خمس وعشر وخمس عشرة دقيقة وهو يقلب اوراقا امامه او يتشاغل بها انتظارا 
لوفد السودان وهنا اسر له أحد مسؤوليه ويبدو انه ابلغه بالحقيقة المؤسفة فما كان منه 
الا ان اعلن عن افتتاح الجلسة . 

.. النظرات التائهة » والهمهمات المتواصلة » ثم الهمسات التي ارتفعت فيما بعد إلى ما 
يشبه الجلبة من كل الوفود وهي تتجه بكليتها إلى مقاعد وفد السنودان وهي متسائلة 
حيرى تبحث عن السر ومعرقة الاجابة اضطرت الملك الحسن أن يرفع الجلسة لفترة 
وجيزة ويبدو انه فعل ذلك حتى يجد لنفسه وللاخرين فرصة يتعرفون من خلالها على 
السر الغامض وراء مقاطعة رئيس وزراء السودان وجميع اعضاء وفده لجلسات المؤتمر . 
كل ذلك والسيد اسماعيل الازهري ثابتا في مقعده دون ان تحركه الاحداث وكأن شيئا 
لم يكن . انفضت الجلسة والتف جمع كبير من الصحفيين حولي باحئین عن الاجابةء 
لعن لم ا ونح ي دی اي الشيخ ری هقیتع وتعجاد و 
لتطویق الخلاف المحزن فاكدت له ان محجوب لن يحضر وقد اصدر اوامره لبقية 
اعضاء الوفد بمقاطعة المؤتمر . 

كان من بين من تحدثت اليهم من الصحفيين العرب الاخ محمد حسنين هيكل املا 
ان يفوم بمحاولة لابلاغ الرئيس عبدالناصر حنی يستغل صداقته للطرفين المتنازعين 
فيوفق بينهما الا ان الاخ هيكل اكد لي بان الرئيس عبدالناصر يزعجه كثيرا ان يتدخل 


۳۹۳ 


بين الزعماء السودانيين خوفا من حساسيتهم المفرطة وصدق هيكل الذي كان يقرأ أفكار 
عبدالناصر بل ويعرف كل اتجاهاتها ومواقفها ومراسيها لاننا عندما قمنا بالمحاولة مع 
الشيخ المرضي وقابلنا عبدالناصر كان رده لا يختلف کنیرا عن استقراءات هيكل لكنه 
زاد عليها بان روى لنا قصة وقعت له في شبابه عندما كان ضابطا صغيرا في الخرطوم 
ضحكنا لها كثيراء لكن يبدو ان عبدالناصر جعل من تلك القصة ارضية وواقعا بنى عليها 
كل سياساته الستقبلية في تعاونه مع السودان . قال الرئيس عبدالناصر لنا : 

«زمان عندما كنت في الخرطوم اسير مع زميل آخر لي في شارع «فكتوريا » القصر 
الان راينا اشتباکا عنيفا بين اثنين من المواطنين السودانيين امام سينما كلفديوم وقد 
هالنا ان نرى أحدهما وهو ينزف بغزارة من فمه وما ان حاولت انا وزميلي ان نفض 
الاشتباك الا ان استدار نحونا الشاب الذي كان ينزف والقمنا حجرا كبيرا عندما قال 
لنا في عصبية : 

«انتم ايه اللي دخلكم يا أولاد الريف؟!» ومن تلك الحادثة التي لن انساها ومن 
معايشتي لاهل السودان والحديث مازال لعبد الناصر شعرت بانهم أصحاب حساسية 
شفافة ان اردت إخاءهم فابعد عن مشاكلهم وخلافاتهم ». 

.. للمت اطرافي انا والشيخ المرضي وتوجهنا إلى المغفور له جلالة الفيصل وقد عرف 
بذكائه وصداقته للازهري والحجوب معا فأبدى اسفه للذي حدث وللم عباعته وفي يده 
المسبحة التي لا تفارقه واستطاع بعد لقائين صغيرين قصيرين مع الطرفين المتنازعين 
حتى استطاع ان يحسم بينهما الخلاف وانتهى كل شيء لكن الاثار التي ترتبت على هذا 
الخلاف المؤسف كان لها صدى كبير وواسع في المؤتمر. 

.. لم يكن السودان وحده سيد الخلاف وصاحب البدعة وخلاق المشاكل وانما كان 
معظم الرؤساء وبعض الملوك نجوما بارزة في المهاترات والمشادات الكلامية وتبادل 
الاتهامات في اعنف واقبح صورهاء بل ووصلت درجة من التدهور اوسشك معها الرئيس 
السوري الاسبق امین الحافظ وجمال عبدالناصر ان يتشابكا بالايدي والکلمات لولا لطف 
الله . ليس ذلك فحسب فقد كانت خاتمة الكوارث وفضيحة الفضائح عندما اعلن الرئيس 
عبدالناصر وكان رئيسا للجلسة وهو ينعي كل الفضائل والاخلاق للمؤتمرين بأن راديو 
«اسرائیل » قد اذاع کل اسرار اتفاقية الدفاع المسترك بل واذاع الخلاف حول القيادة 
الشتركة الامر الذي يؤسف له آشد الاسف ‏ وقال من المؤكد ان واحداً منا هو الذي مد 
العدو بهذه العلومات الخطيرة التي بحثناها معا وفي سرية تامة فاذیعت حرفیا في الساء 
و ان انیا 

هذه بعض الصور وبالرغم من انها مضغوطة الا انها تمثل جزء صغیرا ویسیرا مما 
كان يجري في صالونات موتمرات القمة العربية التي تظل کل الاعناق مشدودة اليهاء 
كما تظل کل الأمال معقودة علیها ومع ذلك وبکل القاییس السيئة فانها كانت محاولات 


۳۹ 


ی 
EE.‏ 


ري 





اها 


> جو EE‏ 3 7 و 4 5 2 5 
r.‏ اف ا 35 رجا اي خی E‏ 1 5 بت 
کک , 7 گر ۳2۰ هو ند 





میتی مت 
. 20 3 


الازهري 1 السودان في جلسة الافتتاح الائنین ۳ ۱ وقبل الاشتباك 
للالتقاء اکثر وأفضل بکثیر من عدمها الشيء الذي يحز في نفس کل مواطن عربي فلقد 
وقعت احداث كبيرة ومؤثرة وموسفه الا ان القادة العرب عجزوا وفسلوا ف عقد موّنمر 
قمة واحد بالرغم من ان الامل العربي والرجاء الشعبي في مثل هذه اللقاءات قد 
انخفضت درجاته وماتت حرارته . 

انقل ولو في ایجاز مجریات واحداث بعض دقائق هذه المؤتمرات علنا نجد فيها شيئا 


۳۹۵ 


© هل نجح مؤتمر الدار البيضاء .. 

© أحداث هامة وقعت بين مؤتمري القاهرة وكزبلانكا 

© الخلافات تجاوزت الحدود ولكنها سويت حفاظا على الوحدة 
© تخلف بورقيبة لم يخدم القضية ... ولكنه لم يضرها أيضا . 


الدار البيضاء ۱۹۱۵/۹/۲۷ : 


.. قبل أن أتحدث عن نتائج مؤتمر القمة العربي الثالث الذي عقد في الدار البیضاء 
في سبتمبر ١575‏ اود ان اقف وقفة قصيرة لاعود بالقارىء قليلا إلى الوراء حتى تتجمع 
أمام عينيه صور الأحداث في تسلسل يسهل معه متابعتهاء فالاحداث السريعة منها 
والبطیثه لا تعدو ان تكون مجموعة خيوط قد تضيع بعض اطرافها مع مرور الايام. 
لكننا اذا ما اردنا ان نستكمل الحقائق» لابد لنا من ان نحاول جمع الخيوط كلها 
حتى تكتمل امامنا الصورة فنتعرف على جميع ملامحها واركانها وزواياها دون طمس 
وبلا تشویه ومن أجل ذلك سأحاول أن أضع أمام القارىء صورا سريعة عامة تمكنه من 
استعادة الحوادث تباعا .. 

كان مجرد انعقاد مؤتمر القمة العربي الاول بالقاهرة حلما كبيرا طالا نمناه العرب 
من المحيط إلى الخليج .. كانت الخلافات يومها تهدد وحدة الصف وتضامن الشعوب مما 
اضعف الامل في ايجاد حل لقضية فلسطين » ولعل الناس قد لاحظوا ان المؤتمر الاول 
على الرغم من ضعف ما حققه في الحیط العالي الا انه استطاع ان یواجه الخلافات 
بصورة هددت نجاح المؤتمر غير ان بعض القادة تجاوزوا کنیرا عن الكيفية التي 
نوقشت بها الخلافات حرصا على وحدة الصف العربي ویومها وانا اتجول بين ردهات 
الجامعة العربیة وفندق هلتون وکثیرون غيري من الصحفیین والراقبین کانوا ینوقعون 
حدوث مضاعفات قد تعصف بالوْتمر » ومع کل هذا فقد كانت النتائج بشکل عام فيها 
ملامح الانتصار لتصفية الخلافات ... 

.. وجاء مؤتمر الاسكندرية وکان امتدادا طبیعیا لمؤتمر القاهرة فبین انعقاد مؤتمري 
القاهرة والاسكندرية وقعت احداث کبيرة في العالم العربي تطورت على أثرها الخلافات 
خاصه بين سوریا والقاهرة من جهه وبين صنعاء والریاض والقاهرة من جهة اخری غير 
أن مؤتمر الاسكندرية استطاع ان يهدىء نورة الثائرين ولکن إلى حين .. 

ومضت الاحداث تتطور مرة اخرى بين انعفاد مؤتمري الاسكندرية والدار البيضاء 


۳۹۱ 


وازدادت الخلافات حدة بين القاهرة ودمشق وبين القاهرة والرياض وصنعاء ولكن 
الخلافات لم تنته عند هذا الحد فقد فتح الرئيس بورقيبة فجوة جديدة عندما خرج على 
الصف العربي في قراره بعدم مقاطعة المانيا تضامنا مع الامة العربية وازداد الخلاف حدة 
وصل إلى حد مقاطعة الرئيس التونسي لمؤتمر الدار البيضاء مع الاسف الشديد . 

وفي كل هذه الخلافات لم يستعمل المتنازعون اسلحة الحروب ولكنهم اعتمدوا كليا 
على وسائل اعلامهم كالاذاعة والصحف ووكالات الانباء التي لعبت دورا كبيرا في تعميق 
الهوة واستحالة التفاهم بين المتنازعين . 

وبين مؤتمري الاسكندرية والدار البيضاء وقع حدث كبير لا يقل عن موّتمرات القمة 
وهو مؤتمر عبدالناصر - فيصل الذي عقد في جدة ووضع نهاية لحالة التوتر التي سادت 
جو البلدين الشفيقين بسبب حرب اليمن . 

.. ليس هنا مجال الحديث عن هذا المؤتمر الكبير على الرغم مما حققه من انتصار 
واضح للقضية العربية كلها مما أعاد وحدة القلوب والصفوف لمواجهة عدو غادر اكبر 
يتربص بالعرب كلهم دون تمييز وبلا مجاملة . المهم ان الرئيس عبدالناصر والملك فيصل 
قد حققا أمل العرب وقضيا على فتنة كبرى تقبع وراءها أحلام اسرائيل والمستعمرين . 

.. أعود مرة أخرى لمؤتمرات القمة بعد ان جاء عرضا ذكر مؤتمر جده وكان لابد 
من الاشارة اليه لانه أكبر حدث وقع بين مؤتمري الاسكندرية والدار البيضاء .. اعود 
لاقول بأن هذه المؤتمرات مهما تحققه من نجاح متفاوت الا ان مجرد انعقادها في اي 
صورة يحقق جانبا كبيرا من تدعيم وحدة الصف العربي لذلك فمهما يحدث من خلافات 
ومشادات بين الرؤساء والملوك العرب فان ذلك لا ينبغي ان يحتل مكانا للتشاؤم في 
نفوسنا لان هذه الخلافات والمشادات التي تصل احيانا درجة العنف والتجريح الا انها 
مع ذلك رصيد ضخم حالم يعقبه الصفاء والعناق والقبلات .. 

ان الصفاء والعناق والقبلات حدنت ف مؤتمر القاهرة .. حدنت ايضا ف مؤتمر 
الاسكندرية لکنه صفاء وعناق وقبلات کثیرا ما تنقلب مع تطور الاحداث ومرور الایام 
لجقوة ودموع وحسرة لا لشي ء الا لان مؤتمري القاهرة والاسکندریه لم یضعا من 
الضمانات ما يجعل هذا العناق والصفاء أمرا دائما .. ولم يضعا الالتزامات ما يجعلها 
حقيقة ثابتة لا تؤثر عليها الاحداث ولا تهزها الرياح مهما كانت قوية» ومهما كانت 
عاصفه » وقد ادرك الاستعمار ومن يدورون في فلكه نقاط الضعف المحزنة المريرة 
فاستغلوها وظلوا يصطادون في الماء العكر ويدسون المؤامرات والمكائد بين دول العالم 
العربي فتجد عند بعضها ارضا خصبة واستجابة وقد تكون عن سذاجة او عدم ادراك 
فتطل الخلافات رأسها من جديد في انتظار مؤتمر اخر يصفيها إلى حين موقوت . 

.. أما ما حدث في مؤتمر الدار البيضاء فقد كان جديدا على المؤتمرات» جديدا في 
المعنى والاسلوب على الرغم من ان اسلوب الخلاف وطريقة نقاشه لم تختلف كثيرا عن 


المؤتمرين السابقين فقد تمادى بعض الزعماء إلى اتهامات وهجمات حدا بعيدا تماما كما 
حدث في المرات السابقة لكن الرؤساء والملوك ادركوا هذه المرة فقط ان اسلوب التفاهم 
بينهم ان سار على ما سار ويسير عليه فان الامل سيضعف اكثر مما كان في تقريب 
وجهات النظر وتوحيد الصف العربي لمواجهة فلسطين فعمدوا على وضع النهاية الفاصلة 
لكل ما تسبب في هذه الخلافات . فكان ميثاق التضامن العربي الذي اقترحه السودان 
فوجد من الرؤساء والملوك الاستجابة وانتهت بذلك مأساة الخلافات وما يترتب عليها 
من خصومة واصطدام . 

لا اريد ان اعود إلى بنود الیناق ولكنني اعتقد ان اهم ما جاء فيه هو التزام الدول 
المشتركة بعدم التدخل في شوون الشقیقات الاخريات وسن التشريعات اللازمة للصحف 
والاذاعات بأن تسلك مسلكا يحفظ التضامن العربي والوحدة العربية حتى تتفرغ بعد 
ذلك الى مشاكلها الكبرى وعلى رأسها مشكلة فلسطين والحديث في مؤتمر القمة الثالث 
لا يمكن ان يخلو من اشارة للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة » فقد ظل رسوله الخاص 
السيد المنجي سليم يقوم في فندق المنصور باتصالات واسعة مع أعضاء الوفود عله يجد 
من يناصر وققه رئيسه فلم يجد غير الاستنکار » وحتى البيان الذي وجهه للرؤساء 
والملوك العرب قد رفضه مؤتمر وزراء الخارجية ولم يدرجه في اجندة المؤتمر . 

لقد اطلعت على بيان الرئيس التونسي وقرأته سطرا سطرا وقد حوى عبارات هجوم 
شديدة على الجمهورية العربية المتحدة وعلى رئيسها جمال عبدالناصر وعلى الرغم من 
حرارة الهجوم الا انني اريد أن أؤكد للقراء أن هجوم الرئيس التونسي على الرئيس 
العربي في مؤتمر القاهرة كان أقسى واشد ومع ذلك فقد ظل سرا حبيسا بين جدران 
الجامعة العربية . 

كان الرئيس التونسي يستطيع ان يحضر مؤتمر الدار اا وكان يستطيع 
كعادته ان يقول ما يشاء - فقد قيل في المؤتمرات أكثر مما بشاء - آما أن يقدم على 
خطوة المقاطعة فهذا في رأيي لا يخدم القضية العربية كما لا يعرقل سيرها ایضا .. 

.. أنا لا أريد أن أبحث هنا دوافع الرئيس التونسي ولكنها مهما کبرت ‏ فانها 
لاعتبارات كثيرة أهمها وحدة الصف العربي كان ينبغي الا تحدث ومع ذلك فالامل 
كبير بعد الاتصالات التي جرت ان يعود الرئيس التونسي إلى الصف حتى لا يفوته 
الركب الذي بدأ مسيرته هذه المرة فاقسم الا يعود بعدها او يلتفت الى الوراء . 

.. ومرة ثانية فان الحديث عن مؤتمر القمة العربي لا يمكن ان يخلو من الاشارة 
إلى قضية فلسطين التي جاءت في المؤتمرات الثلاث في المرتبة الثانية على الرغم من 
ادراجها دائما في قمة الاجندة لان الخلافات دائما تأتي في المقدمة . قال أحد الرؤساء 
العرب في مؤتمر الدار البيضاء «لا فائدة من مناقشة اي موضوع قبل ان نصفي ما بيننا 
من خلاف اذ من المستحيل ان تعتدل خطواتناء وتتوحد قلوبنا وهي مليئة بالجفوة 


۳۹۸ 


وعدم الرضى » وفعلا واجه المؤتمر خلافاته بصراحة وقضى عليها بنفس الصراحة لان 
المؤتمر كان هذه المرة أكثر جدية وأكثر واقعية . 

هذه كانت الحقيقة الكبيرة التي تختفي دائما وراء الامل فقد اصبحت اليوم حقيقة 
كبرى اثلجت صدور العرب من المحيط إلى الخليج بعد ان سويت الخلافات تماما واصبح 
ميثاق التضامن العربي صمام الامان الذي يكبح جماح الغضب ويقف عقبة امام كل 
محاولة تقوم لهدم الصف العربي . 

لقد نجح مؤتمر الدار البيضاء اكثر من مؤتمري القاهرة والاسكندرية ولكنه استمد 
نجاحه منهما لان المؤتمرين السابقين كانا اكبر تجربتين یخوضهما الرؤساء والملوك . 

ان نجاح المؤتمر هذه المرة يعزى لشيء واحد لم يكن متوفرا في المؤتمرين السابقين 
هو الصراحة مع الايمان والاخلاص والاصرار على الوقوف والتحرك؛ فالخطوات التي 
كانت غير منسجمة في الماضي قد اعتدلت اليوم والعقبات التي كانت تعرقل المسير قد 
ازيلت بقوة وباصرار .. والامال التي كانت بالامس سرابا بعيدا قد اصبحت الان حقيقة 
واقعة .. 

.. ليس امامنا الا ان نمضي إلى الامام ملتزمين بميثاق التضامن العربي اللهم الا اذا 
حادت دولة عن الطريق المرسوم الذي حدد معاله الميثاق الخالد فانها ان فعلت ذلك 
فلن تؤئر على الاخرین ولكنها فقط عندما تصحو من اغماعاتها ستحس بالغربة والوحشة 
والفراق وغدا نتابع حديثنا . 


۳۹۹ 


© لا يمكن ان تحل قضية فلسطين ما لم يحدد مصيرها 
© المساومات والمناورات السياسية تهد قضية فلسطين 

© عبدالناصر يخطىء ويصيب ولكنه دائما يخلق الاحداث 
© مهما قالوا عن عبدالناصر فانه غير وجه العالم العربي . 


الدار البيضاء ۱۹۲۱۵/۹/۲۸ 


.. ظلت مشکلة فلسطین دائما وابداً والی ما قبل عام ۱۹۶۸ يوم ان اقرت هيئة 
الامم شطرها إلى جزئین .. ظلت مشكلة تواجه العالم العربي. وأکبر مأساة تواجه 
الضمیر العالي ولقد واجه العالم العربي یومها الشكلة بالسلاح ولکنه اندحر امام جیوش 
الاستعمار لا لانه ضعیف ولکن لانه كان محاطا بالدسائس والژامرات .. كان العالم 
العربي انذاك ضعیفا في قادته وحکومانه لا ضعيفا في قدرته وایمانه .. 

وتحرر العالم العربي في الفترة ما بين ۱۹۶۸ - ۱۹۱۵ من قيود ثقيلة كثيرة ولکنه 
لم یتحرر بعد من قضية فلسطین فقد أصبحت تشکل خطرا على کیانه ووحدته 
ومستقبله .. والصراع بين الکتلتین العربية والاستعمارية في قضية فلسطین مازال في 
قمة مرارته ولکنه صراع اختلف في الشكل والاسلوب دون ان یتغیر الجوهر ودون ان 
تتغير الاهداف . 

فالجوهر هو أن العرب قد سلبوا قطعة من جسدهم وهم في غفلة من امرهم 
والأهداف هي وجوب استعادة هذا الحق السلوب .. 

ان العالم العربي كله متفق حول الجوهر والهدف ولکنه مختلف في الوسائل والتنفيذ 
فقضية فلسطين منذ قديم الازل كانت خاضعه لساومات عديدة كما كانت تحیط بها 
مطامع داتية لا تقف عند حد الحصر ففي الماضي كان لسوريا مطامع خاصة في 
فلسطين وكان للقاهرة ايضا مطامع خاصة ... هذه واحدة . أما اسرائيل ذاتها فقد لا 
يقف مطمعها عند حد البقعة التي سلبها لها الاستعمار وانما قد تمتد هذه المطامع بعيدا 
إلى تهديد ما حولها من أرض وماء وخضرة وبشر مما يجعل امر مواجهتها ضرورة 
ملحة تقتضيها المصلحة العربية كلها . 

ان سلب ارض فلسطين مأساة كبرى ولكن حياة اسرائيل وبقاءها في قلب العالم 
العربي مأساة اكبر. يهون في سبيل القضاء عليها كل خلاف وكل جفوة . 

.. لقد قلت في حلقة الامس أن مؤتمر القمة الاخير قد حقق انتطاراً كبيرا بمیثاق 


۶ ٠ ۰ 


التضامن العربي ولكنه بعد هذا الانتصار يجد نفسه وجها لوجه امام مشكلة فلسطين 
التي اصبحت لعبة سياسية کبری في السنوات الاخيرة في محيط المؤتمرات والمناورات 
السياسية المختلفة . 

.. ان العرب يجب ان يواجهوا هذه المشكلة بنفس الصراحة التي واجهوا بها 
خلافاتهم » وفي رأيي أن العرب لا يستطيعوا ان يفعلوا ذلك قبل ان يحددوا أولا مصير 
فلسطين ذاتها . فلقد سمعت في ردهات مؤتمر الدار البیضاء ان بعض الدول العربية 
مازالت لها مطامع مستترة تجعل الاخرين يسبحون بدورهم في محيط الشكوك 
والهواجس ۰ وعلى الرغم من ان هذه المطامع غير واضحة الا ان البعض يحسونها . من 
هنا وحفاظا على وحدة النضال ومستقبل القضية الفلسطينية اصبح تحديد مصير 
فلسطین: هو بمثابة الاساس بنقطة البذاية ... ان الرژساء والملولك. العرب كثيرا: ما 
اختلفوا في الوتمرات حول قضية فلسطین لا في الجوهر ولا في الهدف كما قلت وانما في 
تفصیلات لا ينبغي ان تظهر على السطح وفلسطین مازالت نهبة كلاب الاستعمار 
واذنابهم . 

والحدیث عن مشكلة فلسطین بقودني إلى الخلافات التي كانت دائرة فیما مض بين 
دمسّق والقاهرة وبين الاردن والقاهرة وبين الرياض والقاهرة والتي اتهموا بسببها 
الرئيس جمال عبدالناصر الذي اصبح حدثا لحملات كثيرة من الملوك والرؤساء العرب . 


لقد تعرض الرئيس عبدالناصر في جميع المؤتمرات بما فيها مؤتمر القمة الاخير إلى 
هجمات كثيرة وصلت حد التجريح » وانا هنا لست بصدد الدفاع عن الرئيس العربي فهو 
اقدر مني بالطبع على ذلك ولكنني بصدد سرد حقائق كبرى لا يجوز أن تضيع وسط 
الضجيج والصراخ . فالرئيس عبدالناصر قد يكون مخطئا في حملته على الیمن» وقد 
يكون مخطنئا في هجومه على السعودية ... وقد يكون مخطناً في كثير مما ذهب اليه 
الرؤساء والملوك ولكننا مع كل هذا لايمكن ان ننكر على عبدالناصر انه غير وجه العالم 
العربي واصبح رمزا واضحا لكفاحه ضد الاستعمار . فعبد الناصر لم يدخل التاريخ من 
ابواب بلاده فحسب وإنما دخله من ابواب العالم العربي الذي كان فيما مضى نهبة 
للاستعمار ضعيفا في ارادته وحكوماته وفي وسائل کفاحه » دعونا نواجه أنفسنا بصراحة 
فقد جاء الوقت الذي يجب ان نزيل من على اعيننا التراب ونعطي كل ذي حق حقه .. 

.. مادا كان عليه العراق قبل ان يجيء عبدالناصر ؟ 

.. ماذا كان عليه امر الجنوب العربي قبل ثورة ۲۱ يوليو؟ 

ماذا كان امر الجزائر قبل أن يظهر عبدالناصر ؟ 

ماذا كان في العالم العربي كله قبل ان يظهر هذا الرجل؟ 

أنا لا اريد أن أعود إلى ما كان عليه عالمنا في الماضي البعيد فقد كان كله صورة 
قاتمة سوداء وجهها مشوه . وقلبها ضعيف واحساسها میت يتصرف في امرها من هم 


:+٠١ 


ليس منها وتلعب بقاربها المياه في كل جانب فتسير بلا ارادة وبلا غاية وبلا هدف . 

..ان عبد الناصر الذي واجه في مختلف المؤتمرات الهجمات المريرة التي تصل أحيانا 
درجة التجريح ليس إلها وانما هو بشر مثلنا يخطىء ويصيب لكننا ونحن نواجه الرجال 
يجب أن نتصف بالعدالة .فأخطاء عبدالناصر مهما كبرت فانها لا تساوي شيئا مع ما 
حققه من انجازات وانتصارات وكفى ان العالم العربي اصبح له اليوم ذاتيته 
وشخصيته ... وأصبح يصنع اليوم الاحداث بعدما كان منزويا بعيدا وراء اطرافها . 

.. صحيح أن عبدالناصر لا يستطيع ان يصيب دائما . 
لانه بشر مثئلنا ولكنه دائما يسبق الاحداث ويصنع الاحداث وهو مؤمن بما يفعل دون 
ان يهتم لما يترتب عن ايمانه واقدامه هذا من اخطاء يحسبها عليه الاخرون . 

.. لقد دفعني إلى كل هذا الحديث مشكلة فلسطين التي يعرف الرئيس عبدالناصر 
موضع الخلاف فيها تمام المعرفة فوق انه يدرك تمام الادراك أنها قضية لا يمكن ان تحل 
الا اذا اتفق العرب على تحديد مصيرهاء وانا وان كنت واثقا ان مجرد الحديث عن 
تحديد مصير فلسطين سيجلب كثيرا من المتاعب والخلافات الا انه لابد منه فخير لنا 
ان نبادر بمواجهته منذ الان قبل ان تفرض علينا الاحداث مواجهته في وقت تصبح هذه 
المواجهة امرا محفوفا بالمخاطر . 

..ان عملية تحديد المصير الفلسطيني ستوقف كثيرا من المنازعات العربية وستقلص 
الخلافات فوق انها ستتيح الفرصة لابناء فلسطين ان يثبتوا وجودهم في مرحلة التحرير 
وان يخوضوا التجارب المريرة التي سيواجهونها ان عاجلا أم آجلا وهم يقفون على ارض 
صلبة ويعرفون معالم طريقهم فيكسبون مزيدا من الثقة والايمان بقضيتهم وبكفاحهم . 

.. ان العرب كما قلت يتفقون معا في جوهر القضية وف اهدافها القريبة والبعيدة 
وهم یشترکون في المشاعر الحلوة والتضحيات الكبيرة من أجل تحرير فلسطين ولكنهم 
سيزدادون أكثر تمسكا وايمانا ان هم خطوا خطوة واحدة إلى الامام في سبيل تقرير 
قضيتهم وهذه الخطوة هي بالخط العریض : 

«تحديد مصير فلسطين ».. 


© من هو اول رئيس سمع بمحاولة انقلاب العراق ؟ 

© كيف امضى عارف لحظات استماعه للنباً . 

© عبدالرازق مش ممكن يعمل كدة... ده أعز صديق لي .. 

© القومية العربية خرجت من طور الولادة لكنها لم تبلغ مرحلة النضوج : 


الدار البيضاء: ۱۹۱۵/۹/۲۹ 


.. كان كل شيء هادئا في امسية ١1‏ سبتمبر ١5705‏ وردهات فندق النصور تشهد 
كعادتها أفواجا من اعضاء الوفود یتحدئون في وقفات متعددة ويجلسون جماعات 
جماعات حول الوائد ... وفي اركان الردهة الواسعة يقف وزراء الخارجية وهم يتحدثون 
في همس وعيون الصحفيين تتطلع اليهم في تحفز وتساؤل واستطلاع .. وفي مدخل الباب 
يصطف على جانبيه كالعادة الحرس القومي والسيوف ف الايدي تلمع مع الثریات التي 
امتلأ بها المدخل... كل شيء كان عاديا ومألوفا لا يلفت النظر ... وتقدم الليل 
بخطواته البطيئة فاذا برنين التلفون يمزق ارجاء الطابق الرابع حيث يسكن فخامة 
الرئيس جمال عبدالناصر . 

.. كنت في الخرطوم اتلقى انباء الانقلابات اما عن طريق المذياع كبقية المواطنين او 
عن طريق الة الانباء الكاتبة التي تذيع الاخبار رأسا من لندن وهي تقرع احيانا اجراسا 
خفيفة او تشير إلى النبا بكلمة «هام »۰ وبعد ذلك نتابع انباء الانقلاب من الناحية الخبرية 
دون ان نعرف التفصيلات الهامة التي تحدث عادة وراء الانقلابات» يتلقى الذين 


یجلسون على كرسي الحکم انباء الانقلاب عندما تفاجثهم في ۳ ونهز من تحنهم 
القاعد فتهوي في لحظات التیجان من رژوسهم او تهوي في بعض الاحیان رؤوسهم 


.. هذا ما كان من امرنا اما ما حدث في فندق النصور فکان سينا جدیدا علي › فقد 
شهدت في صباح اعلان محاولة الانقلاب في العراق وجه الرئیس عبدالسلام عارف وهو 
یخرج من الاسانسیر .. وهو یخرج من الردهة ... وهو یخرج من الفندق .. وهو يركب 
العربة في طريقه إلى الوتمر» وفي طریقه الى جامع اللك محمد الخامس حيث ادى 
فريضة الجمعة .. 

.۰ لقد قرأت کلاما کثیرا في خطوات الرئیس عارف وفي حرکاته وف نظراته وف 
تعبیرات وجهه ولكنني لم استطع ان انفذ بنظراتي لاقرأ ما في قلبه حتی اعرف وقع 


۶۰۳ 


النبأ وما خلفه من آثار على نفس الرجل .. كل الذي استطعت ان اقرأه في وجهه هو 
التعب والاجهاد وابتسامة عريضة جدا حاول الرئيس الكبير ان يخفي وراءها آلامه 
وحقيقة مشاعره .. 

.. كانت العيون كلها في ذلك اليوم حتى عيون رجل الشارع ناهيك عن السياسيين 
والصحفيين تبحث في مواكب عربات الرؤساء والملوك عن عربة الرئيس العراقي حتى 
تستطيع هي الاخرى ان تقرأ في ملامح وجهه اثار محاولة الانقلاب في بلاده . 

وكانت الاعناق في الردهات الكبيرة في فندق المنصور وفي قاعة المؤتمر بدار العمالة 
وفي الطرقات المؤدية له وفي البلکونات .. كانت كلها تتطاول في تساؤل غريب وفي 
استطلاع شدید وفي محاولات يائسة لتقرأ شيئا على وجه الرئيس عارف الذي اصبح 
رجل الانباء الاول في ذلك الصباح» ولكن كل هذه الاعناق قد عادت إلى مكانها بعد ان 
قرأت وجه الرجل من زاويتها الخاصة وباسلوبها الخاص » وعلى كل فان اوضح المعالم في 
وجه الرئيس عارف كانت ابتسامته العريضة التي قلت بانه حاول ان يخفي وراءها 
حيرته وتساؤلاته . فالرجل نفسه كان بعيدا عن مسرح الاحداث .. بعيدا عن بغداد 
عاصمة بلاده التي جرت فيها محاولة الانقلاب » وهو نفسه في ذلك الوقت كان يبحث 
عن اجابة لاكثر من سؤال يحلق في رأسه ليعرف ماذا وراء المحاولة .. وكيف جرت 
و 

.. هذه مقدمة كان لابد لي من سردها وهي مقدمة تنقل في ايجاز ما كان عليه 
الرئيس العراقي وما كان عليه المتطلعون من رجال فندق النصور ء ودار العمالة > ورجل 
الشارع وهو يقف اياما خمسة يتطلع فيها إلى مواكب الرؤساء والملوك قبل ان يحتل 
الرئيس العراقي صدارة الانباء فانصرفت اليه كل العيون . 

.. سأعود إلى ما قبل ذلك الصباح ساعات عديدة إلى الوراء حينما دقت الاجراس 
في جناح الرئيس العربي وقد كان الرئيس الاول الذي علم بمحاولة الانقلاب في العراق 
وبعدها بعشرين دقيقة وصلت نفس الانباء من بغداد إلى الرئيس العراقي وكما علمت 
من بعض المصادر الوثيقة في ردهات فندق المنصور فان الرئيس العربي لم يشا ان يبلغ 
الرئيس العراقي بالانباء التي وصلته حتی يستوئق من صحتها ولكن بعد ان وصلت 
الانباء الى الرئيس العراقي » بدات كذلك تصل إلى بقية الرؤساء والملوك العرب فاضيئت 
ردهات الفندق بعد ان كانت مطفأة» ودبت الحركة في كل جناح ثم انتقلت إلى كل 
ركن بعد ان كانت ميتة تماماء استسلم فيها معظم الاعضاء إلى نوم عميق واحلام 
ورديه .. 

عارف يجتمع بالرئيس عبدالناصر .. بومدين يبحث عن عارف ... الملك الحسن 
ينتظر مزيدا من المعلومات.. رسل عديدة من الرؤساء والملوك امام جناح الرئيس 
العراقي يستطلعون النباً .. حركة دائبة وخطوات مستعجلة تمزق هدوء الليل وصمت 


۶ ۰ : 


الجدران .. العيون كلها تتطلع باحثة عن مزيد من المعلومات». والمعلومات قصيرة 
مقتضبة لا تزيد على ان بعض الضباط حاولوا القيام بانقلاب ضد نظام الحكم في العراق 
ثم تمضي الساعات ثقيلة متباطئة فتاني اضافات جديدة تقول ان رئيس الوزراء هو على 
رأس تلك الجماعة التي قامت بالحاولة .. وتمضي الساعات اكثر تثاقلا واكثر بطأ 
فتقول بان رئيس الوزراء قد حاول الانتحار ... ثم تتقدم الدقائق قليلا قليلا نحو الفجر 
فتقول بان رئيس الوزراء ومن معه قد اعتقلوا بعد ان کشف شقیق عارف المؤامرة .. ثم 
تمضي اللحظات بخطوات اخرى نحو الفجر فتقول بان رئيس الوزراء ومن معه قد 
قبض عليهم وارسلوا في طائرة خاصة إلى القاهرة ... وتزداد العيون تساؤلا فتجيبها 
اللحظات المتبقية من خروج الفجر فتقول بان رئيس الوزراء وعائلته ومعه بعض 
الضباط قد هربوا إلى القاهرة . 

هذه هي اللحظات القلقة التي عاشها الرؤساء والملوك العرب بما فيهم الرئيس 
العراقي نفسه والاجتماعات تعقد هنا وهناك بحثا عن مزيد من الحقائق وكثير من 
التفصيلات . . 

قرر الرئیس العراقي السفر رأسا إلى العراق .. سمعت من مصادر فندق النصور 
وهي كلها بالناسبه دات صلات وثيقة ومراکز کبیرة .. سمعت بان شخصية كبيرة 
نصحت الرئیس العراقي بان ینزل في القاهرة عند سفره الى بغداد حتی يستقصي 
الحقائق من رئيس وزرائه! ! 

.. وسمعت ايضا ان الرئيس العراقي قال انه لن يعمل بهذه النصيحة خوفا من ان 
ينتحر رئيس وزرائه وقد حاول ذلك عندما فسّل في حركته! ! 

.. وسمعت ايضا ان الرئيس العراقي عندما تلقى النبأ كان يقول بأعلى صوته وهو 
يضرب كفا بكف: 

.. مش معقول عبدالرازق يعمل كده ... دا اعز صديق لي .. ده آخر من يطعنني في 

... وسمعت ان الرئيس العراقي كان يقول: 

انا فضلت عبدالرازق على شقيقي وما تداخلتش حتى في اختيار وزرائه ... ده مش 
معقول .. وهو يمضي يصفق يدا بيد ويردد عبارة «لا حول ولا قوة الا بالله ». 

.. ونزلت الى ردهة فندق المنصور لابحث عن مزيد من التفصيلات .. وبعيدا لمحت 
الاستاذ محمد حسنين هيكل وهو يجلس مع شخص ٿان فوليت وجهي نحوهما فادا 
بهما في عراك وجدل سياسي لا ينقطع . 

.. اخذت مكاني بينهما وبدأت استمع إلى ما یقولان ؛ ولم أشأ ان اشارك في الحديث 
لانه كان كما يبدو شقه الاخير او في نهايته وفجاة استدار نحوي الاستاذ هيكل قائلا : 

والا ايه رأيك ياسي عبدالرحمن ؟ 


قلت له انا لا اعرف عم ماذا تتحدثان لقد جئت الان . 

كان دكتور البزاز يتحدث عن القومية العربية فقال وهو يتحدث بقلبه ولسانه ويديه : 
يا استاذ هيكل القومية العربية خرجت من طور الولادة ولكنها لم تصل بعد مرحلة 
النضوج ... انها مازالت في مرحلة التكوين . 

قال هيكل: 

أنا موافقك جدا جدا وبلا تحفظ .. لكنني سبق ان قلت لك ان الحركة البعثية في 
الشرق العربي ولا اقصد سوريا بالذات كانت ولم تزل .. 

فقال الدکتور البزاز دون ان يعطيني فرصة معرفة رأي هیکل في الحركة البعثية .. 
قاطعه قائلا : 

ما هو آنا يا أستاذ هیکل فهمت کلامك .. 

.. وهنا كان یقف على رأسي الاستاذ محمد احمد الرضي اذ كنا على موعد للخروج 
فتركت هيكل والبزاز يتجادلان واستأذنت منهما فقطعت ردهة الفندق الطويل وانا 
اطوف ببصري حول الوجوه التي كانت كلها نظرات تتساءل عن احداث العراق وما 
يجري في العراق .. 

.. وعلى غير العادة تضاعفت الجماهير في الطريق من الفندق الى دار العمالة حيث 
يعفد المؤتمر وكلها جاءت هذه المرة لا لتحيي الرؤساء والملوك فحسب, بل لترى رجل 
الانباء الاول الرئيس العراقي علها تقرأ في وجهه تفسيرا لما يجري في العراق!! 


© سؤال استعماري سخيف وكريه ومغرض 
© صحفي اميركي يسأل الملك فيصل هل عدوكم الاكبر اسرائيل ام 


° 
مر ٠:‏ 
© المفاوضات بين السودان واثيوبيا وضعت خطوطها العريضة مع 


© استقلالنا سيظل مسيخا ومشوها ما لم نحرر اقتصادنا . 


الخرطوم ۱۹۱۲/۲۱/۲۵ 

عاد الخلاف المؤسف من جديد في المنطقة العربية وهو اكثر عنفا وشدة مما كان عليه 
في اي وقت مضى . لقد ظللنا نتابع هذا الخلاف وقلوبنا تتقطع ومشاعرنا تهتز من فرط 
الحزن والالم ونحن نتطلع في كل يوم جديد الى مجرد خيط رفيع نعلق فيه أمل القضاء 
على هذا الخلاف» ولكن يبدو ان خيوط الامل كلها ذابت وسط النيران المتأججة التي 
يزيد من اسعالها الاستعمار والصهيونية . وعلى الرغم من ذلك فانني لعلى يقين من ان 
الظروف والمصائب وحدها ستجمع المصابين وتوحد بين صفوفهم وقلوبهم من جديد . 

.. اقول هذا الحديث بمناسبة سؤال سخيف مغرض وجهه احد الصحفيين في 
واشنطن للملك فيصل قبل ثلاثة ايام - وكأنى به يريد ان يستغل مواضع الخلاف بينه 
وبين الرئيس جمال عبدالناصر غير ان الملك فيصل قد كبر في نظري وهو يلقن 
الصحفي درسا قاسيا في الاخلاق . 

قال الصحفي الصهيوني للملك : 

هل تعتبرون عدوكم الاول اسرائيل ام الجمهورية العربية النحدة ؟ 

.. الحقيقة لقد قمت فزعا من سريري وكانت الساعة تقرب من الواحدة صباحا وانا 
استمع من الراديو لهذا السؤال.. قمت وارهفت سمعي وكل مشاعري بعدما رفعت 
الصوت حتى اتبين كل كلمة وكل حرف وكل همسة .. وساد الصمت في القاعة الضخمة 
التي عقد فيها المؤتمر الصحفي وانتقل الصمت المطبق إلى الراديو والى آذاننا . 

وتمهل الملك فيصل اكثر من دقيقة ليرد على هذا السؤال الاستعماري الغرض الذي 
يهدف إلى مزيد من القطيعة والجفوة . 

.. وبعد لحظات طويلة من عمر الدهر قال الملك في صوت مرتفع : 

.. يؤسفني غاية الاسف ان استمع إلى هذا السؤال الغريب حقا واريد اولا ان 
استفسر عما قال لكم ان الجمهورية العربية المتحدة عدونا ... وبالتالي اريد ان أؤكد انها 
ليست كذلك وانما هي شقيقتنا وصديقتنا وتربطنا بها روابط تاريخية ودينية كثيرة 
وعميقة ‏ ووجه الملك بعد ذلك هجوما مريرا على اسرائيل والصهيونية . 

وعدت استلقي من جديد بعدما تنفست الصعداء وانا استمع الى تصفيق حاد عنيف 


5*٠ 7 


كاد ان يمزق شبكة الراديو .. 

لقد اعجبت كثيرا باجابة الملك فيصل لانه فوت على الاستعمار وهو يتربص بالعرب 
فرصة الدس والوقيعة التي ظل يبحث عنها كلما واتته الظروف فكان الملك فيصل أمينا 
حفظ للعرب كثيرا من ماء الوجه والحياء .. 

قلت في نفسي صحيح ان الخلاف بين الاشقاء قد يصل درجة من سوء التفاهم يجد 
المرء الا لقاء بعده غير ان الخلافات مهما كبرت وظلت بين العرب فانها لا محالة 
ستنتهي وف التاريخ دلائل كثيرة على ذلك . 

.. المهم انني حزنت كثيرا ومازلت احس بالحزن لهذه الخلافات العميقة التي يمكن 
ان تعالج عن طريق التفاهم . 

.. لقد حضرت عديدا من مؤتمرات القمة العربية واذكر انني كتبت من مؤتمر الدار 
البيضاء اشيد بالرئيس عبدالناصر ذلك العملاق الذي مهما قيل عنه فانه قد غير وجه 
العالم العربي وجعل له وزنا افتقده الشعب العربي خلال عشرات السنين الاخيرة ولقد 
ذكرت ان الرئيس عبدالناصر قد تعرض إلى كثير من الحملات الجائرة » ولكنه كان 
اطول واعرض منها فلم تغير ما بنفسه لانه رجل يؤمن بقضية العرب ايمانا فاق حد 
التصور . غير انني مازلت ارى ان عبدالناصر وهو يقود مصر ام السشعوب العربية ورافعه 
راية النضال والكفاح عليه مسؤولية كبرى .. مسؤولية اكبر من معارك الخصام الصغيرة 
مسؤولية تحتم عليه ان يفوت على الاستعمار كل فرصة للوقيعة بين الشعوب العربية . 
وأنا لعلى يقين من أن جمال عبدالناصر سيسد كل ثغرة تهدف إلى ضعف الصف العربي 
كما انني واثق من ان خلافات العرب مهما كبرت فانها لابد ان تتلاشی امام عدونا 
المشترك وكما يقول المثل: 

«انا واخويا على ابن عمي ... وانا وابن عمي على الغریب » 


السودان واثيوبيا : 


بدأت امس المفاوضات بين الجانبين السوداني والائيوبي حول مشاكل الحدود على 
مستوى كبير واذكر ان لم تخني الذاكرة ان الخطوط العريضة للمشاكل التي تعترض 
البلدين قد اثيرت مع جلالة الامبراطور ابان زيارة وفد الصداقة السوداني برئاسة السيد 
محمد احمد محجوب وقد تبودلت بشأنها مختلف وجهات النظر فالتقت عند نقاط 
كثيرة الشيء الذي يمهد الطريق امام الباحثات الحاضرة . 

.. ونحن اذ نرحب ترحيبا حارآ بالسادة اعضاء الوفد الاثيوبي نأمل ان يتمكن 
الجانبان من الوصول الى تسوية حاسمة بشأن المشاكل القائمة في الاطار الذي يحقق 
مصلحة البلدين الشقيقين ومع ذلك فلابد من ان نشير الى الجانب الذي يهم الشعب 
السوداني ومصلحته . 


الفصل الثالث والعشرون 
مؤتمر القمة العربي في الخرطوم 


9 محجوب بين الوزیر السفیه » والامیر الحاثر . 
© هل خرج الشعب السوداني لاستقبال فيصل أم ناصر ! ؟ 
© الصحافة العالمية كانت عسكري شرطة . 





مؤتمر القمة العربي في الخرطوم ۱۹۱۷ 

6 المدينة النورة رمضان ١1٠14‏ ۱۹۸۰ . 

لابد لي من مقدمة صغيرة وهي آنني والله ما جئت للمملكة السعودية إلا بغرض 
العمرة والتمتع بليالي رمضان بين بيت الله الحرام » ومسجد رسوله الأمين الکریم فلقد 
والله أحسست بحاجتي لهذه الزيارة التي اعتدت أن أقوم بها خلال رمضان الکریم 
لسنوات متصلة . كنت قبل زيارتي الأخيرة هذه التي بدأت قبل أسبوع في رحلة عمل 
وترويح بأوروبا وفجأة وبلا مقدمات شعرت بجسدي يخور كما شعرت بحمل ثقيل على 
كتفي لعله مجموعة الذنوب والخطايا التي عادة ما نرتكبها بالحديث أو بالصراخ أو 
الهمس أو اللمس أو النظر أو المشي أو مجرد التفكير فتضاعفت وتثاقلت مع مرور الأيام 
حتى لم أعد قادراً على حملها وعندئذ أحسست بحاجتي إلى الله . 

© في أول ليلة من ليالي رمضان ذهبت إلى بيت الله الحرام وأنا .حافي القدمين 
متشحاً برداء الملائكة الأبيض واتكأت على حائط البيت بجسدي المكدود التعب وروحي 
المنهارة ورفعت يدي حتى تمكنت أظافري من التسُبث والتعلق بكسوة البيت ورحت في 
إغماءة كأنها الموت وظللت أبكي ولكن في صمت . وأصرخ ولكن في صمت أكثرء وأدعو 
في براءة الأطفال فخالجني الشعور في تلك اللحظات بأن أقفز عالياً عالياً كما بفعل 
القط الجائع حتى أكون أكثر قرباً وتقرباً إلى الله . 

وتمر لحظات الصفاء الملائكية السماوية فأحس أحياناً وأنا أدور وأدور بأنني شيء ما 
ثم احس بانني لا شيء على الاطلاق وبين هذين الإحساسين . آشعر بالضعف والتعب 
وأمتلىء بالضيق والخوف والرهبة معاً ثم يزداد بكائي الصامت وحزني الصامت فأدور 
وأدور وأدور حول البيت ثم أجري مهرولاً جزعاً وخائفاً مضطرباً وأجلس تحت ماء 
زمزم لتغسل خطاياي وتزيل ذنوبي .. وينهال الماء الطاهر على رأسي وجسدي فأشعر 
لحظتها بشيء ثقيل يخرج من صدري.ء وأشعر بالطين ينزل من رأسي وجسدي وينهال 
كالعجين تحت قدمي فاراه لزجا كانه جسد حيوان ميت ومسودا كانه جوف اللیل » 
وساعتها فقط أدركت وأنا في أوروبا المحمومة الصاخبة لماذا شعرت بذلك الحمل الثقيل 
الذي لم أعد قادراً على حمله ؛ ثم لماذا شعرت بحاجتي إلى الله! . 


5١١ 


© كان لابد لي من هذه القدمة حتى تكون شفيعة لي إن أخطأت أو نسيت وأنا 
أقلب صفحات التاريخ المطوية التي مضى عليها زمان طویل. فكم أنا بحاجة إلى منظار 
قوي نافذ أستعين به على اختراق الزمن أو (مروحة) ضخمة أزيل بها الغبار المكدس 
من امام عيني حتى استوضح الرؤية واتمكن من فطع المسافة بين عام ۱۹۵۷ و۱۹۸۱ 
بيسر وسهولة . ولا لم أكن في وضع يمكنني من الرجوع إلى مذكراتي الخاصة في 
الخرطوم وأنا مجرد حاج معتمر يطلب الرحمة والغفران » فإنني سأستعين في سرد 
الأحداث التاريخية الكبيرة على مجرد الذاكرة ودون الدخول في تفصيلات» فأرجو 
مخلصاً ألا تخونني الذاكرة وقد أصبح عقلي بعد العمرة وبحمد الله في صفا سماء المدينة 
النورة . 

© قبل حرب إسرائيل في عام ١977‏ وغزو أجزاء من مصر وسوريا والأردن 
وضياع القدس ‏ كان الوقف العربي غائصاً إلى أخمص قدميه في الوحل السياسي وكانت 
الخلافات العربية قد وصلت مرحلة شبيهة بالتي آلت إليها عندما وقعت مصر اتفاقية 
كامب ديفيد ( قبل عامين ) . 

© الموقف العربي زمان لا يختلف كثيراً مما كان عليه قبل ۰۱۹7۱۷ ومما هو عليه 
الآن . وصدقوني بأنني عندما أتصفح جرائد اليوم وأسمع إذاعات اليوم وتعليقات اليوم. 
بل وأشعار اليوم وأناشيد اليوم فإنني لا أشعر بالجديد المثير - إن كانت هناك إثارة - 
الشيء الوحيد الذي تغير وتبدل وتجدد هو الحكومات وأسماء الرؤساء والوزراء والشعراء 
والملحنين والنشدین والمغنين والمطبلين والمزمرين . 

هذه صورة كاريكاتورية مصغرة ومضغوطة لما كنا فيه وما نحن فيه. المارشات 
العسكرية من راديو القاهرة» صوت احمد سعيد واناشيد الله اكبر من إذاعات صوت 
العرب ودمشق وبغداد وعمان؛ وأشعار نزار قباني وصوت فيروز وفلسطين ونشيد 
الملأذن والكنائس ثم بعد أيام ستة توقف کل شيء ومات كل شيء حتى الابتسامة 
وأعلنت النكسة كما كنا نسميها .. 

© بإعلان النكسة أو الانتكاسة رفعت أعلام الحداد وتوقفت الأناشيد وتطايرت 
الإشاعات وتبودلت الاتهامات واختفت وجوه» واستقال عبد الناصر ثم عاد وبدأ العالم 
العربي يصحو من سكرات الموت ويفيق إلى نفسه فيحس بحاجته الماسة إلى التضامن 
والوئام من أجل الصمود فتبداً الاتصالات وتهيأ الرحلات وتنتهي كلها بأن يقف الملوك 
والرؤساء على جبل التوبات بكرري (الخرطوم) فيعلنون الصفاء وتطير من فوقهم 
حمامات السلام والحب ويقبل بعضهم على بعض يتلاومون ثم بالأحضان يتقابلون 
ويتعانقون ويفلح في نهاية المطاف والطواف والسعي الطويل العريض صديقنا الكبير 
المغفور له محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان آنذاك بأن يهيىء للقاء أول 
مؤتمر قمة عربي بعد حرب 1۷ في الخرطوم ذلك المؤتمر الذي انتهى إلى قراراته 


۶ ۳ 


العروفة التي ما عادت ولم تعد سرا يستحق منا الاسترسال أو حتى مجرد الاشارة . 

© أريد قدر جهدي ألا أتعرض إلى ما تعرضت وما تتعرض له الصحف ووكالات 
الأنباء والإذاعات قبل وعقب كل مؤتمر قمة عربي. لأن الصحف أو الوكالات لا 
تستطيع أن تنشر الحقائق الكبيرة والأسرار الخطيرة التي تجهلها الأمة العربية إما لأنها 
لا تريد أو لأنها لا تستطيع وما ينطبق على قادة الرأي والصحف الملتصقة بالأحداث وما 
يجري خلف الكواليس ينطبق كذلك على القادة والزعماء العرب. فكم من قائد وزعيم 
مات فماتت معه الأسرار؛ وكم من صحفي مات فدفنت معه حقائب أسراره مرة واحدة 
وإلى الابد ! . 

البيانات التي عادة ما تبدأ بحملات التمهيد لاجتماعات وزراء الخارجية العرب ثم 
باجتماعات وزراء الدقاع العرب ‏ ثم بتجديد موعد لعقد مؤتمر القمة منذ مولده وحتى 
انعقاده الأخير في بغداد .. ثم القرارات والبهانات التي ينتظرها العرب من الخليج إلى 
المحيط على أحر من الجمر حسب ظروف وواقع الأحداث (وترموميتر) الأحوال.. 
هذه البيانات والقرارات كلها او بتبصير ادق كان معظمها لا يعدو ان يكون مجرد حقنة 
مخدرة مسكنة ما إن ينتهي مفعولها إلا وتعود (ريمة لحالتها القديمة) كما يقول 
الأذكياء من أهلنا . 


قلق قبل الاجتماع ! 

© قبل انعقاد مؤتمر القمة في الخرطوم بدأ السيد مخفد. احية محجوب بوصفه 
المضيف بالزيارات التقليدية للملوك والرؤساء العرب في محادثات استطلاعية استكشافية 
تهدف إلى تقريب وجهات النظر وحصر الخلافات الطاحنة والمزمنة إلى أضيق حيز ممكن 
ولا كانت الخلافات العربية قبل المؤتمر حادة وعنيفة ومعقدة ومتشابكة » فإنني كنت 
آرئي فعلا لحال الصديق الوفي محجوب إذ كانت مهمته صعبة وشاقة خاصة فيما يتعلق 
بجوهر الخلاف أو قمة الخلاف العربي أنذاك بين الغفور له الملك فيصل والرئيس 
الراحل جمال عبد الناصر وذلك بسبب الصراع والخلاف حول حرب اليمن نم 
النكسة !! . 

© قال لي السيد المحجوب وهو يحدثني في منزلي في الساعات الأولى من الصباح 
وقبل أن يقابل الفيصل وكان يتكوم بكل جسده المكدود على الكرسي .. قال لي وهو في 
حالة شديدة من الاعیاء والهم . 

(إنني آکثر الناس حاجة في هذا العالم إلى الدعاء والرثاء معا .. صدقني 
يا عبد الرحمن لم أخف في حياتي من مواجهة شيء قدر خوفي من الغد ؛ وقال لي ان 
الوفد السوري حتی هذه اللحظة وقد بقي على انعقاد المؤتمر ساعات يرفض الاشتراك 
ویهدد بالقاطعة ویحاول وزير خارجیته إبراهيم ماخوس كما سمعته مس في منزلي 


1۳ 


إفساد المؤتمر بالشتائم الرخيصة البذيئة والهاترات اللااخلاقية التي قضت علينا بالامس 
والتي ستقضي علينا اليوم وغداً ) . ومضى المحجوب يقول : 

الرئيس السوري لم يحضر ووزير خارجيته يسبب لي صداعاً وسرطاناً في آن واحد 
وكما رايت وسمعت وشاهدت امس قفإن صديقنا عبد الماجد ابو حسبو اوشك ان 
يضربه (بالشلوت) في منزلي . كيف اوفق بين عبد الناصر وفيصل والعراقيل مازالت 
تنفجر كل لحظة كأنها قنابل زمنية . 

ومضى المحجوب يقول : (المدهش أن وزير الخارجية السوري وهو مهزوم ومغلوب 
على أمره وفي موقف الضعف لا يحلو له أن ينال من شخص إلا الذي هو في موقف 
القوة «يقصد الفيصل» وهو بالنسبة لي شخصياً وللكثيرين من إخواننا العرب الأمل 
الوحيد ؛ والرجاء الأوحد في إنقاذ الأمة العربية من حالات الانهيار السياسي والعنوي 
والمادي وأخشى ما أخشاه أن الملك فيصل وهو رجل حساس ورقيق وعربي أصيل يعتز 
بكرامته أن يسمع هذا السفه!!) ومضى المحجوب یسرد لي مخاوفه وآلامه وهو يتأوه 
بآهات كأنما يريد أن يودع همومه ومخاوفه في جوف الظلام وفي ذلك الصمت الذي كان 

ودعني المحجوب وتبعته إلى عربته وكان مهدوداً منهوکاً مهموما يجرجر ساقيه في 
ثقل شدید وكأنه يسبح في الظلام بلا سفينة ولا مجداف . 

قلت له وانا اودعه : 

لا تخثی شیناً (يا آبا سامي) نحن معك والشعب معك والله معنا أجمعين والله 
ناصرك» ثم لف الظلام عربته وأنا أتمتم بالدعاء له بالتوفیق والنجاح . وفي الیوم التالي 
وان يوماً لا ینسی آنزل الله الغيث ونفخ في صدور الأمة العربية فرددته آلحانا شجية 
دخلت دار الحجوب في اللحظات الأخيرة لخروج الملك فيصل . هل یمکن أن نتصوروا 
أن ذلك الاجتماع الخطیر الثیر الذي حبس العالم (في مغربه قبل مشرقه) آنفاسه 
لیعرف نتائجه التي سیترتب علیها مستقبل العالم العربي كله .. هل تتصورون أنه انتهی 
بالخیر في دقائق معدودات وبدون بروتوکول وبلا کامیرات ولا أضواء ولا زمامیر ولا 


یحزنون ! ! ؟ 


كيف یتصرف زعماء العرب ! ؟ 

© عرفت والتقیت بعدد من اللوك والرؤساء العرب منهم من ترددت عليه كثيرا 
فعرفني وعرفته ومنهم من لم أتردد عليه كثيراً فلم بعرفتي ولم أعرفه ولکنکم 
تعرفونهم جمیعا من وجوههم وأصواتهم في الاذاعات والتلفزیونات ومن خلال أحاديثهم 
في الصحف والوتمرات» فمنهم من تبهره الصورة وتعجبه الکلمة » ومنهم من یعجبه 
الصراخ ومنهم من بهوی الصراخ والتشنج و .. المغفور له اللك فيصل كان مختلفا في 


ء ۱ ۶ 


كل شيء فبالرغم من أنه إعلام متكامل متحركء. فإنه يكره الأضواء. كان مؤمناً 
وشجاعا وقویاً وصريحا وبسيطا . كان يستمع لكل ما ينشر ويقال عنه وفيه وضده فلا 
تظهر في وجهه أي انفعالات أو تأثير . كان يكره التشنج والغوغائية مما لاحظته عنه من 
خلال مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء ومن خلال مؤتمر الخرطوم . 

عرفت جلالة الملك الفيصل عن قرب قريب فأكبرته وقدرته وأحببته » وكنت أتمنى 
أن تعرفوه كما عرفته فتحبونه أكثر وأكثر وتترحمون كل يوم على روحه» فقد كان 
مهندساً للسياسات العربية واللقاءات العربية حتى استشهد . كان للفيصل دور عظيم 
طوق به عنق السودان عندما احتدم الخلاف بين الأزهري ومحجوب في مؤتمر الدار 
البيضاء والذي عاصرت أحداثه وأسراره من لحظة انفجاره حتى لحظة إطفائه . ليس 
هذا على كل حال مجال الحديث عنه فقد أفردت له فقرات وفقرات في مكان آخر . 


لفاء الفيصل والمحجوب ۰۰ 


© أعود مرة أخرى إلى حديثي لأواصل ماءانقطع منه . 

استقبل المحجوب جلالة الملك الفيصل في داره ورحب به ؛ والمحجوب كما تعلمون أو 
قد لا تعلمون كان قبل أن يكون رئيساً للوزراء محامياً بارعا ؛ وقاضياً عادلاء وشاعرا 
موهوبا . وأديباً فذا ومتحدئا لبقا » ومهندسا بارعا › وكان عندما يتحدث يصمت 
الاخرون وكفى!! . 

كان جلاله الملك الفيصل يعرف ف محجوب کل هده الصفات و کنیر | ما استمع إلى 
أشعاره وأحادیثه وطلب المزيد والمزيد ولذلك أعجب به وأحبه » كان جلالته يستمع إلى 
المحجوب عندما راح يشرح له بلباقة وأدب سوء الحال العربي نثراً وشعرا مركزا على 
ضرورة تضامنه وهو مواجه بظروف محزنة ومخزية » وأطال المحجوب وأطال وفيصل 
يستمع إليه في صمت وهو يداعب مسبحته والمحجوب يحاول بذكائه الوقاد أن يقرأ ردود 
الفعل؛ ثم ضحك الفيصل وقال فيما قال بهدوء وفي بساطة متناهية ولكنها بساطة 
المفتدر وهدوء القوي قال : 

© «يا أخي محجوب إيش بيني وبين عبد الناصر .. أنا قلبي لا يعرف العداء 
والحقد الشخصي لأننا لسنا صغاراً . الآن لنترك صوت العرب وحرب اليمن وخلافاتنا 
وعداواتنا الشخصية مع هذا أو ذاك . المهم الآن أننا أصبحنا في وضع لا يحسد عليه . 
القدس راح وهو لابد أن يعود .. أراضينا العربية راحت .. كرامتنا أذلت وهذا المقام 
ولا تؤخر بل تزيد الطين بلة . ليس هذا الوقت وقت بيانات واتهامات فقد سُبعنا منها 
كثيراً » واستطرد الملك يقول (إن كان غيركم في العالم العربي والأجنبي يعتقد أننا 
ندخل مسائلنا العامة «بعد المصيبة التي نزلت علینا » في المسائل الشخصية فهذا خطأ .. 


5١0 


نحن انجرحنا ودمنا ينزف وخجلانين على أنفسنا ونسأل الله أن يرفع غضبه وبلاءه عنا 
وأن يعيد لنا بحول الله وقوته أمجادنا وانتصاراتنا ) وفاجاً الملك مضيفه الحجوب قائلا : 

يمكنك يا أخي محجوب تعلن الآن إن شئت وقبل انعقاد المؤتمر وكذلك قبل أن 
آقابل جمال عبد الناصر أو غيره بأن حكومة الملكة السعودية مستعدة أن تتحمل على 
أكتافها جميع الخسائر التي تسببت فيها الحرب وأنا أخص هنا إخواننا الشعب المصري 
وغيره من الشعوب العربية المسلمة بأننا في المملكة لن تطيب لنا لقمة العيش حتى ولو 
ربطنا بطوننا بالأحزمة بدونهم وإننا مستعدون أن نقتسم اللقمة الحلال مع كل إخواننا 
العرب والله يوفقنا ويزيل محنتنا وينصرنا (بحول الله وقوته) - وهي مما سمعت 
ولاحظت - الجملة المفضلة عند جلالة الفيصل والتي يستعملها كثيراً جداً في أحاديثه 
رحمه الله بقدر ما قدم للامة العربية من خير . 

© صمت المحجوب طويلا وهو يستمع إلى كلام الفيصل الذي كان يفيض بالرجولة 
والاصالة والتجرد وما ان توقف جلالة الملك من حدیثه حتى تهللت أسارير المحجوب 
وكاد أن يطير من الفرحة والمسرة فرد عليه بكلمات تناسب المقام والمقال وقد اغرورقت 
عيناه بالدموع ثم أقسم وبأغلظ الأيمان بألا يحملوا الشعب والحكومة السعودية وحدها 
هذا العبء الثقيل من المسؤولية والعالم العربي زاخر بالخيرات والاموال ورجا المحجوب 
ضيفه العظيم ألا يعلن لا هو ولا غيره هذا النباً حتى يتمكن في صبيحة الغد من زيارة 
الملوك ورؤساء الدول البترولية لإعداد نسبة مئوية حتى يشاركوا ويساهموا أجمعين في 
(شيل الهم والغم ) وانتهى الاجتماع الأول عند هذا الحد . 

© ذهب المحجوب للأمير الرضا ولي عهد المملكة الليبية سابقا وكان اجتماعه به لا 
يخرج من بعض الفكاهة والطرافة مما جعلني أختاره مثلا لما كان يدور خلف الكواليس 
المغلقة والمظلمة في مثل هذه المؤتمرات التي لا يسمع ولا يعرف الواطنون العرب إلا 
على جوانبها المشرقة والمزركسّة وما ان قص الحجوب على الامير حكاية الاسهامات 
من البداية للنهاية وطلب تحديد نصيب ليبيا حتى انتفض الأمير کمن لدغه ثعبان وقال 
في عصبية ظاهرة : 

(لاء لا يا سيد المحجوب لا شيء عندي .. أنا جيت أحضر مؤتمر القمة فقط نائبا 
عن الملك للتشاور والتباحث كما أنني لا أستطيع أن أكتب ديناراً واحداً لأنني غير 
مفوض وليست لدي صلاحيات و.. و..) ورد عليه المحجوب في عصبية لا تقل عن 
عصبينه : 

أمال جيت هنا تعمل شنو وتبحث شنو!؟ إحنا يا سمو الأمير عايزين فلوس. 
عايزين فلوس وسأمهد لك الان بل اللحظة طريق الاتصال بالملك إدريس وعندما 
تتحدث إليه بلغه تحياتي وقل له محجوب بقولك عاوزين فلوس عاوزين فلوس!! . 

© وانتهت الاتصالات والمناورات والمحادئات التي جرت وراء الكواليس والأبواب 


5:١1 


المغلقة بعيداً عن عيون الناس وعيون الصحافة وكان أن أذيع البيان الختامي بعد 
انفضاض المؤتمر الذي كلكم تعرفونه أو لعلكم تذكرونه . 

شيء آخر هام وكبير تذكرته حتى لا يروح في بطون التاريخ ويصبح ذكرى مخنوقة 
وهو أن جلالة المغفور له الفيصل في لقاء عاجل وخاص مع محجوب وبعدما وزعت 
الأنصبة على الدول التي أضيرت من الحرب . استأذن المحجوب في أن يقترح على 
عجل وضع السودان في قائمة المتضررين لأنه سيتضرر كثيراً بسبب إغلاق قناة السويس 
وكل موارده ستأتي عن طريق جنوب افريقيا إلا أن المحجوب شكر الفيصل قائلا : 

(نحن يا طويل العمر شعب اعتاد على التضحية وربط الأحزمة ولا يضيرنا ان 
نشدها قلیلا فاخواننا العرب هم أحوج بها منا وأقسم باسم الشعب السوداني ألا يقبل 
الاعانة » وامام إصرار المحجوب ما كان من الملك فيصل إلا أن قبله وأكد له أن السعودية 
ستقف دائما وأبدآ مع الشعب السوداني الأصيل صاحب الكبرياء والشموخ و .. و .. ومع 
ذلك فقد كانت ولا تزال أفضال السعودية على السودان كثيرة وجليلة ومقدرة . 

© يخيل إلي أن الحديث الهام الذي يتطلع إليه كل قارىء عربي وبلهفة الشوق إلى 
معرفته بعد الذي رويته وهو كيف كان وكيف تم ذلك اللقاء التاريخي بين الملك فيصل 
وعبد الناصر في منزل الحجوب ‏ وقبل أن يقبض القارىء العزيز أنفاسه أقسم له بأن 
اللقاء كان بنفس بساطة لقاء الفيصل الأول مع محجوب الذي كان يمهد لهذا اللقاء 
التاريخي المرتقب ولكن هناك حقائق تلازم الانسان مهما كان مقامه و لذلك 
فإنني أطلب من قارئي العزيز وهو يتصور جسامة وضخامة هذا اللقاء أن يضع نفسه 
موضع عبد الناصر آنذاك لا كرئيس جريح ولا كزعيم متألم ولكن كمجرد إنه إنسان . 
فان استوعب القارىء هذه الصورة الطبيعية البسيطة فلن يأخذ وقتاً طويلاً حتی يصل 
إلى النتيجة الحتمية المتعارف عليها والتي أقرتها تقاليدنا الموروثة وهي أغلى الكلام 
وأحلى السلام.. وبالأحضان والقبلات والعفو والعافية تنتهي دائماً بعدها خلافاتنا 
وعداواتنا ونغوص عميقا في بثر النسيان ولكن إلى حين . 


هكذا خطرت الفكرة : 

© .. في أمسية يوم ۰ يونيو ۷ والعالم العربي يتشح كله بأردية الذل والهزيمة 
والانکسار وجرحه العمیق ینزف عرقا ودموعاً ودماء غزیرة سفت الارض العربيه من 
خلیجها إلى محیطها ‏ والنفوس كانت محطمة ومنهارة تبکي وتولول وتصرخ على 
مجدها الافل وتاریخها السحوق في أكبر مأتم عربي في تاريخه الحدیث .. في تلك 
الأمسية كان الرجل الکبیر (آبو سامي) كما یحلو للبعض أن يسميه «والبوص » كما 
یحلو للبعض الاخر .. كان یتحدث بمرارة وألم عن الكارثة التي مرغت وجوهنا بالتراب 


۶:۷ 


وأبدى ساعتها عزماً أكيداً في اتخاذ إجراءات عاجلة وسريعة لعقد مؤتمر قمة عربي 
وقال إن أنسب مكان له في هذه الظروف بالذات هو الخرطوم لأنها تملك كل 
الصلاحيات لتبنيه والإعداد له وفي صبيحة الغد أبلغ أبو سامي الرئيس الأزهري الذي 
بارك الخطوة وتحمس لها بغير تحفظ ولا حدود ثم بدا الراحلان العظيمان وراءهما 
الشريف حسين الهندي وجميع أجهزة الدولة المعنية الاتصالات المكثفة عن طريق السفراء 
العرب والرسائل والبعوئین والمكالمات الهاتفية الباشرة وكانت الفكرة بالنسبة «لأبي 
سامي » هي الحلم الأكبر والأمل الأخضر الذي تعلق به إلى أن حققه . 

© .. كان المحجوب يعلم بأنني سأقوم بعد أيام للسفر إلى أوروبا لمعاينة بعض 
المطابع والماكينات فطلب إلي - ان أمكن - أن أنزل في القاهرة ليوم أو يومين أحاول 
فيهما مقابلة الزعيم جمال في حملة او دردشة «لجس النبض » واستيضاح الرؤية وان 
أكون عاملا من عوامل الدفع والاقناع بضرورة المشاركة في الوتمر . وقال لي إنه كان 
بإمكانه أن يتصل بالسفير المصري ليسهل مهمتي للمقابلة لكنه رأى ألا يحملها الطابع 
الرسمي حتى تفقد معناها الستور وقال لي أيضاً إذا استطعت أن تقأبل جمال فلا 
تشعره آبدا بأنك مبعوث مني إلا إذا اقتضت الضرورة ثم إن محجوب كان يعلم بأنني 
سوف لن أجد صعوبة مطلقاً في مقابلة الزعيم الخالد إما عن طريق سكرتاريته الباشرة 
أو عن طريق أصدقائي من ذوي النفوذ . 

© .. لازمني الحظ - كما يلازمني دائماً والحمد لله,رب العالین - فتشرفت بمقابلة 
الزعيم وبدى لي ذلك الأهرام الشامخ والجبل الراسخ» والبحر الهائج» والموج العاتي 
والبركان الثائر .. بدی لي كالحلم. كالسبح ٠‏ کالخیال » فقد انهد عوده » وذبلت عيناه » 
وانطفأت ابتسامته » وفقد ظله وما ان مد لي يده وبدأ يهز بها يدي وينظر ای" نظرات 
حزينة زائفة تائهة وفي فمه شبه ابتسامة حتى انشلت قواي ولم أستطع أن أتمالك نفسي 
فضعفت ۰ ضعفت وانهمرت عيناي بالدموع ثم مالبئت أن أجهشت بالبكاء والأهرام 
الحزین يربت على كتفي ویقول في صوت حزین : 

١‏ .. معلیش يا مختار بكرة حننتصر .. نحن أملنا في الله وف الشعب وفیکم کبیر 
أوي أوي!!» قضیت معه حوالي العشر دقائق وقد كانت بعمر ذلك الزمن وبالظروف 
وبالسژولیات التي تحیط بالرجل كثيرة جداً لأنها اقتطعت منه وهو في حاجة کثيرة 
وماسة لثانية واحدة .. الهم وباختصار شدید قال لي فیما قال : «ومحجوب عامل إيه مع 
فیصل ! ؟ وجملة أخرى قالها حزينة مؤلمة قالها بابتسامة : «اوعی الشعب في السودان 
يحدفنا بالطوب ! ! » . 

فرددت عليه قائلا وأنا آودعه : 

« .. تأكد يا ریس أن الشعب السوداني الذي تعرفه ویعرفك وتعزه ویعزك سیقابلك 
بالاناشید والزغارید ویضعك فوق الأكتاف (ويشيلك يا ریس في العین كان ما شالك 


في 
في 


۶:۸ 


الراس ) وودعني وهو يبتسم مع السلامة سلم لي عا السودان وأهل السودان! . 

© .. لم تكن بدعة ولا غريبة على رؤساء التحرير آنذاك أن يوفدوا مبعوثين 
شخصيين في مهام معينة أو يسافروا لاستطلاع الرأي فيما يهم السودان وما يعود عليه 
بالنفع والخير العمیم : وفيما يخصني على الأقل فقد قمت بمثل هذه الرحلات 
والواجبات المقدسة لا على أساس حزبي أو طائفي أو سياسي وإنما على أساس قومي 
ووطني .. فقد شرفني الإمامان الراحلان العظيمان عبد الرحمن المهدي ونجله الصديق 
ومولانا العظيم السيد علي الميرغني وعبد الله خليل ومحجوب - ثم نميري في مهمتين 
قبلت الأولى والثانية لم أقبلها - شرفني كل هؤلاء القادة الكرام العظام في مهام مختلفة 
وفي مرات عديدة للإمبراطور هيلاسلاسي وكوامي نكروما رئيس غانا ودكتور ناماد 
أزكوني حاكم نيجيريا ثم تفاوا بليو رئيس وزراء نيجيريا وللملك الليبي السابق إدريس 
السنوسي وللسيد عبد المجيد كعبار أحد رؤساء وزراء ليبيا والشيخ سلطان محمد 
القاسمي حاكم الشارقة والزعيم الزنجي مارتن لوثر كنج وأخیرا .. للأستاذ الكبير محمد 
حسنين هيكل الصحفي الكبير والحبيب الوفي واللصيق والقريب إلى روح وعقل وقلب 
عبد الناصر . 


نميري وهيكل ! 


© .. في فترة من فترات التيه والغرور ساءت العلاقات بين نميري شخصياً وبين 
الصحفي المعروف هيكل وقد تدهورت بشكل خطير أحس به القريبون ثم مالبئت أن 
وضحت آثاره في الأهرام . انفجر هذا الخلاف مرة بشكل خطير وغريب لا يمكن أن 
يخطر على بال بشر وذلك في الطائرة التي كانت تقل الرئيس جمال عبد الناصر 
ونميري وهيكل .. وكان آنذاك وزيراً للثقافة بجانب مسؤولياته في إمبراطورية الأهرام 
وهم جميعاً في طريق العودة من ليبيا بعد حضور احتفالات ذكرى الفاتح من سبتمبر .. 
كان الرئيس نميري يجلس مع مضيفه جمال في المقعدين المجاورين الأماميين بينما كان 
هيكل يجلس في المقعد الخلفي لجمال وكان النقاش عادياً (ونسة) مالبث فجأة أن 
انقلب بين نميري وهيكل إلى خلاف حاد لأن هيكل كان يصر على أن الذي حدث في 
السودان كان انقلابا وليس ثورةء بينما الذي حدث في ليبيا هو ثورة وليس انقلاباً 
وعندما تأزم الخلاف واحتد النقاش لم يستطع نميري أن يتمالك نفسه ويتماسك فوقف 
في عصبية جنونية متسُنجة وصفع هيكل. (بونية) فوقف عبد الناصر وفض المعركة 
المؤؤسفه وظل يردد : 

«مش كده يا أخ نميري .. ده عيب يا نميري ! ٩‏ . 


۶ ۹ 


وهكذا دعوني للوساطة : 


© .. عدت من أوروبا ونزلت في فندق الشيرتون ولم تكن دماء وصفي التل.. 
رئيس وزراء الأردن الذي اغتيل في مدخل الفندق قبل وصولي بيوم واحد قد جفت 
بعد .. وفي اليوم الثاني قابلت فجأة ومن غير توقع الرائد أبو القاسم هاشم الذي كان 
قد عاد لتوه من احتفالات أعياد استقلال دولة الامارات ومعه الشيخ سحيم وزير 
خارجية الإمارات وبعد يومين طلب مني بإيحاء من نميري ان اتوسط بينه وبين هيكل 
لإزالة سوء التفاهم الذي طال واستطال وبضرورة إقناعه لحضور احتفالات ذكرى ۲۵ 
مايوء ويومها كان هيكل امبراطوراً بكل معنى الكلمة ولا فاتحته بعد لقاءات متكررة في 
الامر أجابني بعنف قائلا : 

«نميري ده رجل متوحش وبلطجي مش ممكن يكون رئيس جمهورية .. أنا مش 
عارف انتو محتملينو (زاي!!؟ ؟ » وحديث كثير وممتع وونسة طويلة إلى ما قبل منتصف 
الليل بقلیل .. المهم أخيراً وأخيراً جدا أقنعت الرجل المترفع عن الصغائر الأثير عند 
جمال باحتمال غير مؤكد بحضور احتفالات مايو على شريطة أن يكون ضيفي لا ضيف 
الحكومة غير أن كل هذه الجهود التي كانت في شكل مقدمات استطاع أن ينسفها منذ 
البداية وفي النهاية د. منصور خالد وزير الخارجية أنذاك بالاشتراك مع عمر الحاج 
موسى عن طريق السفير محمد سليمان . ١‏ 

.. ليس هذا على كل حال مجال التفصيلات فقد أوشكت أن أخرج إن لم أكن قد 
خرجت بالفعل عن موضوعي الأساسي لكن مقصدي قد يغفر لي عند القراء عندما 
يقودهم كل الذي سردته إلى حقيقة هامة تؤكد مكانة الصحفي في قلوب قادتنا وزعمائنا 
وعظمائنا السابقين وكفى . 

اعود من جدید للراحل الکبیر تفه | هم محجوب وقصه موّنمر القمة فأقول ان 
الذي أكتبه الیوم ما هو الا خواطر وانفعالات وانطباعات فرضت نفسها علي وعلی 
قلمي كنتيجة مباشرة للاعتداء الاسرائيلي الائم على الفاعل النووي العراقي والتي آبت 
إلا أن تسجل في الدينة النورة في الأسبوع الأخير من رمضان العظم عام :۱۹۰ه- 
الوافق ۱۹۸۰م وهي التي كانت سببا مباشراً لخواطري التي عادت إلى الاضي فکان 
حديثي عن موّتمر القمة العربي في الخرطوم عام ١5717‏ .وقبل أن أسجل هذه الخواطر 
والانطباعات أريد أن آبرر لاذا أطلت .. ولاذا لم أدخل مباشرة في موضوع المؤتمر ومن 
حق السائلین والتسائلین أن أجيب علیهم بأنني ما قصدت من الاطالة في قص الرسائل 
التي بعثني بها كل قادتنا وکبارنا وزعمائنا للملوك والرؤساء والعظماء إلا أن أعطي 
صورة واضحة وجلية خاصة لأبنائي الصحفیین الذين ما عایشوا ولم یعایشوا فتراتنا 
الذهبية التي كان الصحفیون فیها مکان الثقة والتجلة والاحترام عل في ذلك ما یسعدهم 
وینیر لهم دروب الخیر والتجرد ونکران الذات فیتسلموا منا الراية البیضاء الملائكية 


۲ ٠ 


ويسيروا بسم الله وباسم السعب وباسم شرف الكلمة والهنة جيلا بعد جيل حتى يقضي 
الله أمره . الآن إليكم خواطري التي سجلتها حرفياً في المدينة المنورة في إحدى ليالي 
رمضان الكريم العامرة بالحب والوفاء والعبادة : 

«بالطبع كلكم تذكرون زمان وأيام زمان .. أيام كنا صغاراً في المدارس نردد 
كالببغاوات کثیراً لما نسمع ونقرأ من الحكم والعبر والمواعظ .. كنا نحفظها لمجرد 
إيقاعاتها الموسيقية (والسجعية) على أذواقنا المرهفة» ولكننا مع مرور الزمن ونضج 
العقول » وتوسع المدارك» وتفتح البصائر نقف شیئاً فشیثا على أعتاب المعاني السامية 
لتلك الحكم والأقوال فتهضمها عقولنا . 

.. أمس خرجت من المسجد النبوي الشريف بعد صلاة العشاء كأنقى ما يكون 
البشر » كنت أسبح في جو سماوي ملائكي لا أفكر إلا في لحظات الصفاء التي أعيشها 
وتعايسني › ووقفت كعادني أمام بائع الصحف فإدا بالمفاحأة تصعقني فتهز كياني ونتیر 
مساعري ‏ وإذا بالارض تقور وتمور تحت قدمي › نم إذا بالصمت يلفني ويبلد إحساسي 
حتی لم آعد قادرا على مجرد الحركة ناهيك عن التفکیر والتمییز وأنا أسائل نفسي : 

«..أيا سبحان الله هل يعيد التاریخ نفسه حقا وفعلا! ؟ ». 

.. مرت بي لحظات كأنها الدهر كله فإذا بي أحلق تائها في سرادیب الاضي البعید 
فيلاحقني شريط طويل من الأحداث يرجع تاريخه إلى أربعة عشر عاما كانت صور 
الأحداث مرتبكة ومتشابكة ولكنها كانت «واضحة ومثيرة » . 

لم أصح من هذه الغيبوبة والشرود الذهني إلا على صوت بائع الصحف : 

«مالك ياخينا . . إيش تبغي بتبحلق في الجرايد إيه عایز ! ؟ ». 

قلت معليش لا شيء فقط أعطني مجموعة كاملة من الصحف! . 

قربت العنوان المثير إلى عيني رغم أنه كان واضحا وبارزاً وكبيرا وبدأت ألتهم أحرفه 
كما يلتهم الصائم حبات من التمر وقطرات من ماء زمزم ساعة الإفطار وهاكم عناوين 

(المملكة تبني المفاعل العراقي! ) الأمير فهد يوضح بأن جلالة الملك المفدى خالد قد 
أمر بأن تتحمل المملكة تكاليف إعادة بناء المفاعل العراقي إلخ . . إلخ . 

> وف عام ١971‏ وبعد حرب الأيام الستة كما أسماها الیهود » والنكسة كما أسميناها 

نحن وفي مؤدمر القمة العربي بالخرطوم وف منزل صديقي الغائب محمد أحمد محجوب 
رئيس وزراء السودان انذاك ونحن نعوص ف آوحال الخلاقات العربيه وجراحاتها 
الدامية الموجعة كعادته أبداً أصر جلالة المغفور له اللك فيصل على أن المملكة العربية 
السعودية ستتحمل كل خسائر وأوجاع الحرب ؟ 

وهكذا فإن التاريخ قد أعاد نفسه . 

© استقبل الشعب السوداني جميع الملوك والرؤساء العرب استقبالا تتفاوت في 


۶ ۱ 


حماسها وقوتها ولكنه خرج عن بكرة أبيه (وأمه) لقابلة عبد الناصر وفیصل .. كان 
(الأعمى شایل المكسر ) كما يقول الثل وكانت تلك المواكب ظاهرة جديدة ولكنها 
قطعاً ترجع أسبابها للحرب الإسرائيلية التي طعنت العالم العربي في ظهره وقلبه وعقله 
۱ ما ۱ ۱ 

سألت آول من سألت صحفياً مصریا كان دائماً في داثرة الضوء هو الأستاذ محمد 
حسنین هيكل الرئة التي كان یتنفس بها عبد الناصر في اعلام بلاده؛ كان هیکل؛ ولا 
يزال صديقا عزیزا على القلب والنفس وزمیلا جمعتنا فترة دراسية في كلية الصحافة 
الأميركية بجامعة كولومبيا بنيويورك عام ١57٠‏ - قبل ستة وعشرين عاماً ما فرقنا 
فيها خلاف إن كان هناك خلاف وما تباعدت أرواحنا رغم كل الذي حدث في حياته 
وانصرافه فقط لكتابة الکتب ۰ ففارق کل شيء بعد فراق عبد الناصر الذي مازال 
وسيزال مطبوعا في عقله وقلبه وقلمه دائماً وإلى الأبد . 

سألت هيكل بعد وصوله مع عبد الناصر كيف كان وقع الاستقبال على الأسد 
الجريح قال : وسأحاول هنا ومن الذاكرة أيضاً أن أتصيد ألفاظه بالدقة . قال صديقي 
الصحفي الكبير : 

(الحقيقة يا عبد الرحمن إن الریس كان متعب آوي آوي وماكنش حييجي .. كان 
متردد أوي أوي بالرغم من محاولات الإقناع التي كنا نقوم بها لكن الحمد لله ألف 
حمدا لله اللي جا .. ده استقبال الشعب ادى للريس شحنة كهربائية غريبة ومش 
مأعولة .. ده شبات الریس رجع وابتسامتو اللي اختفت من مدة رجعت تاني .. ایه ده 
مش مأعول یاساتر یارب!) (وبالناسبة اضافة جديدة للقاری» فهیکل رجل متدین 
ومؤمن ویخاف ربه ویذکره كثيرا ) . 

© وسالت صحفیا مصرياً کبیرا كان مرة في دائرة الضوء؛ ومرة في داثرة الشرطة 
من آکبر أساتذة ومخططي الصحافة الحدينة أستاذي وأستاذ الجیل الحدیث القدیم الذي 
بدأ يشيخ . كان ولا یزال من آقرب وأعز الأصدقاء على نفسي الاستاذ مصطفی آمین 
مؤسس مدرسة آخبار الیوم .. سألته في مساء نفس يوم الوصول ونحن نجلس في منزل 
محمد احمد محجوب رئيس الوزراء عن انطباعه فاجاب كعادته وبسخریته العروفة : 
(الریس ماکانش حاييجي لفاية آخر لحظة وبعدین غير رأيه مش عارف ليه مع أنه 
متعب أوي آوي لدرجة الارهاق والوت بس أبل ما أجيب على سؤالك الاستقبالات 
الرهيبة دي كانت لينا ولا لفیصل ! ؟ وإيه حکاية العشر دقائق اللي كانت فوق بين 
وصول طائرة الریس ووصول فيصل للمطار .. كانت مطبوخة ولاقات صدفة ! ! . 

رددت عليه باللهجة الصرية : آنا ماليش دعوة اسأل محجوب (آبو سامي) آهو 
قدامك ! ! . 

فقاطعنا الحجوب قائلا : آرجوکم بلاش خبائة صحفیین سیبونا نشوف شغلنا .. 


۶ ۲ ۳ 


سيبونا في حالنا ياهوو . كان معنا أيضاً الصحفي الكبير إحسان عبد القدوس وبالرغم 
من أننا نعرف بعض لكن معرفتنا حدودها ضيقة (حبتین ) بعض الشىء لست أدرى 
لماذا !۴ . ۱ ۱ 

© امتلات جمیع فنادق العاصمة حتی السدادة خصوصا بعد إلغاء قرار استیعاب 
اللوك والروساء العرب في بعض منازل الواطنین التي انتقاها محجوب وطاف علیها 
بنفسه وکان من حسن حظي وشرفاً وفرحة لي لم تکتمل أن خصص منزلي في شارع 
۱ امتداد الدرجة الأولى تجاه الطار لسکن الغفور له جلالة الفیصل إلا أن القرار آلغي 
في آخر لحظة وبعدما قمنا بکل اللوازم والاستعداد للضيافة الكريمة وذلك لاسباب أمنية 
بحنة فخصص للزعماء كلهم فندق السودان مما أصبح معه عسیر على أي صحفي مهما 
كان مركزه أن يجد سریرا في شوارع الخرطوم ناهيك عن حجرة في فندق لذلك كان 
لزاماً علي ونسبة لهذه الظروف أن أستضيف في منزلي ثمانية من زملاء المهنة والقلم من 
الضحفيين الا خانته. 
الصحف الاجنبية : 

© کتب مراسل النيويورك تایمز في صحیفته أن السودان الذي بتوسط قلب القارة 
الافريقية والذي لیس فيه سوی فندقین من الدرجة الاولى لا یتسعان لاکثر من خمسمائة 
نزیل قد دخل دائرة الضوء السياسية كما دخل التاریخ من آبوابه الواسعة وذلك 
بالفاجات التي حدثت في مؤتمر القمة العربي بازالة الخلافات (المتأصلة والتحجرة) 
بين ناصر وفیصل الشيء الذي لم يكن متوقعا ولا في الحسابات نسبة لحملات الاذاعة 
الصرية الشديدة (والبذيئة ) وهجمات ناصر الفظيعة والشخصية على اللك فيصل بسبب 
ی[ 

© وکتب إريك داونتون مراسل التلغراف لصحیفته یقول : كان الفرق بين هبوط 
طائرتي فيصل وناصر لا يزيد على الثماني دقائق وکان استقبال الشعب السوداني قويا 
وحاراً وعاصفاً كطقس وأتربة الخرطوم تماماً لذلك فمن الصعب علينا أن نحدد بصفة 
جازمة وقاطعة إن كان الشعب السوداني يقصد باستقبالاته هذه ناصر أم فيصل أم 
الائنین معا رغم أن الاستقبالات لبعض الملوك والرؤساء كانت صغيرة وأحیانا فاترة 
الهم أن العبرة دائماً بالنتائج فهل يكمل مؤتمر القمة العربي في اجتماعاته الصاخبة 
أفراح وآمال الشعب العربي الذي يترقبها وينتظرها بفارغ الصبر ..! ؟ 

© أما مراسل التايمز ج . ماكيل فقد كتب يقول ما كنا نتوقع وأظن لم يكن الرئيس 
ناصر نفسه يتوقع استقبالا حارا وعاصفا ومؤثراً كاستقبال السودان له أولاً لأنه خسر 
معركة حربية كبيرة ومؤثرة مع إسرائيل وثانياً لأنه فقد سلاح طيرانه وقناة السویس 
بعوائدها المالية الكبيرة وثالثاً لانه فقد جزءا لا يستهان به من أرضه .. أما استقبال الملك 


LTT 


فيصل فلم يكن مستغرباً لأنه في هذا الوقت العصيب والحنة المذلة التي تعیشها الشعوب 
العربية بعد الهزيمة فلم يكن هذا الاستقبال مستغرباً لفيصل باعتباره الأمل الوحيد 
والرجاء المتبقي لكافة شعوب المنطقة لإعانتها مالیا حتى تتمكن ثانية من الوقوف على 
أقدامها. ومن بين هذه الشعوب السودان نفسه الذي سيتأئر مباشرة لاغلاق قناة 
السويس وتعطيل اللاحة . واختتم الصحفي تقريره بأن الشعب السوداني كما عرفت 
وشاهدت وسمعت شعب طيب وكريم لكنه مرهف وزائد الحساسية !! . 

© الأسرار التي دارت وتدور عادة وراء الكواليس وداخل الحيطان الأربع بين 
الرؤساء والزعماء والقادة من جهة وبين كبار وكبار الصحفيين المؤثرين من جهة أخرى 
سنظل حبيسة الصدور وستظل كذلك بعيدة عن عيون وعقول الشعوب العربية وذلك 
إما لأنها أسرار لا يستطيعون نشرها أو يخافون نشرها وكلما مات رئيس أو صحفي 
كبير ومؤثر ماتت معه أسراره ودفنت تحته إلى الابد ! ! . 

لكن عندما يعيد التاريخ نفسه لبعض المناسبات فإن بعض الأسرار المخنوقة لا كلها 
قد تظهر في شكل مذكرات أو ذكريات ثم تدخل التاريخ أو تروح داخل صفحاته 
المطوية . 


السعودية : 

© هذه الرحاب المقدسة “التي نطلق عليها اسم المملكة العربية السعودية حباها الله 
بخصائص وظواهر نادرة وخالدة وعزيزة ومقدسة فقد وضع فيها بيته الكريم وأخرج من 
بين أبنائها نبیاً حمل أضخم رسالة» وأنبل مهمة في تاريخ البشرية فأزال الوثنية » وبدد 
ظلام الجاهلية » وحقق العدالة وختم جميع رسائل الأنبياء وانتشرت بعد ذلك دعوته التي 
بدأت برجلين وامرأة وانتهت بملايين الملايين من البشر ومن بينهم الرؤساء والملوك 
العظماء والأباطرة والأثرياء والمعوزون والصعاليك والمقهورون والمحتاجون والضعفاء 
والفقراء وکلهم » كلهم يولون وجوههم سُطر البيت الحرام وقبر الصطفی حبيبي وقرة 
عيني .. وکلهم يركعون ساجدين خاضعين خمس مرات في اليوم . 

© المملكة العربية السعودية لابد أن تهيىء نفسها ومنذ اللحظة (والحديث مازال 
منقولا من انطباعاتي التي سجلتها في المدينة المنورة في رمضان ۱۹۸۱ كرد فعل سريع 
للاعتداء الإسرائيلي على الفاعل النووي العراقي) لابد أن تهيىء نفسها لقدرها 
المرتقب الذي سيفرض عليها إن عاجلا أو أجلا موقعاً مميزا وفعالاً في عالم العرب .. 
أنا لا أقول كل ذلك على سبيل الترف الصحفي أو الذهني أو لمجرد الأماني والأمنيات› 
ولكنني ومن استقراءاتي الشخصية وملاصفني لما يدور ويحدث خارج وداخل ووراء 
الكواليس » ومن واقع التجربة والظروف التي مر ويمر بها العالم العربي والتي عايشت 
معظمها من قرب قريب ٠‏ ومن واقع الدراسات والتحليلات الدقيقة » ومن خلال منطق 


۶ ۲ ۶ 


ا 





خالد بن عبدالعزيز 


الأحداث فإنني أكاد أجزم بأن المملكة وهي تتمتع بالرخاء والاستقرار والأمن والأماني 
إن لم تهيىء نفسها لهذا القدر منذ الآن فإنه سيفرض عليها فرضاً بل وستفاجاً به لتجد 
نفسها أمام الامر الواقع رضيت أم أبيت» قبلت أم تمنعت . ولمزيد من إلقاء الضوء على 
افتراضاتي واستقراءاتي أضيف الأسباب الاتية : 

أولا : المملكة العربية السعودية تتمتع باستقرار سياسي وعقائدي واقتصادي 
واستراتيجي لا تتمتع به أي دولة أخرى في المنطقة . 

ثانياً : المملكة العربية السعودية لم تعرف يوما بالتشنج والتسرع والهياج والتهريج 
الاعلامي: كما لم تعرف نظم الأحزاب والاضطرابات والتظاهرات وتحطيم العربات 
وقذف المارة بالحجارة» كما لم تمارس في حياتها المديدة الاضرابات والتظاهرات 
والمكرفونات والليالي والندوات السياسية ويسقط فلان ونحن وراؤكء وإلى الأمام أو 
الوراء أو إلى الجحيم أو النعيم .. هذه الأشياء التي كم هدت دولاً وأطاحت بحكومات 
ورؤوس ونظم!! . 

ثالثا : المملكة السعودية منحها الله بسطا في الرزق والموارد وفجر في أرضها الطاهرة 
خيراته من البترول وجبال الذهب والرخام وجعل معينها كبئر زمزم لا ينضب ولا يجف 


۶ ۲۵ 


رابعاً : ومن الذاكرة أيضاً وانا أقلب صفحات التاريخ العربي منذ نهاية الخمسينات 
سمعنا وقرأنا وعايشنا حكومات كثيرة كانت تنطح برأسها الصخرء وبرؤساء وعظماء 
كانوا يزلزلون الأرض تحت أقدامهم وأقدامناء ولكن أين هم الان» لقد راحواء 
وأسقطواء أو ماتواء أو قتلوا وأسحقوا والعملية تبدأ أصلاً باتهامات ومهاترات وفوضى 
واستهتار هنا وهناك ثم تنتهي عادة بمارشات عسكرية وانقلابات واغتيالات ثم أناشيد 
ومزامير وأشعار .. 

© راحت وجوه كبيرة وکثیرة» وظهرت وجوه كبيرة وکثیرة! آخری وزالت 
حکومات لها صولاتها وجولاتها. وجاءت حکومات مازالت تصول وتجول . زعماء 
خلقتهم الاحداث » وزعماء خلقوا الأحداث .. کل ذلك وضع بصماته على خريطة النطقة 
بصمات كثيرة ومثيرة بعضها ظاهر وبعضها الاخر باهت . . , 

شهدت النطقتان العربية والافريقية في نهاية الخمسینات وبداية الستینات عديداً من 
الانقلابات فتعرضت النطقة إلى افلاس سياسي وافلاس اقتصادي وافلاس أخلاقي 
وامتلأت السجون بالساسة والقادة والزعماء والنقابیین تماما كما حدث عندنا في عهد 
مایو - حتی فقدنا الامل في تحقیق أي نوع من الاستقرار» بل وفقدنا کل رجاء في 
الاصلاح . 

کل هذا حدث ویحدث حولنا والملكة العربية السعودية هي الوحيدة الثابتة والستقرة 
لکنها مع ذلك لابد أن توثر وتتأثر بما حولها من أحداث ولابد كذلك وهي التي عايشت 
ما يدور في النطقة داخل وخارج الکوالیس والصوالین الغلقة وهي لصيقة وقريبة من 
كل حدث مما یجعلها وهي العلیم بکل شيء في وضع مستقبلي کبیر وخطیر لابد وأن 
تهییء له نفسها وتعد له عدتها الیوم قبل الغد . 

(المدينة النورة رمضان ۱۰۶ - ۱۹۸۰) 


الشریف حسین الهندي 





۶:۳۱ 


وبعد . . وبعدما : 


وبعد ما اخترقنا حواجز الزمن والتاريخ من مرحلة إلى مرحلة ومن حادثة إلى واقعة 
بداية من الاعتداء الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي وإعلان الملك خالد بأن 
السعودية ستعيد بناءه على نفقتها مما أثار القلم حتى عبر السنوات رجوعا إلى مؤتمر 
القمة العربي الذي أعلن فيه الفيصل استعداد السعودية لتحمل كل خسائرها المادية .. 
كل ذلك قادني في النهاية لسرد كل صغيرة وكبيرة دعماً للتاريخ مؤكداً الحقائق التي 
تشير في اعتراف واضح وصريح بأن الرجل العظيم محمد أحمد محجوب كان المهندس 
والمخطط لمؤتمر اللاءات الثلائة ووراء الجندي الجهول السيد الشريف حسين الذي لعب 
الدور الأساسي في رحلات مكوكية حتى أقنع العاهل السعودي وكان بصدق وأمانة رائد 
المؤتمر وأباه الشرعي . كل ذلك حتى لا تضيع أمجاد الرجال وسط الدخان والضباب 
فتنسحب من تحت رؤوسهم الطاهرة وهي تتوسد الثرى أردية التاريخ والخلود . رحم 
الله كل رجالاتنا وقادتنا بقدر ما قدموا لهذا البلد من عمل وتضحيات ستبقى دائما 
وابدا . 


LTV 


۶ الفصل الرابع والعشرون ) 


© حلقات الفراغ في السودان 

© بين الامام عبدالرحمن ومولانا اليرغني 
© بورقيبة یستقبل عبدالناصر ببرود 
وناصر يرد عليه بابتسامة باهنة 


زعیم طائفة الخنمیه زعیم طائفه الانصار 





575 


دعوني اخرج بكم قليلا من دائرة الاحداث التي تثير الأعصاب لنستريح ولو 
للحظات في عنائها وضوضائها ثم بعد ذلك نستانف مسيرتنا الطويلة . 

أقول لك بعد كل الذي سردته تفصيلا وتبيانا عن ذلك السر الخطير الذي كان سببا 
مباشرا في اللقاء والمصالحة بين السيدين الكبيرين المهدي والميرغني باعتباره أضخم 
وأكبر حدث لانه كان كما قلت في نطاق المستحيلات .. دعوني اقول انني اكاد اجزم بل 
اقسم بان الذين دبروا فصوله وخططوا له ونفذوه بل والذين عرفوه لا يتجاوز عددهم 
العشرة اشخاص مات منهم ثمانية وبقي اثنان على قيد الحياة ! 

الثيء الذي قد يثير القارىء ويهزه وقد يحيره ويدهشه بل ربما يضحكه قليلا او 
كثيرا ان الامام عبدالرحمن المهدي خلافا وبعيدا عما أقره وخطه الطبيب السويسري 
العالي دوشوزان» فقد كسر كل القواعد والنظريات والفحوصات الطبية وسخر من 
اجهزتها الحمراء والخضراء الراصدة منها والحاسبة بما فيها من «كمبيوترات 
والکترونیات » فلم يمت بعد ستة آشهر كما قالت الالات ؛ وانما بقي حيا معافي يضحك 
وياكل ويتسامر ويجامل ويحضر الاجتماعات الخاصة والعامة لعامين ونصف العام 
#وسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون ۰ ليس ذلك وحده او كله 
فحسب. وانما العرش والملكية ورئاسة الجمهورية التي ظل يجري وراءها ويسعى لها 
الامام المهدي وأنفق في سبيل تحقيقها كل مرتخص وغال ٠‏ بل ودفع من أجلها دماء 
غزيرة وكثيرة وغالية ذهبت بلا عودة وتبخرت وراحت مع الهواء الساخن لتذوب في 
اعماق الصحراء الكبرى . ما ان تغير كل شيء وزالت كل الاسباب التي من أجلها تم 
اللقاء حتى بدأ الفتور يقتحم بوابات القصرين ثم یعشعش في نوافذها حتى اصبحت 
العلاقة «محنطه » او شبه ميتة ولكنها بقيت على كل حال «تفرفر» على السطح وتقوم 
في كسل وتراخ كلما دعا , الحال! 

.. حقيقة مؤكدة لابد ان اذكرها واذكرها بتفاصيلها هي أن آهلي في السودان وهم 
يقرأون هذه الاسرار الكبيرة الكثيرة المتفرقة لابد ان يضعوا أيديهم على رؤوسهم وان 
يضربوا اكفهم وهم يحللون ويتغالطون في وقائعها وظروفها خاصة والمجتمعات في 


۶ 


سوداننا الحبيب مازالت تعيش نصف عمرها قي فراغ رهيب رتيب ممل قاتل» فما ان 
تغيب الشمس حتى يتجمع أهلونا كبيرهم وصغيرهم. فقيرهم وغنیهم» وشيوخهم 
وشبابهم في القرى والمدن يتجمعون في الأندية او في حلقات دائرات مفرغات أمام بيوتهم 
او في الماتم او الافراح ويظلوا يتسامرون ويتغالطون ويضحكون ويتبادلون الاراء في كل 
مناسبة وفي اي مناسبة. فلعبة كرة القدم بنجومها وحكامها واقوالها وفاولاتها تأخذ 
نصيب الاسد في هذه الحلقات » تليها مباشرة (القطيعة) والقيل والقال ثم في النهاية 
يأتي الجدل البيزنطي السياسي وتبداً التحليلات والانطباعات والاجتهادات والادعاءات 
فالنقاش كثيرا ما يبدأ باحداث الساعة لبنان ... فلسطين .. الاسد .. الجميل .. 
عرفات .. القاهرة جنوب افريقيا .. ثم يميل شرقا او غربا إلى ان يصل إلى نيكاراجوا 
وهندوراس وكمبوديا وايران والعراق وفیتنام وزنجبار - وبلاد تركب الافیال وقد يصل 
النقاش درجة من العنف ولمغالطة والمد والجزر والجذب يخيل اليك معها انك في 
البرلمان التركي او الايطالي او أواسط غابات الهنود الحمر و ... و .. وما ان يفرغ 
الجميع البرىء الطيب الودود من تناول العشاء الذي يختصر وينحصر في الغالب الاعم 
على طبقي «الفول والطعمية » حتى يتفرق على ان يلتقي غدا وبعد غد في نفس الساعة 
وفي نفس المكان ليبدأ نفس الجدل والحوار . هذه هي مجتمعاتنا وهذه هي حياتنا في 
المساء امس واليوم وربما الغد والعاصمة الثلثة (الخرطوم بحري والخرطوم وام درمان) 
تأتي في مقدمات المجتمعات السودانية بالطبع وهي سيدة الجالس وزينة حلقات 
القطيعة والنقاش البيزنطي والعالمة ببواطن الامور وبخفایا الاسرار . أظن ان شعبنا 
هو الوحید الذي ینفرد بهذه الخصائص والعادات دون شعوب الارض قاطبة والنتيجة 
التي وصلت الیها في النهاية ان شعبنا يعمل نصف عمره فقط ویضیع النصف الاخر كله 
في الحلقات الفرغات ! ! 

أعود من جدید وانا نفسي انتمي بالناسبة إلى واحدة من هذه الحلقات السائية 
العروقة والشهورة فاؤكد بل وأجزم بان الذي اکتبه سیتربع على عرش هذه الندوات 
واللقاءات ... وأنا اؤكد بل واجزم مرة ثانية وثالثة ورابعة ان جانبا کبیرا منا سیتساءل 
ویستفسر في غير ما توقف - لا عن الأسرار التي وردت ‏ والتي اسك في انها عرفت او 
اذيعت من قبل. وانما سينحصر التساؤل في كيف عرفتها .. وكيف حصلت عليها 


وممن ؟ ! 


اذن من این ! ؟ 

.. من حق اهلي وقرائي في السودان وغیر السودان ان يستفسروا ویئساءلوا . ومن 
واجبي نحوهم ان اجيب وسأفعل ذلك بصدق وامانة حتی اریحهم اولا واریح نفسي ثانيا 
فازیل مباعث حيرتهم علني بذلك اخفض او اخفف قلیلا من درجات الحرارة والغلیان 
او هکذا اتمنی . 


LY 


.. لقد ذكرت في مراحل سابقة ان الاسرة الواحدة في السودان قد تجمع بين 
الانصاري والختمي والشيوعي والأخ المسلم دون ان تؤثر خلافاتهم الفكرية او العقائدية 
او السياسية على علاقاتهم وحياتهم الخاصة الاسرية وقد كنت ومازلت امثل هذا الذي 
اقوله أصدق تمئیل مما جعلني في وضع مميز «لم تكن لي فيه يد » وانما الأقدار هي التي 
رسمته وخطته فوالدتي يرحمها الله بقدر ما أحسنت وقدمت إلى - كانت أنصارية من 
أعماق بيت الامام المهدي لحما ودما واخلاصا ووفاء مما اعطاني ومنحني وضعا خاصاً 
ومريحا ووثيقا بالطائفة والحزب معا . 

.. إما في الجانب الوطني الاتحادي فقد كانت علاقتي الشخصية بالازهري طيبة 
لكنها لم تكن عميقة » ولكن علاقتي كانت وثيقة ومميزة مع الشيخ محمد احمد المرضي 
القطب الاتحادي لان جذورها في الأصل كانت ترجع إلى صداقة والدينا العميقة منذ ان 
كانا زميلين في الدراسة والقضاء الشرعي معا . كما كانت علاقاتي ببقية كبار رجالات 
الوطني الاتحادي وعلى رأسهم مبارك زروق والشريف حسين الهندي وعبدالماجد ابو 
حسبو قريبة جدا ووئیقه جدا جدا حتى السيد عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب 
الشيوعي لم يكن صديقا قريبا فحسب . بل كان اخي في الرضاعة او هكذا قيل لي . 

.. والحقيقة ان علاقات المجتمع السوداني كلها تسیر على هذه الوتيرة باشکال 
مختلفة ومتفاوتة . الم اقل لكم ان المجتمع السوداني مجتمع اسري اشتراكي تعاوني ! 

.. اعرج بكم في سطور قليلة إلى الجانب الاخر - العارضة فقد كان السيد عبدالله 
خليل جارا عزيزا لأهلي واسرتي يعرفني منذ ان قدمت للوجود واطلقت أول صرخة 
اما السيد محمد احمد محجوب فهو عم لزوجتي .. وزوجتي الاخری هي حفیده مولانا 
الشيخ ابو القاسم احمد هاشم شيخ «الازهر السوداني » والذي كان وسيطا بين الانجليز 
والمهدي بعد سقوط السودان . 


وضع فريد! 


.. هذا الوضع الفريد والغريب والذي لم تكن لي فيه يدء كما قلت » منحني ظروفا 
طیبه ومواتية استطعت ف حدود امكانياتي التواضعه ان استتمرها إلى حد ما ف دنيا 
الصحافة والسياسة مما سیب 2 وللاخرين كديرا من المشاكل ومواضع الحرج والفكاهة 
معا . وما زلت اذكر اجتماعا للحزب الوطني الاتحادي كان صاخبا وثائرا عندما هاجم 
ویخص صحيفتي دائما وابدا وفي أحرج الواقف السياسية بأسرارها وتفاصیلها دون 
صحفهم مما سبب لهم حرجا وقضیحه امام فرائهم . وحاول الازهري ان يحدوي النورة 


۳ رو 


واستطال والذي ايده عدد من نواب الهيئة البرلمانية لحزبه » ولا لم يجد الازهري مجالا 
«للفرار والزوغان» اطلق ضحكته المقهقهة الكبيرة والمجلجلة المعروفة التي على خلاف 
العادة والمألوف كثيرا ما تكون مقدمة لنكتة او فكاهة او قنبلة او مقلب أخذ الازهري 
يتفحص بعدها الوجوه ويتلفت يمنى ويسرى ليقرأ ردود الفعل ولما احس بان الجمع 
كان في حالة (زنهار) وصمت تام قال بصوته الجهوري : 

(يا جماعة انا سمعتكم كويس ولاحظت ملاحظاتكم لكن ارجوكم ان تسألوا مولانا 
سيخ المرضي «واخوانا » زروق وكذلك خضر حمد سكرتير الحزب «وخال » الاستاذ 
عبدالرحمن مختار «في نفس الوقت ».. ارجو ان تستفسروا منهم عن حكاية تسرب 
اسرار الحزب والحکومة » يمكن تلقوا عندهم الاجابة الشافية باذن الله الواحد الصمد ) . 

وهنا ساد الصمت والوجوم وظهرت علامات الحرج على بعض الوجوه كما ارتفعت 
علامات الحيرة على الاخرين لانهم لم يعرفوا او يتصورا لا من قريب او من بعيد ان 
ثمة صلة او علاقة تربطني هكذا بقادتهم الكبار جدا ء ولا شعر الازهري بان الصمت قد 
طال ضحك مرة ثانية ضحكة طويلة وطويلة جدا . ومن التساؤلات التي ستأخذ نصف 
عمر المجالس في العاصمة هي كيف عرفت كل هذه الاسرار وراء لقاء السيدين؟ وحتى 
لا تدور هذه الحلقات حول نفسها وهي تلجأ الى التخمين وتغوص في بحور 
الاستنتاجات والاجتهادات فتذهب بعيدا وتتوه في غير ما قرارء اوفر عليها العناء وأقول 
لها بكل الصدق والأمانة والصراحة : 


اول لقاء 


.. في عام ۱۹۵۵ وعندما تم اللقاء بين السيدين الذي تربع على قمة الأحداث وغير 
الأوضاع وقلب موازين السياسة في السودان؛ بل وخط له مسارا جديدا .. عندما تم هذا 
اللقاء كنت سكرتيرا صحفيا للامام المهدي ومازلت اذكر وسأظل اذكر إلى نهاية العمر ان 
الذي فتح باب الغرفة الخاصة التي انفرد فيها السيدان بأول لقاء كنت انا ... وقد اراد 
الامام المهدي مبالغة منه في تكريم ضيفه العزيز ان اقوم شخصیا بتقديم المشروبات 
والفاكهة «والتمر » إلى مولانا الميرغني وقد كنت سببا مباشرا لضحكاتهما العالية عندما 
أصبحت هدفا لنكاتهما حتى اغرورقت عيونهما بالدموع من كثرة الضحك والمجاملة .. 
قال الامام المهدي لمولانا الميرغني : 

هل تعرف يامولانا ولدنا المبروك عبدالرحمن هذا ؟ لقد قمت (بتسميته) باسمي في 
عام ۱٩۲۲‏ ومازلت أذكر ما حدث لي بسببه اذ انني كنت على ظهر حماري (وفي عز 
النهار ) يعني منتصف النهار عندما غاصت قدماه الاماميتان في بركة من الطين امام 
منزل والده فوقعت من على ظهر الحمار وقعة لا انساها واتسخت ملابسي كلها «قه .. 


فهك ... هه ... فه ). 


۶:۳ ۶ 





الرئيس الازهري والمؤلف عبدالرحمن مختار في افتتاح وكالة الاخبار الافريقية عام ۷ 

رد مولانا اليرغني عليه قائلا : 

«کان والد عبدالرحمن هذا ياسيادة الامام ختمیا میرغنیا أصيلا وکان مریدا ومحبا 
ومخلصا لنا مائة في المائة» لکنه ما أن تزوج من اسرتکم الكريمة حتی طار منا (طيرة 
ابو ريش من الدریش ) قه .. قه .. قه . قه .. (طير آبو ريش هو النمل الطاثر الذي ما 
ان یفرغ الدریش اي العیش الدروش حتی یجفل ویطیر كله خوفا وطلبا للنجاة في آثار 
الدقیق الدروش !!) . 

الامام الهدي رد عليه قائلا : 

«ان بناتنا بامولانا فیهن خاصية غريبة وعجيبة وهي انهن یجرفن معهن دائما وابدا 
ازواجهن اليا ولم يستطع غريب تزوج منا ان یجرف زوجته لاحد غیرنا . وضحك 
السیدان واختتم الهدي دعاباته بان قال ان اصل ولدنا التفرغ يمثل حقيقة هذا اللقاء 
الکریم «فهو مبروك » وما ان ترکتهما وانسحبت إلى الخارج واغلقت باب الحجرة السرية 
حنی التف حولي کنیر من کبار القادة وصغار الساسة وعدد من الزملاء الصحفیین 
الحلیین والاجانب يسألونني في شغف وشراهة عن ماذا يحدث في الداخل فلم اجبهم 
بشي۰۶ ولكنني حاولت ان آدعي من حركاتي وتصر‌فاتي ونظراتي وانا في حالة انتفاخ 
شديدة بانني علیم ببواطن الامور دون ان يعرف کل من کانوا حولي انذاك انني كنت 
مجرد (اراجوز) وکنت هدفا مباشرا (لنکات وضحکات الزعیمین الکبیرین ) ! 

.. الظروف والاقدار وقد یکون الحظ قد لعبت كلها دورا کبیرا وموّثرا ورئیسیا في 


۶ ۵ 


تكوينى وتاريخي ومساری» فانا لم أكن أقدر ولا أکفاً صحفي ؛ ولكن القدر السعيد 
الطیب كان أمامي وورائي ولم تكن جريدتي توزع مرة ونصف المرة قدر الصحف 
السودانية مجتمعة لاننی كنت (الرجل الخارق) ولکن العوامل التي اشرت الیها قد 
ساعدتني كثيرا ومهدت امامي الطریق السهل النبسط . 


محمد حسنین هیکل ! 





الذي حدث لي في الخرطوم يشبه کثیرا ما حدث لصديقي العزیز الاستاذ محمد 
حسنین هیکل في القاهرة وقد سمعت عنه في اواسط الخمسینات شابا ذكيا متطلعا إلى 
الحياة ویعمل في دار اخبار الیوم بهمة ونشاط ومثابرة والدلیل الواضح كان في تحقیقاته 
الجيدة عن شرق اسيا التي آثارت اعجاب قرائه ولفتت اليه الانظار - كان ذلك كله 
برعاية استاذي واستاذه مصطفى امین - اطال الله عمره - وهو الذي اخذ بيدي قليلا 
جداء وأخذ بيده كثيرا جدا جدا حتى تفجرت ثورة ۲۳ يوليو التي كان الاستاذ هيكل 
يلم بأدق أسرارها وبواطنها ويعرف قادتها وزعماءها مما أعطاه وضعا فريدا ومميزا 
فيما بعد. 

الاخ الاستاذ هيكل باخلاصه وتفانيه وكفاءته ومقدرته وتمکنه » ثم بحبه الفريد 
واخلاصه غير المحدود ووفائه المكتمل للرئيس جمال عبدالناصر استطاع ان يكون دائما 
وابدا ف منتصف داثرة الضوء . وف بطن الاحداث لانه كان قريبا جدا من صناعها ومما 
لاشك فيه ان اي كاتب او صحفي تتاح له نفس الفرص ونفس الظروف التي اتيحت 
للاستاذ هيكل في القاهرة ولي في الخرطوم قد يلعب نفس الدور وبنفس القدر - وقد 
يبزنا الاننین معا ان كان يتمتع بقدر اكبر من الواصفات التي نمتلكها والتي يحتاج لها 
مثل هذا الوضع . 

المسألة كما تتبادر لبعض الاذهان ليست شطارة او عنفا او فهلوة او خرقا للطبيعة 
والنظريات والعادلات وانما هي فقط ظروف وقدر وقليل او كثير من الحظ يواتي 
الصحفي او اي شخص في اي مجال او ميدان اخر فيستئمرها جيدا وحتى النهاية او 
يعجز عن استتثمارها كليا . 


۶۳ 


والاستاذ الكبير هيكل كان صحفيا شابا وواعدا وهذه سنة الحياة التي تبدأ مسيرتها 
دائما بالخطوة الاولى وكان قد تتلمذ على يدي الاخوين علي ومصطفى أمين وعندما 
واتته الظروف وسنحت له الفرص استطاع ان يستثمرها حتى «قاع البئر ونهاية 
القدمين » فتربع على عرش الصحافة العربية من محيطها إلى خليجها لأنه لم يكن كغيره 
ممن یعیشون على هامش الأحداث» وانما كان قريبا منها وملتصقا بها وف داخلها بل 
وكان أحيانا يصنعها او یوثر فيها . 

جمعتني ظروف دراسية قصيرة بالاستاذ الكبير هيكل بكلية الصحافة الاميركية 
بجامعة كولومبيا عام ١97٠‏ سعدت بزمالته وواتتني الفرص الطيبة لعرفته عن قرب 
اكثر فأحببته في صدق واحترمته كثيرا وظلت حبال الود ممدودة وموصولة بيننا ومازالت 
حتى اليوم رغم ان حادثا عارضاً وقع لنا ونحن في كلية الصحافة بجامعة كولومبيا 
الاميركية عندما بدأت جلسة الامم التحدة الصاخبة المشهورة ايام افتتاحها عام ١97٠‏ 
والتي خلع فيها خرتشوف حذاءه الأيمن وأخذ يضرب به المائدة امامه في حركة هستيرية 
فقد معها الاحترام والوقار ! 

في تلك الايام وقد اخذت احداث افریقیا وثورات الکنغو ومقتل لوممبا الاضواء فقد 
اعد التلفزیون الاميرکي «بانوراما » الشهیر برنامجا هاما وکبیرا عن افریقیا نقل على 
جمیع شاشات التلفزیون الاميركية والكندية والاوروبية وشارك فيه دهاقنة وعمالقة رجال 
الصحافة العالیین الذين قدموا مع روساء حکوماتهم لحضور تلك الجلسة الصاخبة 
التاريخية » ادکر منهم مدير وكالة ناس السوفیانیه والیونایندبرس ورويتر ونواب رؤساء 
النيويورك تايمز والديلي تلغراف والواشنطن بوست . 

ولم ینقص «العقد الفرید » الا صحفي افريقي فبعث التلفزیون برسول يحمل رسالة 
عاجلة جدا إلى الستر «مونتقمري كيريس » عمید کلیتنا وکان فیما مضی رسولا خاصا 
للرئیس إيزنهاور في الشرق الاقصی وهو رجل فارع الطول والعرض مغرور لکنه متمکن 
من عمله .. جاعته الرسالة تطلب منه اختیار صحفي افريقي ليشترك في البرنامج الکبیر › 
ولا وقع اختیاره على شخصي البسیط الضعیف ٠‏ ثار الاستاذ هیکل في وجه العمید وهو 
یعترض على اختياري ويؤكد له في غرور آکثر وأکبر انه رئيس تحریر اکبر جريدة في 
الشرق الاوسط وانه عملاق الصحافة العربية - وهذه حقيقة واقعة اقتنعت بها وکنت 
مقتنعا بها ووافقت علیها صديقي العزیز بصراحة» لکن الغریب في الامر ان الستر 
كيريس العمید لم یقتنع بها رغم تأييدي لما قاله هيكل ورغم استعدادي للتنازل وليتني 
عرفت السر وراء الاختیار اذن لقاومته . وفي تمام الساعة الثامنة مساء بتوقیت امیرکا 
يوم ۲۰ سبتمبر ۱۹۰۰ انطلق في الهواء البرنامج التلفزيوني الکبیر (بانوراما) وقد ترك 
لي ادارة النقاش والاشتراك فيه ایضا لانه كان خاصا بالقضية الافريقية اساسا والقدر 
والظروف واحداث الساعة وربما الحظ ایضا الشيء الذي لا يدلى فيه - کل هذه العوامل 


۶:۳۷ 


قد منحتني وضعا بارزا في ذلك البرنامج الهام مما جعلني نجما في الشارع الاميركي 
وبالطبع فقد سعدت كثيرا جدا بهذا الوضع » ولكنني سعدت اكثر وأكثر عندما تسلمت 
في اليوم التالي شیکا بمبلغ خمسمائة دولار «خمسمائة زمان التي كانت تشتري الطاووس 
والجاموس والفيل والكاديلاك »! 

وبالمناسبة فان الفترة التي قضيناها في جامعة كولومبيا كانت حلوة وجميلة ومفيدة 
استطعنا ان نتعرف خلالها على احدث وسائل الاعلام وفنون الادارة والاعلان . 

.. المناسبة دائماً قد تقود إلى مناسبات اخرى وتتفرع هنا وهناك وقد تجرف معها 
القلم ولكن آمل ان تكون دائما بمثابة المحطة التي نستريح فيها من عناء السير فالحديث 
عن الاستاذ هيكل الذي ظل يكتب كثيرا جدا جدا عن الناس والأحداث دون ان يكتب 
عنه احد قد يثير فضول القراء ويعجب من قرأوا له كثيرا ولم يقرأوا عنه شیثا حتى 
الان ! 


بورقيبة وناصر! 


ف ديسمبر عام ۱۹۰۳ وجه الزعيم التونسي دعوة للرئيسين جمال عبدالناصر وبن 
بيللا لحضور الاحتفالات التي اقيمت لذكرى شهداء بنزرت ورافقت الدعوة بعض الهدوء 
النسبي في الأجواء العربية بعد ان كانت متدهورة ومتدنية كعادتها بين الفينة والاخرى 
يوم ان كان المذيع الالمعي المعروف احمد سعيد يتربع على عرش اذاعة صوت العرب 
ويصول ويجول بصوته الجهوري المميز ويصرخ في تشنج ونهيج باننا سنقذف باليهود في 
البحر ونصلي الجمعة في القدس الشريف و ..و .. وقد امتدت حملات صوت العرب فلم 
ترحم صديقا ولا عدوا ولا مليكا ولا رئيسا ولا قائدا ولا حزبا ولا طائفة . وكان الحبيب 
بورقيبة في مقدمة من أصابهم الاعلام المصري بأهرامه واخباره واذاعته والله اكبر ... الله 
اكبر وكيد المعتدين! والمعروف ان بورقيبة امعانا في الغيط والتشفي كان يأمر اذاعته 
ووسائل اعلامه المحلية ان تعيد وتنقل شتائم واهانات الاذاعة والاعلام المصري وتجنيها 
عليه » وبالطبع لا يقوم على هذا التصرف الخطير الا زعيم متمكن ووائق من نفسه ومن 
شعبه ایضا . ويبدو ان فرصة الرد والانتقام والتشفي قد واتت بورقيبة وجاعته في عقر 
داره وانه عزم على الا يضيعها او يتركها لحالها . ففي صباح يوم ۱۲ ديسمبر عام ۱۹۲۳ 
على وجه التحديد وصلت طائرة الرئيس بن بيللا مطار (العوينة) واستقبله الرئيس 
بورقيبة بالقبلات والأحضان ثم استقبله الشعب التونسي استقبالا منقطع النظير وظلت 
(كلاكسات ) العربات والبكاس واللواري تصيح وتزمر في غير ما توقف ولا هدنة وهي 
تشارك الشعب هتافاته التي ارتفعت إلى عنان السماء وهزت الارض تحت الاقدام . 


۶:۳۸ 


.. وبعد ساعات قلائل هبطت طائرة الرئيس عبدالناصر وكانت نفس الكتل الشعبية 
والعربات واللواري مازالت متراصة في فناء المطار وفي الطريق الى القصر . وكانت 
المفاجأة المثيرة التي عقدت الألسن واوقفت دقات القلوب ٠‏ وجمدت الدماء في العروق ‏ 
ان نفس الكتل البشرية التراصة التي هزت الأرض والسماء معا وهي تستقبل بن بيللاء 
ظلت صامتة ساكتة كأنما على رؤوسها الطير الأبابيل وهي تستقبل موكب عبدالناصر . 
لا تلويح بالأيدي؛ لا ابتسام لا هتاف» لا سلام » لا کلام لا حركة؛ لا شيء على 
الاطلاق الشيء الوحید الذي كان یبدد ذلك الصمت الدهش الرهیب هو صوت الدراجات 
البخارية التي تتقدم موکب الضیف ناصر حتی خیل إلى وإلى الکثیرین ممن شاهدوا ذلك 
الاستقبال وعلى رأسهم من الصحفیین الرافقین لعبدالناصر هیکل ومصطفی امین 
واحسان عبدالقدوس وکانت تلك الکتل البشرية التراصة مجرد أصنام وحجارة صماء . 

كان الرئیس بورقيبة كما لاحظت وشاهدت وسمعت محبوبا من شعبه بدرجة کبيرة 
وقوية وهذه حقيقة لا تنکر وقد لاحظت في کثیر من الناسبات في زيارتي تلك الاولی 
والاخيرة لتونس .. لاحظت انسجام بورقیبه ومعرفنه الشخصية بالناس وبالسارع 
وسمعنا روایات وروایات كثيرة عن تعلق امته به. ولکن ملاحظتي الشخصية 
وانطباعاتي عنه «وقد تكون متسرعة » انه كان نشطا رغم تقدم سنه بقدر ما كان جريا 
ومتهورا ومواجها بل ومحرجا من الطراز الأول . كانت جرأة بورقيبة قد ذهبت بعيدا 
إلى اقصى الدرجات التي لا يصدقها عقل بشري ولا يمكن ان تصدر من مضيف عادي 
ناهيك عن مجاهد وأكبر قائد ومعلم ورئيس جمهورية » فقد وصل الحد بالذين شاهدوا 
وسمعوا الذي جرى مبلغا من الدهشة والتأثر إلى درجة فقدوا معها القدرة على النطق 
والحركة . 

ثلائة احداث كبيرة وخطيرة ومجنونة تؤيد كلها ماذهبت اليه » فقي يوم ۱۳ ديسمبر 
۳ توجه الرؤساء الثلائة إلى مدينة بنزرت وكانوا يستقلون عربة مکشوفه والقى 
بورقيبة خطابا في عشرات بل ومثات الالوف من مواطنيه الذين تجمعوا في بنزرت ‏ 
وبعده اعتلى المنصة الرئيس جمال عبدالناصر فصفق بعض الحاضرين (ويبدو ان الاوامر 
قد صدرت بذلك) لان ردود الفعل لاستقبال المطار كانت غير محببة وصعبة الهضم . 

ظل بورقيبة واقفا على يمين الرئيس الصري كناظر الفصل تماما وبالناسبة فهو 
يحب التدريس ويمارسه في بلاده ... ظل يستمع إلى خطاب عبدالناصر باذنيه وعقله 
وقلبه وجسده وكل حواسه ؛ وتوقف عبدالناصر برهة ليمسح العرق من وجهه ثم انحنى 
قليلا وهمس في اذن بورقيبة وبعدها اعتدل ليواصل خطابه » وكانت المفاجاة الكبرى 
التي لا يمكن ان يحتملها بشر مهما كان هذا البشر صغيرا او ضئیلا او تافها وذلك 


۶:۳۹ 


عندما اعتلى بورقيبة نفس المنصة في عصبية مسعورة وشديدة وملحوظة وازاح بكلتا يديه 
عبدالناصر وقبض على جميع الميكروفونات وكل عضلات جسده تهتز ليعلن على هذه 
الجموع الغفيرة المحتشدة قائلا : 

«اسمعوا فخامة الرئيس عبدالناصر بيوشوشني » ويقول لي ممكن اتحدث عن القومية 
العربية .. لم يقف بورقيبة عند هذا الحد من اصطناع الحرج وخلق المتاعب والشاکل 
وانما ذهب إلى ابعد من ذلك عندما اشار بيديه وكتفيه وجميع اصابعه للرئيس 
عبدالناصر قائلا : 

«اتفضل يافخامة الرئيس اتكلم زي ما انت عايز ... هي القومية العربية بتاعت حد 
دي كلنا بنسعى اليها وبنحبها ». 

.. آما عبدالناصر فقد استقبل كل هذا الذي يجري امام عينية وعيون الجميع بهدوء 
غريب وبصمت أغرب وابتسامات أحلى وأعذب مما جعله موضع احترام وتقدير الكثيرين 
هذا اذا لم تصل درجات هذا الاحترام الى مراحل الشفقة والرثاء والصلاة معا .. لم 
يتمالك صديقي الاستاذ هيكل نفسه فقد شاركه في ذلك الكثيرون . كان هيكل متوترا 
وعصبيا حينما سمعته يتمتم وانا ف المعقد الملاصق له ويردد عبارة واحدة وهي : 

(الله ... دا اراقوز ... دا مقنون ... مؤكد مقنون )! 


° 


۶ الفصل الخامس والعشرون 4 


© الصحیه البور قيبية الدا لدة من السودان . 
© قادتنا مانوا فقر | ء وبیوتهم مرهو نه . 


مجن ور ري 
تحية من فخامه ال رئيس الحبيب 


دور قییه دخط رده وممهورهة 


نی و وقف الي حانب شعب‌تونس 
بمئاسبة اعیاد الحلاء ۰ 


لك جين انبم السو دا له 





۶ ۱ 


الواقعة البورقيبية الثالثة والاخيرة في رحلة تونس بعد واقعتي الرئيس عبدالناصر 
والاستاذ هيكل لن تخطر على بال بشر » فقد قامت كل الاعراف والقوانين وقواعد 
البرتوكول» فاصبحت اشبه ما يكون بالاساطير واحاجي (الغول) على الرغم من أنها لم 
تكن على الهواء مباشرة كواقعة عبدالناصر ‏ ولم تكن أمام مثات الالوف من النظارة 
والهتافة والمشاهدين والستمعین ‏ فقد كانت على العكس تماما داخل الجدران وف 
حجرة مغلقة لا تلفزة ولا اذاعة ومع ذلك فقد كانت مريرة وموجعة وغير محتمل 
هذه المرة كانت الضحية البورقيبية الثالثة من جنوب الوادي في شخص المثل الرسمي 
لحكومة السودان «النوفمبرية العسكرية » وهو السيد يحيى الفضلي عضو المجلس المركزي 
وليحيى قصة كفاح طويلة بدأها مع بداية الأحزاب السودانية فقد كان رفيقا للازهري 
حتى قبل انشاء مؤتمر الخريجين ثم شاركه في تشكيل حزب الأشقاء وكان يعتبر حتى 
اندماج الأحزاب الوحدوية في الوطني الاتحادي وقبل انقلاب نوفمبر بيوم واحد الرجل 
الثاني لازهري لنشاطه وسرعته في الحركة وذكائه المفرط وقدرته الفائقة على التخطيط. 
ووضع المقالب حتى اطلق عليه اسم عرف به وهو (يحيى الدینمو). كان بجانب ذلك 
كله كاتبا فذاء وأديبا متمكنا وشاعرا مرموقا لا يجارى وكانت بصماته واضحة في كل 
قرار سياسي او عمل عام » لكنه ما ان قام انقلاب نوفمبر ۱۹۵۸ حتى زلت قدماه 
وجانبه التوفيق وانكفأت قامته بعدما كانت منتصبة » وانخفض صوته بعدما كان عاليا 
وتخلى عنه الحظ بعدما كان حليفه .. كل ذلك حدث للسياسي القوي الصارم يحيى 
الفضلي حين أيد الانقلاب باسلوب غريب لا يشبهه » وبطريقة خفية لم تلبث طويلا حتى 
ظهرت ملامحها وبانت ابعادها عندما اشترك في المجلس المركزي صنيعة انقلاب نوفمبر 
فهبطت اسهمه هبوطاً شدیدا في كل میدان؛ وعندما انتدبته حكومة نوفمبر لیمثل 
السودان في احتفالات ذكرى شهداء بنزرت في نهاية عام ١577‏ كان رفيق دربه وكفاحه 
اسماعيل الازهري معتقلا في جوبا بجنوب السودان مع جميع قادة حزبه وأحزاب 
المعارضة وعلى رأسهم السيد عبدالله خليل ومحمد احمد محجوب ومبارك زروق والشيخ 
محمد احمد المرضي ونقد الله وكذلك عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي ولم 


55 


ينقص هذا العقد الفريد الا اللؤلؤؤة المكسورة «يحيى الدینمو »! 

.. اذكر عندما اطلق سراح زعماء وقادة الأحزاب وعلى رأسهم الازهري قام السيد 
يحيى الفضلي بزيارته في داره التي امتلات عن اخرها بالزوار والمهنئين وبالمئات من 
مريدي ازهري ورجال حزبه ويومها تململ الجمع ولم يرحب به وظن الكثيرون ان السيد 
الازهري نفسه لن يتردد في اهماله ولكن ما ان التقى الصديقان الكبيران اللذان اصبحا 
في مفترق الطرق . الا وتبادلا العناق الطويل والقبلات الحارة على غير ما كانوا يتوقعون 
لكن الجميع لاحظوا ان السيد يحيى الفضلي بدى عليه التعب والاعياء والانهيار النفسي 
والجسدي حين اخذ يمسح عرقه المتصبب ودموعه الغزيرة التي حاول عبنا ايقافها . من 
يدري لعله وهو بشر كان ف تلك اللحظات التقيلة يستعرض امجاده وتاريخه وجهاده 
الذي فرط فيه واضاعه في غفلة من النفس او في حالة من حالات الضعف البشري يوم 
ان مهدت له تلك الامجاد الطريق الى الزعامة وكانت الجماهير ترفعه على الاعناق 
والأكتاف بعد كل خطاب او قصيدة وطنية مثيرة وما أكثر خطب واشعار يحيى المثيرة 
والمبدعة ! ! 

شاء الله ولا راد لمشيئته ان یبعث بالسید/ یحیی الفضلي لتونس مندوبا عن الحکومة 
خصیصا ليقع في مصيدة الحبیب بورقيبة التي لا ترحم والتي یصعب الخروج منها ‏ فقد 
سعی الیها بقدمیه ولعله استفاد من اللحظات القصيرة الطويلة الثقيلة الثقلة الرهقة التي 
قضاها وحیدا محبوسا في مصيدة بورقیبة] 


بورقیبة ویحیی ! ! 


في مساء اليوم السابع عشر من ديسمبر ۳ وذلك بعد مغادرة الرئيسين 
عبدالناصر وبن بيللا مطار العوينة في تونس كنت على موعد للتشرف بمقابلة الرئيس 
بورقيبة وقد انبهرت جدا عندما وقفت بي العربة الرسمية امام منزله الخاص وهو منزل 
عادي في شكله وأثائه ومظهره ... انبهرت أكثر وأكثر عندما استقبلني شخص في مدخل 
الباب ظننت انه الحارس فاذا به الرئيس بورقيبة شخصيا . لا حرس ولا غفر ولا مدافع 
ولا حراسة » واصطحبني ممسكا بيدي مرحبا بي في غير ما توقف وبدأ يتحدث ال عن 
علاقاته وعلاقات بلاده بالسودان وعن ثورة الامام المهدي الكبرى التي اصبحت أعرق 
وأكبر الثورات في تاريخ افريقيا و .. و .. وعندما دخلت غرفة الاستقبال فوجئت بالسيد 
يحيى الفضلي جالسا في الداخل فحییته » فقال بورقيبة مقاطعا : طبعا تعرفوا بعض و لا 
حاجة لي ان اقوم بهذه المهمة» ثم جلس وصب لي قدحا من الشاي واعتقدت من 
لحظات الصمت القاتلة التي خيمت على رؤوسناء انني قطعت عليهما خلوتهما وحديثهما 


۶ ۶ ۶ 


السيد يحيى الفضيلي 


نائب الازهري وضحية بورقيبة 





فشعرت بكثير من الحرج الا انني تأكدت من ساعتي انني جئت في الوقت المحدد 
ولكن يبدو ان السيد يحيى الفضلي ممثل حكومة السودان في الاحتفالات هو الذي سرقه 
الكلام فتأخر أكثر مما ينبغي! 

.. فجأة استدار بورقيبة نحو السيد يحيى الفضلي قائلا : 

«نعم أتمم كلامك ياسيد يحيى الفضلي .. لكن السيد الفضلي اصيب بالصم مرة واحدة 
(وقد كان بالفعل ضعيف السمع) .. وما كان من بورقيبة ولا ادري ان كان عن عمد 
مقصود او لجرأة يحسد علیها ... ما كان منه الا أن اعاد ما كان يسره به السيد 
الفضلي في خلوتهما فقال: 

«نعم ياسيد الفضلي قلت ان الشعب السوداني قد تنكر لكم وانكم تبحثون عن وسيلة 
لازاحة حكمه الدكتاتوري البغيض .. واستطرد بورقيبة يفجر قنابله المتواصلة التي تهز 
الحيطان لا الانسان حين مضى يقول: 

ياسيد الفضلي ارجوك اسمح ل سُوية ... عمرها السشعوب ما تنكرت للقادة وانما 
بعض القادة يتنكرون للشعوب ... خذ مثلا سيادتك انت هنا في تونس على العين 
والرأس واهلا ومرحبا بك ولكنك جثتنا مندوبا وممثلا للحكم العسكري البغيض الذي 
تبحث عن وسيلة « .. في تونس وأنت ممثله » لازاحته » واخوانك وزملاء كفاحك ورفقاء 
دربك في النفی .. في السجن بعيدا في (الجوبا).. في أحراش الجنوب مع الافاعي 
والحيوانات الفترسة . واستدار الرئيس فبادرني سائلا : 


۶ ۵ 


«ولا ايه ياحضرة الصحفي الكبير بذمتك ان غلطان ولا صح!» 

وبالطبع كان من الصعب علي ان اجيب .. بل ومن الصعب علي ان استمع إلى الذي 
استمعت اليه وقد أحسست ساعتها بحرج ما بعده حرج وجالت عيناي المفتوحتان 
الجاحظتان ببلاهة شديدة في سقف الحجرة وارضها وحيطانها علني أجد ثقبا ولو 
صغيرا انفذ منه او فيه حتی اريح اعصابي التي مزقها المجاهد الاکبر ؛ ومهما يكن من 
امر» فان مثل هذه اللقاءات الخاصه حتى بين الاصدقاء والناس العاديين ‏ مادامت 
مغلقة وبين الجدران» فان أسرارها وتفاصيلها ينبغي ذوقيا وأخلاقيا الا تتعرض للضوء 
ولا إلى الهواء (نسأل الله الستر) لكن ماذا يمكن ان نفعل مع الحبيب بورقيبة ؟ ! 

اعتقد انه من الانسب وقد واتتني فرصة تحدئت فيها عن الاستاذ يحيى الفضلي وعن 
لقائه المشؤوم بالرئيس بورقيبة فان الجواد الكبير السريع عادة ما یکبو » فالسيد يحيى 
الفضلي رغم سقطته السياسية وهو مريض وف نهاية العمر قد لا يقوى على مواجهة 
(وملاواة ) العساكر وقد لا يتحمل المنفى وحياة الوحدة والسجون «على الأقل اتمنى 
ذلك »! مادامت وقد واتتني فرصة الحديث عن الاستاذ یحیی ‏ اعتقد من الانسب بعد 
ذكر هذه المساوىء والأسي العديدة التي انتهت اليها الأحزاب وسقط بعدها كثير من 
الساسة ... من الانسب ان نذكر محاسن بعضهم ممن برزوا في مسرح الأحداث 
السياسية ولعبوا دورا كبيراً ورئیسیا في حركة النضال إلى ان توج کفاحهم باعلان 
الاستقلال . ۱ 


السيد محمد دور الدین 


.. كان موظفا كبيرا في أحد البنوك ثم ظهر فجأة وانخرط في الأحزاب الاتحادية 
وكان اكبر داعية للاندماج مع مصر ويؤمن به ايمانه بالله وبنفسه وحاول عبثا في لقاءاته 
السياسية الجماهيرية ان يعد الطوارىء (والبلدوزرات) ليهد الحائط الكبير الذي يفصل 
بين السودان ومصر حتى يتم الاندماج التام وقد كان موضع ثقة المسؤولين المصريين 
وفي مقدمتهم الصاغ صلاح سالم مما يسر له الملايين التي كان يصرفها للدعوة 
الاندماجية ولكن يبدو انه بعد جهاده المرير واصراره الشدید عجز عن تحطيم الحائط 
السميك بين مصر والسودان والذي كان فيما يبدو جامدا كأبي الهول قويا كالهرم وليس 
لينا وهسًا كما كان يعتقد نور الدين . 

كان نور الدين يسكن في أعظم وأفخم منزل في الخرطوم ؛ لزوم الزعامة والدعاية. 
ظهر فيما بعد ان مصر هي التي استأجرته له حتى يستقبل فيه اعضاء الوفود القادمة 
من الاقليم والذين يتأثرون الى حد كبير بالمظهر » والدليل على ذلك انه عندما اخلاه بعد 
«فوران » الانتخابات » احتله من بعده اللواء محمود سيف اليزل خليفة أول سفير مصري 


۶:۱ 


في السودان . السيد محمد نور الدين كان امينا وعفيفا وطاهرا وبسيطاء ولو اراد الثراء 
الحرام لامتدت يده لتلهف ولو جزءا يسيرا من حقيبة الصاغ وفي ذلك الكفاية ليضمن له 
حياة رغدة غير ان المجاهد نور الدين الذي كان اول وزير للاشغال في حكومة الوطن 
الاتحادي هاجمته يوما ما لأنه بنى في منزله الحكومي غرفة اضافية » فما كان منه الا ان 
سدد تكاليفها إلى وزارته في صمت وبلا ضوضاء . 

مات نور الدين فقيرا معدما ولم يترك من بعده منزلا ليرهن» انما شيع جثمانه 
الطاهر من منزل ابنه في الاحياء الشعبية بالخرطوم بحري في موكب كبير يليق بمكانته 
رحمه الله رحمة واسعة فقد كان امينا ومخلصا ومؤمنا . 


.. كان محاسبا في مصلحة المالية ولكنه كان من المثقفين المطلعين يوم ان كان 
الشباب المتحمس والتعطش للمعرفة يلجأ إلى الاندية والجمعيات الادبية والثقافية عندما 
كانت الادارة البريطانية المستعمرة تخنق الانفاس وتمنع اي تحرك سياسي . كانت شلته 
من اشهر واعمر السّلات الثقافية في «حي ابوروف » بام درمان وعندما ظهر مؤتمر 
الخريجين يدعو لفتح الدارس الاهلية لیتزود السودانيون بنور العلم والمعرفة لان 
الدارس كانت شحيحة جدا لا تفي بالحاجة الرجوة نشط السيد خضر نشاطا ملحوظا 
ومقدرا حين اشرف اشرافا كاملا مع لجنته على المدرسة الاهلية بام درمان - مواجهة 
منزل الزعيم الازهري - التي تخرج فيها نخبة ممتازة نشطه اسهمت في الحياة الثقافية 
والسياسية فيما بعد . قضى السيد خضر فترة طويلة من حياته موظفا كبيرا في الجامعة 
العربية بالقاهرة بعد استقالته من حكومة السودان بسبب نشاطه السياسي والثقافي ثم 
عاد ودخل المعترك السياسي . من ابرز اشعاره «نشيد المؤتمر » الذي كان يتغنى به 
التلاميذ في كل انحاء البلاد كما تغنى به الشارع السوداني حتى صار نشيدا وطنيا 
وقوميا واصبحت له ذكرى عطرة في نفس السودانيين جميعا . 

.. عندما انشدته مجموعة من الطلبة والطالبات في القصر الجمهوري بمناسبة اليوبيل 
القضي لذكرى الاستقلال ١58١‏ اجهش الكثيرون من الحاضرين بالبكاء الحار لانه كان 
يمثل بالنسبة لهم ايام الشباب الحلوة العطرة بكفاحها المرير من اجل حياة العزة 
والكرامة والاستقلال وهذه مقتطفات من ذلك النشيد » من يدري فلعلها تثير في نفوس 
القراء السودانيين الذكريات العطرة : 


للعلا ... للعلا وابعک وا مجمدن ا الافلا 
واطلبوا لعلاه الاي دح eco‏ للعلا 


امه اصلمها للع رب دينها خير دين يحب 


۶ ۷ 


عه ان ل سس فة تفققا غبار الستييين 
ومضينا بعزم مكين لنعيد فخار الجدود 
نحن في الجلى اود وبذا المؤتمر للمعالي يسود ... للعلا 
عند ظهور الاحزاب السودانية انخرط السيد خضر في حزب الاتحاديين الذي كان 
يراسه السيد حماد توفيق وكان معظم مؤسسيه واعضائه من شلة « حي ابوروف » عبدالله 
ميرغني وابراهيم عثمان اسحق وابراهيم يوسف سليمان «عضو مجلس سيادة سابقا ».. 
والتوأمين حسين وحسن الكد وغيرهم لكن في النهاية كان حزبهم من بين الأحزاب 
الوحدوية التي اندمجت في مؤتمر القاهرة في الوطني الاتحادي برئاسة الزعيم 
الازهري .. كان السيد خضر سكرتيرا للحزب المندمج لفترة من الزمن واصبح وزيرا 
للري في اول حكومة وطنية برئاسة الازهري . 
كان السيد خضر يميل إلى الانطوائية رغم انه مواظب ودؤوب ومجتهد لكنه لم يكن 
ذا اثر كبير وفعال في المعترك السياسي . وقد كان يميل إلى اللين والمسالمة ولا يحب 
العنف السياسي والدخول في متاهاته ومضاره ‏ لم يتزوج ومات وهو في عقده السادس 
تاركا وراءه ذخيرة حية من الادب ومؤلفاته قيمة تزخر بها المكتبات السودانية . 


العم السيخ ازرق 


.. قالوا ان الديمقراطية لحن عذب لانها تؤمن بحرية الفكر والقول والعقيدة ولكنها 
في بعض الاحيان قد تذهب بعيدا فتنقلب إلى فوضى وصراع شديد تماما كالحرية 
الفردية التي اذا ما تجاوزت حدودها ضايقت الاخرين وسببت لهم «فوران الدم».. 
اقول هذا لاننا حينما مارسنا الديمقراطية الليبرالية غير المحدودة انحرف بعضنا كثيرا 
عن خطها وتعاليمها » ربما كان ذلك بسبب الجهل او التخلف الفكري ٠‏ وبالرغم من ان 
الاحزاب كانت جادة ومؤمنة بالديمقراطية في اجوائها العنيفة الشحونة بالاثارة 
والانفعالات والجدية تظهر بعض «الطرافات الديمقراطية الهرجة » فتضفي نوعا من 
المرح والمسرة واحيانا الضحك الشديد المتواصل مما يخفف درجات الغليان والتوتر . 

.. بهذه المناسبة اذكر حزب «العم ازرق» وهو رجل كان معروفا جدا في الشارع 
السياسي السوداني حين وضع دستورا لحزبه الرسمي يطالب بعودة الانجليز للسودان 
وبلا شروط بدعوى ان الاحوال قد تدهورت وان السودانيين ما زالوا في حاجة الى مزيد 
من الوعي والمعرفة وان الانجليز الذين خبرناهم هم اقرب الناس إلى نفوسنا وأحق 
بمساعدتنا حتى نستطيع الوقوف على اقدامنا وعلى ارض صلبة . كان العم ازرق وهو 
ومرحا للملكة اليزابيث ببرقياته المتواصلة التي يطالبهم فيها بالعودة السريعة قبل ان 


::۸ 


تغرق السفن ٠‏ والغريب ان الملكة كانت ترد عليه احيانا ببرقيات اطرف من برقياته . ولم 
تخل صحيفة أنذاك الا وكان فيها حديث او تصريح او بیان من العم ازرق رئيس حزب 
السودان ! . 

العم 0 أصبح صديقا حميما لرجال الصحافة والقلم ومن الدهش انه كان مثقفا 
متخ نا ليق بالرغم من أنه غير متعلم ويملك مثات الحجج ليدعم بها آراءه الشوشة 
التي كثيرا ما أضحكت المجالس والنتدیات . الذي ساعد ومهد للعم ازرق إلى وسائل 
الاعلام والدعاية والظهور والانتشار هو «خفة دمه » وحلاوة حديثه وقوة منطقه وحججه 
الطويلة العريضة الثي. لن: تتؤقف ولم ۱12 

على كل حال استطاع العم أزرق بصرف النظر عما يدعو له ان يترك وراءه بصماته 
الحلوة وذكرياته العطرة التي ابهجت واسعدت الكثيرين امد الله في عمره ان كان حيا . 


اخرون 


السید / حماد توفیق اول وزير مالية في عهد الازهري كان مناضلا جسورا الا انه لم 
یظهر في الاضواء السياسية اللامعة وکانت درجات نفوذه واثاره ضئيلة . اما السید/ 
حسن عوض الله وزير داخلیه الازهري فقد مات قبل ثلاثة اشهر وکان قبل السیاسة من 
نجوم الكرة السودانیة ولاعبا کبیرا في فریق الهلال . والشیخ علي عبدالرحمن وزير 
معارف الازهري وهو اصلا من بطانه مولانا اليرغني فقد كان مقاتلا «ومقلبا » من 
الدرجة الاولی وله علاقات طيبة ووطيدة مع مصر وکان عضوا کبیرا مؤثرا ومصدر 
صراع دائم في الیدان السياسي والغریب انه ایضا مات قبل اشهر وکأنه على موعد مع 
زمیله حسن عوض الله . وهناك عدد کبیر کریم اخر كلهم ماتوا شرفاء وکرماء وفقراء 
مخلفین وراءهم بصمات بارزة وذکریات عطرة تعتبر في ذاتها ثروة خالدة باقية اکثر من 
القصور وحسابات سویسرا التي كثيرا ما یفوتها أصحابها بلا وريث ولا وکیل !! 


زعیم الجنوب 


آما الزعیم الجنوبي الرموق السید/ بوث ديو فقد كان موظفا مفمورا في الجنوب 
لکن يبدو انه کثیر القراءة والاطلاع ومن العجبین جدا بتشرشل وقلادستون البریطانیین 
فقد كان رئيس حزب الاحرار كما كان من ابرز واعظم البرلانیین السودانیین بعد 
محمد احمد محجوب ومبارك زروق والشریف حسین الهندي . كان رجلا ذكيا وخطیبا 
بارعا عرف بتأثیره القوي على مشاعر مستمعیه خاصة ممن یجیدون اللغة الانجليزية وقد 
كسب دون غيره من زعماء الجنوب صداقة العدید من الشمالیین بطیب معشره وحلاوة 


۶ ۶ ٩ 





بوث ديو برلماني من الطراز الاول 


حديثه مما اكسبه الاحترام » قضى معظم سنواته الاولی بجانب الحركة الاستقلالية ثابتا لا 
يتزحزح وعرف بعدائه الشديد لمصر والوحدويين ولكن في نهاية المطاف انتكس انتكاسة 
مريرة وخيب ظن الناس فيه عندما بدا يتقلب ويتارجح مع كل بورصة سياسية » فتارة 
يعلن الانفصال وتارة ينضم للكومنولث ومرة یداقع عن وحدة نم انفصال السمال من 
الجنوب واخيرا وهذه هي التي قضت على حياته وتاريخه السياسي اعلن الوحدة مع 
مصر شأنه في ذلك شأن بعض النواب الجنوبيين والشماليين ممن سال لعابهم ولم 
يستطيعوا مقاومة الصاغ صلاح سالم وحقائبه المنتفخة دائما وابدا .. 

جاءني السيد بوث ديو مرة في منزلي «وقد كان صديقاً حميما لي » وعلى غير العادة 
كانت زيارته لي في الساعات الاولى من الفجر ولم يمض معي اكثر من دقائق اودعني 
خلالها حقيبة قال ان بها ثلائين الف جنيه . وبعد يومين جاء واخذها وذهبت معه 
استجابة لالحاحه الشدید إلى جراج میشیل كونس فاشتری في الحال عربة شفرلیت امبالا 
جديدة وعزل من منزل المهدي بعدما استاجر منزلا له في الخرطوم اسسه اثائا فاخرا 
فقد توج بعد ذلك نفسه زعيما للجنوبيين واصبح قبلتهم بخدمه وحشمه وشرابه ومأكله 
الا ان ذلك لم يدم اكثر من شهور فقد تدهورت اسعار البورصة » وانتكس السوق ‏ كان 


2 ۰ 


له من زوجاته الثلاث حوالي العشرة صبيان وبنات اسماهم تشرشل ووندر والمهدي 
وماري وفاطمة واندروز والصديق و .. ومات بوث ديو فقيرا معدما ودون ان يسمع به 
سوى نفر ضثيل بينما كان في حياته ملىء السمع والبصر !! 

لعله من الملاحظ جدا ان معظم القادة السياسيين ممن وضعوا اللبنات الاولى لمسيرة 
الكفاح والنضال في السودان وعلى رأسهم الازهري وعبدالله خليل والمحجوب وشيخ 
المرضي ونورالدين وبوث ديو وغيرهم وغيرهم كلهم ماتوا فقراء معدمين «رغم القيل 
والقال والكلام التقال» حساباتهم في البنوك صفر وبيوتهم مرهونة لا شقق ولا حسابات 
ولا عمارات في الخارج » بل ان بعضهم ممن لا يزالون على قيد الحياة لا يملكون حتى 
مجرد عربة صغيرة لتنقلاتهم الشيء الذي لا وجود له في عالم غير عالنا اذ المعروف في 
اي بقعة من العالم ان الذي يصل إلى المقعد الوزاري مهما كان فقيرا وضثيلا وتافها . 
فانه لا يلبث ان يغتني ويقوى ويتبجح!! اعتقد انه لا حاجة بي ان اسوق الدليل 
والشواهد على القائد السياسي في السودان فقد يعربد وقد بهاتر » وقد يشتم » وقد يضرب 
وقد يكذب الا ان يده دائما وابدا عفيفة نظيفة طاهرة لا يمكن ومهما كانت دوافع 
الحاجة ان تمتد إلى المال العام او الخاص» قلب السياسي السوداني صاف وطيب وطاهر 
لا يعرف الحقد والضرر او الدسء والمرارة والكراهية . 

.. رحم الله قادتنا وزعماءنا بقدر ما قدموا واعطوا لهذا الوطن ... لقد جاهدوا 
وصبروا وصابروا حتى تحقق للسودان استقلاله ومضوا إلى ربهم راضين قانعين بما 
تركوا وخلفوا من آثار وذكرى ستظل خالدة مع الزمن . 


۶ ۱ 


# الفصل السادس والعشرون 


© مصطفى امين ... وهيكل ... وانا ! 
© إلى اي مدى امتد نفوذ هيكل !؟ 
© قصص وحكايات عن الامبراطور ! 





في اليوم الثالث لزيارتنا لتونس قام الرئيس بورقيبة بصحبة ضيفيه الكبيرين ناصر 
وبن بيللا بافتتاح مجلس بلدي (او قاعة البلدية) وعند خروجهم كنا نقف امام المدخل 
مباشرة مصطفى امين واحسان وهيكل وانا وما ان واجه بورقيبة الاستاذ هيكل حتى 
هرع او الحقيقة هرول اليه في خطوات مسرعة لا تليق بسنه ووضع يده على كتف هيكل 
وهزه هزا شدیدا قائلا ومن حوله الرئيسان ناصر وبن بيللا مشدودان مشدوهان قال 
بورقيبه : 

«الاستاذ هيكل مش كده والاً ايه » 

نه منيادة ال فیس جاب هكل 

بورقيبة : 

ديا سيدي أنا سعيد جدا بزيارتك لتونس التي كان لها نصيب الأسد من قلمك 
الموجع وياحبذا لو بقيت ضيفا علينا بعد سفر الرئيس عبدالناصر وانتهاء الاحتفالات 
حتى تتعرف علينا وتعرف كل شيء على الطبيعة وتكتب بعد ذلك حقيقة ما ترى وتسمع 
وتشاهد ...۰ وقي حركة سيطانية سريعة غريبة حرك الرئيس بورقيبة معها كتفيه ويديه 
وكل أعضاء جسده قال لهيكل ساخرا: 

ولا بلاش لانك مش حتقدر تكتب الحقيقة . نسيت انك موظف صحفي «أجير» 
يعني بياخذ مرتب وبطيع الأوامر فقط وكثيرا وبل غالبا يكتب ما لا يريد ومالا يؤمن به 
احياناً ! ! 

.. تكهرب الجو وارتعش ووجم كل الواقفين وساد صمت موحش ثقيل ويبدو ان 
الرئيس بورقيبة قد أحس به وشعر من الوجوم بان الذي بدر منه ما كان يليق به کضیف 
ناهيك عن كونه رئيسا فسارع بنفس العصبية وأخرج ساعته الفضية من جيبه وقال 
لهيكل «انا ما أقصدش شيء بس يمكن هظاري جاف شوية بحكم الرض والسن «ثم 
ناوله الساعة «ام سلسلة » قائلا : 

وعلى فمه ابتسامة كبيرة مصطنعة كابتسامة المضيفات الجویات : 

ديا استاذ هيكل خذ ساعتي التي اعتز بها هدية مني لتذكرك بي وبتونس الخضراء » 
وضحك عبدالناصر وبن بيللا ثم ضحكنا جميعا بما فينا هيكل نفسه ربما لا لأننا نريد 
الضحك فلم يكن هناك ما يدعو له ؛ ولكن لاننا فقط نريد ان نخرج من الوقف الصعب 
ونقتل لحظات الحرج والدهشة ونطرد سحابات التوتر والغضب التي دبرها وصنعها 
ونفذها بورقيبة عن رغبة وعمد وسبق اصرار! 

.. تعودت كل ما زرت القاهرة وكثيرا ما افعل ذلك ان ازور اخي وصديقي 
الاستاذ هيكل والحقيقة ان الذي شجعني على ذلك هو حرارة استقباله وحسن معاملته 
وبشاشته لي وقد كانت ابواب الاهرام المغلقة تفتح لي بعد لحظات من محادثتي الهاتفية 
معه مباشرة وفي وقت كنت اعلم فيه علم اليقين ان الوزراء من عرب ومصريين كان 


۶ ۵ ۵ 


يحتاج الواحد منهم لاسبوع بحاله لمقابلته في امبراطوريته العريضة الواسعة «دار الاهرام » 
مما جعلني اقدر حفاوته لي واهتمامه بي . 
.. سألته مرة عن استاذنا مصطفى امين عندما كان في السجن فكان رده انه لا 
يعرف عنه سينا لکن يبدو انه بخير .. ما سمعتش حاجة عنه! ! 
قلت له مرة والله يا استاذ هيكل لو عملت معروف وسعيت وتوسطت لاستاذنا الكبير 
وهو كما علمت مريض وبدأت الشيخوخة تهرول اليه بعجل قال: 
والله «ياعبدالرحمن » حاولت كثيرا لكن يبدو ان الريس واخد منه كثير على خاطره 
وكان التليفون وما اكثر تليفونات الامبراطور (أحمر وأخضر وابيض واسود) جميع 
الوان قوس قزح - كان أحدهم يقطع علينا «الدردشة » كل خمس او عشر دقائق فيرد 
هيكل : 
نعم ياريس ... حاضر ياريس ... بس انا رأيي .. طيب حاضر ياريس ثم يضع 
السماعة ويلتفت إلي من جديد .. ومن كثرة استعماله ويبدو انه كان خطا مباشرا مع 
عبدالناصر عرفت انه (التليفون الاخضر الزرعي) . 
.. كلما تحدنت معه وباختصار شدید عن استادنا الكبير مصطفى امين تعود بي 
الذاكرة إلى اعوام مضت وبالتحديد قبل تأميم الصحافة المصرية باسبوع او اسبوعين على 
الأكثر عندما كنت جالسا مع الاستاذ مصطفى امين في مكتبه بدار اخبار اليوم اطلعني 
على آخر مقال كتبه أظن في مجلة الاثنين يتوسطه رسم كاريكاتيري (لجبل او اهرام) 
لا اذكرء رسم في قمته رأسا يشبه رأس مصطفى امین بينما رسم في قاعه قزماً صغيرا 
ممسکا بفأس او (مرزبة) وكتب تحته عبارة (القزم قرقل) يحاول تحطيم الاهرام 
وروی مصطفى امین في ذلك العدد قصة ايحائية كاملة عرفها كل من حوله وكان 
الاستاذ مصطفى امين على ما اعتقد قد عرف مسبقا بان النهاية قد قربت وبعد يومين 
أو ثلاثة لا أذكر اممت الصحف المصرية . 
... ومرة من المرات العديدة المتكررة وصلت القاهرة من لندن ونزلت في فندق 
شيراتون بعد يومين فقط من مصرع وصفي التلء وكانت آثار دمائه البعثرة مازالت 
معالمها ظاهرة وواضحة في مدخل الفندق رغم المحاولات التي بذلت لازالتها وفوجئت 
انذاك بالسيد ابو القاسم هاشم عضو مجلس الثورة السودانية ووزير التخطيط آنذاك 
ينزل في نفس الفندق وعلمت انه عائد لتوه من ابوظبي بعد ان مثل السودان في احتفال 
قومي من احتفالات الامارات الكبيرة وفي صباح اليوم الثاني جاعني أبو القاسم في 
حجرتي وطلب مني بحكم علاقاتي وصدقاتي بهيكل ان اكون وسيطا بينه وبين السودان 
لازالة بعض اسباب التوتر والجفاء الذي ساد علاقاته بالسودان وفعلا قمت بالوساطة 
وقبل الاستاذ هيكل بتحفظ شدید ان يزور السودان لحضور اعياد ثورة مايو وكانت على 
الابواب وقد اقترحت عليه ان ينزل في ضيافتي . 


40٦ 


.. وما ان وصلت هذه الانباء الى الخرطوم حتى بدأ البعض ممن لم ترق لهم هذه 
الفكرة وبداوا محاربتها بطرق خفية وقبل اعياد مايو بايام جاءني ابو القاسم هاشم في 
منزلي وطلب مني (بان الحق اخوك) يقصد الاستاذ هيكل وقد علمت ان دعوة قد 
وجهت له فرفضها واحترت في ذلك وايقنت ان ثمة شيئا قد حدث في الخفاء وبعد 
يومين ركبت الطائرة وتوجهت إلى القاهرة وقابلت صديقي هيكل في نفس يوم وصول . 
وعند سؤالي واستفساري قال لي: طلب السفير السوداني مقابلتي فاذنت له وعندما 
دخل علي في مكتبي كان مظهره (لا يليق بسفير على الاطلاق) مما ازعجني واثارني 
تماما ثم وضع امامي كرت دعوة (لجنة احتفالات مايو) تدعوني للحضور وكان الكرت 
من الكروت العامة التي وزعت بالالاف مما لا يليق بي فاعدت اليه الكرت ورفضت 
الدعوة لان اتفاقي معك وقبولي للدعوة كان كافيا اذ انني اعتبرت تلك الدعوة الاخوية 
التي الححت علي في تقديمها إلى نيابة عن اصدقائك في السودان لا تحتاج الى تدعيمها 
بكرت يقدمه سفير بصورته تلك ورفض الاستاذ هيكل الحضور بدعوى ان الحركة التي 
قام بها سفير السودان لابد ان تكون مرسومة ومقصودة وكان مجرد اثارتها کافیا لرفضه 
الدعوة ووساطتي معا وهذا ما حدث بالفعل وماخططه المعارضون لها في الخرطوم 
عمر الحاج موسى ومنصور خالد وزير الخارجية . 

.. لعل كل الذين يحبون هيكل ويعشقون كتاباته وتحليلاته يقرأونها بشغف ونهم ثم 
ينتظرون في المساء صوت العرب والقاهرة وجميع موجاتها وهي تذيع كلمته الاسبوعية 
باصوات خطابية مميزة وقوية تعرف مخارج الحروف والکلمات فتشبع تطلعات ورغبات 
الكثيرين فيستمعون اليها بكل حواسهم لانها كانت والصدق يقال : تعكس أحداث الساعة 
وكل ما يجري في الخفاء والعلن وهي فوق كل هذا وذلك كانت تعبر عن أفكار وآراء 
عبدالناصر نفسه او هكذا تعتقد الغالبية العظمى في العالم العربي . 

.. ولعل من الملاحظات التي استنتجتها وتوصلت اليها عن قرب قريب ان 
عبدالناصر لم يحب بصدق بل وبانجراف كاتبا او صحفیا مثل الاستاذ هيكل. فقد وصل 
ناصر في علاقاته بهيكل حدا اودعه فيه كل اسرار قلبه الكبير بما فيه من آمال واحلام 
وبما اختزنه كذلك من احزان والام. كان الاستاذ هيكل يضع في جيبه وقلبه كل 
المفاتيح السرية لخزائن عبدالناصر . اما الكاتب الذي كان يلي هيكل مباشرة ولكن بفارق 
وفراغ طويل وعريض من الهوامش والفواصل والحسابات فلم يكن عربياء وانما كان 
اجنبيا وبريطانيا على وجه التحديد هو الستر «انتوني ناتنج » وزير الدولة البريطاني 
للشئون الخارجية الذي ارتبط بعبد الناصر روحيا لدرجة لم يتردد معها من تقديم 
استقالته بعد العدوان الثلائي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي عام ٠۹١١‏ الذي اطاح 
بايدن رئيس الوزراء البريطاني وابعده مرة واحدة والى الابد من مسرح الحياة السياسية 
نم من الحياة نقسها . 


L0% 


.. نمت وترعرعت هذه العلاقة حتى وصلت حدا من القوة والالتصاق جعلت 
عبدالناصر يستقبل صديقه الكاتب والأديب الكبير والوزير السابق انتوني ناتنج في مخدعه 
الخاص ؟ غرفة نومه (وهو بالبيجامة) واستمرت هذه العلاقة تقوى مع الزمن حتى 
سافر عبدالناصر في رحلته الاخيرة وبلا عودة ولم تمض اشهر حتى ندفق على الاسواق 
كتاب انتوني ناتنج الذي سماه (ناصر ) كان يقع في حوالي الخمسمائة صفحة وهو (في 
رأيي) من أعظم ما كتب عن عبدالناصر واسرار عبدالناصر رغم انه كان في بعض 
فقراته صريحاً وواضحا إلى درجة بعيدة لا تألفها الحساسية العربية ولم تهضمها كثير من 
العقول» على الرغم من أنها فيما يبدو لي كانت صحيحة وفي رأيي ان الاسلوب الذي 
صاغ به (ناتنج) كتابه هذا كان مشوقا للغاية ولكنه على كل حال كان أكثر وقارا 
وتهذيبا مما ذهب اليه (مايلز کوبلنج) في كتابه المثير (لعبة الامم). 

.. اذكر ان صديقي العزيز كامل زهيري الصحفي المصري المعروف كان قد ترجم 
هذا الكتاب ونشر في صحيفة (الجمهورية) وقد لاحظت انه كان يركز على كل الجوانب 
المشرقة ثم يقفز قفزا عمودياً وصاروخيا في صفحة مائة وسبع وثلاثين إلى مائتين 
وثلائین مثلا- وعندما تقابلنا أيامها بالقاهرة وأخذتنا الدردشة (قفشته) عندما أبديت له 
ملاحظاتي فقال مبتسماً: «يا سيدي هو حد غيرك عارف ولا بيقرأ زي الكتب دي ؟ .. 
بالمناسبة انت قريتوا متى وازاي؟ ده صدر بس قبل شهر !! 

قلت له : لا تنس انني قادم من لندن ولا تستغرب ان قلت لك انني اشتريته وقراته 
طازجاً (ويادوبك طالع من الفرن) . 

.. اعود للحديث عن الاخ العزيز هيكل فهو حلو وطويل ولعلي بذلك اسبع كثيرا 
من محبيه وعشاقه لمن قراوا له كثيرا جدا جداء ولم يقراوا عنه سيئًا على الاطلاق 
فارجو من اخي الصحفي وزميل المهنة المقدسة هيكل ان يستميحني العذر وانا اكتب 
عنه بل ويغفر لي ان اخفقت او قصرت في حقه او تجنيت عليه وهذا مالم ولن اقصده. 
وانني لعلى يقين بأن هيكل الذي سلخ جزء كبيرا من عمره في مهنة (النكد) او ان 
سئت فقل مهنة السعادة وكتب الكثير والكثير عن الاخرين لن يضيره او يثيره ان كتبت 
فيه مالم يعرف ويقرأ عنه من قبل! 

.. الاخ العزيز هيكل عندما كنا سويا في جامعة كولومبيا عام ۰۱۹7۰ انقطع فجأة 
وبلا انذار ولا مقدمات عن الدراسة وعلمت فيما بعد من الاستاد قاسم جودة انه عاد مع 
الرئيس عبدالناصر في طائرته واخذت على خاطري لانه لم يحفل بوداعي رغم انه كان 
يسكن طيلة الوقت الذي قضاه معنا في الغرفة الملاصقة لغرفتي في مبنى كبار الزوار 
والاساتذة الزائرين الملحقين بجامعة كولومبيا غير ان حيرتي لم تدم طويلا عندما 
استدعاني العميد الستر منتوغمري في مكتبه وقال لي : 

١‏ .. هل تعرف ان صاحبك هيكل غضب علي كثيرا جدا إلى درجة تشاجرنا فيها 


0۸ 


وأوشكنا ان نقطع كل حبال الصداقة والزمالة!؟ هل تعرف ان كل الذي حدث كان 
بسبب اختياري لك للندوة التلفزيونية الكبيرة في بانوراما عن المشكلة الافريقية ؟ ومضى 
العميد يقول: لقد حاول مستر هيكل أن يعطيني درسا لكنني اوقفته عند حده وأكدت 
له أن اختيار صحفي افريقي للمشاركة في ذلك البرنامج هو من حقي وحدى فكلكم في 
نظري هنا تلاميذي ولا تنس ان الجامعة قد دفعت لكم ثمن التذاكر والاستضافة 
ومصاريف الجيب ولا يهمني بعد ذلك ان كنت أكبر صحفي في الشرق الاوسط او أقرب 
مستشار للرئيس عبدالناصر او حتى ایزنهاور - فاذا عجبك هذا عجبك والا فيمكنك 
كما طلبت ان تنحسب بعد ما ترد الينا ما دفعناه لك مع تمنياتي الطيبة (وبون فویاج ) 
رحلة سعيدة . 

.. شكرت السيد العميد ولم أسأله ان كان مستر هيكل قد دفع ما عليه ولكن أغلب 
الظن انه فعل ذلك وسافر غاضبا وثائرا ومحتجا ولم افاتحه او أسأله فيما بعد لماذا ترك 
الجامعة ؟ ! 

.. الاخ العزيز هيكل يتمتع بذكاء غير محدود وفيه ومضات مشرقات تحس بها 
وتلمسها كلما «دردشت » معه رغم انك ايضا تلاحظ انه «وهو بشر » يحس بكدير من 
الغرور والاعتداد بالنفس . فمن منا لا يفعل ذلك إن وصل حدا تفرش فيه الأبسطة 
الحمراء في الكرملين ويستقبله خرتشوف عند مدخل بابه ثم يرحب به مندوبون عن 
وزارات الخارجية في كل مطار يهبط فيه ويدخلون صوالين كبار الزوار؟ 

.. من منا لا پشعر بشعوره واحساسه ان وصل درجة يقف فيها الوزراء والسفراء 
بالصف «کیو » ليختطفوا لحظة او لحظات من وقته الثمين ؟! من منا لا يواتيه هذا 
الشعور وهو الذي ظل قريبا وفريدا ومميزا ومصدر ثقة (ودلال) للرئيس جمال 
عبدالناصر اكبر وأضخم شخصية سياسية في التاريخ الحديث في العالم العربي ؟! من منا 
يخرج عن نطاق البشرية ويحطم كل المعادلات والنظريات ليصبح بعد كل هذا متواضعا 
وهينا وسهلا وضعيفا يجرجر قدميه ببطء واعياء ان كان مجرد ظهوره في سُوارع او 
فنادق بلده بل وان كان مجرد ذكر اسمه يحدث ضجه وهزة وتفاعلات وفعل ورد 
فعل!؟ 

.. من الوقائع التي مازالت عالقة بذهني انني كنت معه ذات مساء في مكتبه 
بامبراطورية دار الاهرام - ومکتبه كان يشبه كثيرا - «مكتب الرئيس الامريكي في 
البيت الابيض » وبالمناسبة فان الذي يحتله الان وبعد ما انكمش وتقلص الى مقاطعة او 
ولاية او مركز هو الاستاذ ابراهيم نافع الذي كان فيما مضى مراسلا لوكالة أنباء الشرق 
الاوسط وكان يغطي بنفسه كل أحداث الخرطوم مما جعلنا وثيقي الصلة به . تلك 
الواقعة التي هزتني وأحرجتني (وأدخلتني في اظافري) كما يقول مثلنا السوداني 
حدئت مساء يوم من الايام عندما كنت مع هيكل في الأهرام ثم نزلنا معا ليوصلني 


0۹ 


كعادته إلى الفندق . وكان يرافقه ساعتها السيد وزير الداخلية المصري انذاك ممدوح سالم 
ورئيس الوزراء فيما بعد وفتح السائق باب العربة فادخلني الاستاذ هيكل ثم دخل بعدي 
واغلق وراءه الباب ولم يجد السيد وزير الداخلية مفرا من الركوب مع «السواق» 
وهمست في اذن هيكل قائلا: «يا اخي انا محرج غاية الحرج ‏ وما تخلي السيد وزير 
الداخلية يركب معانا ... فرد علي وقد بدأ في اشعال سيجارته وأوشك (رأسه ان يخرج 
من رقبته) قال لي : (كفاية عليه كده )!! 

.. وبهذه المناسبة وحتى يتعرف القارىء العربي على الجوانب الاخرى في حياة هيكل 
كاتبهم الكبير ومدى أثره ونفوذه في بلده أروي قصة قصيرة حدئت لي في القاهرة فقد 
كان هناك سوداني قريب لي في زيارة لها وكان قد دعاني إلى حفل تكريم اعده له نفر 
كريم من اصدقائه المصريين منهم الضابط اللواء » وفيهم القاول اللیونیر ۰ وفيهم التاجر 
ومدير البنك .. و .. وما ان دخلت عليهم حتى بدأ يعرفني بهم واحدا واحدا وجلست 
وعاد الجمع يستأنف محادثاته (ودردشته) دون كبير اكتراث واهتمام بي حتى فجر 
صديقي قنبلة ما حسبت انها كبيرة وثقيلة ومزعجة وداوية الى حد اخرست فيه جميع 
الالسن وركزت على وجهي كل نظرات الحيرة وعلامات الاندهاش والانبهار ! 

.. قال لي صديقي عبدالقادر يوسف وكان اول وكيل لوزارة الشئون الاجتماعية في 
السودان بعد الاستقلال وهو الان رجل اعمال معروف .. قال في جملته الصغيرة التي 
قتلت الحياة في تلك الجلسة الصافية : 

كيف حال صديقك هيكل؟ 

.. لقد اوشك ان يصيبني الجنون والذهول عندما استدارت الرؤوس كلها نحوي 
وراحت الاسئلة تتدفق علي كالمطر ... هيكل مين ! ؟ تقصد محمد حسنين هيكل ‏ فرد 
صديقي ايوه «هيكل بتاع الجرائد بتاعكم »... ما هو انا عرفتكم بالاستاذ وما اخدتوش 
بالكم منه وهو برضو بتاع جرائد في السودان لكنه صديق شخصي لهيكل بتاعكم وزميله 
في الدراسة ؟ ! 

.. تقصد انك بتعرفو ويعرفك وبتسلم عليه ؟! ويسأل آخر هو هيكل ياحبيبي بتكلم 
ازاي وبياكل ازاي .. وبيضحك ازاي؟ وقبل ان اجيب يقول اللواء يا بختك ياعم دا انا 
نفسي امنيتي «ادردش » وياه بس فين ولا فين ولا منين؟ ! 

.. الشخص الوحيد الذي لم يتحدث ولم يشترك لا في الاسئلة ولا في الكلام هو السيد 
القاول فقد ظلت نظراته ومشاعره وأحاسيسه كلها مركزة علي كما ظلت ابتسامته تكبر 
وتعرض وتنكمش وتطول في وجهي حتى بدأت اتحسس وجهي علّني اجد فيه (شيئا 
غلط) كان فيما يبدو لي يفكر كثيرا كثيرا حتى اضمر في نفسه شيئاً هاما وكبيراً . 

.. انتهت الجلسة وكانت حلوة ... واحلوت أكثر وأكثر عندما اصبحت نجمها 
وموضوع عنايتها واهتمامها » ومصدر الهامها وتأملاتها حتى اذا ما انفض الجمع تسابقوا 


1٠٠ 


(يجرجروني) وبلا استثناء وكل يقسم اغلظ الايمان بانه هو الذي سيوصلني بعربته إلى 
«الشرتون » حتى انهم في غمرة تسابقهم » نسوا ضيفهم الاساسي الذي ظل يضحك لي انه 
الم بكل مواطن الضعف فیهم ! 

.. في الصباح ... الصباح الباكر حوالي السابعة والنصف دق جرس تليفوني في فندق 
شرتون ليبلغني موظف الاستقبال بان المقاول فلان الفلاني (صدقوني نسيت اسمه) 
يود محادنتي واندهشت كثيرا لانني لا اعرف مقاولا في مصر ولكن دهشتي لم تدم 
طويلا عندما جاعني صوت وقور يقول لي صباح الخير ياسعادة البيه ده انا محسوبك 
فلان الفلاني المقاول ياسعادة البيه! مقاول مين ياعم!؟ 

.. ده انا يا سعادة البيه اللي اتشرفت امس بمقابلتك مع سيد عبدالقادر يوسف 
وتشرفت بتوصيلك للفندق .. ده انا جيت اصبح عليك واطمثن على صحتك بس 
فاندهشت ولكنني عندما استقبلته زادت دهشتي وتضاعفت حيرتي وفقدت القدرة على 
التفکیر والترکیز بل وانشل عقلي تماما وأصبحت (کالابله) وذلك عندما قال لي : شوف 
يا سعادة البیه (وعلی طول ودخل في الوضوع مبتدثا باسم الله وبارك الله في من نفع 
واستنفع) انا عاوز منك خدمة صغيرة اوي اوي يا تعزمني معاك عند هیکل بيه بس 
اشوفه بعینیه واتعرف عليه يا اعزمکم آنا في بيتي عشان الست والعیال یفرحم « وتقول 
لو » اني صديقك وتعرفني من زمان اوي من السودان واطلب بعد کده اللي انت 
عایزو .. عینی يا سعادة البیه ماتفلاش عليك ! 

OT‏ ان یواجه الانسان مثل هذا «الاقتحام الصاروخي الغریب » الذي يشل 
كل شيء غير ان يقوم بعد ان يجمع قواه المنهارة وعقله المشتت ويمشي لحاله هذا اذا لم 
يختصر الطريق ويطرد ضيفه او يركب رأسه ويستدعي البولیس ؟! 

.. هذا ما كان من نفوذ هيكل في الشارع المصري وهو يزداد قوة ومناعة وجسارة 
اذا ما امتد ووصل دواوين الحكومة او ميادين القطاع العام.. 

.. عدت مرة في ساعة متاخرة قليلا وما ان دخلت بهو الفندق حتى ساد الهرج 
والمرج وارتفعت الصيحات والصرخات من موظفي الاستقبال وخرج المدير ونائبه 
والمراقب و .. و.. وبصوت واحد قال الجمع الغفير وهو يطوقني ويحاصرني في سكل 
حلقة دائرية محكمة: ياسعادة البيه كنت فين؟ حصل شيء ليه وقعت مصيبة ؟ ! لا كفا 
الله الشر دي سكرتيرة هيكل بيه سألت عنك وبتقول لك لما ترجع تبقى تتصل بسعادة 
هيكل بيه وبس !! 

.. وبدأت اتطلع اليهم في وجوم وعيونهم تحاول ان تنفذ إلى صدري 
وتخترق قلبي من شدتها وقوة تركيزها . 

.. «طيب شکرا» وخرجت لساعة من الزمن وعندما عدت حوالي منتصف الليل 
وطلبت مفتاح غرفتي فاجأني كبير موظفي الاستقبال قائلا وقد وضع على وجهه 


21١ 


ابتسامة حلوة ومريحة: 

١‏ .. لا يا بيه السيد المدير أمرنا بنقل عفشك لجناح كبار الزوار وحولناه خلاص 
وعلي افندي حياخذك لطرحك الجديد الفخم ان شاء الله يعجبك وبالسلامة ان شاء 
الله . 

قلت له: في لهجة لا تخلو من الحدة . 

.. يا اخي أرجوك أعطني مفتاح غرفتي وانا لم اطلب منكم تحويلي إلى جناح 
خاص او عام وان كنت اريد ذلك لفعلت بدون تدخل احد! 

« ..بس يابيه ده فخم اوي فيه حجرة استقبال كبيرة وحجرة نوم انما ايه ؛ وسفرة 
وحاجة آخر قيافة ثلیق بمقام سعادة البيه وكمان من غير فلوس خالص ... ده انت 
ضيف عزيز عندنا!! عند «الشرتون » اللي اتشرف بسعادتك! ! 

.. كان لا بد لي من ان اقضي ليلتي تلك في جناح كبار الزوار لان موظفي 
الاستقبال رفضوا رفضا باتا وملحا ان يعيدوني الى حجرتي المسكينة بدعوى ان هذه 
هي اوامر البيه مدير الشیراتون الذي خرج وانهم لن يخالفوها حتى لا يفقدوا وظائفهم . 

.. الهم تحولت وبالقوة في اليوم الثاني ورغم اصرار والحاح السيد المدير الذي فعل 
كل ذلك وبطريقة عفوية لعبت فيها الحالة النفسية والتاثیر الغنطيسي المكهرب بسبب 
محادثة تليفونية لا من هيكل ذاته وانما من سكرتيرته فقط! تحولت جریا وخوفا من 
الجناح الرهيب خصوصا عندما علمت مؤخرا أن السيد رئيس الوزراء الاردني الذي 
صرع بالرصاص في بهو الفندق كان يسكن فيه .. ومرة في جلسة جمعتني بعدد من 
«البهوات » سالتهم بالله ان یبحنوا لي عن سقة اشتریها من احدهم إلى ان صرخ قائلا : 
ياعالم دي سكرتيرة هيكل بالتلفون تجبلك عمارة بحالها. اما اذا فتح هيكل 
بيه تلفون حيجبلك المريديان او قصر .. 

.. هذا هو التأثير (الالكتروني ) المباشر عندما ينفذ إلى العقول الباطنية والنفوس 
المخدرة فسرعان ما تشعر بالهيبة او الخوف وبالرهبة من الشخص او سبح الشخص 
السحري المؤثر عندما يصل إلى هذا الحد العظيم من القوة والنفوذ والسيطرة كما وصل 
الاستاذ هيكل وقد يكون في عدم ظهوره وقلة اصدقائه وابتعاده عن الناس والحفلات 
التي كثيرا ما تجر الى القيل والقال من اسباب قوته» فهيكل رجل صعب لا يمكن 
معاشرته ومصادقته بسهوله » وبالرغم من انني مؤمن بان الاخ هيكل لم يستغل جبروته 
وعمله في بلاده استغلالا يعيبه او يسىء اليه او بخدش سمعته وکرامته » الا ان ردود 
الفعل على نفسيته كانت كبيرة ومونرة إلى درجة زادت عن عمره عشرين سنة عندما 
اعتقل ولاول مرة في حياته في اواخر ايام السادات ؛ ولعل ذلك قد اثر على نفسيته كثيرا 
جدا الى الحد الذي بدأ يوضح ويبرز بطريق مباشر وغير مباشر في بعض كتاباته 
والشيء الذي كذلك احسست به في طريقة كلامه وتصرفاته لان هيكل الذي تعود ان 


1۲ 


يضبط حسابانه جيدا ويخطو بحذر ويكتب بدقة متناهية ويتحدث كذلك بالیزان ؛ لم 
يضع ابدا في دفاتره لا في الهوامش ولا في اطراف الهوامش ان قوة في الارض مهما 
كانت وكبرت تستطيع ان تمد يدها اليه ناهيك عن ان تعتقله وتضعه في السجن!! 

.. لاحظت كل ذلك في اللقاء الاخير بعد يوم واحد من الافراج عنه فقد وصلتني 
رسالة خاصة من صديق عزيز من القاهرة تبشرني باحتمال اطلاق سراحه خلال ايام . 
ولا كنت اثق جدا في صاحب الرسالة فقد أعددت حقائبي وتوجهت فورا إلى القاهرة 
لأكون اول مهنئيه ومستقبليه خاصة وقد اهتم باعتقاله عدد كبير من قرائه في الخرطوم 
وبعثوا البرقيات للقاهرة محتجين ومطالبين بالافراج عنه وعن جميع الكتاب 
والصحفيين والادباء الاخرین . 

.. قمت عندما تم اعتقاله بمحاولات اتصلت فيها بعدد من أصدقائي المسئولين في 
الخرطوم ودول عربية وافريقية اخرى كثيرة للتوسط اولا لدى الرئيس انور السادات ثم 
لدى الرئيس حسني مبارك ولكن معظمها كانت فاشلة لاسباب لم تذكر لي ولم اسأل 
عنها . 

.. بعد ثلائة ايام من وصولي القاهرة اذيعت انباء الافراج عن المعتقلين السياسيين 
ومن بينهم الاستاذ هيكل وفي العاشرة من صباح اليوم الثاني قمت بزيارته في داره 
فاحتضنني بحنان مبديا شكره العميق على الزيارة خاصة عندما عرف انها بغرض تهنئته 
ولم امكث معه اكثر من خمس دقائق لان شقته كانت خالية من اي اثاث وعلمت انهم 
بصدد تجديدها ثم دعاني إلى فندق المريديان الذي كان يسكن فيه بسكل مؤقت وحتى 
يكتمل اعداد سقته . 

.. وف منتصف نهار اليوم التالي استقبلني في الفندق هاشا باشا يسأل عن اخبار 
السودان (وبدأت الدردشة) وانا ارقب في نوع من الأسي كل معالم الشيخوخة التي 
هجمت عليه فجاة وبشدة وقوة حتى بدا لي وكانه زاد سنوات كثيرة من عمر الزمن 
قلت له وقد اعتدت ان استشيره عند الضرورة : 

..يا اخي لدي عرضان من صحيفتين لم اسمهما له بان اصدر لهما ملحقا اسبوعيا 
خاصا بالسودانيين المغتربين في الخليج والسعودية وطلبت رأيه ومشورته فقال لي : طبعا 
انت اللي خسران فان جاءك العرض من «الشرق الاوسط او الحوادث » فبالطبع هم 
الرابحون . القريب انه لماح وذكي كما قلت فقد أصاب في تخمينه واحدة منهما وكان 
العرض أساسا صحيفة واحدة لا صحیفتین : 

قال لي وهو لا يضن علي برأي ولا «مشورة :. 

«شوف الصحيفة التي قبلت عرضك هذا .. قبلت اسمك لان السودانيين سواء في 
الخرطوم او الخليج او امريكا هم قراؤك انت وحدك ولا حاجة بالطبع لاي صحيفة 
تقبل عرضك ان تدعو أو تروج لك او تقوم بتعريفك فانت لا تحتاج إلى ذلك ومضى 


هيكل ينصحني قائلا : 
£1۳ 


« .. اعتقد انك اذا قمت بهذا العمل لحسابك الخاص فإنك ستكون الرابح أصلا بدلا 
من ان يقتسم احد معك هذا الربح او الجهد في اخراج اللحق وعين العقل ان تجىء إلى 
القاهرة وتفتح مكتبا بها وتصدر صحيفة خاصة بالغتربین فالطباعة والورق والمواصلات 
في القاهرة ارخص بكثير من اي مكان آخر ثم الأهم والمهم انك ستكون على (فركة 
كعب) من مصادر اخبارك وتعليقاتك في الخرطوم .. واقنعني فعلا بهذا الرأي ولكنني 
لم انفذه حتى الان .. 

.. في احدى زيارات عبدالناصر المتكررة للسودان مصطحبا معه عمالقة صحفيين » 
كان ضيف السودان البارز بالنسبة للشباب والشابات في تلك الزيارة الفنان عبدالحليم 
حافظ وفي مساء ذات يوم توجهت كالعادة اليهم في الفندق الكبير ودهشت عندما وجدت 
ما يقرب من المائة شاب وشابة كلهم من المدارس العليا والجامعات يقفون على تراس 
اللوكاندة واخذوا يصفرون ويصرخون في وجه الحلقة التي ضمت محبوبهم عبدالحليم 
حافظ ومصطفى امين وهيكل واحسان عبدالقدوس .. يصرخون باصواتهم الحلوة البريثة 
«نار .. نار ياحبيبي » وقد حزت ف نفسي كديرا لان عبدالحليم لم يكلف خاطره حتى 
مجرد الالتفاتة اليهم ناهيك عن الابتسامة وكان ذلك أول لقاء مواجهة لي بالفنان الراحل 
الذي كان مكانه في قلبي الرابع بعد ام كلثوم وعبدالوهاب وفريد الاطرش فحييته 
وانضممت إلى الحلقة ولحظتها تقدم شاب وشابان وثلاثة .. و.. نحو عبدالحليم وهم 
يحملون صورة يطلبون اليه بكل عبارات الترحيب والحب والاعجاب ان يوقع لهم على 
الصور فما كان منه الا ان «شخط » في وجوههم البريئة بين حيرتنا ودهشتنا اجمعین . 
والشباب المعجب اخذ يتقهقر واجفا حائرا فلم اتمالك اعصابي وجاءني (فوران الدم) 
السوداني فصر خت ف وجه السباب المتجمع (يلا بره... قطعوا صوره وحطموا 
اشرطته وقاطعوا افلامه ... بره .. بره ..!!) 

.. ووجم الحاضرون جميعهم لتصرفي بما فيهم بالطبع عبدالحليم وهنا قال لي 
استأذنا مصطفى امین ايه ده يا سي عبدالرحمن ما يصحش ياأخى وانت كمان ياحليم 
بعدين وياك ونهض مصطفی امین بوداعته وسماحته وابوته ولحق (العيال) ولملم منهم 
صور عبدالحلیم واخرج قلمه واعطاه عبدالحليم » الا ان ذلك جاء متاخرا ومتاخرا جدا 
فقد ابلغ (العیال) القهورون اخوانهم واخواتهم الذین تکبدوا مشاق الرحلة بما حدث 
فانصرفوا جمیعا تارکین وراءهم صور عبدالحلیم وعبدالحلیم نفسه بعد ما احرقوا 
بناره .. نار .. نار ياحبيبي !! ومنذ ذلك التاریخ البعید لم احفل أو آهتم بوما باشرطته 
وغنائه رغم انني ترحمت عليه من کل قلبي يوم ان فارق الحياة بما فیها من عذاب 
ولهیب ونار ! 


غ21 


9 الفصل السابع والعشرون 4 


© نهاية العربدة السياسية 
© صحافتنا 2 الميزان 





نهاية العربدة السياسية 


.. كنا نعتقد ان الاحزاب السودانية قد وعت تجربة الحكم العسكري الانقلابي 
النوفمبري الذي اضاع الديمقراطية ومزق الدستور لكنها سرعان ما اجهزت على حكم 
تجمع الهيئات بعد انتخابات ديمقراطية حرة منحها الشعب عن طريقها تفويضا كاملا 
ونقه بلا حدود وبدلا من ان تأخذ العبر والدروس من الماضي البغيض ونتجه كليا إلى 
وضع تخطيطات وبرامج اصلاحية وتنمويه يعود خيرها على الجميع » وبدلا من ان 
تنصرف. في الاعداد لدستور دائم للبلاد فتقيم الحوار وتتبادل وجهات النظر إلى ما هو 
اقيم وانفع واجدی» وبدلا من ان تخترق الاقاليم والارياف لتتعرف على ماسي الناس عن 
قرب قريب ونعیش ظروفهم ومظالمهم . بدلا من كل هذا انشغلت عنهم وعن همومهم 
بنفسها وانحصرت في دائرة الذات الضيقة ثم لم تكتف بكل هذه السلبيات لكنها تمادت 
في الانسلاخ من القواعد الشعبية وتنكرت حتی للتقاليد والاصول والاخلاق 
فدارت في فلك المهاترات والسباب والشتائم وكيل الاتهامات بعضها ضد بعض بأسلوب 
غير متحضر فانحدرت بذلك إلى مستنقع الر دیله والاتحطاط فانصرف عنها الشعب 
وادار لها عنقه کلیا وظلت السفه تبعد والجقوة سعمق بين السعب والحكومة من جهه 
وبين الحكومة والصحافة من جهة اخری مما جعل الناس یضیقون ذرعا بالاحزاب بل 
وبالدیمقراطیه ذانها . 

لم یقف التدهور السياسي والحزبي عند هذا الحد فحسب وانما تعداه إلى علاقاتنا 
طابعها الارتجال والارتباك وعدم التخطيط والتنسيق مما جعلها باهتة بلا لون ولا طعم 
ومرد ذلك كله يعود في الغالب الأعم الى الصراعات الشخصية الضيقة » كما يعود بالتالي 
اما للعاطفة او الجهل او التردد او الاغراء الذي ظل يؤثر تأثيرا مباشراً وخطيرا على 

ومن منطلق سياسة الارتجال والعفوية اتفاقية الوحدة الاقتصادية بيننا وبين دول 
الجامعة العربية التي لم تدرس بوعي وعقلانية ففازت في الجمعية التأسيسية بسطحية 
شديدة ۰ لكنها على كل حال لم تر النور كما خطط لها . وقي يوم ١1‏ ابرايل ۱۹۱۹ اي 


۶: ۷ 


بعد ايام قليلة من طرحها على الجمعية التأسيسية كتبت في الصحافة حديثا مطولا تحت 
عنوان : 
وهكذا فان نعم أغلبية قلت فيه مايلي : 


© اتفاقية الوحدة الاقتصادية تغرقنا في التزامات ومتاهات لا قدرة لنا 
بها . 

© الطريفة التي عرضت بها الاتفافية على الجمعية تثير الحيرة والجدل 

© كيف يمكن ان نقرها ونحن غير متكافثين في القدرات والامكانيات ؟ 

© او تعلمون ان الاتفاقية تسد امام السودانيين كل فرص الحياة 
والانتاج ؟ 


..يا جماهير العمال في المصانع ..يا مزارعينا في الاحراش ... ايها التجار ..يا مثقفينا 
وطلابنا في المدارس والمكاتب ... ايها العاطلون والمشردون في كل مكان .. يا شعبنا 
الكادح يا اهلنا الطيبين . 

.. انتم كلكم مدعوون اليوم لمطالعة بنود انفافیه الوحدة العربية التي اسموها مجازا 
بالوحدة الاقتصادية » تعالوا معى لنناقش فصولها وبنودها بعقولنا وقلوبنا بعيدا عن 
العواطف والزالق » بعيدا عن الشعارات والناورات . بعيدا عن الدجل والسُعوذة » بعيدا 
عن كل بريق يخطف ابصارنا ويخدر احاسيسنا ويميت مشاعرنا فيعقد حركتنا ويشل 
تفكيرنا ويباعد بيننا وبين الحقائق التائهة الضائعة في دروب السياسة وسراديب الضلال . 

.. قبل ايام معدودات قدم السيد الرشيد الطاهر وزير العدل للجمعية التأسيسية 
اتفاقية الوحدة الاقتصادیه بين دول الجامعه العربیه وف دقائق معدودات كانت نعم 
اغلبية فاجيزت الاتفاقية .. واقسم جازما ان معظم النواب حكومة ومعارضة ممن قالوا 
نعم وممن قالوا لا لم یطلعوا على بنودها ولم يقرأوا سطورها لا .. لانهم جهلاء ولا 
لانهم اغبیاء . ولکن لان الطريقة الغريبة التي قدمت بها الاتفاقية والتي تدعو إلى كثير 
من الحيرة والتساول والشك هي التي باعدت بين النواب وبين الاطلاع علیها . 

.. فالاتفاقية الشار اليها على كبر شانها ومحتویانها وخطورة ابعادها ونتائجها لم 
تظهر في الجدول الاسبوعي وانما وضعت في جدول الیوم الذي وزع على صنادیق السادة 
النواب وفي نفس الیوم ایضا وبالتالي فلم نکن هناك فرصة للاطلاع وللدراسة ولم يكن 
هناك مجال للبحث والشورة مما حرم الاعضاء جمیعهم من دراسنها وقحصها 
وتمحیصها وابداء آرائهم فیها شأنها في ذلك شأن اي امر کبیر توضع له مراحل القراءة 
الاولى والثانية ومرحلة اللجنة ثم القراءة الثالثة حتی یستوفی البحث . 


71۸ 


نعم أغلبية 
.. قلت لم يعلن عن هذه الاتفاقية كبيرة الشأن الا يوم تقديمها للجمعية فلم يعرها 
النواب مجرد الالتفاتة بدليل قلة عدد الحاضرين فهل قدمت للجمعية كأية اتفاقية 
خطوط الطيران وأصوات الشكر والثناء عمدا وباصرار مسبق ومسبب حتى تمر هكذا 
بلا مناقشة وبلا دراسة وبنعم اغلبية ؟ 
.. وهنا ونحن نسير في دروب الحيرة والضياع من حقنا ان نتساءل اين كانت 
المعارضة التي ملأت الدنيا ضجيجا وعجيجا في ما لا ينفع الناس ؟ لعل الهرج والمرج 
اللذين صاحبا صوت الثقة نم المناورات التي تقدمت توحيد حزب الامة ثم حفلات 
الابتهاج باعلان التوحيد قد شغل المعارضة عن هذا الامر الجلل فانشغلت به وانشغل 
معها الناس .. وكانت نعم اغلبية فمرت هذه الاتفاقية الخطيرة الكبيرة ونحن في غفلة 
من امرنا اجمعين . 
خلفية الاتفاقية : 


.. هذه مقدمة كان لابد لي من سردها قبل الدخول في بحث بنود الاتقاقیه ونحن 
مجردون الا من مصالحنا العليا والان تعالوا معي لنقف على خلفية هذه الاتفاقية حتى 
نلم بابعادها التاريخية والسياسية .. فالاتفاقية الاقتصادية هذه وضعت عام ۱۹۵۷ اي 
قبل اثني عشر عاما وهي واحدة من اتفاقيات عديدة تكدست بها ادراج الجامعة العربية 
فاصبحت غذاء للفئران والحشرات والقطط .وسؤالنا الان بعيد عن رأينا في الجامعة 
العربية وما قالوا عنها قبل وبعد هزيمة يونيو .. سؤالنا هو لماذا عرضت على الجمعية 
بهذه الصورة الغريبة التي حرمت السادة النواب من حقهم في بحثها ودراستها وبالتالي 
حرمت الرأي العام السوداني صاحب الوجيعة من بحثها ودراستها ؟ 

.. لا تقولوا انها حرب يونيو فالاتفاقية الاقتصادية لا شأن لها بذلك لانها وضعت 
عام ۱۹۵۷ وهي تهدف كما نصت بنودها على تدعيم التنمية في البلدان العربية 
وتوطیدها على اسس تلائم الصلات الطبيعية والتاريخية ولم تجد من العرب من یضیع 
وقته في مجرد بحثها ناهيك عن دراستها واقرارها . 


بنود الاتفاقية 


.. یاشعبنا الكادح وأهلنا الطيبين الغافلين حتى نضع اصابعنا على الحقيقة اليكم اهم 
ما جاء في بنود اتفاقية الوحدة الاقتصادية . 


الفصل الاول 
الاهداف والوسائل 


المادة الاولى : 


تقوم بين دول الجامعة العربية وحدة اقتصادية كاملة تضمن بصورة خاصة لتلك الدول 
ولرعاياها على قدم المساواة : 

. -حرية انتقال الاشخاص ورؤوس الاموال‎ ١ 

۲ - حریه تبادل البضائع والمنتوجات الوطنية والاجنبية . 

۳ - حرية الاقامة والعمل والاستخدام وممارسة النشاط الاقتصادي . 

؛ ‏ حریه النقل والترانزیت واستعمال وسائل النفل والرافیء والطارات الدنية . 

۵ - حقوق التملك والایصاء والارث . 


الادة الثانية : 


للوصول إلى تحقیق الوحدة البينة في الادة السابقة تعمل الاطراف التعاقدة على 
الاتي : 

۱ - جعل بلادها منطقة جمركية واحدة تخضع لادارة موحدة وتوحيد التعريفة 
والتشریع والانظمة الجمركية الطبقة في كل منها . ۱ 

۲ توحید سياسة الاستیراد والتصدیر والانظمة التعلقة بها . 

۳ - توحید سياسة الاستیراد والثرانزیت . 

: - عقد الاتفاقیات التجارية واتفاقیات الدفوعات مع البلدان الاخری بصورة 
مشترکة . 

ه - تنسیق السياسة التعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة الداخلية وتوحید التشریع 
الاقتصادي بشکل يكفل لمن يعمل من رعایا البلاد التعاقدة في الزراعة والصناعة والهن 
شروطا متكافة . 

7 تنسیق تشریع العمل والضمان الاجتماعي . 

۷ - (1) تنسیق الضرائب والرسوم الحكومية والبلدية وسائر الضرائب والرسوم 
الاخری المتعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة والعقارات وتوظیف رؤوس الاموال بما 


1۷۰ 


يكفل مبدأ تكافؤ الفرص . 

(ب) تلافي ازدواج الضرائب والرسوم على المكلفين من رعايا الدول المتعاقدة . 

۸ - تنسيق السياسات النقدية والمالية والانظمة المتعلقة بها في بلدان الاطراف 
المتعاقدة تمهيداً لتوحيد النقد بها . 

. توحيد اساليب التصنيف والتبويب الاحصائية‎ ٩ 

٠‏ - اتخاذ اية اجراءات. اخرى تلزم لتحقيق الاهداف المبينة في المادتين الاولى 


والثانية . 
.. هذه يا اهلنا الطيبين بعض بنود الاتفاقية التي اسموها زورا وتضليلا بالوحدة 
الاقتصادية . 


حقوق المواطن 


.. اولا وقبل ان نناقش بنود هذه الاتفاقية في هدوء نود ان نشير في صراحة 
ووضوح بان الاتفاقية الجديدة منحت المواطنين العرب كل الحقوق التي يتمتع بها 
المواطن السوداني ولكنها لم تشر ولم تنص على احتمال اخواننا العرب للواجبات حتى 
المفروضة على المواطن السوداني ولم تشترط كذلك الاقامة المستديمة للمواطن العربي في 
حالة تملكه للارض او الزرع مما يمكن اي ثري عربي خارج السودان من شراء اكبر 
قدر من الاراضي السودانية ويحول عائده وارباحه وراسماله دون ان يسال . 

صحيح ان بلادنا في حاجة الى رأس المال الاجنبي للانشاء والتعمير لكن بالشروط 
التي يستثمر بها ولا يملك عن طريقها . 


الاضرار والفوائد 


.. والان نعود للمناقشة الهادئة الهادفة بغية الوصول إلى اضرار وفوائد هذه الاتفاقية 
فاقول: 

.. المعروف ان ميزانية جمهورية السودان تعتمد اساسا على عائدات الجمارك التي 
تعلق يعض الاحابین إل حوالي ۲۵۰ في الماثة بینما تنخفض الرسوم الجمركية فى 
بعض الاقطار العربية إلى ۱۵ في المائة » فكيف یمکن ان تکون بلادنا وهذا حالها منطقة 
جمركية واحدة نخضع لادارة موحدة ؟ 

أما فيما يختص بالتشريعات فمما لا شك فيه ان الاقطار العربية متفاوتة اقتصاديا 
ومتفاوتة في الاعتماد الاساسي الاقتصادي وفي القدرات والانتاج فكيف يمكن ان توحد 
التشريعات؟ 

.: كيف يمكن للدول العربية أن توحد سياسة الاستیراد والتصدیر والانظمة المتعلقة 
بها وتصدير البضائع المستوردة وحاجة وظروف کل بلد تختلف اختلافا جذریا ؟ 


۷۱1 


فاذا ما طبق نظام تصدير البضائع المستوردة فان السودان بموجب هذا يستورد 
بضائعه بالعملات الصعبة ثم يصدرها للدول المحتاجة ومعنى ذلك ونحن مواجهون 
بالظروف الراهنة التي يحسها كل انسان ان رصيدنا الاجنبي سينعدم في وقت وجيز . 

.. هناك بعض الاقطار تعاني صعوبات كبيرة ف رصيدها الاجنبي مما جعلها غير 
قادرة على استيراد كثير من السلع كالعربات والاسبيرات والثلاجات وادوات الكهرباء 
نكيف تكن ادا نهنا« طت شا ست .فنظق: 'الأثقافية: أن دی فا اها تعملتنا 
الصعیه ؟ 

.. ان ميزانية التنمية في بلادنا تعتمد على فائض الیزانیات فاذا كنا سنحمل ارصدتنا 
الاجنبیة هذا العبء الکبیر ثم نخفض دخولنا الجمركية حسب الاتفاقية إلى الستوی الذي 
یلائم الدول الاخری فمعنی ذلك اننا سنوقف نهائیا جمیع مشاریم التنمية اللهم الا اذا 
اعنمدنا اساسا على القروض والعونات الاجنبیه الشيء الذي لا یمکن الاعتماد عليه . 

.. ان الزراعة هي اساس التنمية في السودان وفتح ابواب الهجرة الینا مع حق التملك 
مع التفاوت الشدید بين فقر السودان وبين اغنیاء بعض الاقطار العربية یجعل ارضنا 
معرضة لخطر داهم وجلل .. ان الحکم الثنائي رغم استغلاله البشع للانسان والارض لم 
يقو على وضع تشریعات کهذه . بل وضع تشریعاً عکسیا بعدم تملك الارض لغير 
السوداني ولولا ذلك لکنا الیوم کحال جیران لنا استغل الاجانب والاستعماریون اراضیهم 
وتملکوها بنص القانون حنی یومنا هذا . 

.. ان اخشى ما اخشاه ان نحن سلمنا بحق التملك كما نصت الاتفاقية مع التفاوت 
البين الواضح بين الواطنین السودانیین الفقراء الطیبین وبين بعض انریاء العرب ان 
نکون بعد اعوام قلیلة اشبه بعرب فلسطین عندما غزاهم الیهود والصهاينة في بادیء 
الامر فاغروهم بالال ونهبوا ارضهم وشردوهم من دیارهم وذلك لانهم کانوا اقدر منهم 
مالیا واقتصادیا فرسخوا بذلك اقدامهم ومهدوا لقیام اسرائيل . 

.. ان الاتفاقية تعطي حق النملك لكل مواطن عربي ولكي اضرب مثلا للمواطنین 
لیعیشوا في داخل المأساة اقول : 

كيف یمکن للمزارعین الفقراء اصحاب القدادین القليلة والمشاريع التي ترویها 
السواقي البدائية .. 

كيف لاصحاب للامکانیات الباسة الذين یضربون الارض بارجلهم ویروونها بعرق 
جباههم ان یواجهوا في الغد اغراعات اثریاء البترول وملیونیرات البنوك العرب الشتتین 
بين الريفيرا وکان ولوزان ؟ 

هل ادرکتم ابعاد هذا الخطر الذي بهدد الارض والانسان السوداني ؟ 

هل یمکنکم يا جماهیر الزارعین ان تواجهوا هذا الخطر ؟ 

وانتم يا جماهیر العمال في کل مکان من يشك في ان السودان الحبیب مازال في 


۶:۷۳ 


ميادين الصناعة يعتبر في اولى العتبات وان مهارة العامل والمزارع السوداني مهما كانت 
درجتها فانها اذا ما قيست بمهارة العامل والمزارع العربي تعتبر ايضا في بداية الدرج ؟ 

.. كيف يكون المصير اذا ما فتحت الابواب والنافذ لمن سيكون له الارث وكل 
الحقوق الممنوحة للمواطن السوداني ؟ 

یاجماهیر العمال ... یاشعبنا الطیب . 

.. اننا الان نشکو من البطالة وقلة موارد الانتاج والرزق كما نشکو لطوب الارض من 
هجرة السودانیین والاقلیمیین إلى الخرطوم ناهيك عن هجرة جیراننا من الافارقة 
والعرب ممن قللوا دخل الواطن السوداني فيكف بالله علیکم یکون حالکم وحالنا اذا ما 
فتحنا قلوبنا الطيبة وصدورنا الحنونة للعامل اليدوي الاقوی والاقدر ؛ والعامل الزراعي 
الاقوی والاقدر والعامل الصناعي في مختلف الهن والحرف . اليس معنی ذلك ان نسد 
الطریق امام العامل السوداني ونقلل فرصه فیخرج من الیدان صفر الیدین لمن هو اقوی 
واقدر منه خاصة وهو في آوضاعه وظروفه الحالية البائسة التعسة ؟ 

۰ او تذکرون قبل سنوات قليلة الازمة العنيفة عندما غرا عدد من (السماکة) 
المصريين نیلینا في الخرطوم وتمکنوا بقدرتهم وقوتهم وتمرسهم في العمل ان بطردوا 
السمّاك السوداني لضعفه في الواجهة وعدم قدراته على التنافس . 

.. ايها العمال .. يا جماهیرنا الطيبة .. 

۰ ان النطق العروف في میادین العمل وف ميادين الانتاج هو البقاء للاقدر 
والاصلح فکیف یکون حالکم اذا فتحت الابواب والصدور كما تنص اتفاقية الوحدة 
الاقتصادیة في بلاد لا تزال بكرا فيدخلها الوافدون العرب من نجارین ومزارعین 
وحدادین ونرزیه وحلاقین وطباعین وسائقین وحفارین ثم یفزوها من جهة 
اخری رأس الال وهو الاکثر والاوفر ثم يحيط بها الاطباء والقاولون والهندسون 
والزارعون والعماریون والخططون والفنانون والراقصون والضاربون على الطبول 
والرتزقه وللجرمون واللصوص وهم الافوی والاقدر . 

.. افبعد هذا كله یمکن ان یکون امام السودانیین حتی اللصوص والنشالین منهم امل 
في النافسة الحرة للقمة العیش الجاف ناهيك عن فرص الرفاهية والسعادة والامل 
المخضر في مستقبل مشرق زاهر ؟ 


LT 


صحافتنا في الميزان 


لم تكن الاحزاب وحدها المسئولة عن ضياع الديمقراطية وانما شاركتها بعض 
الصحف غير المسئولة وبعض الصحفيين الذين نصبوا من انفسهم أنصاف آلة مما دفعني 
يوم 1۹/۵/۱۰ وقبل انقلاب مايو بعشرين يوما فقط ان اكتب في الصحافة منذرا 
و[ 

.. ايها الناس ياقراءنا الاعزاء الاوفیاء في کل مکان .. ماذا تریدون منا .. ماذا 
تریدون من صحافتکم الیوم وغدا وبعد غد ؟ ! ونحن معشر الصحفیین ورجال القلم ماذا 
يجب ان نقدم للناس .. ماهي رسالتنا نحو الجتمع .. ثم ماذا نرید ؟! اسئلة كثيرة 
ومتشابکة خطرت لي في لحظة من لحظات التفکیر العمیق وانا اتابع ماتکتبه صحافتنا 
كلها في الاضي البعید والقریب وکان لابد لهذه الاسئلة من ان تستوقفني طویلا طویلا 
حتی اتمکن من مواجهنها رغم ما تتطلبه من شجاعة واعتراف قد یصلان درجة الرارة 

وبعد : 

.. اصبحت الصحافة السودانية تتمتع بمكانة سامية في نفوس الناس مما جعلها محل 
ثقتهم واحترامهم فوضعوها على العين والرأس والقلب وصاروا ینتنظرون صدورها مع 
مطلع کل صباح جدید بالصبر ویقبلون علیها في شهية كما یقبل الظمان على الاء وهم 
یتابعون اسطرها ویلتهمون موادها في ثقة تفوق الحدود .. 

.. من هنا كان تأثير الصحافة على الرأي العام کبیرا وخطیرا مما یضاعف 
مسئولياتها ويضع فوق اكتافها عبا ثقيلا وكبيراً لابد وأن يجعلنا نقف كثيرا ونفكر كثيرا 
في كيفية ارساء القواعد السليمة التي تقابل حاجة الصحافة اليوم وتنبني عليها صحافة 
الغد . 

.. قبل ان ابدأ عملية المواجهة والنقد الذاتي لابد من كلمة صغيرة انصف بها 
الصحافة السودانية .. والعاملين فيها نسبة للدور البارز الذي لعبته في حياة الشعب 
السوداني وما قدمته من تضحيات جسام قبل وبعد الاستقلال عندما كان ميدانها صعبا 
وعرا ومجذباً خالياً من الخضرة ولماء والوان السرات وصنوف المغريات مما جعل 
الكثيرين من المثقفين يحجمون عن دخوله والعمل فيه وعلى قلة امكانياتها أنذاك وانعدام 
اسباب الاستقرار النفسي والاقتصادي فقد استطاع العاملون فيها ان يحققوا بعرقهم 


CVE 


ودموعهم واخلاصهم وایمانهم الکنیر » حتى استطاعوا ان يفتحوا النوافذ الموصدة 
والابواب المغلقة امام التطور والتقدم الصحفي فقد اصبح ميدانه اكثر رحابة واوفر دخلا 
فارتقع توزيع الصحف من الفي نسخة قبل خمسة عشر عاما إلى خمسة وثلائین الف 
نسخه وبدات الصحف تسترعي اننباه الواطنین وعلى راسهم النقفین كما بدات هي 
نفسها تغري الجامعیین والثقفین واهل الرأي للالتحاق بها . 

.. ان التطور الذي حدث في محيط الصحافة لابد ان یقابله من الجانب الاخر تطور 
في القاهیم وفي صفوف العاملین والکتاب حتی تتمکن من مواكبة السيرة وحتی تحافظ 
على مکانتها القيادية مما يتطلب فتح الابواب والافاق امام الدماء الجديدة النظيفة ذات 
الوعي والستوی والثقافة ؟ 

.. انا شخصیا اؤمن بهذه السياسة قدر ايماني بتضحیات الکثیرین ممن ارتضوا بهذا 
الیدان یوم ان كان في الاضي مجرد عرق يتصبب من الجباه . ومرد ايماني هذا يرجع 
إلى ضرورة التسلیم بسنة التطور وفتح الابواب خوفا من ان تصیبنا نكسة او علة نعجز 
معها آنذاك عن ایجاد الدواء . 

.. ان التطور الهائل الذي حدث في میدان الصحافة حتی اصبحت ذات اثر بعید 
وکبیر وعمیق وخطیر على الجتمع السوداني بأسره لم نع له نحن معشر الصحفیین 
الوسائل والنظم التي تسایره فنصب کل منا نفسه الها صغیرا یتصرف بارادته وحده كما 
یحلو له . وکان لابد من ان ینزلق بعضنا وینحرف بعضنا الاخر فتقع من الاخطاء 
والخالقات ما یصعب تقدیرها بثمن ! 

.. لقد ظللنا العمر كله نهاجم ونهاجم » وننقد وننقد ؛ نهاجم الاحزاب ونهاجم القادة 
وننقد الحکومات والنقابات والهیئات بل وارتضی بعضنا لنفسه اسلوب التهاتر والاثارت 
والکذب والاختلاق والتضلیل والتهویش ٠»‏ بل وانحدر آخرون فنهشوا الاعراض واساعوا 
للمعتقدات وعبثوا بالفضيلة وحطموا کل معاني الثل والقیم والاخلاق وهددوا نظم 
الحکم والامن وهزوا الثقة في النفوس کل النفوس .. 

.. کل ذلك یحدث امام بصر وسمع صاحبة الجلالة الصحافة فلا تتحرك ولا تتململ 
ولا تتکلم ولا تحاسب ولا تعاقب حتی اذا ما تدخلت الحکومة وعطلت صحيفة من هذه 
الصحف تحرکنا وتململنا وتکلمنا وملانا الدنیا صراخا وضجیجا لا دفاعا ولا شفقة منا 
على الصحيفة وانما حماية للمبادیء وحفاظا على الحریات ومقاومة لقوانین التعطیل كما 
نقول وندعي . ولو كنا حقا جادین في حرصنا على الحریات والبادیء والثل .. ولو كنا 
فعلا جادین على حماية الاخلاق والفضيلة والقيم لا وقفنا منها موقف التفرجین وهي 
تذبح امام اعیننا كل صباح على قارعة الطرق !! 

.. من هنا - وکما قلت - تبرز الحاجة اللحة لحماية الجتمع من الصحافة النحرفة 
بعدما اصبحت الصحافه ككل دات انار بعیدة وکبیرة وعمیقه وخطيرة ... وحماية 


۶:۷۵ 


المجتمع كان جديرا وحريا بها ان تنبعث من واقع الصحافة ذاتها وتأتي من صفوف 
العاملين فيها قبل ان تأتي في شكل قوانين مقيدة لا تجد الحكومة مفرا من استعمالها 
وفت الضرورة القصوى مما يحدث عادة الخلاف والصدام بينها وبين اتحاد الصحافة 
والذي كثيرا ما نشعر فيه بموقف الضعف ونحن نواجه انحرافا ظاهرا وواضحا في 
صحيفة ما لا نستطيع ان ننكره او ندافع عنه » ولكننا مع ذلك نتمسك بالبادیء العامة 
حفاظا على حرية الصحافة في سكل مقاومة لقوانين التعطيل ونصر على مطالبنا بتقديم 
الصحيفة إلى المحاكمة . 

.. من هنا يتضح ان موقفنا ازاء الصحف المنحرفة لا يمكن ان يوصف بغير السلبية 
التي تصل حد التواطؤ والدفاع غير المباشر بل والتسليم المطلق بمبدأ الانحراف! ! 

.. هذا الحديث الخطير يقودنا إلى اسئلة كبيرة وكثيرة نحصرها فيما يلي : 

اولا :ما هو واجب الصحافة في حماية المجتمع من الصحف النحرفة ؟ 

انیا : ما هو واجب الدولة في حماية المجتمع من الصحف النحرفة . 

الا : هل هناك تنظیمات صحفية لحمایة الجنمع واين هي وما هي واجباتها 
واهدافها ؟ 

رابع : كيف تحارب هذه التنظیمات الصحف التي تخرج عن حدود اللياقة والادب ؟ 

.. قبل ان اجيب عن هذه الاسئلة آود اولا ان اعرف معنی الانحراف حتی نکون 
على بينة من امرنا ونحن نبحث في طریقنا عن شمعة تبدد الظلام من امامنا .. 

.. الانحراف الصحفي کلمة مطاطة ذات معان كثيرة ومتباعدة لكنني استطیع ان 
الخصها في الاتي : 

.. الارتشاء والکذب وعدم الدقة والاثارة والهاترات والتضلیل والبالفة واستغلال 
العواطف والهاب الشاعر إلى آخر هذه القائمة من الصفات المؤسفة ء والان اعود إلى 
اجابة الاسئلة الطروحة : 

اولاً: اقول نعم على الصحافة واجب کبیر في حماية الجتمع من الصحف النحرفة .. 
واقول نعم وعلى الدولة واجب کبیر كذلك لكنني اؤكد جازما ان السئولية الاول في 
توجیه الصحف وحماية الجتمع من آنامها وشرورها تقع اولا على عاتق الصحف 
وتنظیماتها ولو استطاعت الصحف ان تضع التنظیمات واللوائح التي تحقق هذه الحماية 
لتضاءلت مسئولية الدولة ولا أحوجناها الى التدخل ولا وقع بیننا خلاف ولاستطعنا 
بتعاون مشترك ان نضع الأسس السليمة لصحافة سليمة لجتمع سلیم ولکن الحقائق 
المريرة كلها تصرخ في اوجهنا وهي نديننا على ضعفنا وتفککنا واستهتارنا بالسئولية 
وعجزنا عن وضع هذه التنظیمات واللوائح التي ينبغي ان تقوم علیها ابجدیات العمل 
الصحفي . 

.. قد يسألني سائل فیقول واين اذن اتحاد الصحافة وماذا یعمل ؟ ! 


1:۷۱ 


.. فاجيبه وانا اشعر بالخجل والنقص معا وبصوت خافت هامس لا يكاد يسمع بان 
اتحاد الصحافة مجرد أسم لامع ولافتة كبيرة على جدران خرابة تسكنها الديدان 
والحشرات وتملؤها الاقذار ! ! 

. انا عضو في اللجنة التنفيذية للاتحاد ومع ذلك فانني اقر واعترف باتني ارتضیت 
ان اعيش في هذه الخرابة اتوسد الدیدان والحشرات !! 

. اتحاد الصحافة القائم الان - والجإثم على الصدور رغم الانوف - هو اتحاد مؤقت 
كانت مهمته ان یضع الدستور الذي ینظم مهنة الصحافة ثم يحل لتجری انتخابات 
جديدة .. واتحاد الصحافة في کل زمان ومکان من واجبه ان يضع اللوائح التي تنظم 
مهنة الصحافة ورسالة الصحافة .. وسلوك الصحفي ... واتحاد الصحافة من واجبة ان 
يحمي الجتمع من الانحراف ویقدمه للمحاکمه بل ومن واجبه ان یفصل الصحفي 
النحرف ويتابع ما ينشر في الصحف ویحقق في شکاوی الناس ضد الصحف ویراقب 
سالك لضحف والصحفيين و فول فعل تخادنا شا من ذلك ؟ 

.. الخجل يطوقني والعبرة تملا حلقي وانا اجيب في صوت هامس لا . . ولا ! ! 

.. ان اتحاد الصحافة الان «ضيعة » بلا خضرة ولا نبات ولا ماء ولا حياة ولا روح 
ومع ذلك فما زلنا نتشبث بمقاعده التهالکه التي اکلتها دیدان الارض . 

.. اتحاد الصحافة رفض الانصیاع لرأي الاغلبية بضرورة اجراء الانتخابات .. اتحاد 
الصحافة لم یحقق للعاملین من الصحفیین اي مکسب او مطلب حتی انشقوا عنه 
وخرجوا عليه فکونوا نقابة بهم .. اتحاد الصحافة اصبح ملكا لفرد واحد ومعه لجنة 
وهمية وانا من بینها استمرانا جمیعا الجلوس على عروش من الخرائب .. انحاد 
الصحافة لا یجتمع الا اذا المت به محنة او تعرضت مصالحه للهزات .. اتحاد الصحافة 
فقد نقه اعضائه وانسّقوا عليه بعد ان حدنوه کنیرا وعانبوه ولاموه وطالیوه باجراء 
الانتخابات ومع ذلك فهو يلوي عنقه في کبریاء وتحد دون ان يلبي رغبات وتطلعات 
الاغلبية وفضل الجلوس على مقاعد الغرور . 

.. هذه صورة من صور محزنة كثيرة لواقعنا الالیم الذي رسمناه لصحافتنا الترنحة 
وارتضیناه لانفسنا الضعيفة ومع ذلك فنحن نهاجم ونهاجم وننقد وننقد .. نهاجم 
الاحزاب والقادة وننقد الحکومات والهیئات والافراد ولیتنا كنا أمناء فیما نقول! ! 

.. كيف يمكن لاتحاد هذا واقعه المحزن ان يحمي نفسه ناهيك عن حمايته 
للمجتمع .. اتحاد لا ترتفع نظرته إلى اكثر من اصابع قدميه .. اتحاد يرتضي لنفسه ان 
يجثم على صدور الصحفيين رغم أنوفهم ودون ان يرسم لهم ولمهنتهم الخطيرة الكبيرة 
معالم الطريق ؟ ! 

.. اتحاد الصحافة هذا الهمبول الوهمي الكبير تجري من حوله الاحداث الجسام 
صحف تهاتر وتشتم وتکذب » وصحف تبالغ وتهول وتضلل» وصحف ننهش العروض 


اع 


وتحطم التقاليد والمئل والاخلاق» وصحف مجهولة الهوية والصدر والتمویل» وصحف 
تجمع في جوفها صحفيين بلا اخلاق وبلا مثل . کل ذلك يحدث دون ان يتحرك هذا 
الهمبول الوهمي الكبير او اللافتة المزركشة التي تدعى اتحاد الصحافة .! ! 

.. كل هذا الذي ذهبت اليه .. وكل هذا الذي سطرته خطر لي في لحظة من لحظات 
التفكير والتأمل وانا اتابع ما كتبته الصحف وما اثارته من قضايا وأنباء وتعليقات خلال 
الاسابيع القليلة الماضية فكان لابد لها من ان تستوقفني طويلا لانها تثير الرأي العام بلا 
مبرر وتجعله يتخبط في حيرة بحثاً عن الحقيقة » مجرد الحقيقة الضائعة بين الصفحات 
والسطور وبين المطامع والاغراض . 

.. لقد درجت بعض الصحف ان تخلق من الحبة قبة كما قلت في الاسبوع الماضي 
واعتمدت كليا على الاثارة في نشر انبائها وفي تعليقاتها وليتها اكتفت بهذا القدر » وانما 
تعدته إلى التعجل والتسرع في احكامها وتعليقاتها قبل ان تتبين معالم الحقيقة جريا وراء 
البطولات وارضاء لبعض الفئات على حساب التقاليد والمثل والامانة الصحفية وعلى 
حساب مصالح البلاد والمواطنين . . 

.. ولئن استمرأت مجتمعاتنا هذا النوع من الاثارة حتى اصبحت الحياة لا تروق ولا 
تسیر الا بها ... ولئن الفت مجتمعاتنا اسلوب التهويل والبالفة والنقد الصارخ الجارح › 
فان مسئولیه ذلك كله تقع علينا نحن معشر الصحفيين الذين ارتضينا لانفسنا هذا 
الاسلوب دون ان نتقي الله في مهنتنا وفي مواطنينا ودون ان نحسب حساب الزمن او 
نعبا بالنتائج او نهتم بالخسائر فافسدنا عن جهل او قصد افكار الناس وجعلناهم 
ينجذبون إلى حياة الإثارة كالسكارى وماهم بسكارى . 

.. الصحيفة التي تعالج المشاكل العامة من زاويتها الشخصية ووفق مصالح معينة 
وتحت الحاح العاطفة ودون اعتبار للنتائج .. والصحيفة التي تكتب لترضي بعض 
الطبقات او الفئات او الافراد دون ان تدخل في حسابها المصلحة العامة والصحيفة التي 
تجبن عن مواجهة الحقيقة مهما كانت مريرة لحاجة في نفسها .. والصحيفة التي تتعمد 
الباس الباطل ثوب الحق او الباس الحق ثوب الباطل عن جهل او عمد » والصحيفة التي 
تستجيب للضغط او الاغراء او الارتشاء او المساومة على حساب المثل ... الصحيفة التي 
ترتضي لنفسها هذا الوضع وتسلك هذا الطريق هي صحيفة قبيحة عارية جردت نفسها 
وجسدها وروحها من كل مواضع المسئولية والامانة والشرف والطهارة .. 

.. كم من صحيفة سلكت مثل هذه المسالك الوعرة على حساب الحريات وباسم 
الديمقراطية المفترى عليها دون ان تبحث في اعماقها لتعرف بان للحريات حدودا اذا ما 
تجاوزتها وخرجت عنها انقلبت إلى فوضى وخراب ودمار ولابد ان يواجه بعنف وسّدة 
وقوة مخافة العواقب الخطيرة التي تترتب عليه . 

.. أو تذكرون كيف اعتادت بعض الصحف ان تعالج مشاكل الناس ومشاكل 


274 


البلاد ... او تذكرون كيف تكتب عن محنة الجنوب وانباء قوات الجيش والأمن ومسائل 
الاقتصاد .. او تذكرون كيف تعالج مشاكل الحدود .. ثم او تذكرون بالامس القريب 
كيف واجهنا الخلاف بين القاضي ومحكمة الاستئناف العلياء وكيف عرضنا ازمة 
المطافىء واضراب نقابة البنك الاثيوبي ؟ ! 

.. لقد ظن بعضنا ونحن نعالج هذه المشاكل الخطيرة الكبيرة ان اسلوب الاثارة 
والتحدي والتهديد والوعيد والعبارات العنيفة والنقد الجارح الهادم هو اسلوب البطولات 
او «الموضة الحديثة » للكاتب الوطني الثائر الحريص على مصالح البلاد والعباد فاستمرا 
بعضنا هذا الطريق على حساب الديمقراطية وباسم الحريات وتحت نشوة التصفيق 
وبعبارات الحمد والثناء التي يكيلها الساذجون المخدوعون بعدما خطف البرق ابصارهم 
واستسلموا لعمليات التخدير فاصبحوا ينجذبون لحملات الاثارة كالسكارى وما هم 
بسكارى! ولنا في مشكلة القضاء وازمة المطافىء واضراب البنك الاثيوبي خير دليل على 
ما نقول! 

.. لقد ثارت جمیم الصحف عندما تقدم السید وزير العدل یشکو قاضیا .. ثم ثارت 
عندما قررت محكمة الاستئناف العلیا نقل هذا القاضي .. ثم ثارت بل وصفقت عندما 
رفض القاضي قرار النقل وعندما رفض كذلك الثول امام مجلس التأدیب .. ثارت 
واارت معها الرأي العام كله بدعوی الحرص على استقلال القضاء وظلت تدبج القالات 
وتبرز صور القاضي الذي تمرد على رؤسائه ورفض الاوامر وادار عنقه متحدیا ساخرا 
لقرارات محكمة الاستثناف العلیا » وهي اکبر سلطة قضائية في البلاد فماذا كانت 
النتيجة ؟ 

.. لقد البست هذه الصحف الباطل ثوب الحق وخدعت المواطنين وضللتهم 
واسكرتهم بالعبارات والصور والمقابلات حتى اصبح القاضي الذي رفض اوامر رؤسائه في 
نظر المجتمع المخدوع بطلا وقائدا وزعيما يسار اليه بالبنان . 

.. لقد بدأت ازمة القاضي بالحیئیات التي يضعها في احكامه وقد كنا اول من اشاد 
بها ولكنه مشى بعيدا بعيدا فصدرت اليه الاوامر من سلطاته العليا ولكنه رفضها فهل 
تريدون منا ان نقره ونؤيده على الرفض وهو في جهاز حساس ؟ ! 

. لقد وجهت الصحف کل حملاتها باعتبار ان تدخلا قد مس استقلال القضاء ولو 
كان هذا الزعم صادقا وامینا لکانت محكمة الاستئناف العلیا ولکان قضاتنا في کل مکان 
اول من هب وتار لحماية القانون وصيانة القضاء ومع ذلك فما زالت بعض الصحف 
تمنح نفسها حق الولاية والوصاية حتى على القضاء والفضاة وهي بذلك نتدخل عن جهل 
او عن قصد في استقلال القضاء .. 

.. ثم جاعت ازمة قوات الطافیء وبدلا من ان تعالجها الصحافة الحلية کظاهرة 
خطيرة نهدد انظمة الضبط والربط .. وبدلا من ان تنتقد الحکومة في تباطئها في اصدار 


۶:۷۹ 


قانون لهذه القوات .. وبدلا من ان توجه المعتصمين من ابنائنا في قوات المطافىء 
وتبصرهم بخطورة عملهم .. بدلا من كل هذا لجأت لانباء الاثارة والهمز واللمز الذي لا 
يخدم قضية ولا ينفع الناس .. 

.. ثم جاءت الكارئة الاخيرة وهي اضراب نقابة موظفي البنك الاثيوبي التي تبنتها 
بعض الصحف ووقفت معها وايدتها بلا تحفظ دون ان تعرف او تحاول ان تعرف 
موضع النزاع حتى تكون على بينة من الحقيقة.فعلت ذلك لست ادري - أحبا في 
التأييد الاعمى ام سعيا وراء ارضاء النقابات ام جريا وراء الاثارة وتصفيق الساذجين . 
لم تكتف هذه الصحف بمجرد التأييد ولكنها قامت بحملة ظالمة جائرة على ادارة البنك 
الاثيوبي اثارت بها خواطر الناس بل وخلطت عن عمد او جهل بين السياسة والعمل 
وبين الحق والباطل وبين الواجب والعاطفه .. حنى ضاعت الحقيقة لبعض الوقت لا 
لكل الوقت . . ۱ 

.. كل هذه الاثارة وحملات النقد والهجوم صبت علیها الحقيقة ماء باردا وعرتها 
تماما عندما کتب رئيس وسکرتیر نقابة البنك الائيوبي اعتراقا خطیا یبدیان فيه الاسف 
عما حدث كما تعهدت النقابة تعهدات كثيرة وکانت هي الخاسرة لانها ضللت فيما يبدو 
الصحف فوقعت فريسة سهلة لها .. ولو بحثت الصحف عن الحقائق واستمعت الى 
الجانبین التخاصمین » لا وقعت فريسة لبعض النقابات التي لا تعرف واجباتها الاساسية 
ولا تبحث الا عن التأييد حتی ولو كان باطلا لا بستند على حقيقة واحدة . 

.. والله ما دفعني إلى کل هذا غير حرصي على حاضر ومستقبل الصحافة في هذا 
البلد ومصلحة البلاد والمواطنين وما اردت بهذا الذي قلته ان اهاجم احداً بعينه او 
صحيفة بعينها .. وما قصدت ان ابرىء نفسي وانصب منها ملاكا طاهرا فأنا اعترف هنا 
امام الله والزملاء والقراء بمسئوليتي التضامنية المشتركة عن كل ما يكتب ويثار في اعمدة 
الصحف » كما اعلن مسئوليتي التضامنية المشتركة عن كل انحراف او خطأ ترتكبه زميلة 
عاملة في الميدان .. فنحن اسرة واحدة ذات مسئوليات متشابكة لا يمكن ان تنفصل . . 

.. والله ما اردت بهذا الذي قلته ان انصب نفسي وصيا او خطيبا او ناصحا او 
مرشداء وانما هي انفعالات امينة عشتها بروحي ونفسي وعقلي وقلبي وحاولت جادا 
ان اضغط عليها لكن القلم سبقني وسطرها بدافع الاخلاص والاشفاق معا . 

.. يا زملاء القلم والورق والمداد ان مهنتنا لقاسية ومريرة . ورسالتنا لخطيرة وكبيرة 
فانبذوا خلافاتكم وتعالوا معا في صعيد المحبة والزمالة والواجب ننظم الصفوف ونرسم 
الطريق ونضع الاسس السليمة النظيفة لصحافة سليمة نظيفة لامة سليمة نظيفة . 

انها دعوة ما قصدت بها والله سوى الخير لنا ولهنتنا ولبلادنا ولامتنا .. 

.. وفقنا الله وطهر قلوبنا وارواحنا واقلامنا» وامدنا بنور الهداية والحكمة وانصدق 
والمعرفة ومنحنا القوة والامانة والعافية حتى نهبها بدورنا لمهنتنا المقدسة وشعبنا الوفي 
الامين . 

م 


الفصل الثامن والعشرون 


أحزابنا في الميزان 


© ديموقراطية الغرب . الطاقية التي لبسناها فغطت آذاننا وعيوننا . 
© الطائفية تستعيد مواقعها وحصونها بعد أن عاد إليها الأزهري والصادق . 
© على الواعين والمدركين أن یملاوا المقعد الشاغر !! 





؟ 


المقعد الساغر 


الصحافة ۱۷ مايو ١579‏ قبل أسبوع من الانقلاب . 

... ضاق الناس بالاستعمار وضاقوا بالحكم الوطني الأول وضاقوا بلقاء السيدين 
كما ضاقوا بالحكم الائتلافي والحكم القومي ثم ضاقوا بالحكم العسكري وضاقوا بالحكم 
الاكتوبري ذي السمات الشبوعية وضاقوا مرة ثانية وثالثة بالحكم الائتلافي والحكم القومي 
وهم يواجهون اليوم ضيقاً بلا حدود . وضيقا في كل ميدان . فلماذا كل هذا الضيق › 
ولماذا كل هذه الململة .. ولماذا كل هذه الصيحات والصرخات التي تنبعث من الصدور 
وتتبادلها الألسن والموائد وتتناقلها المدائن والقرى .. ثم أليس لكل هذا الضيق من آخر .. 
أليس له من نهاية!؟ 

© © © 

.. كل هذه الاسئلة الكبيرة لابد وقد عایشها الکثیرون » ولكن قليل من الناس ممن 
لهم إلمام وإدراك بطبيعة المسائل من استوقفتهم مرة أو مرات وألحت عليهم باحثة عن 
الإجابة » وأنا ككل مواطن يعمل في ميدان السياسة والصحافة لابد وأن تستوقفني مثل 
هذه الأسئلة وهي تلح في إصرار بحثا عن الإجابة التي تحتاج إلى مقومات كثيرة قد لا 
تتوفر لي لكنني حتما ساحاول بدافع الإيمان المجرد والاخلاص المطلق ان اجيب عليها 
مع علمي مقدماً بأن الإجابة الصريحة تحتاج لبعض الواجهة ولكثير من الشجاعة التي 
قد تصل درجة المرارة ولكن لا باس من ذلك كله إن وضعنا اصابعنا على الحقيقة او 
جانبا يسيرا منها! . 

.. قبل أن أبدأ الإجابة أريد أن أعرج قليلاً إلى موضوع الأسبوع الماضي الذي 
تحدئت فيه عن الصحافة السودانية وذلك بالنسبة للترابط والتشابه بين الموضوعين لآن 
الصحافة السودانية جزء لا يتجزأ من المجتمع السياسي الذي سأتحدث عنه اليوم وهي 
ليست إلا مرآة صادقة تعكس كل انفعال سياسي . ومن هنا فإن الانحراف الذي نلمس 
ظواهره على بعض الصحف هو في الواقع صورة مصغرة أو مجسدة للانحراف السياسي 
الذي نعيشه . فإذا ما ساورني مجرد الأمل وأنا أنقد الصحافة السودانية بأنها بقليل من 
الجهد والبذل تستطيع أن تنسلخ من المجتمع السياسي المنحرف وتلعب دورا بارزاً في 


LAY 


التوجيه والتوعية فان الأمل هذا لم يساورني ولن يساورني مطلقاً في تطهير انحرافات 
الجتمع السياسي لأنه قام أساساً على الاعوجاج والانحراف والخطأ . وليس هناك من 
سبيل لاصلاحه بعمليات الترقيع والترميم والطلاء التي لن تغير شيئا من الجوهر مهما 
كانت قوية وبراقة وبعد : 
.. أعود من جديد إلى الاسئلة المطروحة والتي تقول في اختصار شدید لماذا ضاق 
الناس بكل الأوضاع والحكومات السياسية منذ أيام الاستعمار حتى اللحظات التي 
يتفاوض فيها الحزبان الكبيران في صالات القصر الجمهوري لتدعيم الائتلاف القائم ؟ . 
© © © 
.. الحقيقة المريرة هي أن الناس .. كل الناس لا يواجهون ضيقاً بالمعنى المعروف 
وإنما يواجهون ضياعا سياسيا جعلهم يعيشون في عزلة نفسية مقيتة » وفراغ سياسي قاتل 
لا يرون من خلاله غير الفاقة والاوهام والاشباح والضباب ومع ذلك فالناس سائرون 
هائمون على وجوههم داخل سجن كبير مستدير دروبه متعرجة مليئة بالأوحال والأقذار 
وهم یحاولون بين الفينة والاخری أن يجدوا طريقهم إلى النور والهواء فلا يرون إلا 
مزیدا من الاشْباح والضباب ولا یتنفسون إلا الهواء الفاسد » ولکن التشبث بالحياة 
یجعلهم دائما یواصلون الحاولات ویجدون في البحث فینخرون الحیطان باظافرهم املا 
في (حداث كوة صغيرة یطلون من خلالها على النور والهواء! . 
© © © 
.. هذا الضيق الذي يواجهه الناس حتى أصبح يلازم بعضهم ملازمة الظل لا يعود إلى 
قصص الفساد والارتشاء والمحسوبية التي تنتقل من مائدة إلى مائدة ومن مدينة إلى 
قرية .. وليس مرده الضائقة الاقتصادية التي يشكو منها الحاكمون والمواطنون .. وليس 
من أسبابه تدهور الإنتاج والخدمات وكثرة المطالب النقابية والفئوية .. ولا انحرافات 
الحكومات والساسة ومفاسد الاحزاب والهيثات . 
وإنما الأسباب الحقيقية لهذا الضيق ترجع إلى جذور نظام الحكم والأسس التي ارتكز 
وقام عليها . فالديموقراطية التي استوردناها من وستمنستر وأشدنا عليها نظام الحكم 
هي طاقية فضفاضة لا تناسب حجم رؤوسنا ومع ذلك فقد لبسناها حتى غطت عيوننا 
وآذاننا فلم نعد نرى ولم نعد نسمع! . 
.. وديموقراطية وستمنستر التي يقوم عليها نظام الحكم في بريطانيا مرت بمراحل 
عديدة .. مراحل ثورات دموية وفكرية واجتماعية وثقافية قاربت الثلاثمائة سنة» ونحن 
في السودان استوردها لنا المستعمرون يوم مولدنا وقبل أن نبلغ سن التبصر والرشد 
فدثرونا بها «كلفافة » الأطفال نلعب تحتها بأصابعنا وأرجلنا ونتبول فيها ونبصق عليها . 
© © © 
.. ديموقراطية وستمنستر هذه تقول صوت واحد لكل واحد بينما ديموقراطيتنا هنا 


LAL 


تعطي مليون صوت لشخص واحد! . 

.. ديموقراطية وستمنستر تمنح رئيس الوزراء كل المسؤولية في اختيار وزرائه بينما 
ديموقراطيتنا تسلب رئيس الوزراء كل حقوقه!!. 

.. ديموقراطية وستمنستر تأتي بحكومة واحدة رئيسها واحد ومسؤولياتها معروفة 
ومحددة بنص القوانین» وديموقراطيتنا تأتي بحكومة وهمية مسلوبة الإرادة والقوة 
تسيرها حكومات كثيرة مسؤولياتها غير معروفة وغير محدودة!. 

.. ديموقراطية وستمنستر تمنح رئيس حزب الأغلبية الحق في تشكيل الحكومات. 
وديموقراطيتنا تاتي بزعيم الاقلية ليراس حكومة فرضت عليه رغم انفسه وإرادته ! . 

.. ديموقراطية وستمنستر تمنح رئيس الوزراء الحق في إبعاد أو فصل أي وزيرء 
وديموقراطيتنا يعجز فيها رئيس الوزراء عن الحركة والتنفس ناهيك عن فصل وزير! . 

.. ديموقراطية وستمنستر الكلمة الفاصلة فيها لنواب الشعب ‏ وديموقراطيتنا كلكم 
تعرفون من هو صاحب أو صاحبا أو أصحاب الكلمة فيها! . 

. ديموقراطية وستمنستر تتبناها أحزاب ذات مبادىء وأهداف وأفكار وتخطيط 
وبرامج ولجان تخصص ودراسات ومحاسبة» ودیموقراطیتنا تتبناها لافتات وهمية 
أطلقنا عليها اسم أحزاب! . 

.. ديموقراطية وستمنستر تمارس أحزابها الديموقراطية في أجهزتها المختلفة ويؤخذ 
الرأي فيها بالشورى ونظام الأغلبية وهي صاحبة الكلمة والجول والقول» وديموقراطيتنا 
احزابها واجهزتها كلها من برلمانية ولجان تنفيذية ومجالس قيادات .. كلها مسلوبة 
الإرادة والعافية معدومة الشخصية صوتها خافت لا يسمع وقراراتها حبر على ورق . 
وكلمتها يأخذها الريح كما يأخذ التراب من البلاط! . 

.. ديموقراطية وستمنستر يحترم فيها قادة الأحزاب رأي الناس ولا يتخذوا 
القرارات صغيرة كانت أم كبيرة إلا إذا عرضت على أجهزة الحزب المختلفة . 
وديموقراطيتنا يحتقر فيها قادة الأحزاب رأي الناس ولا يجعلون اعتباراً للأجهزة التي 
أصبحت كالزوج آخر من يعلم! . 

.. ديموقراطية وستمنستر يختلف فيها قادة الأحزاب والهيئات ولكنهم يختلفون حول 
المبادىء والأفكار فيقارعون الحجة بالحجة وديموقراطيتنا يختلف فيها القادة حول 
الکاسب الشخصية والمصالح الفئوية وتوافه الأمور وصغائرها ويلجأون في خلافهم إلى 
أسلوب المهاترات والتنابذ البغيض والاتهامات السوقية ويتفرقون ويلتقون ثم يتفرقون 
ویلتقون على غير هدى وبلا مبررات! . ش 

.. ديموقراطية وستمنستر يحترم فيها السياسي كرامته وشخصینه ومبادئه وافكاره 
ويستقيل إذا ما تعرضت للخدش وديموقراطيتنا يعمل فیها. السياسي بلا خلق ولا كرامة 
وإذا ما تعرضت مصالحه الخاصة أو مصالح أسرته إلى أضرار أو أحس باهتزاز المقعد 


10 


تحت صلبه قبض عليه بفمه وأسنانه وانحنى أمام الأسياد بعد أن خلع حذاءه وقبل 
الأيدي والأرجل طمعا في الرضى ! 

.. ديموقراطية وستمنستر تأتي بحكومة متجانسة متعاونة مسؤوليتها تضامنية 
مشتركة وديموقراطيتنا تأتي بحكومة آشبه بالرارة لا يحميها شيء غير الصلحة والنفعة 
فينصب كل وزير من نفسه إلها على وزارته فيصول ويجول فيها بلا حسيب ولا رقيب 
يعبث فيها كما شاء له العبث . 

ديموقراطية وستمنستر تأتي بحكومة سياستها الداخلية والخارجية واحدة لأنها 
مدروسة ومحددة » وديموقراطيتنا تأتي بحكومة باهتة مجهولة الهوية داخلها حكومات 
وحكومات . 

.. أو تذكرون يوم أن أدان السيد رئيس الوزراء الغزو التشيكوسلوفاكي وجاء نائبه 
في اليوم الثاني يؤيد الغزو ويعلن للعالم بأن تصريح رئيس الوزراء لا يمثل الا نفسه وأنه 
سيتعرض للمحاسبة عند عودته من الجزائر ! ؟ . 

.. هل تعلمون بأن هذا التصريح نسف قرضا بثلائة ملايين جنيه كانت إحدى 
الحكومات قد اعتمدته للسودان ولكنها عادت وأوقفته لأن السودان لم تعد هويته 
معروفة ! ؟ 

© © © 

.. تلك هي القاعدة التي يقوم عليها نظام الحكم في ديموقراطية وستمنستر وهذه 
هي القاعدة التي يقوم عليها نظام الحكم في ديموقراطية السودان وشتان ما بين 
الديموقراطية عندهم والديموقراطية عندنا إن جاز لنا أن نسميها ديموقراطية . ومن هنا 
كان لابد أن ينبعث الضياع ويتزايد مع مرور الزمن متخذا ألف لون وشكل وصنف!! . 

.. ومن هنا كان لابد للنظام كله ان یترنح ويتارجح تحدث اللغرات التي تتفرع 
منها كل المساوىء والمفاسد والأخطاء التي تمتد وتزحف كالسرطان إلى جميع أجهزة 
الحكم فتنبعث من الناس صيحات الوجع والأنين والضيق والالام وترتفع الأكف إلى 
الوجود لتزيل من العيون اسباح الحيرة والضباب وسحائب الخوف والقلق وتبدا الاظافر 
داخل السجن الكبير المغلق تنخر الحيطان بحثا عن النور والهواء! . 

.. إذن ما العمل .. وما هي الحلول .. وما هو البديل للنظام الديموقراطي الراهن 
الذي ضاق الناس به!؟ . 

© © © 

.. هذا هو السؤال الكبير الذي ظل يحلق فوق الرژوس بحناً عن إجابةء بل هو 
السؤال الكبير الذي ينبغي أن يطرح ويناقش في أوساطنا ومجتمعاتنا المختلفة بدلاً من 
ضياع الزمن والجهد في الحديث عن قصص الفاسد والانحرافات والارتشاء وأحاجي 
التزوير والتراخيص و .. و ..! 


281 


.. والحقيقة الأولى التي يجب أن بنطلق منها نقاشنا هي أن الطائفية في بلادنا ما 
زالت قوية ومسيطرة رغم الهزات التي أصابتها إبان عنفوانها وشدنها بوم أن خرج عليها 
السيد الأزهري وتبعته الغالبية العظمی من المثقفين والمستنبرين في أوساط الموظفين 
والعمال والطلبة . والطائفية مازالت قوية ومسبطرة رغم الهزات التي أصابتها. يوم أن 
خرج عليها السيد الصادق المهدي وتبعه العديد من أنصاره ومن أوساط الثقفین 
والمستنيرين معاًء ولكن خروج الأزهري والصادق كان مرهوناً فيما ببدو بزمان محدد 
ومصالح معينة ما إن لاحت تباشيرها في السماء وألحت الحاجة إليها حتى عادا من 
حيث جاءا! فأوصدا بذلك المنافذ والأبواب أمام «آمال الأمة » في نظام ينبع من تطلعات 
الناس ورغباتهم في حياة تقوم على العدالة والمساواة والرأي والمشورة . ليس هذا مجالا 
للحديث أو خلق المبررات التي عاد بها الأزهري والصادق من حيث جاء!! ولكن النتبجة 
هي أن الطائفية ازدادت بقوتهما قوة وسبطرة وأصبحت يدها قوبة وكلمتها نافذة 
وبدأت تستعيد مواقعها القديمة في الثلاثينات عندما كان بتزعمها السيدان الجليلان 
المغفور لهما عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني .. ولست في حاجة إلى أن أضع مقارنة 
بين العهدين لانعدام أوجه القارنة » لكنني أستطيع أن أتبين ملامح الخطر والطائفية 
تستعيد مواقعها وحصونها ونفوذها وأسلحتها تحت قبادتبن مهما بالغنا في احترامهما 
فإنهما لن تصلا إلى مكانتي سلفيهما العظيمين مما يجعل ملامح الخطر بارزة وواضحة 
لكل ذي عقل وبصيرة . 

۰ ۰ ۰ 

.. من هنا يتضح لنا أن هناك مقعداً شاغراً لابد من ملله حتی پحفظ التوازن 
السياسي الذي انعدم بعد اندماج الوطني الانحادي في الشعب الدپموقراطي والتثام 
جناحي حزب الامة . آما كيف بملأ هذا القعد الخالي ومتی ؛ فهذا ما پجناج إلى نفاکر 
جاد وبحث واع ودراسات مستفيضة بقوم بها الدرکون من داخل وخارج الأحزاب ممن 
یلمسون بأصابعهم ویحسون بمشامرهم بضرورة خلق هذا التوازن السياسي حفاظاً على 
مستقبل الدیموفراطية في هذا البلد . 

.. هنا وعندما آفکر بعقلي في دور الثقفین تصيبني خيبة الأمل بل وبطوقني 
الخوف وأشعر بکثیر من الدوار؛ ذلك لأن بعض الثقفین ولا أقول جمبعهم استسلموا 
لرض السلبية والنرجسية واستمرآوا الحدیث والنقاش حول الموائد ومع ذلك فانني 
عندما أعود بالذاکرة أعواماً إلى الوراء يوم أن التف الثقفون حول مؤتمر الخريجين 
الذي لعب دور بارزا في حباة السودان وشق طربقه الوعر وسط النفوذ الطائفي حتى 
أدرك بر السلامة والامان .. عندما أذكر هذا يرتد إلى قلبي الأمل في محاولة جديدة 
تجمع الثقفین والواعين على مصلحة البلاد لملى* المقعد الشاغر ! 

.. أما بعض الثقفین الذين ينتمون إلى الأحزاب ولا أقول جميعهم فلا امل يرجى 


LAY 


منهم لأنهم . استمرأوا حياة النفاق وأساليب التزلف والقربى مما جردهم من كل فضيلة 
وخلق فأصبح كل همهم إرضاء سادتهم وو لأوامرهم وتنفيذ رغباتهم حتى ولو 
على حساب المصلحة العامة التي لا يعرفون أين هي وأين تكون! . 

.. هؤلاء لا أمل فيهم لأنهم جردوا أنفسهم من كل سيف وقلم ولسان وأصبحوا تبعا 
لا يقوون على المواجهة ولا يقدرون على الحرکة ولا يعرفون غير الانحناء وكلمة 
نعم ! . ۱ 

.. قلت : إننا نحس بحاجتنا إلى ملیء القعد الخالي بعد أن استعادت الطائفية 
مواقع سلطانها ونفوذها وعلی الرغم من أن الطریق شاق ووعر وطویل الا أن الضرورة 
تحتم على کل واع ومدرك ومنقف في هذا البلد أن يبدأ السیرة حتی يدرك الهدف وان 
كانت الظروف اللتهبة التي تواجهنا الان قد تدفع بهذا الاتجاه خطوات كثيرة وکبيرة في 
سبیل إدراكه وتحقيقه ! 

.. والان اعود إلى الدیموقراطية هل ضاق الناس بها ولاذا ؟ . 

6 6 6 

.. إن الدیموقراطية في حد ذاتها وتعالیمها لا غنی لنا عنها وقد بذلنا في سبیل 
إعادتها وارساء قواعدها الکثیر من العرق والدموع والکفاح» لکنها قطعاً بالصورة الراهنة 
وتحت الأوضاع الراهنة لا يمكن أن تحقق لنا الغاية النشودة لانها لاشك تحتاج إلى 
تعدیل جذري يتم بالبحث والتشاور وحملات التوعية حتی تنبع من واقعنا وأصلنا زمن 
عاداتنا وتقالیدنا . ذلك أيضا يحتاج إلى التضحية لکن الهم الا نكف عن الحاولات أو 
نضعف آمام اليأس والاستسلام! . 

۰ والان بودي ان اعبر بكم الاعوام عاما بعد عام منذ ان خرج الاستعمار من 
بلادنا إلى اللحظات التي يتفاوض فيها الحزبان الكبيران في القصر الجمهوري لوضع 
الأسس التي يقوم عليها الحكم الائتلافي ‏ الا أنني لا أريد أن أضيع الزمن في سرد هذه 
المراحل السياسية التي ضاق بها الناس والتي يمكن لكل سوداني متتبع للأحداث أن 
يستعرضها من الذاكرة في شريط لا يتجاوز بضع دقائق» ولكنني أريد أن أستخلص 
عصارة الأوضاع السياسية والنظم التي سرنا عليها عبر الأعوام ونحن في حالة الململة أو 
المخاض التي نعاني منها الآن!! . 


LAR 


هبوط إل الفاع 
العد التنازلي للديموقراطية «1 ۱ 

© الشريف حسین بهدد بنسف الائتلاف وبعد أسبوع نسف کل شيء حتی 
السودان . 

© مادا قال الصادق للصحافة قبل الانقلاب بساعات ! ؟ 

لعل .. الصورة الضغوطة التي عرضتها عن التدهور الستمر في السرح السياسي 
بسبب الخلاف المؤسف الذي وقع بين الحزبین المؤتلفين الحاکمین الحزب الاتحادي 
الديموقراطي وحزب الامة والذي وصل إلى طریق مسدود يحتاج مني إلى مزید من 
إلقاء الضوء علیهما . وذلك من خلال التصریحات التبادلة والتي آمل أن یکمل القاریء 
بعد فراع تصوزه ونحن على :يعد خطوات من وفوع الفارعة .. فيي يوم ۱۸ مایو 
۹ نشرت جريدة «الصحافة » تصريحاً للشريف حسين. اتهم فيه حزب الأمة بأنه 
يخطط لاحلال الاستعمار الحديث مكان الاستعمار القديم وأكد بأن الأسبوع القادم 
سيشهد نهاية الائتلاف وأن حزبه الاتحادي الديموقراطي يقف ضد الاقطاع ويؤيد 
الدستور الاسلامي والاشتراكية وقال : إنهم سيقفون ضد الإقطاعيين واصحاب القصور 
والسرایات وصرح الرشید الطاهر وکان من آبرز رجالات العهد بأن الخلاف بين 
جناحي حزب الامة (الهادي والصادق) لم يكن بسبب آفکار سياسية أو للمصلحة العامة 
وان محاولات التوحید والتوفیق بینهما قد تمت بوحي خارجي ومن جهات ظلت 
تستخدم حزب الامة لتحقیق مصالحها . 

نواصل «حوامتنا » ومسیرتنا في دهالیز الحکم والأحزاب في تلك الظروف الصعبة 
ومن خلال ها إيقوله: الزغماة والقادة :ونخن قبل يوم :واد من وقوع الكارتة سرت 
الصحافة في يوم ۲۶ مايو ١514‏ بان الهيئة البرلمانية للحزب الاتحادي الديموقراطي في 
اجتماعها أمس الأول قد وجهت نقدا عنيفاً لقيادة الحزب (الاشارة هنا للأزهري) 
لاتفاقها مع قيادة حزب الأمة في اجتماعات القمة بين الحزبين على تحديد جدول زمني 
وإجراء استفتاء حول الدستور وقالت الهيئة : إن الدستور المؤقت لم ينص على ذلك وأن 
الجمعية لم تتخذ قرارا بالجدول الزمني أو الاستفتاء وأوضحت الهيئة صعوبة إجراء 
الاستفتاء في بلد كالسودان وان الجدول الزمني ينطوي على صعوبات كثيرة واكدت 


1: 


الهيثة حرصها على إجازة الدستور وذلك بمواظبة أعضاء الحزب على حضور اجتماعات 
لجنة الدستور . 

© .. وف يوم ۲۲ مايو ١١74‏ نشرث الصحافة تحت عنوان «أربع نقاط في أجندة 
اللجنة الرباعية مع الاحزاب الجنوبية » جاء فيه : 

علمت «الصحافة ؛آن اللجنة النتدبة من الحزبين المؤتلفين لمقابلة الأحزاب الجنوبية قد 
اتصلت بهم مساء أمس الأول وقد ضم الاجتماع السادة علي عبد الرحمن والصادق 
المهدي والدكثور توبى مادوت والدكتور عبد الحميد صالح وأبيل الير والفريد برجوك 
وقد اتفق الجانبان على وضع أجندة للاجتماع الذي سيعقد يوم الجمعة القادم (۳۰ مايو 
۸ وقد وضعت أربع نقاط في الأجندة تضمنت الاتفاق الذي توصل إليه 
الحزبان المؤتلفان وهي الحكم الإقليمي والجدول الزمني للدستور والضمانات المكفولة 
للمسيحيين في حالة وضع دستور إسلامي للبلاد . 

كان الخبر الرئيسي الذي نشر في الصحافة بتاريخ ۲۵ مايو ١939‏ هو تصريح من 
السيد الصادق المهدي وكانت خطوط عناوينه البارزة هي : 

الاتحادي الديموقراطي وسانو وجبهة الجنوب يوقعون اتفاقا بالحكم الاقليمي 
وصلاحياته المالية : 

صرح السيد الصادق المهدي «للصحافة» بأن اجثماع اللجنة الرباعية النبثقة عن 
اجتماعات القصر الجمهوري قد استأنفت ليل أمس الأول اجتماعاتها مع حزب سانو 
وجبهة الجنوب وقال : إن الحزبين قد تقدما ببعض الملاحظات حول ماجاء في الفصل 
الأول من الدستور والخاص بالحكم الاقليمي والصلاحيات المالية وقال : إن اجتماعا آخر 
ستعقده الأحزاب الأربعة مساء الأحد (۳۱ مايو 15)!!! لمناقشة المواد الإسلامية في 
الدستور والجدول الزمني لإجازة الدستور الدائم وتدل تحريات «الصحافة » على أن 
الاتفاق بشمل وضع الحكم الإقليمي في الباب الأول من الدستور وأن تكون للأقاليم 
سلطات مالية . 

.. نفس عدد «الصحافة » بتاريخ ۲۵ مايو ۱۹1١‏ وتحت تصريح السيد الصادق وقد 
كان هناك تصريح آخر للشريف حسين الهندي عنوانه «الشریف حسين يتحدث عن 
رئاسة الوزارة » جاء فيه : 

قال السيد الشريف حسين وزير المالية ردا على سؤال من «الصحافة » حول ما إذا 
كان لديه اعثراض على رئاسة الشيخ علي عبد الرحمن لاية حكومة يكونها الاتحاديون 
قال : إن الحزب لم يعلن للان فض الائتلاف وبالتالي فهو لم يبحث أمر الوزارة ويعتقد 
أن لا يكون هناك خلاف في الحزب في هذا الأمر.وقال : انه لم يحدد شخصیا للان أي 
بديل للائتلاف الحالي الذي قد أعلن في ود مدني الأسبوع الماضي أنه سيفض هذا 
الاسبوع . 


۹۰ 


سوني ومنظمة الزنوج : 

© وتحت تصريح الشريف وبالبنط العريض هناك خبر كبير لابد أن يلفت النظر 
وعنوانه : 

منشور من سوني ومنظمة الزنوج الأحرار .. سلطات الأمن تکشف أسماء أعضاء 
المنظمة !! 

علمت الصحافة أن سلطات الأمن قد عثرت على منشور موجه من أعضاء منظمة 
سوني في لجنتهم التنفيذية يدعوهم فيه لاتخاذ مواقف معينة ضد الشمالیین وقد تطرق 
المنشور إلى حرق قرى أبناء الغرب في خشم القربة في العام الماضي وإلى تهديد أصحاب 
الباصات لسكان العشش عند اضراب الباصات الأخير . وقد وضح من تحريات البوليس 
أن النشور يربط بين ما يسمى بمنظمة الاحرار ومنظمة سوني وشخصيات سياسية 
بارزة . وصرح مصدرنا بأنهم قد تمكنوا من معرفة عدد من الأعضاء العاملين في المنظمة 
وبعض نشاطاتهم إلا أن المصدر لم يكشف عن معلومات أكثر غير أن الأيام القليلة 
القادمة ستشهد تطورات كبيرة . 

يبدو أن العدد الأخير من الصحافة الذي صدر یوم ۲۵ مایو يوم أن وقعت الواقعة 
كان يحمل ف صفحنه الاولی وحدها تلخیصا سریعا ومرکزا ومضغوطا ومختصم | 
للزعزعة والخلاف وعناصر التفرقة ولكل المعاناة التي كنا نواجهها آنذاك .. ترى هل كان 
سيدنا الشريف الذي هدد بفض الائتلاف بين الحزبين في الأسبوع القادم أن كل شيء 
كان سينفض في ذلك التاريخ حتى سامرنا ومجالسنا وندواتنا وذواتنا ثم أقلامنا وحريتنا 
وسوداننا ! !! ؟ 


ماذا كنت !؟ 


اسمحوا لي بعد ذلك أن نعود معا إلى «السبحة» ذات الألف حبة لنديرها بسرعة إلى 
الأمام أو إلى الوراء لا يهم لأننا مهما أدرناها فإننا حتماً سنصل إلى «مثذنتها ‏ ثم نعاود 
الكرة من جديد لنواصل السير وندرك نهاية الطريق . 

مهما طال بي الزمن فإنني لا يمكن أن أنسى وبل ومن الصعب علي أن أنسى 
الجرح العميق الذي أصابتني به الحكومة الانتقالية وتجمعها النقابي عفا الله عنهما في 
كل ما أسلفت تدوينه في مقالاتي السابقة » مما سبب لي صداعاً مستمراً وإحساساً بالظلم 
بلا مبرر معقول ولا جناية ارتكبتها وعلى الرغم من أنني متيقن من أن الذي أصابني 
منهما لم يكن بدافع سوء النية ولا بالغرض ولا بالقصد المبيت أو الحقد الدفين شأنها في 
ذلك شأن عديد من الأخطاء التي ارتكبتها ؛ لكن كل ذلك لم يمنع تجنيها علي انتهى 
بي إلى عقدة مستعصية اسمها الشك مما جعلني أتحسس نفسي كثيراً وأعيد سيرة 
حياتي وأدير شريط الذكريات لأسمع وأرى من خلالها مواقفي في مايو خاصة بعد عام 


٤۹۱ 


۲ حين بدأت تتململ وتضطرب فانزلقت أقدامها وانحرفت مسيرتها وانا الذي لم 
أدق يوماً طبلاً أو أعزف قيثارة أو مزماراً » أو أغني أنشودة أو قصيدة لمايوء وأنا الذي 
لم اکن خفيراً ولا مديراً ولا أميناً ولا منظرا ولا داعية لايو رغم كل الفرص التي 
أتيحت لي في مناسبات عديدة ومتكررة من وزير إلى سفير إلى مبعوث شخصي كانت 
كلها مفروشة تحت أقدامي كالأحذية القديمة . 


العد التنازلي للدیموقراطية (ب )! ۱ 


© مادا بين محجوب والشريف حسین ! ؟ 

© وماذا بين الصادق والشريف!؟ 

© الجمعية التعاونية تتحول إلى مجلس نورة . 

قبل أن يتساءل القراء ولماذا كل هذه التفصيلات الدقيقة والشخصية والخاصة ‏ لابد لي 
من مقدمة أبرز فيها موقفي حتى لا يجنح بعضهم إلى التأويلات والتفسيرات التي قد 
تقودهم إلى نتائج خاطئة ومتجنية اقول : إن في صدور الصحفيين والسياسيين اسرارا 
كثيرة ومثيرة قد لا يستطيعون نشر‌ها إما خوفا عليها أو خوفاً منها خاصة إذا كانت 
الظروف غير ملائمة.والصحفي الأمين لابد أن يدون مذكراته مهما كانت إيفاء لرسالته 
القدسة والتزاما بواجبه الكبير واحتراما لقرائه ومواطنيه حتى إذا ما عاش أو مات خلف 
وراءه ذكرى عطرة باسهامه مهما كان محدودا ء في إثراء مكتبة التاريخ . ولكم آلني وحز 
ف نفسي وأنا آودع کل مره راحلا عزیزا مقتدرا آن فارق هده الحياة وف صدر ۵ الکنیر 
امثير دون أن بسجله فتضيع بفراقه ثروة غالية لا تقدر بثمن!! 

© هويت الصحافة منذ أن كنت صغیرا وأحببتها عندما صرت شاباء وعشقتها 
عندما أصبحت رجلا وكل أمنيتي في الحياة أن أموت وأنا صحفي فالصحافة أصبحت 
هي زادي وروحي وحياني والصحافة (الصحافة ) كانت ولا زالت وستظل حبيببي 
وصغيرتي وابنتي خاصة ولم ینعم علي الله بولد ولا بنت فأصبحت بالنسبة ال" هي 
الأهل والولد وکل شيء في الوجود ومنذ أن مارست حياة الصحافة وضعت مبداً سرت 
عليه وآمنت ولازلت أؤمن به وهو أن أحطم جمیع الحواجز والفواصل بيني وبين القراء 
حتى يروني ويعرفوني كما أناء فالصحفي الذي يريد أن يرتبط بقرائه ارتباطاً روحياً لا 
انفصال بعده لابد أن يتجنب المساحيق والمكياج والبودرة حتى لا يغطي عنهم وجهه 
ليخفي حقيقته . من أجل ذلك ظللت طيلة عهدي بالصحافة أشرك القراء في مشاكلي 
العامة والخاصة وفي مشاكل أهلي وبيتي . وسرائي وضرائي وأسفاري ومرضي فما 
وجدت مدهم إلا كثيرا من الالتصاق الروحي وکنیر | من السارکه الوجدانیه الني نونس 
وحدتي » وتزيل همي ٠‏ وتبدد خوفي وتضاعف أمني ومن هنا ينبعث الشيء الهام والأهم 


4۹۲ 


وهو الثقة المطلقة التي إذا ما تركزت بين الصحفي وقرائه كان ذلك قمة النجاح ونهاية 
التوفيق . 

© .. من هنا وانطلاقاً من هذه القدمة وربطاً للأحداث والوقائع الكثيرة التي 
خصصت جانبا كبيراً منها لتقييم ما قبل وبعد الانتفاضة فإنني أستسمح القراء أن أعود 
بعيدا إلى الوراء إلى ما قبل انقلاب مايو بقلیل» لكنني سأختصر الطريق وأنا أعدد 
الأسباب التي من أجلها قامت مايو فعند رجوع الديموقراطية بعد أكتوبر استقبل 
الشعب عودتها بالزغاريد وبالاحضان ولكن بحذر شديد لم يقطع معه سّعرة معاوية 
ولكن الأحزاب بدأت تنخر أحشاءها بأظافرها وانشغلت بهمومها وخلافاتها فانصرفت 
بذلك عن الشعب وانصرف عنها الشعب . وهنا لابد لي كذلك وأنا أصوغ مسلسل 
الأحداث في أن أروي قصة ولو أنها شخصية لكنها تدخل بالضرورة في دائرة الأحداث 
وبشكل مباشر جدا حتى يتمكن القارىء من متابعة كل الزوايا والأركان والاسرار التي 
لا قبل له بمعرفتها . 

تجمعني علاقة الصاهرة بأبي القاسم محمد إبراهيم وأبي القاسم هاشم فعندما 
تزوجت أختهما عام ۱۹۵۰ أي قبل ستة وثلائین عاما كانا صغيرين في المدارس الثانوية 
وقد رعيتهما كأب وكأخ أكبر وتابعت سيرتهما عن قرب قريب حتى تخرجا ودخلا 
الكلية الحربية وكانت علاقاتنا الشخصية والأسرية قوية ولصيقة . ففي عام ١9717‏ رحلت 
من منزلي في بري إلى امتداد الدرجة الأولى ورحل أبوالقاسم محمد إبراهيم إلى منزلي 
واستمر فيه إلى ما بعد قيام الانقلاب وعلاقة هذا شانها لابد ان تزول عنها كل الحواجز 
والحساسيات والتكلف . 

© في مساء يوم من الأيام وعلى وجه التقريب قبل الانقلاب بشهرین دخلت منزل 
أبي القاسم محمد إبراهيم كعادتي كل يومين أو لائة ولقد شد انتباهي على غير العادة 
أصوات كثيرة ومختلطة من داخل الصالون بينما لم يكن في الخارج أي آثار لعربات 
وعندما دخلت وأنا أتحدث لأهله خرج أبوالقاسم من الصالون كالصاروخ واضعا كلتا 
يديه على رأسه وهو في حالة مضطربة رغم أنه حاول أن يخفيها بابتسامة حلوة وقال لي 
بالحرف : أهلا بيك وأين الحاجة .. اتفضل بس الحقيقة معاي بعض الاخوان لأننا بنضع 
في مسودة قانونية لجمعية تعاونية خاصة بالمظلات والله (شاغلانا لصوف راسنا) 
وقلت له أنا الحقيقة على عجل وكنت أعتقد أن الحاجة معكم فعد لاخوانك . ثم قال لي 
طيب سنتعشى معكم الليلة . 

لم تترك هذه الزيارة أي أثر واضح في داخلي رغم بعض الشكوك الهامشية لكنها 
سرعان ما تلاشت وتبددت مع مرور الایام . 


۶,۳ 


المفاحاة الكبرى : 

© ودخلت منزلي - منزل أبو القاسم محمد إبراهيم مرة ثانية ولكنني دخلت هذه 
المرة من الجراج على غير مقصد مسبق وكان متاخماً للصالون فسمعت أصواتاً كثيرة 
تعلو في همهمة وهمس وتنخفض وتختلط في كثير من الأحيان » ولا لم تكن هناك عربة 
واحدة في الشارع شدني شيء في داخلي لعله حب الاستطلاع الصحفي اللعين الذي 
يجرد الانسان احیانا من بعض فضائله وخلقه . فتجسست وانا اسف وحزين لكنني 
مرغم ومتطلع في آن واحد ونظرت من ثقب الباب فأنا أعرف بالطبع کل فتحانه وئقوبه 
وارکانه وزوایاه فرایت عجبا !! الضوء خافت جدا والجو مملوء ومحشو بدخان السجاثر 
مما لم استطع أن آتبین معه ملامح الوجوه ؛ والحدیث هامس خافت مما لم أتمكن من 
معرفته إلا في شكل کلمات متقاطعة لكنني ومن ثقب آخر في زاوية حادة من الشباك 
كانت الفاجاة وأية مفاجاة !!! 

© .. رایت وجها لا آنساه بشحمه وعظمه ولحمه الضابط جعفر نميري الذي أجرت 
معه (الصحافة) تحقيقاً صحفياً مضورا في منزله بودنوباوي عام ۱۹۱۷ عندما بریء 
من محاولة انقلاب سابقة في محكمة كان يترأسها العقيد عمر الحاج موسى الذي أصبح 
أخيراً (حوارا وهاجيا) للنميري . الغريب والمدهش الذي قد لا يعرفه الكثيرون إن 
السيد الصادق الهدي كان قد لعب دورا كبيراً في تبرئة النميري ثم دارت الدواثر 
وانقلبت الموازين فحكم على الصادق بالاعدام كما هو .معروف !! . 

وتا انفغن أكثن من تقنن الاق سمحت کر که فخریت ضرعا الأذكل::( الوت سنن 
أبوابها) وسلمت على أهل البيت وجاء أبوالقاسم على عجل فحياني بنفس صورة 
الارتباك الأولى لكنني قلت له هذه لمرة : أنا مستعجل وأرجو أن تعود لأصدقائك 
لتكملوا استعداداتكم للجمعية التعاونية ولا تنسونا من (السكر والرز) وضحك ثم عاد 
أدراجه بينما توجهت للجريدة » وبعد تفكير عميق وكان الموقف بالنسبة ال مرتبکا جدا 
وصدقوني حتى تلك اللحظات لم تكن الصورة قد اكتملت أمامي بشکل جازم وقاطع 
لكن الشكوك والظنون ظلت الهاجس الوحيد الذي سبب لي صداعاً متواصلاً وما لبنت 
أن أخذت القلم وسطرت كل خواطري لكنني أخيراً وبعد تعمق حبست القال في 
درجي ثم توجهت بعد ذلك إلى منزل الأخ العزيز محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء 
فوجدت معه الاخ العزيز الشريف حسين المهدي يرحمهما الله . 

كانت تربطني بهما علاقات قوية وصادقة ومخلصة كيف لا وهي علاقات رحم ودرب 
وحب ومودة ووجدت معهما عدداً من الأصدقاء والوزراء فمنزل الحجوب كان منتدى 
فقهیا وأدبيا وسياسياً يلتقي فيه كل مساء الأصدقاء والأحباب وقد لاحظ محجوب وهو 
سريع الخاطر قوي الملاحظة أنني كنت منزعجاً بعض الشيء فهمس في أذني : 

مالك يا أبو عوف في حاجة!؟ 


۹٤ 


قلت له : 
نعم أرجو أن ننتقل على انفراد في حجرة أخرى فوقف وأمسك بيدي. ولكن ما إن 
اتجهنا نحو الغرفة حتى ناديت على الشريف لأشركه في النقاش وكانت الشائعات التي 
ينفثها ذلك الجو السياسي المشحون بالتوتر والغموض والواجهة قد بدأت تتناقلها 
المجالس ولكن في تحفظ شدید . 

قلت لهما إيه حكاية الشائعات والهمسات التي تدور في الصالونات ووراء الكواليس 
فرد على المحجوب في ثقة قائلا : 

إن كنت تقصد (يا أبو عوف) حجوة الانقلاب فاطمئن لقد سمعت بها وطلبت 
على الفور من اللواء الخواض أن يجري تحقيقاً سرياً ومكثفاً ولحسن الحظ - وحتى لا 
تنزعج - فقد أكد لي اللواء الخواض قبل حضورك بساعة واحدة أنه تلقى تقارير تؤكد 
هدوء الأحوال في الجيش وتدحض كل إشاعة خبيئة ..واستدرت نحو الشريف مؤكدا له 
إنني أعرف بعض التحركات - لكنني وللتاريخ لم أرو لهما تفاصيل ما شاهدت خوفا 
من أن تكون كل استقراءاتي وانطباعاتي في النهاية خطأ في خطأ أعاقب على نتائجها 
في الدنيا قبل الآخرة واستدرت نحو الشريف وسألته عن رأيه فيما يقال فأجابني قائلا : 

(شوف كونو الحالة سيئة ورديئة ومتدهورة ونحن مسؤولون قطعا عنها فهذه حقيقة 
ابتة .. وكونو مثل هذا الجو الخانق الملتهب قد يشجع والله (فرقة كشافة ) لتسطو على 
الحكم وقد نبهنا وأنذرنا کثیرا دون أن يسمعنا أحد وکأننا نؤذن في مالطا) لكنني عادة 
لا أريد أن أصل إلى النتائج قبل أن أتأكد من صحة كل المعلومات التي تصلني وهي 
فعلا مزعجة وانضم إلينا في نهاية الجلسة الاخ المرحوم عبد الماجد ابو حسبو الذي لم 
يخف مخاوفه أيضاً من الوقف - خاصة عندما استشهد بكلام اللواء حسن فحل 
للمحجوب ولا كانت هذه المعلومة جديدة علي ولا سألت المحجوب عن تفاصیلها 
قال لي : 

(يا أخي حسن فحل أنت عارفو مبالغ جاءني أمس الأول في الثانية والنصف صباحاً 
وازعجني وازعج الاولاد غاية الإزعاج واصر إصرارا بلا حدود على مقابلتي ولما فعلت 
وجدته (في حالة صعبة) فمسك بيدي وحكى عن تفاصيل وأحاجي محاولة انقلاب 
تجري في الخفاء وكلام فارغ كثير )!! ! ووالله الجيش ما فيه واحد يقلب طربيزة ..!!! 

حدث ذلك كله في أمسية يوم ۱۵ مايو ١939‏ وفي تمام الرابعة والنصف من ظهر 
اليوم الثاني أي ٠١‏ مايو جاءني الشريف حسين في منزلي ضمن زياراته المتواصلة التي لا 
تنقطع وكان كعادته دائما في حالة إعياء شدید وطلب أن يجهز له الغداء إذ المعروف أن 
الشريف كان لا يأبه كثيراً ولا يهتم كثيراً بالمأكل والمشرب واللبس والنوم فهو يأكل أي 
شيء ويلبس أي شيء وليس هذا مجاله فقد أفردت له صفحات كثيرة في كتابي هذا . 


۶ ۹۵ 


© كان الشريف يتحدث إلى وهو شبه نائم فالرجل كما هو معروف عنه كان يحمل 
على كتفيه هموم الأولين والآخرين ولا يأبه بصحته أو راحته فقد كان كله ملكا للجميع 
وخادما مخلصا للجميع وظللنا للحظات طويلة نتحدث عن ادق المشاكل الكبيرة 
والخطيرة التي كانت تواجه البلاد كيف بدأت ومن هم وراءها وما هي أسبابها 
وتفاصيلها وكيف ستكون نهايتها . الهم وبدون الإثارة أو الدخول في تفصيلات راح سيدنا 
الشريف يغط في نوم عميق لم يصح منه إلا في التاسعة والنصف مساء فدخل الحمام 
وقذف بعیدا بقميصه ليلبس کعادته واحداً من قمصاني رغم أن حجمي ضعف حجمه 
لكنني كما قلت لكم إنه لم يكن يأبه بأي شيء ولأي شيء!! . 

المقعد الشاغر!!؟ 


© ذهب سيدنا الشريف لحاله وتوجهت أنا لدار الصحافة ثم ذهبت بعدها لأم درمان 
لزيارة أخي وصديقي وحبيبي الأمير عبد الله عبد الرحمن نقد الله رحمه الله وتحدثنا 
سوياً وكعادتنا عن هموم البلد والاشاعات وما يدسه لنا الغدر وعدت إلى الخرطوم في 
الحادية عشرة والنصف مساء مروراً بمنزل المحجوب فوجدته زاخراً متوهجاً كعادته ثم 
انتهى بي المطاف في دار الصحافة (وكانت بسوق الخرطوم ۲). 

© كانت حصيلة يومي ذاك أن الهمس بشائعة الانقلاب قد ارتفعت حرارتها کثیرا 
في الأوساط الصحفية بينما الغفلة تكبر وتزداد في الأوساط السياسية والحزبية مما جعلني 
أعيد قراءة المقال المحبوس ف درجي مرة ومرتين وقبل أن أعيد قراءته للمرة الثالنة 
دفعت به إلى جوف المطبعة لتأكله بشراهة وبلا رحمة تحت عنوان صارخ (المقعد 
الشاغر ) وما إن ظهر السبت ۱۷ مايو 19 تحت عنوان صارخ هو (القعد الشاغر)؟ 
حتى أحدث ردود فعل كبيرة في المسرح السياسي . كان ذلك قبل ثمانية أيام فقط من 
انقلاب مایو . بعد ظهور المقال بساعات اتصل بي الشريف تليفونيا معلقا على المقال 
ووصفه بأنه مخيف وفيه إشارات واضحة وقبل أن يكمل حديثه اتفقنا على العشاء في 
منزلي وجاء في المساء ومعه الأخ محمد أحمد محجوب ثم عبد الماجد أبو حسبو ثم 
شيخ المرضي فزروق فنقد الله وامتلاً النزل وظللنا نتسامر ونتحدث إلى وقت متأخر من 
الليل.هكذا كان حالنا الحاكمون والمعارضون إخوة وأحبة . 

لا أريد بهذه الناسبة أن أعبرها قبل أن أذكر واقعة محددة تأكيداً لعمق الارتباطات 
الأخوية وا الحميمة بين رجال الصحافة ورجالات الدولة والأحزاب فقد كانوا 
جمیعا یشکلون حلقة واحدة حباتها مزيج من الإخلاص والحب والاحترام . والواقعة 
كانت عندما احتدم الخلاف بين السيد الصادق المهدي رئيس وزراء الحكم المؤتلف مع 
السعب الديموقراطي وبين وزیره الشریف حسین وزير الحکومات الحلیه ذلك لاف 
العاصف الذي كان بهدد الاستقرار والأمن ومصلحة البلاد . من هذا النطلق ومن منطلق 


1:۹ 


ما يربطني بكليهما من ود وصداقةء. وحسما لأية مضاعفات أقنعت السيد الشريف 
بضرورة اختصار الزمن والمسافات بقبول لقاء مع السيد الصادق المهدي في دعوة غداء 
مختصرة في منزلي لیحسما كل خلافاتهما بالواجهة والصراحة خاصة وأن تلك الخلافات 
حاف ی - لم تكن ذات جذور عميقة وإنما یرجم أصلها وأساسها لتعيين السيد 
الصادق للشريف حسين وزيراً للحكومات الحلية بدلا من المالية التي عرفها وتعشقها 
وكان يصر عليها من هنا بدأ أساس الخلافات لكنها مالبثت أن تشعبت وتزايدت 
وتطورت . 

قبل الاثنان دعوتي مشكورين وكان الشريف أول من حضر وانتظرنا ساعة ونحن 
نتحدث ثم قال ي : 

(يا أخي أنا جعت خلاص هل انت متأكد بأن السيد الصادق سيحضر ؟ فأكدت له 
ذلك فقال إن شاء الله (ننتظر شوية كمان)!! وفي الساعة الثالثة والربع تماما دق 
جرس التليفون وسرعان ما رفع الشريف اصبعه قائلا : اؤكد لك ان هذا هو السيد 
الصادق وفعلا كان المتحدث هو السيد الصادق الذي اعتذر عن الحضور لاسباب قاهرة 
وقد كانت كذلك . 

© بعد قيام الانقلاب المايوي يوم ۲۵ مايو عرفت أن زعماءه وقادته كانوا قد أبدوا 
حذرهم ومخاوفهم وشكوكهم بعد ظهور مقالي (المقعد الشاغر) يوم ١١‏ مايو إلى 
الدرجة التي وجه بعضهم فيها اتهامات لأبنائي فأقسم لهم أبو (القاسمان) بأنهما لم 
يتحدثا معي مطلقاً ولم يطلعاني على أي شيء.وفي صباح قيام الانقلاب نفسه وفي 
الثامنة والنصف على وجه التحديد كنا في المقابر بام درمان نوري الثرى جسد فقيدة 
عزيزة فقابلني عدد كبير من الأصدقاء وعلى رأسهم فضيلة مولانا الراحل الشيخ 
محجوب عثمان إسحق قاضي القضاة وأشاروا ال بأصابعهم واتهموني أجمعين بأنني 
كنت على علم مسبق ومعرفة تامة بالانقلاب من مقالي (المقعد الشاغر ) ولكنني والله 
كنت بريئا مما يقولون . 

ودارت الأيام لتكشف ستورها وأسرارها فعلمت فيما علمت أن كل المعلومات التي 
وردت في التحقيقات المكثفة التي أجراها اللواء الخواض القائد العام وبنى عليها رئيس 
الوزراء محجوب كما بنت عليها الحكومة كل حساباتها ومواقفها ومواقعها ونتائجها 
وسياساتها كانت كلها ملفقة ومضللة» لأن الذي كان يعدها ويتابعها ويكتبها ويصوغ 
ألفاظها لم يكن سوى (الرائد مأمون عوض أبو زيد) في الاستخبارات العسكرية!!!!. 

أرجو ألا يضيق القارىء إن هو ظن أنني خرجت بذلك عن الطريق لكنني أؤكد 
بأنني مازلت داخل الدائرة وأنا أقيم فترات ما قبل وبعد الانتفاضة وهي لابد أن تكون 
لها روابط قوية ومباشرة قد تعيدنا أو تقودنا إلى تاريخ ما قبل مايوء فالاحداث كلها 
مترابطة ومتشابكة كالعقد والمسبحة تدور حباتها بين الأصابع وتدور ولن يتوقف دورانها 


۶:۹۷ 


أبدأء ثم الأهم من ذلك أنني قصدت من إبراز الصور في حياتنا السياسية والاجتماعية 
والصحفية حتى يتعرف شبابنا من الجيل الحديث على ماضينا الشامخ .ثم الهدف الثاني 
الذي أرمي إليه هو أن يتعرف كذلك أبناؤنا خاصة من الصحفيين والعاملين في ميادين 
الإعلام من إذاعة وتلفزيون الذين عاسوا وعايسوا عهد الكبت والارهاب والاضطهاد 
والضغط والاذلال والخوف (والرجفة) والأوامر ستة عشر عاماً من السنوات العجاف 
على ماضينا العريق عل في ذلك ما ينفعهم ويرشدهم في حاضرهم ومستقبل أيامهم حتى 
لا يكونوا من الخاسرين . 

أرجو بذلك أن أكون قد أجبت على بعض الأسئلة التي طرحتها .. ونفس المخاوف 
والمحاذير أوجهها للزملاء والأصدقاء في عالمنا العربي المتدهور في كل مرفق وميدان 
علهم بذلك يسهمون في محاربة كل محاولة تهدف إلى تقويض «الديموقراطية » وهي 
أحلى وأعظم ما في الوجود حتى لا يواجهوا الذي واجهناه يوم ۲۵ مايو ١974‏ ونحن 
نعيش لحظات الأفراح الديموقراطية والحرية التي سطا عليها أصحاب الياقات الحمراء 
واقتلعوها منا بالمدافع الرشاشة والمصفحات فانهدت الزينة » وانطفأت المصابيح » وتوقفت 
الزغارید » وتكسرت الاقلام» وجف المداد » وصمتت الحناجر ومات في داخلنا كل شيء 
حتى الحياة ذاتها . 


۹۸ 


(۱) الامام عبدالرحمن الهدي (۲) السيد عبدالله الفاضل (۳) عبدالله خليل (۶) مختار 


(۵) عبدالرحمن مختار وعمره تسع سنوات . 
اخذت الصورة في الجزيرة ابا عام ١۹۳٠م‏ 





من أنت .. ومن تكون!؟ 

© حوار مع جريدة السياسة السودانية أجراه بكري خضر ۱۹۸۲/۱۰/۱۸ . 

بمناسبة انتهاء حلقات الاستاذ عبد الرحمن مختار وحتى نشبع رغبات وتطلعات 
العديد من شبابنا ممن لم يعاصروا الأستاذ واستجابة لاستفساراتهم المتلاحقة والمتكررة 
يسر (السياسة) نيابة عن قرائها أن توجه سوالاً واحداً للأستاذ عبد الرحمن مختار 
وتتركه يجيب على راحته دون مقاطعة والسؤال نفسه يكفي للإجابة على كل 
التساؤلات . 

شتا فنك الرخن متا 

من آنت؟ ومن تکون؟ وما هي قصة مسيرتك في الحياة من بدایتها حتی كتابة 
حلقاتك لجريدة (السياسة)؟ ؟ 

حوار : بكري خضر 

© قصة حياتي طويلة وعريضة فیها کثیر من الالام والدموع والعظات والعبر 
والدروس والمشقة والعذاب » وفيها الاحباط والفرح . قصة حياتي مزیج من الخیر والشر 
والسرور والغضب ومن الفضيلة والرذيلة ومن الصواب والخطأ لانني بشر ولانني 
انسان ! ذقت الفشل كثيراً فوجدته مرا وقاسياً وعندما ذقت النجاح وجدته مر وأقسی . 
سأروي لکم من حياتي الجوانب الخيرة التي تضيء القلوب وتفید آکبر قطاع من 
الشباب الحزین البائس حتى يؤمنوا بانفسهم فلا يياسوا إن فشلواء ولا يضيقوا إن 
أصيبواء ولا يتبرموا بالقدر المكتوب فالثقة بالله وبالنفس ثم بالناس مع الإصرار 
والاجتهاد والإخلاص والثابرة والصبر والتضحية والبر بالوالدين والاهل والحب والاخاء 
في الله ولله کل ذلك هو بمثابة بداية الطریق إلى الجد والنجاح فهو کم طویل وعریض 
ووعر وشاق وهیهات أن ندرك نهاینه . 

© أنا عبد الرحمن مختار الشفیم ود آمنة بنت علي ساله مثلي مثل الالاف من عبید 
الله ومختاریه في هذا البلد .. آنا خلیط من کل شيء وأي شيء حفظ والدي القرآن في 
خلاوي الشیخ ودبدر والتحق بمدرسة الشريعة وعین قاضياً شرعياً ثم فصل وخفض إلى 


6۵ ۱ 


درجة مأذون الخرطوم لأنه ذهب إلى الحج بدون إذن وهو من زملاء ورفقاء الشيخ 
أحمد المرضي وعلي أبو قضيضة والشرة: پوس ماسم وعمان وخوجلي ود 9 
والفكي النخلي وكان صديقا مقربا للإمام عبد الرحمن المهدي وبجانب انه كان إماما 
لجامع الخرطوم العتيق كان أيضا إماما مناوبا وبالجامع السيد عبد الرحمن بودنوباوي 
والسيد علي المهدي كما كان جدي لأمي علي ودساله رفيقاً للإمام الهدي وزوجة شقيقة 
وكان إماما لجامع الجزيرة أبا حتى مات عام ۱۹۳۲ . 

© أسرتي كانت من الطبقة الوسطى بتعريف أهل زمان يوم لم نسمع ولم نعزف 
الراديوهات والتلفزيونات والمكيفات والحافلات » طبقاتنا كانت كلها فقيرة نولع بلمبات 
الجاز المسرجة ونسكن بيوت الجالوص وننام على عناقريب بدون مراتب تسند أرجلها 
آحیانا قوالب الطوب أو جوالين الجاز الفارغة .. لم تكن في العاصمة آنذاك إلا عربة 
الحاكم العام والامام عبد الرحمن المهدي ومولانا السيد علي اليرغني والشريف يوسف 
الهندي ثم سوار الذهب وأبو العلا والبرير . أما والدي الشیخ مختار فقد كان يمتلك عربة 
(حمارسيدس ) بفروة بيضاء وكناتل حمراء وخضراء في الرقبة (والرقبة قزاز) ولكم 
تمتعت وراء ظهر أبي من الديوم حتى ودنوباوي كل جمعة حيث اعتدنا تناول طعام 
الغداء بعد الصلاة مباشرة مع الامام عبد الرحمن الهدي وأخيه السيد علي والشيخ 
احمد حسون وعدد من علية القوم والاحباب . 

© كان أبي مضيافاً للغاية خصوصاً في ليالي الخميس حيث حلقات الطار والمديح 
وتلاوة القرآن الكريم حتى صلاة الفجر . لا أذكر أنني رأيت أمي یوما وهي تتمخطر في 
الشوارع أو حوالي محلات الكوافير أو حديقة السطح في الهلتون أو قصر الصداقة .. لا 
أذكر أنني رأيتها إلا وهي تكنس البيت أو تغسل وهي قضت ثلثي عمرها في (التكل) 
وهو بلغة العصر يعني الطبخ (أو السیرفیس) تلخ العجين وتخمره ثم تعوس الكسرة 
(والابريه) وتفرك الملحات وتقلي اللقيمات يوميا حيث لا توجد بالطبع فريزرات ولا 
ثلاجات (ولا ثلج). 

© أكملت خلوة (الفكي أزرق) بديم التعايشة وحفظت على يديه القرآن وقد 
ساعدني أبي کثیرا في حفظ الأحاديث ومعرفة الفقه وقواعد اللغة العربية من نحو إلى 
صرف إلى بلاغة مما جعلني أقوى وأميز طالب في المدرسة الأهلية بام درمان في اللغة 
العربية وأذكر يوم أن زارنا معالي دولة علي ماهر باشا رئيس وزراء مصر في الفصل 
ضمن زيارته للعاصمة في عام ۱۹۳۹ - ۰۱۹۶۰ كتب الناظر مولانا الشيخ علي ابو 
قصيصة الجملة الاتية على السبورة وأشار علي لأعربها 

(زار المدرسة الأهلية في صباح هذا اليوم الأغر معالي الرئيس علي ماهر باشا)وکان 
يقصد بالطبع الفاعل المؤخر . ومع ذلك كنت ثاني أبلد طالب في الحساب وكانت أكبر 
نمرة تلقيتها في سنواتي الأربع هي ۱۸ من مائة ومع ذلك لم أتخط العشرة الأوائل فقد 


0 ٠ ۳ 


كنت فصيحاً في العربية والانجليزية حيث يندر أن أحصل على أقل من الدرجة الكاملة 
يليهما التاريخ والجغرافيا . 

© كان من أبرز زملائي عبد الله عبد الوهاب مدير شركة الإمارات والوكيل السابق 
لوزارة المالية والأستاذ العم الكبير محجوب عثمان وزير ثقافة مايو والقطب الشيوعي 
الكبير والمسئول الآن عن إعلامه وكان يتقدمني بعام أو عامين وكان مصيبة كبيرة منذ 
طفولته ! 

© كان عددنا في الفصل ثمانية وعشرين طالباً ومن الطرائف أن زميلا لنا إسمه 
عبد الله حسن الصائغ لم أره ولم أسمع عنه منذ فترة الدراسة كانت قد وصلته برقية من 
دنقلا تزف له البشرى بأنه رزق ولدا!؟ 

كان طيش الفصل في الحساب (يعني الطالب الوحيد الذي يأتي دوني) وعلى ما 
أذكر أن اسمه علي م ٠١‏ . كان مصدر صداع بالنسبة للاستاذ محمد حمزة رحمه الله الذي 
تعلم في وجهه كل فنون اللكم والصفع والبصق وذات مرة طلب منه أن يحدد بالضبط 
موعد لقاء قطارين قاما في اتجاه معاكس بسرعة كذا في الساعة كذا فوقف حبيبنا علي 
كعادته كحمار الشيخ والأستاذ يصفع وجهه ذات اليمين وذات اليسار ويكرر سؤاله متى 
يلتقي القطاران يا جنس‌الکلب ‏ فما كان من زميلنا الهمام إلا أن توكل على الله وبحرقة 
وعصبية وزهج أجاب : 

(يا أفندي أنا ناظر الحطة!؟) فضحك الأستاذ ولكنه خرج في التو حتى لا يقهقه 
ويفقد وقاره أمامنا !! 

© أكملت الأهلية الوسطى عام ۱۹۶۲ وفي يوم ۱۹۶۲/۱۲/۱۵ والطائرات 
الإيطالية تلقي بقنابلها فوق شركة النور ومدرسة الأحفاد بأم درمان كان أبي في 
مستشفی الخرطوم العتيق في الجناح الغربي زاره الإمام عبد الرحمن المهدي والسيد 
عبد الله الفاضل في الرابعة عصراً وما إن خرجا حتى ناداني ووضع رأسي على صدره 
بعدها امرني بإغلاق الباب وبدا يقرا ويده اليمنى فوق راسي سورة يس بصوته 
الجهوري الجميل حتى سمعه أهلي في فرندة المستشفى فانزعجوا وكان على رأسهم 
اخوالي عبد الله حمد وخضر حمد ويحيى علي ساله ومحمد واحمد مخنار وبعد ما 
انتهى من التلاوة قال لي بصوت حزين والدموع تتساقط من عينيه كحبات العیش : 
(يا ولدي كنت أتمنى أن أعيش وأرعاك» لكن قدر الله نافذ فأوصيك بألا تواصل 
الدراسة وتشتغل حتى تعيش أمك وإخوتك وحذار أن تستمع للعواطف المؤقتة التي 
سيبديها أهلك ولا تحزن على المدرسة والدراسة فالذي كنت ستتحصله فيها يمكنك أن 
تتحصله في البيت والشارع وتحت الحيطة وأنت ولد شاطر الله يخليك ويرعاك وأنا عافي 
منك .. واختتم والدي الرجل الصالح نصائحه الغالية بجملة ما عرفت مغزاها وفك 
طلاسمها إلا بعد عشرات السنين وهي : 


(يا ولدي أهلك كلهم فقراء ومساكين وأنت حتكون نوارتهم وحتبقى ليهم شجرة 
كبيرة كلهم يستظلوا تحتها ) . وبعد ساعة واحدة وفي تمام السادسة مساء لقي وألدي ربه 
وآنا في الخامسة عشرة من عمري وبدات من بعده رحلة الضياع والكفاح والصبر 
والثابرة والتضحية . ۱ 


: کشف الفقراء‎ ٤ 

© كان ترتيبي منقدماً جداً ودرجة نجاحي عالية بين ثلاث آلاف وأكثر للدخول إلى 
الكلية ؛ إلا أنني تمسكا بنصيحة أبي رفضت رغم إلحاح صديق والدي الشيخ سنادة 
المربي والمعلم الكبير رحمه الله الذي تحدث إلى المستر (سكوت) مدير الكلية ورئيس 
لجنة الاختيار عن ظروفي ووفاة أبي وكان أن حاولا إغرائي فوافقا بأن أوضع في كشف 
الفقراء الذين يمنح الطالب منهم جلابيتين وعمة كل ستة آشهر مع مصروف خمسين 
قرسا شهریا وتقدمت للالتحاق بالبريد والبرق وكنت على ما أظن الأول فقبلت وكان 
راتبي الابتدائي ثلاث جنيهات وستين قرشأ بالتمام والكمال . كنا آنذاك قد رحلنا من 
منزل جدنا علي ود ساله بعد أن هدته الأمطار .. رحلنا إلى منزل مجاور لمدرسة عمي 
المغفور له الشيخ الطاهر الشبلي بإيجار قدره ثمانون قرشأ . وبهذه المناسبة خطر لي أن 
ادکر سكنانا الاول فقد كانت بين امدرمان وديم التعايسّة وكان الایجار الذي يدفعه ابي 
للمنزل هو سبعون قرشأ فقط وأذكر خلافاً حادا نشب بين المالك والمؤجر الذي هو أبي 
لزيادة الإيجار خمسة قروش أو شراء المنزل بثلاثين جنيها فكان رد أبي للمالك : 
(يا شيخ اتقي الله) ثم تلا عليه بيت شعر مازلت أحفظه لكنني لا أعرف حتى الان 
مصدره أم من قائله وفي أي مناسبة قيل : 

لقد كان في ظل الاراك كفاية ومكانك فيه لو ترتديه فلیل! 

فما كان من الشیخ إلا أن قال يا مولانا ما تكلمني بالنحوي آنا. زي كلامك ده لا 
بعرفوا ولا بجيب خبره أنا داير الزيادة ومن أغرب وأعجب العجائب والخرطوم آنذاك 
تنتهي بالسكة حديد وقشلاق عباس (الطافیء الان وبعملية رصد ومتابعة للمسافات 
تأكدت ويا للقدر أن ديم التعايشة يقع بالضبط في سوق نمرة ۲ وان دار الصحافة قد 
تكون في نفس منزلنا القديم . آبو ۷۵ قرشا وسبحان الله جلت حكمته!!). 

© ظروف عصيبة كان علي أن أواجهها وأنا في السادسة عشرة من عمري فالتجأت 
إلى بعض أصدقاء أبي ومنهم الأستاذ رشدي بطرس الحامي الذي استجاب لرجائي 
فالحقني بمكتبه في أوقات فراغي حسب الوردية يوم مع الصباح ويوم في المساء وذلك 
براتب قدره خمس جنيهات . كان لرشدي هذا أخ مقاول طبعه حاد واسمه الكوسا 
بطرس كان يومها نعيب المراسلة وجاءه ضيف فأمرني بالذهاب للحلواني (البنك 
التجاري) حالياً لإحضار (اثنين قهوة سكر خفيف) كانت هذه أول مواجهة لاختبار 


۵ ۰ 


الكرامة (ورفع النخرة ) والشهامة لكنني سقطت ودست على كرامتي ونخرتي بالحذاء 
المتسخ من أجل الجنيهات الخمسة ومن أجل أمي واخوتي .. ومن أجل الحياة . 

© استغل الخواجة الكوسا ضعفي وحاجتي وظل يمعن في إذلالي بإرسالي للمقهى 
كل يوم وفجأة قابلني مرة رشدي الحامي وأنا أحمل الصينية فثار ثورة لازلت أسمع 
صداها وقذف بالقهوة من يدي فقاحدنت الصينية صونا مزعجا ودخل على اخيه وانا 
أسمع لصراخه : 

(حرام عليك يا أخي ده ابن ناس ومسكين يعني عشان فقير تستغله بدل المراسلة 
ده ابن عمنا الشيخ مختار .. حرام عليك يا راجل ثم دس في جيبي جنيهين ويبدو أن 
ثورته قد أثمرت فدس أخوه الكوسا كذلك في جيبي ثلاث جنيهات وقال لي معليش يا 
ابني والله ما كنتش عارفك ابن الشيخ مختار مأذون (الحقانية) يعني القضائية . 

© کثیرا ما حدث لي وأنا في انتظار ترام أم درمان في المحطة الوسطى بالخرطوم 
أن أخير نفسي بين الركوب بالخمسة عشر مليماً التي في جيبي وبين شراء ثلاث قطع 
بقلاوة معسلة ومندية لأمي وأختي وأخي حسن مختار وبين أن أذهب (كداري) ما 
شاء الله؟ وصدقوني كثيراً ما انتصرت البقلاوة المغربية التي تسبح في بركة من العسل 
والسكر على ترام آبوروف . ۱ 

© كنت أقضي الفترة بعد خروجي من البوستة بين الثانية ظهرا والخامسة مساء 
موعد عملي الثاني في مكتب المحامي .. كنت أقضيها في الحديقة الحالية التي تقع بين 
القضائية والبرلان القديم وفي يدي بواقي سندوتشات وهي عادة ما تكون رخيصة للغاية 
ألتهمها تحت ظل الشجرة كما قال أبي تماما ثم أبدأ في التهام الكتب واء تلات وعلى 
راسها سلسلة إقرا والرسالة حتى حفظتهم عن ظهر قلب كنت استمتع بالخلاف 
البيزنطي والمناظرات بين الزيات والرافعي ومحمد حسنين هيكل وكنت أحفظ القصائد 
والأشعار والرائي وألتهم كل شيء تقع عليه عيناي . ۱ ۱ 

© تعلقت بالصحافة منذ طفولتي .. كنت أحبها وأشعر أن هناك شيئاً ما يجذبني 
إليها ویجذبها إليّ وقررت منذ طفولتي البكرة أن أكون صحفياً ووجهت (بوصلتي ) 
منذ تلك الفترة نحو هذا الهدف فاکملت وأنا في السابعة عشرة (کورسا) عن الصحافة 
من مصر ونلت شهادة جيد جداً وأکملت کل دروس شهادة اکسفورد لكنني لم أمتحنها 
وکان أول مقال ينشر لي في جريدة الرأي العام في عام ۱٩۳۹‏ فاشتریت منها عشرة 
أعداد بخمسة قروش لاوزعها على أصدقائي كما أصدرت صحفا حائطية کثيرة في بري 
وسنار وکسلا . أ 0 

© لحقت والدتي بعد عامین بزوجها الشیخ مختار وکان لابد ان نبدا رحله جديدة 
فخيروني بين أخوالي في أمدرمان وإخواني لأبي في بري فلجأت لوالدي الشيخ الطاهر 
الشبلي وعبد الله خليل اللذين عقدا اجتماعا اسريا ضم كل اهلي وقررا من منطلق 


60 ٠ 6 


الشرع أن نرحل إلى بري ففعلنا نزولا عن رغبتهما السامية لكن علاقتي بأمدرمان لم 
تنقطع ۰ ومضيت أقرأ وأطلع وأنقب وأترجم وأعد الحاضرات وأستمع إليها في الاندية 
وفي الشارع سرت في طريقي بعزيمة وإصرار حتى قادني في النهاية إلى أكبر صرح في 
عالم الصحافة وهو كلية الصحافة الامريكية بجامعة كولومبيا في عام ۱۹۲۰ واختارني 
العميد السيد منتقمري كرتس (وقد كان مبعوثا شخصياً لايزنهاور في الشرق الأقصى ). 
اختارني من بين العديد من كبار الصحفيين الأفارقة تلبية لدعوة التلفزيون الأمريكي 
محطة (إن .بي .سي ) للاشتراك في ندوة استغرقت ساعة ونصف الساعة مع رئيس 
تحرير النيويورك تايمز وتايم ورئيسي قسم الأخبار للديلي تلغراف والتایمز اللندنيتين 
ومدير وكالة ناس السوفيتية واليونايتدبرس واذكر يومها ان الزميل الاستاذ محمد 
حسنين هيكل دخل على العميد محتجاً على هذا الاختيار باعتباره رئيس تحربر أكبر 
جريدة في العالم العربي وهذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد غير أن العميد قال له 
وهو يخفف من حدة ثورته أنتم هنا كلكم طلبة وقد تم اختبار عبد الرحمن مختار من 
منطلق أنه طالب مثلك تماماً هذا يأتي ضمن مسئولياتي الشخصية فخرج الأستاذ هيكل 
ثاثرا ثم استدعاني العميد وأبلغني بما حدث لكنني لم أخبر هيكل حتى كتابة هذه 
السطور (خریف الفرح )! . 


خرتشوف بالجزمة : 

© كان موضوع الندوة عن افریقیا التي بدأت صحوتها آنذاك وکثرت ملماتها 
وانفجاراتها وکان آخرها مقتل الزعیم لوممبا . وقد شهدت الامم التحدة آنذاك آکبر 
تجمع في ناریخها إثارة وعنفاً خاصة في تلك الجلسة الشهورة التي دخلت التاریخ يوم أن 
خلع الزعيم السوفيتئي خرتشوف حذاءه ومضى يضرب به المنضدة بسكل هستيري وهو 
يصرخ (یوتو .. يوتو) وشهدته أيضا بعيني رأسي خارج قاعة المؤتمر وفي الفناء الواسع 
وهو يخلع جاكتته ويقذف بها على الارض ويتجه جرباً نحو مظاهرة عنيفة من الكوبيين 
المنفيين ويلوح بقبضتي يديه ويمسكهما تماماً كمحمد علي كلاي ولا أوشك أن يتسلق 
(الدرابزین ) الفاصل بين الفناء والمتظاهرين جرى وراءه بوليس الأمم المتحدة وحراسه 
من الأمريكيين والسوفييت وأوشك الزعيم كاسترو أن بلحق به لولا أن أعادوه إلى وعيه 
والتفوا به حتی رکب عربته . 

في صببحة البوم الثاني وجدت ظرفاً جمیلا تحت باب غرفتي كان خطاب شكر من 
التلفزيون وشيكا بمائتي دولار نظير الزمن الذي أضعته في الندؤة (يا لرخص الزمن) 
كانت فرحتي أكبر من كل مال عندما أوكل اي التلفزيون إدارة النقاش باعتباري 


0٠1 


الإفريقي الوحيد ثم فرحتي الثالثة بعد الدولارات هي إنني أصبحت مايكل جاكسون في 
الشارع الأمريكي. أما فرحتي الرابعة كانت عندما التقيت بالأخ العزيز الدكتور حمدنا 
الله الأمين أطال الله عمره الذي كان يتلقى بعثة في لندن فأعرب لي عن ابتهاجه 
ومفخرته وهو يراني في تلفزيون لندن في نفس اللحظة بالقمر الصناعي لأول مرة - مع 
العديد من زملائه الغربيين والعرب فعبروا جميعا عن إعجابهم!! 


الصحافة موهية : 


© الحقيقة الواقعة والمدهشة التي آمل أن يستفيد منها أبناؤنا المتطلعون والراغبون 
في العمل الصحفي هي أن الصحافة موهبة آولا تماما كالحساب في المدارس والدليل 
على ذلك أنني لم أستفد مطلقاً من محاضرات فطاحلة الصحافة في الولايات التحدة 
وطلبت أن أحول إلى دراسات أخرى هي كيف تدير صحيفة وكذلك فن وإدارة الإعلان 
وهنا وللتأكيد على ما أقول كانت جامعة اكسفورد في أواسط الخمسينات قد أعدت 
فصلا للصحفيين » فوق الجامعة وتخرجت الدفعة الاولی والثانية والتحق العديد منهم 
بالصحف لكنهم فشلوا جمیعا باستثناء من كانت لديهم الموهبة مما دعا عميد الكلية أن 
ينعيها ويغلق آبوابها !! 

© ودليلي الثالث أن (لورد بيفربروك) امبراطور ومالك العديد من الصحف 
البريطانية والذي مات قبل أكثر من عشر سنوات لم يدخل لا كلية ولا جامعة ولا أظن 
(ثانوي) حتى فقط كان موزعا للصحف ومع توزيعه للصحف بدأت رحلة حياته لاکبر 
مجد صحفي في عالم اليوم وحقق ما لم يحققه السابقون والادعياء وحملة الشهادات 
والغالطات ! ! 

© إذا أحس أحدكم (بأنه حشري) وبأنه يستطيع أن يسمع بكلتا أذنيه جهتين 
مختلفتين ويفهم ويستوعب ما يصدر عنهما في آن واحد» وإذا استرعت انتباهك إبرة أو 
دبوسة تقع من النضدة وإذا جريت مسرعا نحو حادث تصادم أو استطعت أن ترى في 
الظلام » أو لفت نظرك تجمعاً أي تجمع » وإذا لبيت أي نوع من الاستغائة » أو ساعدت 
مقعدا في الطریق؛ وإذا شاهدت منظرا حزینا بكيت له ولو في صمت وبلا دموعء وإذا 
أنصفت مظلوما من ظالم وإذا أسعفتك ذاكرتك فحفظت في رأسك عددا کبیرا من 
أرقام التليفونات والعربات» وإذا عرفت آناسا كثيرين في مختلف الميادين فتأكد وثق 
بانك صحفي وصحفي له مستقبل ثم إذا زدت حصيلتك من العلم والثقافة والمعرفة 
واللغة والشهادات وقد تأتي في مرحلة متأخرة فيمكنك بعد ذلك أن تقفز إلى مرحلة 


6 ٠ا/‎ 


الصحافة الثانية وهي التعبير عما في نفسك ونفوس الآخرين من آلام وأفراح ومشاكل 
بل وقد تضع لها الحلول فتصبح لسانا صادقا يعبر عن ذاتك وعن شعبك ثم يمكن بعد 
ذلك أن يطلق عليك اسم (صحفي)! 

© في بداية حديثي قلت ان والدي الرجل الصالح حافظ القرآن والأحاديث كان قد 
قال لي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لغزا حيرني وما عرفته إلا بعد عشرات السنين وهو 
أن أهلي كلهم مساكين وسأكون نوارة العائلة وسأبقى لهم شجرة يستظلون تحتها إلخ 
إلخ. إلى أن جاءني في بداية دار الصحافة شيخ وقور يحمل ال خطابا كتب (بالعمار 
الأسود) من شيخ صالح إسمه الفكي النخلي من أحد قرى الجزيرة وكان صديقاً صدوقاً 
لابي كثيرا ما حضر ليالي الذكر وحلقات القران كتب يقول لي كلاما غریبا أرويه لذوي 
العلم والمعرفة وعلى رأسهم مولانا الشيخ عوض الله صالح شيخ العارفين حتى يفك لي 
هذه الطلاسم الغريبة . كتب هذا الشيخ الوقور يقول لي : 

(حلمت أن أخي الشيخ مختار والدك جاءني وأنا في أشد حالات الضيق لأنني نويت 
الحج ولا قدرة لي بهء وقال لي اذهب إلى ابني عبد الرحمن في الخرطوم وسألت عنك 
ناس البلد فقالوا لي أنك أصبحت ذا شأن كبير فهل تحقق لي أمنيتي وأمنية أبيك 
والسلام على من اتبع الهدى والهداية . أنا لم أرك منذ خمس وعشرين سنة ولا أعرف 
عنك أي شيء حتى علمت من الناس) . 


في اليوم الثاني أرسلت مع رسوله عربة من دار الصحافة فأحضروه لي وما أن رأيته 
حتى تذكرته تماما وقضى الليل كله معي في قراءة القرآن والصلاة . 

وفي حوالي الرابعة صباحا صفق بيديه واستدعاني لصلاة الصبح وبعدها طلب قهوة 
و (لقيمات) وما ان قال لي مستوثقا ربنا مارزقك بوليدات .. قلت له رزقني بأربعة 
لكنه أخذهم مني جل جلاله فسقطوا جميعاً قبل أن تنفخ فيهم الروح فصمت ثم فجر في 
وجهي قنبلة هايدروجينية حينما سألني : أنت أبوك ما كلمك بي كل شيء! بخصوص 
شنو يا عمي الشيخ (وبالمناسبة لم يكن عمي الشيخ النخلي حاضرا وفاة أبي!) قال 
لي : احكي لي بالحرف ماذا قال لك أبوك مختار أخي وحبيبي في الله والرسول وروحه 
تزورني وتكلمني دائما . استجمعت ذاكرتي فرويت له أن والدي وضع رأسي على صدره 
وقرأ يس ثم رويت له قصة الشجرة . فما كان من عمي الرجل الصالح الذي لا يعرف 
كيف يولع نور الحائط وما سمع بالمكيفات بل طلب إطفاءها وما حضر للخرطوم خلال 


۵ + ۸ 


الثلاثين عاما إلا مرة كان معتكفاً في خلوته یعلم جيرانه القرآن . ما كان منه إلا أن قال 
لي أبوك ما قال ليك انك ما بتلد يعني ما بتخلف ذرية .. أها الشجرة البتظلل أهلك منو 
البظللها ؟ (مابتكون عريانة ومتوحدة) (يعني الشجرة التي تمنح الظل للأهل.. من 
الذي يمنحها الظل فهي عارية تماما تحت وهج الشمس والطر والبرد وهي وحيدة 
ومتوحشة) ومعنى ذلك كما آوضحه لي عمي الفكي دون أن يخاف أو يخشى غضبي 
وئورتي وبكل بساطة وبالسليقة قال لي : إنني إذا رزقت بأطفال فسأكون جبانا وقابضا 
وشحيحاء فتحرم كل أهلك من (خير الله وحق الله) وهم ما عندهم غيرك . 

© ما أغضبني الشيخ الوقور فرويت القصة لزوجتي حتى تطمئن وتتوقف من إجراء 
العمليات التي بلغت أكثر من اثنتي عشرة عملية في مختلف دول أوروبا والعالم . 
الحقيقة (يا أهل الله الكمل) ان شقيقتي قد أنجبت سبعة أولاد وبنات وزوجها موظف 
عادي وفقير - وأخي لامي كان سائق تاكسي غلبان لكنه مؤمن ومجتهد ومكافح رحمه 
الله . وقد أنجب ثمانية أولاد وبنات كلهم وكلهن أكملن الجامعة وتقلدوا وتقلدن وظائف 
مهندسين وقضاة وقاضيات وضباط فأنجبوا وأنجبن حوالي الأربعين ولدا وبنتاء ومن 
الجانب الاخر هناك عماتي وخالاتي وأولادهم وبناتهم وهناك أيضاً كان (مراحا) آخر 
من الذين رعتهم دار الصحافة وعددهم يزيد على الأربعين أو الخمسين من الطلبة 
والاسر الفقيرة التي لا تجمعني بهم علاقة أو رابطة وأذكر أن كشفهم قد سلمته برسالة 
رقيقة لرئيس وأعضاء مجلس الثورة ثم حولوه بدورهم إلى السيد السفير جمال محمد 
أحمد الذي خلفني في دار الصحافة بعد التأميم ولم يكن من السهل أن تعتمد الإدارة 
الجديدة مثل هذه الحسنات أو التبرعات بعدما أصبحت خاضعة للدولة وللقوانين 
والمراجعة ! ! 

© التحقت بالاتصال العام كضابط اتصال المسئول عن وضع برامج الصحفيين 
الأجانب وذلك طيلة عام ۱۹۵۱ وعن طريق هذه الوظيفة تعرفت على كل السياسيين 
والقادة والزعماء واستمعت إلى أحاديثهم وتعليقاتهم لراسلي الصحف . ثم جاءني الاخ 
والأستاذ الكبير بشير محمد سعيد وعرض علي أن أعمل معه لاصدار الأيام فحضرت 
ميلادها وشربت شرباتها لكنني تركتها بعد شهور قليلة لاعمل سکرتیرا صحفيا للامام 
عبد الرحمن المهدي ثم الامام الصديق المهدي ثم تخليت عن هذا العمل لابداً بتشييد 
وكالة الاخبار الافريقية عام ۱۹۵۷ وهي التي منحتني فرصا عظيمة في مقابلة رؤساء 
وزعماء الدول الافريقية وبعد ثلاثة أعوام من النجاح الذي لم أكن أتوقعه بدأت الإعداد 
لجريدة الصحافة التي تأسست وصدرت في يوليو ٠١۹١۱‏ . 


۵ ۰ ٩ 


© المرحلة الثانية في تطوير (الصحافة) كان من النتظر أن تكتمل عام ۱۹۷۰ 
بعدما قمنا بطلب الماكينات وأخذنا تصدیقا بقطعة أرض أربعة آلاف متر مربع غرب 
مصنع العمل وأعددنا الخرائط لدار الصحافة الجديدة وهي من طابقين وطابق بدروم 
للمطابع ومكاتب الادارة والتحرير وشقة للضيوف وصالة للتدريس والمحاضرات وحوض 
سباحة وملعب تنس ومنزل للمهندس المقيم ومطعم ومقهى . ثم أعددنا كل الترتيبات 
لقفزة عالية لاصدار الافریکان ستار الانجليزية ورشحنا لها السفير خليفة عباس لرئاسة 
التحرير ومجلة عزيزي القارىء وكتاب الشهر على غرار وحجم سلسلة اقرأ نعهد به كل 
شهر لكاتب في ميدان من الميادين ثم أخيراً (سيدتي). 

ولم تكن آنذاك (دار التسويق الشرق أوسطية) وصاحبة سيدتي الان قد ولدت بل 
ولم تكن حتى في رحم الغيب ولو قدر لهذه الخطوة أن تتم لكانت دار الصحافة اليوم 
من أكبر الدور في افريقيا والشرق الاوسط لانها كانت ستنمو أكثر وأكثر خصوصا في 
الستة عشر عاما من التيه والضياع لكن يد مايو الغليظة الفولاذية قد قضت عليها 
بالتأميم في أغسطس ۱۹۷۰ فماتت الكلمة وخنقت حرية الرأي وتهشمت الاقلام 
واندلقت جميع المحابر وكسرت المنابر ولكن إلى حين . 

© واجهت الضيق مرة ثانية بعد التأميم بأربعة أشهر فأجرت منزلي الكبير الفاخر ‏ 
منزل رئيس تحرير الصحافة - لا عبد الرحمن مختار - لأنني لا أقوى على الصرف 
عليه .. أجرته بستمائة جنيه ورحلت في منزل بشارع ۳۳ بثمانين جنيهاً ويومها أحدث 
هذا التحول موجة عارمة من السخط والعطف والشفقة فكان حديث المجتمعات 
والأصدقاء فاتصل بي الأخ المرحوم السيد عمر الحاج موسى وكان وزیرا للثقافة ليقول 
لي في صوت حزين وبنغمة مؤئرة وتساؤل مشفق : 

إيه ده يا عبد الرحمن ليه رحلت من بيتك؟ يا أخي نحن ماجينا نفقر الناس 
والإخوان كلهم منزعجين وكان الأحرى بك أن تكلمنا بمتاعبك لنساهم في حلها ولكن 
قبل أن يكمل المحادئة أودعت سماعة التليفون في بيتها فصمتت وصمت عمر !! 

© دخلت سوق الله أكبر وعملت في بيع وشراء العقارات حتى ۱۹۷۳ وحققت 
والحمد لله نجاحا لا باس به ثم اشتريت مصنعا قديماً للألواح العازلة للسقوفات 
والثلاجات وغيرها .. ثم .. ثم .. ثم جاءت ثورة السماء في رجب ومضى عام الضياع 
الانتقالي فوجدت نفسي وعادت ال ذاتيتي وقلمي ومحبرتي . 


0١ ٠ 


طبائعي في سطور : 

© عندما أواجه أي نوع من الضيق أصحو مبکرا وأتوجه في خشوع العبد الضعيف 
ولم ولن يخيب الله یوما سؤال الضعيف والمستجير به . 

© وعندما أثور أصمت أو أتشاغل بأي شيء حتى لا أنفجر - أثق في كل الناس. 
وأحب كل الناس وأفرح مع الناس وأبكي مع الناس وقد سبب لي ذلك مشاكل لا حصر 
لها لأن الأعداء كثيراً ما تمكنوا مني مستغلين طيبتي المفرطة وثقتي غير المحدودة ومع 
ذلك ففي النهاية دائما أنا الذي يضحك کثیرا . 

© أخاف أصدقائي وأبكي بسرعة وأضحك بسرعة أحب كل شيء لكنني أكره 
النفاق » كما أكره الملوخية بالارانب وبالضفادع في فرنسا .. أحب القراءة والتنس وأهوى 
مراقبة الكورة من التلفزيون فقط . 

© أمتع لحظات حياتي هي صيام رمضان بين الحرمين بعدها أشعر بأن جميع 
خطاياي قد غسلت فأعود إلى الدنيا لارتكاب الخطايا من جديد وعندما يثقل كتفاي 
أحس بحاجتي إلى الله فأطير فوراً إلى بيته ليحميني ويطهرني . 

© أحب المأكولات إلى (أم رقيقة) وملاح الشمار والبامية بالمصارين واللحم المحمر 
(والرشوشة ) وملاح القرع مع إضافة الماء والكسرة وخلطها . 

© الحكمة التي أحبها : إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك . وقد 
كانت شعاراً في منضدة المرحوم الأخ عمر الحاج موسى رحمه الله رحمة واسعة . 

© أجمل صورة أحبها وأتطلع إليها في براءة الأطفال هي صورتي مع الإمام 
عبد الرحمن الهدي وخادمه باب الله الأمين والسيد عبد الله الفاضل ووالدي وذلك 
بالجزيرة أبا في عام ۱۹۳۵ عندما كنت في التاسعة من عمري وقد آهداني إليها مولانا 
الامام عبد الرحمن عام ۱۹۵۳ عندما كنت سكرتيراً صحفياً له . 

© أكثر شيء أحبه في الوجود بعد الله الصحافة العلم والقلم زوجتي وأهلي ثم كل 
الناس وشکرا أحبائي . 


رقم الصفحة 
الفصل الأول 1119 O‏ 
© الإهداء 
© المقدمة 
الفصل الثاني اا ا ۱۳۹۰ 


© السودان بلاد المليون ميل و ۲۲ سياسي وزعيم 
© ماذا قال برجنيف عن السودانيين 
الفصل الثالث و ا 
© السودان ماذا ... وكيف سار ؟ 
© الثورة التي بدأت برجل واحد وانتهى بتحرير أمه . 
الفصل الرابع O O‏ 
© اسرار مطوية وراء ثورة ۱۹۲۶ 
© إنسحب الجيش المصري وبدأت الإعدامات 
© ماذا قالوا في المحكمة : عبد الله خليل ليس منا لأنه جاسوسكم 
الفصل الخامس ل ا لع ل ا O‏ ام جاه OY‏ 
© الأحزاب السودانية من أين ... وإلى أين!؟؟ 
© نهاية مأساوية لعلاقة المهدي بهيلاسلاسي . 
© صراع خطير بين المهدي ومصر سببه الصاغ صلاح سالم . 
الفصل السادس SOARS‏ هه ۱۷۰ 
© من المسؤول عن إفساد الحياة السياسية في السودان . 
© أحداث مارس الدامية غيرت مسار السودان . 
© الرئيس المصري يرجع بعد ساعة من وصوله الخرطوم . 
© وزير الخارجية البريطاني حاول أن يكون (ستاك) ثانيا . 
الفصل السابع SSS‏ مه ارا قا ون EDE‏ د ا A‏ 
© لقاء المهدي والميرغني «لقاء المستحيل». 
© الاتحاديون يتنكرون للاتحاد فيفقدون مصر . 
© عندما تمرد الأزهري عن مصر . 


الفصل النامن ESSN ORNS SARS ESSE‏ 
© الأزهري يسحب البساط من الجميع ويعلن الاستقلال .. 
© الأزهري والمحجوب يرفعان العلم . 
© نهاية الصاغ صلاح سالم . 

الفصل التاسع رک( 
© بعد رفع العلم توقف الجهاد وسقط الساسة . 
© عبد الله خلیل یتشفع للصاغ صلاح سالم . 
© النواب یباعون في سوق النخاسة . 

الفصل العاشر 1 
© من قتل دوق هرر الأثيوبي . 
© هيلاسلاسي يسندعي عبد الله خلیل . 

الفصل الحادي عشر 2*6 
© رسالة خطية من سفير السودان بمصر . 
© الابن الذي أطاح بعرش أبيه ... لماذا ؟ 
© العودة إلى البركان الثائر . 

الفصل الثاني عشي موه ی ی ی 
© انقلاب نوفمبر ۱۹۵۸ . 
© الإمام الصديق الهدي كان قائد النضال . 
© رحلتي اليتيمة والمشؤومة مع عبود. 

الفصل الفصل الثالث عشر o‏ 9[ 
© ثورة اکتوبر ٠۹٩٤‏ . 
© ماذا دار في أخطر اجتماع لرساء تحریر الصحف . 
© عبد الخالق محجوب وأحمد سلیمان وقصص وحکایات . 

الفصل الرابع عشر N‏ ش11 
© أحاديث وتعليقات ثورية . 
© كيف التحم الجيش والشعب . 
© نطالب بالتطهير لحماية الثورة . 


الفصل الخامس عشر 4[ 
© السودانيون المهاجرون كيف عاشوا انتفاضه السعب . 
© خلافات حول محاكمة قادة الانقلاب . 


© عبود يتنازل عن جميع سلطاته . 


الفصل السادس عشر ا FV AURORA‏ 
© الثورة والصحف العالمية . 
© النيوزويك وعاصفة عن النيل . 
© ماذا قلت لعبد الناصر أمام أمير الكويت والرئيس العراقي ؟ 
الفصل السابع عشر لك وان وااو ووو قرو وام عار الملا ا ل ل ا ا FEO‏ 
© كيف جرت مفاوضات ۲٩‏ اکتوبر ۱۹۱۶ ؟ 
© تشكيل مقدمة الثورة . 
© اعتقال أعضاء المجلس الأعلى . 
۳۳۷ 


68 ۵ ۵۵۵۵۵ ۵۵۵ ۵۵ 0۵۵۵۵ 0۵۵۵۵ ۵۵0۵0۵۵۵۵۵ 0۵0۵۵ هط« :09۰۰08009۰9 ص‌«ثة‌«:‌«:۰ 60 0۵ 6 ه‌«‌« ۵۵۰۵ ۵ ه«ة‌«ةه‌«:‌«90دة«دح‌«ثح‌«ثن«‌:«:«:‌« ۰۰:۰۰ 


الكقاح عاد ف صندوق الوت . 


الفصل التاسع عشر 00 0 ا 
© ساسة وقادة تحت دائرة الضوء . 
© بين الشيخ محمد أحمد المرضي والصادق المهدي . 
© مبارك زروق وجريدة الصحافة . 
الفصل العشرون اه ی یه اه هه بو هو وه نم توف ا 
© بين تمرد جنوب السودان وانفصال بیافرا نیجیریا . 
© ابن السمكري الذي أصبح رئيساً للجمهورية ثم له نفسه فهوی . 
۳۷۵ 


الفصل الحادي والعشرون O RO N‏ ی 
© نايريري القديس ینتشل أمته من القاع . 

© كرومي ربح بحرب زنزبار ثم قتلوه . 

© بابو يذل الاجانب بسكل قبيح . 


الفصل الثاني والعشرون ی 


© مؤتمرات القمة العربية . 


الفصل الثالث والعشرین a‏ ی ام DAE‏ 25 


© مؤتمر القمة العربي في الخرطوم . 
© محجوب بين الوزیر السفیه والامیر الحائر . 
© هل خرج الشعب السوداني لاستقبال فيصل أم ناصر ؟ ؟ 


الفصل الرابع والعشرین | 


© حلقات الفراغ في السودان . 
© بورقيبة یستقبل عبد الناصر ببرود . 


الفصل الخامس والعشرون E OOO‏ مد 


© الضحية البورقيبية الثالئة في السودان . 
© قادتنا ماتوا فقراء وبیوتهم مرهونة . 


الفصل السادس والعشرين 0 


© مصطفى مه وهيكل ... وأنا ! 
© إلى أي مدى إمتد نفوذ هيكل!؟ 
© قصص وحكايات عن الامبراطور . 


الفصل السابع والعشرون OOO‏ 0 


© نهاية العربدة السياسية . 
© صحافتنا في الميزان . 


الفصل النامن والعشرون اطق که 


© أحزابنا في الیزان . 


© ديمقراطية الغرب. الطاقية التي لبسناها فغطت أذاننا وعيوننا . 
© الطائفية تستعيد مواقعها بعد أن عاد إليها الأزهري والصادق . 


الفصل الناسع والعشرين O Asan‏ و و او ا و 


© خانمه4. 








دريف الفرح اس السودان 3 6 6 اه ۱۹۰ م کید الر حم مختار 


a 220 00 ۷ | ا‎